في معاني التنهدات١

تسكن قلبي رغبة ما أراها تتحقق له فيتخلى عنها.

ولا هو يتخلى عنها إذ لا تتحق قله.

هي بعض الممكنات الخيالية التي لا تخرج أبدًا من القلب، وكيف تخرج منه، ولا مكان لها في الواقع؟

القلب وحده مكان المستحيل!

•••

رغبتي كأنها حكم من أحكام الشوق النافذة على قلبي.

حكم عليه بأن يظل أبدًا يريد ويشتهي.

أي حكم عليه بأن يطلب ولا ينال …

يبحث في الموجود عن غير الموجود.

يراك، ولكنه فيك أنت يبحث عنك أنت.

وأنت كسبيكة الذهب: ليس فيها موضع أحسن من موضع.

ولكن قلبي مع ذلك يظل يبحث عن الأحسن.

قلبي المسكين محكوم عليه، لا بالأشغال الشاقة، ولكن بالأماني الشاقة …

•••

رغبتي ستبقى دائمًا بين معاني التنهدات.

في مكان من القلب لا تتحرك فيه كلمات الأمل إلا تحركت معها كلمة آه …!

أتدري أيها الحبيب ما هي رغبتي؟

هي أن أراك حين تتلقى رسالتي وتتلوها.

لأرى حقيقتك كيف تكون، وليس أمامك إلا حقيقتي.

ولأرى بنفسي كيف ترى نفسي مكتوبة.

ولأعرف برأي العين: أنا أرسل إليك كلماتي أم خفقات قلبي.

ولأنظر كيف تخرج لك أسرار الكلمات من الكلمات؟ لأرى، وأعرف، وأنظر …

•••

ولكن يا صديقي، لو رأيتك حينئذ؛ لكنت أنت رسالة إليَّ، فلا تكون وقتي إلا ورقة،

ويشغلني عن رؤيتها أني أراك،

ويصرفني عنها أني منصرفة إليك،

ويكون عقلك قد استولى على عقلي،

وتذهلني أسرار عن أسرار،

فلا أرى، ولا أعرف، ولا أنظر …

•••

ومع ذلك أتمنى أن أراك جين تتلقى رسالتي وتتلوها،

لأرى كيف تتلقاني من خيالك حين ليس معك إلا خيالي؟

ولأعرف رأي العين أن هو أي جزء منك،

وأن كلماتي هي لمسات من قلبي لقلبك،

ولأنظر كيف أكون لديك في صورة رسالة؟

وأضحك من رؤيتك الورقة وجهًا له فم تقبله …

لأرى، وأعرف، وأنظر …

•••

ولكن يا صديقي، لو رأيتك حينئذ؛ لكنت أنت رسالة إليّ،

فلا تكون ورقتي إلا ورقة،

وينسيني إياها أنك حاضر معي،

وتموت الكلمة المكتوبة كلها في كلمة واحدة تنطق أنت بها،

وتحول معرفة دون معرفة،

فلا أرى، ولا أعرف، ولا أنظر …

•••

إذن فرغبتي ستبقى دائمًا بين معاني التنهدات،

وقد تحركت الآن بكلمات الأمل،

ولكنه الأمل الخائب الذي تأتي دائمًا في آخر كلماته: آه. آه …!

١  لهذه الرسالة خبر يعدّ من الغايات في ظرف المداعبة. وذلك أنه قال لها يومًا: إني لأتمنى أن أراك حين تفضين رسالة حبي وتقرئينها، فإن الحب إن يكذب على إنسان لا يكذب على ورقة … فقالت: بل هذا ما أريد أنا لأرى كيف تكذب حتى على ورقة؟ ثم سألته أن يضع هذه المعاني في هذا الموضوع الطريف؛ لتنظمها قصيدة باللغة الفرنسية، فأتعب نفسه فيها وكتبها، وبعث بها إليها، ولبث أيامًا ينتظر كتابًا منها حتى جاءه، فلما فض غلافه رأى كلامه بحروفه ولكن … ولكن بخطها! أتراها تخاطبه بها أم كأنها نسخت له صورة من مقالته التي عندها بخطه فلا رسالة ولا خطاب، أم تقول له: أنا كالذاهلة من الهوى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤