رسالة الطيف١

ألمَّ بي طيفها بالأمس، فاقتحم بناء النسيان الذي رفعته بيني وبينها، وألقيت كبريائي في أساسه حتى لا يرجف ولا يتصدع، وأعليته بهمومي منها، وشددته بعزائمي وثقتي، وجعلته بإزائها كالمعبد من الزنديق: إن يكن لا يسخر من ذلك إلا هذا فما يلعن هذا إلا في ذاك …!

ولم ينكشف الليل حتى رأيت معبدي أطلالًا دارسة قد خلعتها روح السماء فلبستها روح الأرض، فتحول كما يتحول الزاهد في سمته ووقاره وتعففه إلى الشحاذ في تبذله وحرصه وإلحافه وتصدع فنونًا، وتبدل أشكالًا، وسرى طيفها في نيتي مسرى الزلزلة الراجفة في بقعتها من أرضها: تشق في الأرض والصخر والجبل ما يشق المقراض في سرقة من الحرير٢ بل أسرع وأقطع وأمضى، ولو حدث بعد الذي فعل طيفها أن مدفعًا من المدافع ألقى ظله على الأرض فانفجرت من ظله القنابل تخرب وتدمر وتأتي على ما تناله والمدفع ذاته قار ساكت — لقلت عسى ولعله، وأمر قريب، ولعل المدفع كان امرأة.

•••

ولكن تحت أطلال نسياني، وما تخرب من عزيمتي … انكشف لي كنز من الخيال دخلته وملكته، ولم أر فيه الدر والجوهر والماس والياقوت في جسم الأرض؛ بل رأيت فيه الحبيبة تسطع من جسمها البديع، حقائق كل هذه الجواهر الكريمة، حتى لكأنها والله في غرابة الحلم حسناء من درٍّ وماس وجوهر وأشعة تتلألأ، وما شئت أن أرى صفاء ولا جمالًا ولا حسنًا ولا فتنة إلا رأيت فيها.

ولكم كنت أتخيل إذ أجلس معها وأقلب عيني في محاسنها ومفاتنا — أن أظافرها المصقولة الملتمعة إن هي إلا لؤلؤ من جوهر جسمها، وأن الحلي على هذا الجسم الجميل إن هو إلا شعل تتوهج من ضوء لحمها، وتورد دمها لا من ذهبها وجوهرها.

غير أني في كنز الخيال رأيت ذلك هو الحقيقة بعينها، وعلمت أنه لمعنى جميل تنجذب الحسان إلى الحلي والجوهر؛ إذ كانت من طبيعة أجسامهن.

طيف جاء الروح المهجورة بالحبيبة، فاستنشتها كأنما هي نسمة طائفة على روضة من الورود؛ ومر بروحي التي جفتها هي وجرحتها مرورًا أنعم من لمس الشفة للشفة، وغمرها بمحاسن تملؤها ذوقًا وطيبًا، وتحول هو معها روح قبلة مشتهاة على انتظار طويل، ففيه مسها ولذتها وحلاوتها.

وفي الحلم يتجلى الحبيب لمحبه كما هو داخل في نظام عقله، وكما هو مستقر في أمانيه؛ فيكون على ذلك كأنه من خلق النفس وتصويرها، فتفتن به أشد الفتنة، وكأنها لم تر معانيه في أحد قط ولا فيه هو نفسه، ومن هذا قلما ناجى الحبيب حبيبه في رؤياه، أو طارحه الهوى أو الحديث، أو نوله مما يشتهي إلا انتبه المحب، وكأنه لم يلم به من هذا كله شيء؛ بل ذاب هذا كله في دمه حلاوة روح لها طعم ومذاق!

•••

يا للرحمة من طيف يعذب العاشق بالرحمة … إذ ينقل الحبيب كله إلا الحبيب نفسه … ويحقق للمحب أمانيه إلا بهذه الأماني … ويخيم على ظلمة الصد بألوان من نهار يموت قبل النهار … وفي عالم معذّب من الهواجس والخيالات العاشقة المستلبة إرادتها، ينصب عالم نعيم من الهواجس والخيالات المعشوقة مستلب الإرادة أيضًا، فكأنها سخرية النفس من جنون صاحبها … يا للرحمة …!

•••

وتحت أطلال نسياني، وما تخرب من عزيمتي … ظفرت بمقصورة كأنها من مقاصير الجنة لها جو عبق نافج مليء من الإحساس الخالد والشعور الطروب، كما ملئ بالأسرار والألغاز، ترف عليه معاني الضحكات والنظرات والابتسامات: تمازجه تعابير الصوت والموسيقى والثياب الحريرية والروائح العطرة، يسبح في كل ذلك جلال الحب وجمال المحبوب وروحي العاشقة!

وارتفعت حقيقتنا كلينا إلى عالم من الكنايات والمجازات والاستعارات، فكان الحب ثمة يتخذ شكله السماوي فيتسع بالإدراك في كل شيء؛ إذ يجعل الحاسية كأنها من حواس الخلود، فلا نهاية لمسرة تتصل بها، ولا نهاية للذة تخالطها، ومن ذلك لا نهاية لأفراح قلبي في الحلم …

وكانت هي كل تقاسيمها تعبيرات معنوية، حتى لكأنها صورة متجسمة من أوصاف بارعة في الحب والجمال خصصت بعلمها أنا وحدي؛ إذ لا يمكن أن يهتدي إليها إلا فيها وحدي، وكنت مع طيفها كأني ملقى في حالة من حالات الوحي لا في ساعة من ساعات الكرى.

ورأيت حبًّا رائعًا معبودًا أشعرني إذ ملكته في تلك الخطرات أن الإنسان قد يملك من الجنة نفسها ملكًا وهو على الأرض في دار الشقاء إذا هو احتوى بين ذراعيه من يهواه!

•••

وقالت نفسها لنفسي: هلمي يا حبيبتي في غفلة هذين العقلين العدوين نهدم عليهما المنطق الذي يعذبنا بأقيسته وقضاياه، وإنما نحن روحان فوق الأقيسة والقضايا.

هلمي إلى حكم الحب في رقدة الفلسفة العنيدة القائمة بصاحبينا قيام محكمة بقاضيين جاهلين معًا مكابرين معًا، فلا يرى كلاهما إلا أن صاحبه هو الجاهل، وبذلك تتضاعف البلية منهما متى حكما!

هلمي، من وراء هذين المتغاضبين إلى شريعة الرضا، فليست إحدانا من الأخرى إلا كالصدى يجيب على الكلمة بالكلمة نفسها؛ إذ ليست إحدانا إلا الأخرى.

هلمي، فما منا إلا من ضاقت وأعيت بحمق هذين الأحمقين، أحدهما من أحدهما كالصخرة التي تريد أن تبتلع الجبل وهي قطعة منه!

هلمي نتكاشف بالابتسامتين المخبوءتين تحت عبوسهما: الكاذب المنافق، فإن كذب العبوس متى لبس وجه الممثل والممثلة … لم يعد نهاية فيهما بل في الرواية، ورواية هذين هي رواية العناد والتعنت التي تمتد من نفسها؛ لأن كل كلمة فيها إنما هي بين متقاذفين، فلا ترمي إلا ارتدت، ثم لا ترتد إلا لتعود فترمي …

هلمي يا حبيبتي، فإننا تحت هذا الليل نهار مع نهار في عالم بعيد عن الأشياء، وبعيد حتى عنهما …

هلمي، فإننا الآن في جسدين روحيين لا تحدنا الحدود، وهذان الجسدان النائمان هما هم التراب الذي كنا فيه، وهما قذى المادة، وهما الخصمان، لا نحن، فهلمي يا حبيبتي …

•••

وقالت نفسي لنفسها: وهلمي يا حبيبتي، فاجعليني في روح شبابك الذي ألبسني الضنى على أنه لو نقل إلى الأجسام لأحيا الموتى.

هلمي فضعيني في أشعة الخلود من نظرات الرضا التي في عينيك؛ لأقوى على هذا الفناء الماحق من هجرك، فإن قربك ليس قربًا بل هو إعطاء، وبعدك ليس بعدًا بل هو سلب!

هلمي فارفعيني بقوة منك على قوتك الأخرى التي تهلكني بالخضوع والصبر.

هلمي فلنصالح بين الكلمة ومعناها، فإن هجرك هذا فرق بين ألفاظ الحب وأرواحها، فمسخها كما هي في كلام، وأنا أريدها كما هي في الحياة، وهل تحيا كلمة القبلة في القاموس أم في شفتيك؟

هلمي يا حبيبتي، نرتفع فوق دنيا الحزن والألم ولو ساعة ليست في ليل ولا في نهار، بل فيَّ وفيك: ساعة ليس فيها ستون دقيقة في كل دقيقة ستون ثانية، بل فيها ستون عناقًا في كل عناق ستون قبلة، فهلمي يا حبيبتي …

•••

عاد الحب أكبر من كلمة، ورجع الرضا أكثر من ابتسام الشفتين، وصارت الأذرع حدودًا٣ بعد أن كانت على فضاء وفراغ، وحيَّا طيفها وسلم.
حيا وسلم ثم صافح تاركًا
يده على الكبد التي أدماها
وأتى ليعتذر الغزال، ولجلجت
كلمات فيه،٤ ففي فمي أخفاها
ودنا ليغترف الهوى، فتهالكت
أسراره، فرمت به فرماها …
قلب الحبيب متى تكلم لم تجد
كلمًا، ولكن أذرعًا وشفاها …

•••

وانتهى حلم الصلح لتوه لحظة شعرت أنه ابتدأ … فلم يكن هذا الحلم إلا «عملية» حب جراحية مؤلمة في القلب الذي كاد يبرأ وينسى …

كانما طفئت من الهجر مكواة كانت محماة على كبدي، فجاء طيفها بما معه؛ ليضع مكواة غيرها …!

وأصبحت — والله — أعتقد أن الشيطان لي خلق مضاعفًا لما خلق إلا امرأة معشوقة …!

١  ألم به طيفها بعد الهجر، فاعتذرت إليه وصالحته وأعطته الرضا، فكتب هذه الرسالة.
٢  الشقة من الحرير الرقيق: وجمعها سرق (بفتح السين والراء).
٣  كناية عن العناق؛ لأن الاذرع تكون حدودًا على الجسمين المعتنقين.
٤  اللجلجة: التردد في الكلام، وتكرير بعض ألفاظه ومقاطعه، قال الطيف: أنا أنا أنا لم لم لم … وهذا التلجلج يكون من حدة العاطفة، وإذهالها الفكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤