هدية شتم …

نشرت مرة في بعض المجلات الفرنسية مقالًا فهم منه القراء كلماتٍ نبيلة، وفهم هو منه كلمات شتم فكتب هذه الرسالة:١

في الحب يتكلم قلب المرأة العاشقة بمنطق فصيح من أعمالها، فأعمالها عندها على طريق اللغة والتعبير قبل أن تكون لعلة أخرى من العلل، فإذا أنت حملتها على ظاهرها وكنت المقصود بها فقد جزت بها عن طريقها وأخطأت سحرها وجمالها، بل تكون قد أهنتها، وابتذلت المعنى السامي المخبوء لك فيها ليكون لك وحدهك.

قد تشتمك من تحبها؛ لأنها تحبك وتعزك، ويأبى لها شعورها بكبرياء الحب إلا أن تنبذ لك بلفظة متكبرة وهي قد وثقت أنها تخصك منها بمعنى ما … وقد تعرض عنك من دون الباقين؛ لأنك وحدك الآمر الناهي المتسلط عليها، فهي تخصك من إعراضها بهدية … وقد تعالنك بأشد البغض، وتدع قلبك يشبهها لك مراغمة جافية متعسرة غليظة الكبد، لا من بغضة ولا جفاء ولا معاسرة ولا غِلظة، بل من أنك أذللتها بهواك، فكل ما تشتمك به إنما تتأوه فيه … والكلمة التي تفصل عن المرأة في مثل هذه الحالة من سرها المجروح: لا تراد لتكشف عن معنى يكون فيها، بل لتغطي على معنى يكون في غيرها …

وهي كلمة وتاريخ وشعور في وقت معًا، وهي كالموجة: تحتها التيار وفوقها الريح، وشرحها وأسبابها في هذين لا فيها، تشتمك لتقول لك إني أعلم أني أحبك أحبك، فإياك أن تظن أني أحبك …

•••

وما أشبهها بالشمس وهذه المسبة منها كالغيم أثقله الماء فإذا الشعاع على قطراته رأيت فن الشمس لا فن الغيم، وإذا قوس قزح في سبعة ألوان جميلة زاهية يذوب بعضها في بعض تبرًا ولجينًا وجواهر شتى.

وكلمة الشتم من العدو تنزل من القلب منزلة الدمّل يأكل موضعه ويتسع ليأكل مواضع أخرى، ولكنها من الحبيبة تضاف إلى دواعيها في القلب، فإذا هي كالورقة الجافة في شجرة خضراء ذوت هي ومنبتها حي، فما أسرع ما ترف في مكانها ورقة أخرى أزهى وأنضر.

•••

الآن أذكر قولها إذ سألتني مرة: هل ترى قيمة الدينار في يد ملك أو أمير أكثر منها في يد مفلوك٢ أو صعلوك؟ وأذكر جوابي إذ أجبتها: إن الدينار في نفسه ملك يحكم الملوك والفقراء، فهذا من رعيته، وهذا من رعيته، وهو فوقهما فلا يعلو به من يعلو ولا ينزل به من ينزل، وكذلك دينار شتمها: هو على كل حال في يدي كما هو في يدها، ولو أنها جعلت قيمته في يوم غضبها مئة لعنة لما منعني ذلك أن أصرفه منها هي في يوم رضاها مئة قبلة!

•••

أصحيح أن شتمها كلمة حب محترقة، وأنها عبارة ذات تأويل قبل أن تكون عملًا ذا صراحة، وأنها من باب قول المرأة لمن تحبه: ابعد عني! إياك أن تصدقني وتبتعد …!؟

ذلك صحيح لا ريب فيه، ولقد قالت لي مرة في أمر سبق إلى قلبي منه شيء فعاتبتها: إنها مسألة لا تهم.

فقلت لها: نعم لا تهم، ولكنها تدل …!

فقالت: نعم تدل، ولكن معها الحب فلا تهم ولا تدل …!

عندها أن الحب يغير كل شيء، وقد فهمنا من قبل أنه يغير المرأة المحبوبة في نظر محبها؛ لأنها زائدة على النساء رغباته وأوهامه، ويغير الرجل العاشق في نظر حبيبته إذ هو زائد على الناس إما برغباتها وإما بحمقه وجنونه وغفلته، ويغير الطبيعة في نظر العاشق؛ لأنها مع الحب لا ترى إلا زائدة لون النفس، والآن فهمنا أنه يغير الكلام أيضًا إذا صار الكلام زائدًا تفسير الحبيبة المتكلمة، وانضاف إلى ظاهره مكتمها.

وذلك صحيح؛ لأن هذه الشاعرة الفيلسوفة تشعرني في كلمتها الجافية بأثر من الرقة والظرف يدل على أن قلبها مرَّ في بعض مواضع من مقالتها، وخفق على موضع وأنّ في موضع.

ذلك صحيح بلا ريب، والحب كالحرية: هذه تأتي أهلها بالثورة المدمرة وفيها أسباب من الحياة لها ما بعدها، وذاك يهدي الشتم وفيه أسباب من الدلال ولها ما بعدها!

يا صباحًا أهدى الضبابة دكناء. فغطى الضياء منك٣ ظلالك أنت أهديتها، وأنت أذبت الطل منها، فتم منها جمالك …!
١  قلت: انظر ما أومأنا إليه من قبل عن وسائلهما في المراسلة.
٢  المفلوك: الفقير المدقع، والفلاكة: الفقر، ومن الكتب كتاب (الفلاكة والمفلوكون) وقد طبع في مصر: وللكلمة أصل في الاستعمال لا محل لذكره هنا.
٣  استعمل ضمير الخطاب بعد ضمير الغائب في (أهدى) لقوة الالتفات وبلاغته في هذا الموضع، والمعنى أن شتم الحبيبة كضباب الصبح، يسوقه ظلالًا سوداء؛ ليقطره بعد قليل ندى يتم به جماله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤