… وألم الحب

أما ألم الحب، فذاك حين يأتي على اللحم والدَّم معنى لو تجسم لكان هو الذي يصهر الحديد في موجٍ من لهب النار، ويحطم الصخر في زلزلة من ضربات المعاول …

هناك الألم المدمر لا يكابده إلا إنسان، كأنما يراد خلقه مرة ثانية فيهدم ويبني، أو يزاد تنقيحه فيغير ويحول.

وأعظمه لأعاظم الحكام والشعراء، فهم وحدهم الخارجون دائمًا عن هندسة الحياة المنسجمة، وهم وحدهم الذين يتحول كل شيء في أنفسهم إلى حقيقة عاملة فلا يبرحون في تغيير، ومن ثم فلا بد فيهم من هدم …!

ولا بد لهم من آلام على قياس العظمة، تكون لكل منهم كالبراهين عن نفسه أنه غير إلهٍ، وأنه حين يكون بين حكمتين إنما يكون بين ضربتين …!

تجد الشاعر العظيم وإنه ليكاد يملأ الكون، فلا يضرب بالحب إلا الضربة الداوية تنطبق بها أقطار المشرق والمغرب!

وإنه لضغط بالوجود نفسه على بعض الناس، كضغط الأرض بآلاف الأجيال على بعض الفحم المطمور في أعراقها؛ ليتحول فيكون منه الماس الكريم المتلألئ! … ألا ما أهولها قوة في تبييض الأسود بطبيعته، إلى جوهر النور بطبيعته، وفي خلق شمس ألماسية وهّاجة، ولكن من ظلمة حالكة انعقدت في التراب!

وما أهول مثلها من الآلام في مضاعفة الحكيم أو الشاعر بقدر إنسانيتين؛ ليتسع لبؤس من الأشقياء وسرورها جميعًا، وليكون على مدرجة بين الخليقة وخالقها، وليبقى دائمًا من ضغط الوجود عليه كأنه محصور في عمر ساعة ألم قد جمدت حوله!

•••

أولئك يتأوّهون لا بالأنين كغيرهم من الناس، ولكن برعد الأرواح يرجف؛ إذ تنفجر بكهربائها، ويبكون لا بالدموع، ولكن بسحائب من معانيهم يؤلفها القدر ويراكمها ويضربها، فيسوقها لتمطر على ناحية الجدب الإنساني.

أولئك يتألمون لا بالألم، ولكن بتمزيق في أنفسهم كتمزيق الأرض حين تودع أسرار الزرع، ويتوجعون لا بمقدار عمل الواحد منهم بنفسه، ولكن بمقدار عمل الدنيا به، وليس منهم البائس الحزين الذي نزل به الألم رغمًا وذلًّا، ولكن البائس الجميل الذي اتخذته الحكمة؛ ليبدع الصورة الكلامية من جمال نفسه لجمال الكون شعرًا وبيانًا وفنًّا.

في موضع تقع الشرارة لتنطفئ، وقد تنطفئ قبل وقوعها، وفي موضع آخر تقع وكأنها ولدت ثمة لتحيا وتكبر، فإذا هي من بعد نار تعمل أعمالها، وكذلك الألم ومن يتألمون وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.١

•••

ومن قسوة القدر على الشاعر العظيم أن لا يجعل حبه حبًّا خالق الوحي إلا في امرأة على قدر تألهه عظة وسخرية …!

يقول هو عنها: ما أحوجني إلى معجزة نبي تحول الحجر الذي في ضلوعها إلى القلب … وتقول هي عنه: ما أحوجني إلى بعض الملائكة أو الشياطين؛ ليكشف لي سر نفسه المخبوءة تحت مكان الصبر في قلبه!

ويعيشان في الحب كما يعيش اثنان في قصة … وضعها مؤلف خيالي فأحكم عقدتها … وتخاصم سعادة كل منهما سعادة الآخر، ويعملان كما يعمل الغني الشحيح. يفقد الحياة لينال الدنيا.٢ ثم إذا سألت ذلك المسكين الأعظم: ما لذة هذا الحب الأليم اللهفان؟ قال لك: لذته أنه حب!

هي حينئذ كل العذوبة السيالة في روحه، وهي بذاتها كل الأقذاء التي ألقيت في ينبوع نفسه؛ وآلامها ميلاد حقيقي لمعانيه، ولذاتها أكفان حقيقية لموتى هذه المعاني إذا أُريد لها الموت، وكل ما يضع الآلام والأوجاع فيه يضع منها النور في كلماته!

من كونها هي في قلبه يشعر أن الكون فيه، حتى ليقول في وحيه للجبال الراسية على أعضاد الأرض: آلمتني يا أعضائي …

وتلقي في حياته ألوان عينيها وخديها وثغرها ألوانًا وألوانًا، فإذا حياة فنية مزخرفة منقوشة بأبدع وأجمل مما في الطبيعة ورياضها وألوانها.

ولاتصالها بموضع السر من روحه، تشعر السر العجيب سر الحب الذي يحير العاشق حين تفتنه من يهواها فيحسب كأن الجنس كله مستحيل وأمكنت واحدة، أو كأنّ الجنس كله ممكن واستحالت واحدة تعلقها، فكأنه لا جنس بل واحدة فقط …

وتتصرف به في دلالها وهواها تارة وضدها، فيراها حينًا كما ينظر طفل إلى سكرة، وحينًا كما ينظر المريض إلى مقبرة!

وإذا هي أنفقت أهلكت بلذة، وإذا هي امتنعت هلكت بألم … داءٌ لا يدري أنى يؤتى له.٣

يا رحمة للمحب الذي يتوجع بآلامه وحقائقها، ثم بمعانيها في روحه وأمانيه، ثم بالصبر عليها: ثلاثة آلام من ألم واحد!

ويا آلام الحب، أنت ثقيلة ثقيلة؛ لأنك نظام التراب في روحانيتي!

ويا آلام الحب، أنت جميلة جميلة؛ لأنك إشراق السر الأعلى في نفسي!

ويا آلام الحب، أنت حبيبة ولو أنك آلام، بل حبيبة لأنك آلام …

١  آية مقتبسة من القرآن الكريم، وفي اعتقادنا أن الحب ليس اختيارًا كما مر في (رسالة التمزيق)، وإنما هو استعلان معنى الجمال بالصورة التي يمكن أن تفرض فرضًا على محبها، فما هو إلا أن يراها فتخالطه فيحس الجمال فيحب، وسيأتي هذا المعنى.
٢  أي: يتصرف كلاهما بعناد وتهور وخطأ، ومقدمات تستحيل معها النتائج السعيدة لأحدهما أو كليهما، فهو ذو عناد وهي ذات معاسرة!
٣  أي: لا يدري كيف يتأتى له ولا كيف يداويه؛ إذ لا يدري ما هو، ولا أين هو!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤