رسالة الابتسامة

يدمدم الحب على قلبه
كأنه في نفسه ينهدم١
برجفة حاملها لم يزل
ممزقًا في القلب لا يلتئم

•••

زلازل البركان لما دعت
أن سئمت بركانها المحتدم
أجابها الله الطفي وارجفي
من شفتي محبوبة تبتسم …!

لا يمكن القلب أن يعانق القلب، ولكنهما يتوسلان إلى ذلك بنظرة تعانق نظرة، وابتسامة تضم ابتسامة.

تلك يا حبيبتي كلمة سماوية مخلوقة من الضوء في شفتيك الجميلتين تعبر عن كل شيء بحركة واحدة لا تتغير ولا تختلف، على حين أن معانيها في النفس دائبة في تغيرها واختلافها.

وفي عينيك الأحلام رهيبة غامضة، ولكن على شفتيك معاني الأحلام واضحة مفسرة: فابتسامك هو كلامك الذي لا تتكلمين به، وهو يختلج؛ لأنه حركة ظاهرة لفكرك في الحب، ولذلك هو دائم متنوع، دال على معنى … وهو يضيء ليومئ بإشارة سماوية إلى سرِّ المجهول الذي يتحجب في جمالك، ولكنه لا يكاد يومض حتى يطفئه هذا السر، فيعود فيستطير، ثم يعود فيختفي، ثم يعود ثم يعود.

أهناك نزاع على حقيقة خفية من الحقائق الجميلة لم تجد لها مخبأ إلا ثغرك الجميل؟

أم لك فكر شعوري موسيقي فهو يرقص دائمًا على وزن من ابتسامك؟

أم في قلبك مادة من النجوم فهي دائمًا تلمح لمحها في سماء وجهك النيرة فيسمون لمحها ابتسامًا؟

أم ثغرك يبتسم دائمًا؛ لأنه بطبيعة جمالك وظرفك يتهيأ دائمًا لقبلة؟

•••

يجد الطفل على كل حالة وفي كل مكان سرور نفسه، لسبب واحد وهو أن ابتسامه أبدًا معه فهو لم يملك من الوجود شيئًا بعد، ولكنه أغنى من عليها بهذا الكنز الذي خبأته السماء فيه فينفق منه فيما لا تباع كنوز الأرض ولا تشترى!

ولولا هذا الابتسام في هؤلاء الأطفال وأنه على أفواههم كالنبض في قلوبهم لما نفعتهم نافعة في تحصيل النمو للجسم، والصبر للطبيعة والاستقرار للعاطفة، والهدوء للنفس، والسعة للعقل، ولضغطت الحياة أجسامهم ونفوسهم اللينة في قوالب معانيها المحدودة الضيقة المصبوبة من الضجر والآلام والهموم، فما يكبر من بعدها على الأرض طفل أبدًا، ولكن ابتسامهم من كل قيود المادة، هو أشعة إلهية تذيب ما حول القلب الصغير من المعاني الضاغطة عليه، ولو كان معنى روح جبل صخري من الهم!

ولا تزال الجنة مع الطفل، حتى إذا كبر قيل له كما قيل لآدم: اهبط منها …!

أكل آدم من الشجرة، ولا شيء يضيع في الكون، فأين الحلاوة التي ذاقها في الجنة؟

هي في أفواه الأطفال …

•••

ويتبسم الطفل ويضحك، ونحسب ذلك على مقداره. كلا، إنه وإن يكن طفلًا صغيرًا في ملء جلده، وعلى وزن جملته، ولكن مادة ابتسامه على مقدار الطبيعة كلها؛ لأن عظمة الكون هي التي ترعاه بهذا الأسلوب الصغير.

هو لا يحيا في العالم، بل في معاني نفسه، وبذلك هو دائمًا فوق الدنيا.

ومن حياة الأطفال المنحصرة في معاني أنفسهم، ندرك، سر الحب وسر السعادة، فإن كل لذة الحب، وإن أروع ما في سحره، أنه لا يدعنا نحيا فيما حولنا من العالم، بل في شخص جميل ليس فيه إلا معاني أنفسنا الجميلة وحدها، ومن ثم يصلنا العشق من جمال الحبيب بجمال الكون، وينشئ لنا في هذا العمر الإنساني المحدود ساعات إلهية خالدة، تشعر المحب أن في نفسه القوة المالئة هذا الكون على سعته، فتمر النفس حينئذ في سبحات اللذة الروحية، من الجميل، إلى الجمال، إلى الطبيعة، إلى الله جل جلاله.٢

•••

إما ابتسامتك أنت …

أنك حين تمنحين نظرتك وتتبعينها الابتسامة التي تفسرها أقول عندئذ في نفسي: لقد علم الله علمه في حكمته ورحمته، فلما خلق الحقيقة من قوته عابسة جافية، قابلها من رحمته بالحبيبة متبسمة رقيقة … فلعل المرأة الجميلة أسلوب في الفرع الإنساني كأسلوب إنشاء الزهرة في ذات القوة الخشنة التي تنبت الشوك.

ولك ابتسامة يزيد سكون الطرف من غموضها، والأخرى يزيد استطلاق وجهك من صراحتها، والثالثة على استحياء كأن وعدًا معلقًا فيها.

ولك ابتسامة ملحنة كأنها نشيد وجد، يترقرق فيها صوتك الرخيم الذي هو أيضًا تصوير الابتسامة بحروف ورنين.

•••

المعنى الذي يتحول بغيره، يقابله المعنى الذي لا بد أن يحول غيره. إنها مشكلة عجيبة كأن حلها أعجب منها.

فما توجد امرأة هي جميلة فاتنة في وهم رجل، إلا انبعث من شخصها معنى ليس في أحد غيرها، كأن فيها وحدها ما لا يوجد في آدمي، وفي هذا السيال المعنوي يذوب كل شيء، وترى هذا الرجل يصغر للحب — ولا أقول يصغر به — فيرجع كالطفل تتولاه الطبيعة متمثلة في امرأة … امرأة تعمل وحدها فيما يسوء، ويسر عمل الدنيا، وأكبر من عمل الدنيا!

لكل محب مع المخلوقات التي يعيش بينها مخلوقات من خواطره وآماله، وهذا برهان آخر على أن الشخص المحبوب أحد قوتين متقابلتين في الخلق.٣

وقد تهتم الحبيبة أن تكاشف محبها، ولكنها بابتسامة ظريفة ترد أفكارها الخطرة إلى أماكنها، وبهذه الابتسامة عينها تزعج في نفس محبها تلك الأفكار من أماكنها.

آه من تلك الابتسامة المرحلة الذاهلة! عليها لعيني المشتاق سمة من فتح ذراعيه، وضم وقبل!

•••

في ابتسامة الحبيب يتنقل العاشق بروحه بين المعاني والخيالات الشعرية السماوية، وفي تلك النظرات منه يسافر بقلبه إلى أحلامه البعيدة كما يسافر الفلكي بعينه إلى النجوم في (التلسكوب).

يسمونه ابتسامًا، ولكن حين يظمأ النبات لا يقول للناس: أريد الماء، بل يقول للشمس وحدها. أريد من شعاعك البارد العذب يا حبيبتي!

الماء حين يبصر تحرق الإسفنج وقد جف وانكمش يقول: إن كل ثقب من هذه الثقوب نفس ظمأى.

كذلك أوحي إلي أن محبًّا قبَّل حبيبته في روضة عند شجرات من الورد، فأشارت إحداهن إلى شفتي الجميلة المضمومتين، وقالت لصواحبها أسمعتن قط أجمل همسًا من هذه الورود الصغيرة وهي تتفتح …

•••

الزمن كله موسيقى عند المحب، ولماذا؟

لصوت حبيبته.

والزمن كله ربيع في رأي عينيه، والدليل؟

ورد خديها وشفتيها.

والزمن كله جمال في نفسه، والبرهان؟

كلها كلها …

•••

وهل أبدع الله الفهم الجميل المبتسم بهندسته وتقسيمه إلا ليبدع هو في ابتساماته فن الروح حين لا تستطيع أو لا تريد أن تتكلم فترتعش …؟

كلام الفكر من اللسان، وكلام القلب من العينين، أما كلام الروح فهو هذه الحركة البليغة وحدها! وحدها!

أليس تألق الماسة هو وحده لغة معدنها النفيس؟

والألفاظ تجيء وفي نطقها معانيها، ولكن ابتسام الحبيبة هو يستخرج معناه من محبها!

واللغة رابطة بين النفس والمادة، وأما الابتسامة فرابطة بين الحس والقلب.

إنها الروح تأخذ عن روح أخرى في حالة من الحالات النفسية الخالقة، تحول كل شيء إلى لغة حتى اللحم والدم.

ورب ابتسامة على شفتي حبيبة هي خطاب لكل حواس محبها.

•••

عندما تبتسمين أشعر بحرارة أفكارك في دمي …

وفي تضرج وجنتيك لا أرى احمرارًا، ولا خجلًا ولا حياء، بل أرى قلبك يتكلم بلون خديك!

إن للقلب أربع لغات يتكلم بها: واحدة منهن بالألوان في الوجه والثانية بالدلال في الجسم، والثالثة في النظر بالمعاني، والأخيرة وهي أسهلهن وأبلغهن. يتكلم بكل ذلك في ابتسامة.

•••

ومع ابتسامة الحب يأبى فم الحبيب أن يلفظ كلمة لا يقبلها فم حبيبه، يا لها فكرة ملائكية معلقة على فم …!

١  أصل الدمدمة: الغضب، ودمدم عليه إذا كلمه مغضبًا، والمراد هنا عنف الحب في هز القلب من اهتياجه وشدته كأنه مسلط عليه يهدمه.
٢  لنا في «رسائل الأحزان» و«السحاب الأحمر» وفي هذا الكتاب آراء مختلفة في كيفية اتصال النفس من الحب والجمال الإنساني إلى مصدر الجمال الأعلى، وتوفية لهذه الآراء ننقل هنا هذه الكلمة من كتابنا «المساكين» الطبعة الثانية:
«والطبيعة نفسها تهيئ الإنسان للدين بأسلوب غريب، وهو هذا الحب الذي يخلق فطرة على أنواع مختلفة متعددة، حتى لا يخلو منه أحد فلا معدل عنه ولا محيص، وإنما هو في مظاهره — أيها كان — دربة للنفس الإنسانية تصعد به درجات من الفضائل: كالإخلاص والإيثار والاتصال الفكري والانبعاث الروحي والشوق الخيالي، ونحوها مما هو في الحقيقة إيجاد للحياة النفسية في أعمالها، وفيض بالقوة الروحية على مظاهر المادة لإحداث الملامسة بين الأرواح والأشياء، والترابط بين الجاذب والمنجذب. وكل ذلك تهيئة للدين وعمله في النفس؛ ليكون قائمًا على أساسه في الطبيعة، فالحب دين على أسلوب خاص ضيق، ولذلك يشتد فيه التعصب كما يقع في الدين من المؤمن به، على وتيرة واحدة؛ إذ لا يرضى للقلب في هذا ولا هذا غير رأي واحد».
٣  لأن الحبيب قوة خالقة في العواطف والمعاني، وكأن هذه هي حكمة وجود الحب، والله يخلق الإنسان، والحب يوسعه، ويمد من حدوده، وقد يضيقه ويختصره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤