لماذا … لماذا؟

وكتب إليها:١
قرأت كتابك وهو أسطر قليلة، ولكنها إما ساحرة أو مسحورة. فلقد خيل إلي أنها تنتهي، إذ كنت فيها كأني أطارد معنى فارًّا مذعورًا لا تمسكه الألفاظ فلا يبرح فوق السطور، إذا بلغ آخرها وثب إلى أولها فإذا كان في أولها عاد إلى آخرها، دواليك بدءًا وعودًا٢ ويتلجلج مثل ذلك في صدري فلا ينتهي حتى ينتهي عنه.

تقولين يا حبيبتي: أي شيء عندك هو جديد فيَّ؟ ولماذا لا تراني رؤيتك غيري؟ وكيف بعدت في نظرك المسافة بين وجه امرأة ووجه امرأة أخرى؟ وهل في وجوه النساء طريق متشعبة تذهب برجل يمينًا وتلتوي بغيره شمالًا، وتتوافى إلى غاية وتتفرق عن غاية؟ ثم ما الذي جعلني عندك لغزًا لا تفسير له، وجعل النساء من دوني واضحات مفسرات كألفاظ الحياة الجارية في العادة والواقع، المبذولة بمعانيها لمداولة الأخذ والعطاء، على حين تزعم أني كالعبارة العقلية التي يضرب فيها الظن على وجوه شتى، وأني كما تقول: كلمة بسرها؟

لا أكاد أفهم يا صديقي معنى «كلمة بسرها»! ولا معنى قولك الذي قلته لي: إن الحب فيك أنت كعتيق الخمر: يضيف إليها الوقت كل يوم أسرارًا وقوى وخيالًا وعملًا وسطوة ورقة، وأراه في سواك كتعتيق الماء … ٣

لماذا لماذا ليس عندي جواب كلامك وإنما هو عندك، إذ تجاوز قدر معرفتي يا صديقي، فلماذا لماذا؟

•••

«وأما قبل» … يا صديقي، فلا أزال أقول لك ما قلته: إن من النساء في مقابلة أشعة النفوس معاني؛ فمعنى كحائط، ومعنى كمرآة: وواحدة تمسخ ظلًّا طامسًا أراني فيها تحت الشعاع كأني ظل ممدود على التراب، والأخرى تبرق وتتلألأ، وأراني فيها سويًّا كاملًا كأنما خلقت في ضوئها.

ومن النساء في مقابلة أهواء القلوب معانٍ؛ فمعنى كالقفر، ومعنى كالحديقة، وواحدة يكون وجودها حول فراغها … والأخرى وجودها القلب فهو حولها.

«لماذا لماذا» لأن الإنسان غامض وتفسيره ليس فيه، ولا بد من تفسيره وإلا كان كل شيء عبثًا. إن الوجود كله مفسر للطفل تفسيرًا صغيرًا مثله في حب أمه وحنانها، وقد يكون ثدي الأم مثالًا مصغرًا من الكون كالمثال المصغر من كرة الأرض في تعليم الجغرافيا، بل الأم تفسير على قدر العقل لرحمة الألوهية نفسها.

وكذلك تبدأ الحياة من أول أنفاسها بالحب، ولعل أول قبلة على وجه الطفل من أمه ساعة ينفصل منها إنما هي استقبال الحب لهذا الإنسان الجديد، ومسه من شفتي أمه بالطابع الذي لو قرئ نقشه لكان هكذا: أنت وحدك.

فإذا كبر الوليد فلا بد من تغيير في أسلوب التفسير حالًا بعد حال، ولا يزال كذلك تغيره الأشياء والحوادث حتى يبلغ أسلوب الفلسفة العليا إذا انتهى إلى العشق، وحينئذٍ تكون قبلة الحبيبة إنما هي استقبال الحب لهذا الإنسان المتجدد، ومسه من شفتي حبيبته بالطابع الذي لو قرئ نقشه لكان هكذا «أنا وحدي …».

لذلك أنت يا حبيبتي الفلسفة العليا، وأنت «كلمة بسرها»، أما غيرك من النساء فجمالها عندي: جمالُ الشكل لا جمالُ السر.

ومن ثم فهي مفسرة واضحة، إذ لا يرى قلبي فيها ما يعسر فهمه، ولا ما يبحث عن تفسيره، ولا ما يفسر لي شيئًا من المعاني.

ومن ذلك فليس الجمال المعشوق إلا انطواء الجميل على أسرار مبهمة، وبذلك فكل نظر في المرأة لا يرجع إلا بزيادة الوضوح فيما يعلو منها وما ينزل،٤ على حين كل ما في الحبيبة يزيد على تكرار النظر غموضًا كأنه شيء جديد، ودائمًا شيء جديد، ويأبى جمالها أن يفسر، إذا كان تفسير الشيء إنما هو إضافته إلى ما فرغت النفس منه، وبهذا وذاك فما دام الحب قائمًا فكل ما في الحبيبة من تكوينها وأوضاع جسمها وشمائلها ومعانيها إنما هو (مضاعفات) للمرض بها.

«ولماذا لماذا؟» لأن الحب يريد أن يثبت أنه الحب، وأنه تحقيق كل إنسان روحانيته في غيره؛ ليشعر بما هو أسمى من شعوره الإنساني، وأنه امتلاء حياة بحياة؛ لتدرك معنى الكمال، فلا يكون في الحب إلا كمال الوجود الإنساني لشخص ما في وقت ما بمعنى ما.

ومتى حققت الروح وجودها في روح محبوبة، وامتلأت حياة بحياة صار لها عالمها الخاص بها، وعادت قوانين عالمنا هذا لغوًا هناك، وارتفع الحب عن أن يكون صلة أو اعتبارًا — كما يقع بين الناس في الوجود الإنساني الذي يسع الخلق جميعًا — إلى أن يصير حقيقة وحياة يعملان بقوانينهما في الوجود القلبي الذي لا يسع إلا اثنين من الخلق.

•••

إن جمالك أيتها الحبيبة ليس جمالك كما تظنين، وإلا فقد شركتك الحسان فيه: لكنه بكلمة واحة فن قلبي أنا!

والحياة التي تفيض عليك تملؤك وتملؤني معًا، ولذلك فكل معنى منك له معنى آخر فيَّ.

وأنا لا أعرف الحب إلا أن أفيض من وراء حدودي فأنفذ بروحي إلى جمالك ومعانيك، وأنفذ من معانيك وجمالك إلى كل ما يتلقاني في هذا العالم بجمال أو معنى، فكأنك أنت السر، وكأن جمال الوجود ليس شيئًا من ناحيته إلا معرفة أن لكل صورة معناها، فإذا هو جاء من ناحيتك فلكل صورة معناها، ومعنى زائد فيها كما أراها بنظر الحب، وبهذا يرجع العالم، وإنه في نفسي عالم تعبير فتتسع به ذاتي، وتتطور الإنسانية فيها وتدنو من أصلها الإلهي، وأكون قد أحببت والمعنى أني استضأت بالقبس الأزلي الذي أضرم الشمس والكواكب، وأصبح دمي لا يجري بل يشتعل ويتوهج، وعاد قلبي لا ينبض؛ بل يرتج ارتجاج الأفلاك في مداراتها.

وأكون بالحب قد وجدتك، والمعنى أني وجدتني؛ إذ كانت نفسي تنقصها المرآة التي أراها بها رؤية قلب، وأكون قد عشقت، والمعنى أنك أدخلت على قلبي حاسة تشيع السكون كله فيَّ أو تشيعني أنا فيه، حتى لا أفرح ولا أحزن إلا بمقدار يملأ الوجود، حين بك وحدك أفرح وأحزن!

«لماذا لماذا؟» لأن الحياة في هذه الأرض الثقيلة المستوخمة هي مثلها مادة، مهما تتنوع بقي لها أصلها الجاف الثقيل، كالشجر: مهما يكن عمله من تحويل التراب فيلبس منه الأخضر والأبيض والأحمر وغيرها من الألوان، ويثمر بالحلو والمر، فإن جذوره على ذلك لا تعرف الأخضر ولا الأحمر، وليس لها إلا شيئان، ترابها وعفن الأرض … فلا بد لهذا المنجم الترابي الإنساني، مما يغلي قيمته ويشعره أن فيه ألماسًا أو ذهبًا أو فلذة من أفلاذ الجمال كائنة ما كانت، وهنا عمل الحب موضعه سحره فهو يأتي بالمعشوق، ويمكن لمعانيه في القلب، وببضع ابتسامات ولحظات وكلمات وحركات يكشف من قلب العاشق عن كنز عظيم من الأحلام الجميلة التي تخفق بها خوافق السماوات والأرض٥ فإذا القطعة البشرية العادية من النساء والرجال قد تحولت بالحب إلى قطعة فنية نادرة لا نظير لها في جمال الكون، وعلى ما يصف الواصف لا يبلغ ما هي أهله في رأي محبها؛ إذ هي تخلق في نظره ضوءًا لها خاصة يرفعها فوق المادة وفوق الحقيقة، فكل ما تبصره العين الإنسانية فإنما تراه للفكر أو للعاطفة وحسب، أما هذه فتراها عين محبها للفكر والعاطفة، ثم للجمال والفن، ثم للشهوات والآمال، فلو أن جنة الله تحيا على الأرض في امرأة ما عدتها.

بل يرى المحب كأن سر الحياة أخذ يتجلى له، ويعمل أعماله على عينه، فكل شيء من الحبيب جديد مع أنه هو هو من قبل، وكل ما يصدر منه ففيه روح وخلق ينبثق لساعته؛ إذ كان سر الحياة هو الذي يتحرك في كل هذا، ويستعلن به للنظر العاشق.

ومن هذا تتغير الطبيعة نفسها في أعين المحبين؛ إذ لا يكونون منها في الحقيقة — بعمل ذلك السر — إلا بإزاء قصة عشق ممثلة في الطبيعة، ولها ممثلون وممثلات من الأنهار والأطيار والأشجار والأزهار والألوان والأصوات والنجوم والشمس والقمر وما في السماء وما في الأرض، على حين ليس في الطبيعة لغير المحبين إلا مناظرها!

ألا أنه بالحب وحده يحيا الإنسان أكثر من حياة إنسان، وتكون الطبيعة أكثر مما هي، ويزيد كل شيء في حس العاشق؛ لأنه هو زاد بحبيبه.

تسألينني «لماذا لماذا» لأنك، لأنك … يا حبيبتي!؟

١  من ظرفها أنه لقيها بعد هذه الرسالة، فابتدرته ضاحكة، وقالت: هل أحضرت معك لماذا …!
٢  دواليك: أي مرة بعد مرة.
٣  تعتيق الخمر هو إحياؤها وإصلاحها وقوتها، وتعتيق الماء: إماتته وإفساده وضعفه.
٤  أي في محاسنها ومقابحها، فترداد النظر يزيد ذلك وضوحًا في النساء إلا الحب، فهو لا يزيده إلا تأويلًا، كأن هناك معنى لا يستقر.
٥  أي تملأ ما بين السموات والأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤