الأشواق

هأناذا يا حبيبتي أجلس لكتاب الشوق، وفي يدي القلم، ومعانيك مني قريبة تكاد تحس وتلمس على تباعد ما بيننا؛ لأن كل ما فيك هو في قلبي.

وهذه عينك الظاهرة دائمًا بمظهر استفهام عن شيء؛ لأن وراءها نفسًا متعنتة تأبى أن ترضى. أو حائرة لا تكفيها معرفة، أو غامضة تريد أن لا تفسر، أو على الحقيقة؛ لأن وراءها نفسها فيها التعنت والحيرة والغموض، إذ عرفت أنها معشوقة.

هذه عينك من وراء البعد تلقي عليّ نظرات استفهامها فتدع كل ما حولي من الأشياء مسائل تطلب جوابها من حضورك ومرآك لا غير، وبذلك يهفو إليك القلب بأشواق لا تزال تتوافى، فلا تبرح تتجدد، فهي لا تهدأ ولا تسكن، وكأن غيابك سلب الأشياء في نفسي حالة عقلية كانت لها، كما سلبني أنا حالة قلبية.

وآه من تباريح الحب! إنها لوحوش من الأحزان ثائرة، فكل راجفة من رواجف الصدر١ كأنها من حر الشوق ضربة مخلب على القلب.

الشوق؟ ما الشوق إلا صاعقة تنشئها كهرباء الحب في سحاب الدم يمور ويضطرب ويصدم بعضه بعضًا من الغليان، فيرجف فيه حين الرعد القلبي يتردد صوته آه آه آه …!

•••

والآن يا حبيبتي ألقت عينك الساحرة عليَّ نظرة استفهام أخرى بالصبابة ورقة الشوق، فأحسست بروحي كالغصن المخضر أثقله الزهر وقد طفقت أزهاره تتفتح وتسلم النسيم ودائع الجنة من نفحاتها وتسليماتها عليك.

وأشعر بالقلم في يدي، وكأن له شأنًا مع الكلمات التي أكتبها إليك، فهو يخطها حرفًا حرفًا، ويقبلها كذلك حرفًا حرفًا! … وكأنه الساعة ذو هيئة إنسانية (الريشة) التي فيه تمتد إلى الكلام امتداد الشفة الظمأى بالقبلات الكثيرة المخبوءة فيها!

وأشعر بالقرطاس وكأنه قد علم أن سيحمل أشواقي وأسرار قلبي، فلا يعد صحيفة ورق تموج بالألفاظ، بل صحيفة صدر ملأها جو من التنهد آه آه آه.

•••

وبنظرة استفهام أخرى من عينك أشعر بحقيقتك النسوية من حولي حافة بي، فمرتجة في صدري، فملقية على قلبي المسكين من كل خطرة شوق لسعة ألم …

نعم إنك يا حبيبتي ترسلين الأنوار في هذا القلب، غير أنها لم تكن أنوارًا إلا من أنها شعل مضطرمة، والمحب الذي يضيئه عشقه ويظهر للجمال، وجوده الغرامي، إنما ينيره احتراقه وفناء وجوده الذاتي، كل قدر من النور بقدر مضاعف من الاحتراق.

وكذلك البطل العظيم في الحرب: تنهش من لحمه السيوف، ويثقب في عظامه الرصاص، وما مرقه الموت بهذه لا بتلك، ولكن مزقه مجده!

أما إنك يا حبيبتي لو ضربتني بسيف لقتلتني قتلة معطرة!

أما إنك يا حبيبتي لو ضربتني بسيف لما كنت قد زدت بسيفك وضربتك على أن تكوني خلقت الحسن في نظرة قاسية من نظرات عينيك.

وهكذا علمتني حقيقتك أن الحب إن هو إلا تفسير كل شيء في العالم تفسيرًا من القلب!

•••

أنت ممزوجة بالآمي، وآلامي منك هي أشواقي، وأشواقي إليك هي أفكاري، وأفكاري فيك هي معانيك في نفسي، ومعانيك هي الحب، ولكن ما هو الحب إلا أن يكون آلامي وأشواقي وأفكاري ومعانيك في نفسي؟

ولروحك أنفاس تناسمني٢ فأستنشقها مهما انصدعت المسافات بيننا، كأن ما ملأ النفس يملأ الكون، فمن شعوري الدائم بانسكاب روحك في روحي ينبعث غرامي، ويرصد بهواك لي في منفذ كل معنى إلى نفسي، ومن هذا تنبعث أشواقي الحزينة ما دمت لا أراك، وإذا كان الغرام هو سكر الروح بالروح، فما الشوق إلا التمرد العنيف من حواس الجسم المحب إذا حرم أن يسكر بالجسم الذي يحبه.

•••

في بعدك لا أشعر بالزمن يفنى من الساعات والأيام، بل مني ومن حياتي، فأنا في بعدك أذوب، أذوب فناء، أي أذوب شوقًا، وأفنى صبرًا وعمرًا بين كل ساعة وساعة!

وفي الحياة يفنى الوقت ذاهبًا فيما نحن بسبيله من واجباتها وممكناتها، وتعبنا بها وقتًا وراحتنا فيها وقتًا آخر، فكأنه لا يمسنا نحن بل يمس أعمالنا، فنحمله بذلك ونطيقه على ذلك، ولا نحس أننا نموت فيه يومًا بعد يوم، بل نشعر بالحياة تبدأ فينا ولا تزال تبدأ، أما في الحب على امتناع الحبيب أو هجره أو فراقه، فحاضرنا هو الماضي ويومنا هو أمس؛ إذ لا تزيد فيما يكون إلا مراجعة ما كان فيقع الزمن على قلوبنا، ويعتمل فيها، ويأخذ منها ولا نشعر به إلا موتًا في صورة حياة ممتعة علينا، ومن ثم فلا يكون الشوق إلى الحبيب الممتنع أو الهاجر أو المفارق إلا لهفة ثائرة كلهفة الشوق إلى الحياة من مريض وقذه المرض ورس على جسده السقم٣ فمات أكثره، وبقيت منه البقية الذاهبة نفسًا في نفس، ويشعر بالموت يبدأ فيه ولا يزال يبدأ!
يا رحمة للمشتاق حين يكون فيما حوله وهو بعيد عنه، وقد يتكلم بالكلمة وهو مسيرة شهر من معناها … ٤ ويعيش في سكوت ملأته أرواح ألفاظ محبوبة تريد بما وسعه أن تتكلم، ولا يمكن أن تتكلم؛ إذ الفم الجميل الذي ينطقها بعيد في وديعة النوى، ويروي أنه هو وحبيبه ناحية فكرية من نواحي الدنيا بعيدة عن الناس والأشياء، كأنهما معتكفان في عزلة، ومع ذلك فالحبيب عنه بعيد، فكأنما المسكين غريب في دنياه، وفكره معًا، ويحس الآلامَ لا تنتهي؛ إذ كانت هي أشواقه الدائمة الحنين إلى من يهواه، فالألم دائمًا فيه يبدأ ولا يزال يبدأ!

ومن كل ذلك فأشواقي لك يا حبيبتي دائمًا تبدأ ولا تزال تبدأ، وأنا دائمًا في أولها!

•••

آه ما هذه الأفكار الحزينة التي جاءت تبحث عن دموعي.

وما هذا المعنى الناري الذي يطير في دمي.

وما هذا الرعد القلبي الراجف يتردد صوته: آه آه آه …؟

١  رواجف الصدر هنا: كناية عن الخواطر الغرامية التي يضرب لها القلب العاشق.
٢  أي أجد نسيمها كأنها بمحضر مني، وقد مر تفسيرها في المقدمة.
٣  أضناه المرض وثبت على جسده.
٤  يريد أنه ذاهل، أو أن كل كلامه يكون على حبيبته، وهي بعيدة عنه، أو أن مركز معاني المحب لم يعد فيه هو، بل في حبيبته، فالحوادث ليست عنده على نسبة من حقائقها السارة أو المؤلمة، بل السرور والألم على نسبة بعده هو أو قربه من حبيبته أو من رضاها، وهذا كله يكون من تخليط الحب، فسيأتي مثل هذا المعنى على وجه آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤