أليس كذلك

نظرة حب إلى الكون

إن شيئين هما أروع ما نعرف وما نجهل؛ أحدهما: ذلك المجهول الأعظم المنبسط وراء العقل يترامى قفرًا في قفر إلى ما لا نعقل من أسرار اللانهاية، والثاني: ذلك المعروف الأعظم المختبئ وراء القلب يتعمد صفة في صفة إلى ما لا ندرك من أسرار النفس.

وفي ذلك التعقيد السماوي تلتمس الروح وضوح الألوهية ونعيم الجنة الخالد، وفي هذا التعقيد النفسي يلتمسون وضوح الحب ونعيم الحبيب المعشوق.

أليس كذلك يا حبيبتي؟!

كل ما في الكون هو من الضرورات لوجود الكون؛ لأنه ممتلئ لا ينقص، وما كان ضروريًّا فهو مذهب واحد ليس فيه ما هو أكبر ضرورة ولا ما هو أصغر، الكبير الكبير: كالصغيرة الصغيرة، ولو أن مكانًا ليس فيه نفس واحد من الهواء؛ لقتل الحي كما يقتله انتزاع كرة الجو كلها من مخارق هذا الفضاء.١

وكل ما في الحبيب هو من ضرورات عشقه إن صح العشق، فكأنما هو يتجه أيضًا مع الكون إلى اللانهاية؛ بل كأن كل حبيب في خيال محبه إنما هو الوسيلة التي استطاع الكون أن يعبِّر بها عن جماله لإنسان في إنسان ببلاغة تختلف مع الأذواق كما تختلف البلاغة الإنسانية، هذه يقولون في تعريفها: إنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وتلك يقول الكون نفسه في تعريفها: إنها مطابقة الشكل الجميل لمقتضى الإحساس.

يضيق هذا الكون ثم يضيق حتى كأنما يجتمع عند العاشق في المعشوق وحده، وبهذا لا تجد حبيبًا إلا بلغ عند محبه ما تناهى إليه الحسن في أرضه وسمائه، حتى لهو الشمس والقمر، وكل ما جرت فيه أشعتهما من ذهب الجمال وفضته؛ وبذلك جمعت اللغات أحسن ما في الكون وأجرته في تشبيهات الحبيب، وألفت من ألفاظه لغة الحب.

فهل يكون في العقل من هذا ومن ذاك إلا أن الكون قد تناول النفس العاشقة حين ضاق ثم ضاق، فوسعها ثم وسعها حتى أفاضها من معاني الحبيب على المعاني الأزلية، وجعل عهدها بالحب أيامًا في لذتها، أو نكدها كأنها ليست من أيام هذه الدنيا؟

لعمري لو أمكن أن تأتي إلى الأرض رسالة من إحدى الحور العين في السماء لما أمكن أن يتلقاها إلا عاشق على شفتي حبيبته أو خدها، ولو بعثت الجحيم برسالة من زفيرها وشهيقها؛ لما وقعت إلا في صدر عاشق يتلهف من هجران حبيبته أو صدها!

أليس كذلك يا حبيبتي؟

•••

في السكون حياة أبدية فياضة لا تفتأ تعمل بالسلب والإيجاب، كان هذا الكون العظيم يتحول في كل لحظة ليخلق، فهو في كل لحظة صورة جديدة، وما كان فيه سلبًا فهو الذي يجذب في مذاهبه وتصاريفه، وهو مبعث القوة المبدعة، وهو الذي يحقق أشكال الحكمة في جلالها.

وفي المعشوق حياة فياضة تخيل لمحبه أبدية وهي إلى وقت، ولا تزال كذلك تعمل في خيال محبه، بالسلب والإيجاب، وهي السر في بقاء الحبيب طريفًا جديدًا ما بقي حبه، كأنما يتحول في كل يوم ليخلق، فهو في كل يوم صورة غير صورة أمس، وهو دائمًا معشوق الساعة، وقد خلدت عليه النظرة الأولى، وكل ما تكرر منه من ضحكة أو كلمة أو نظرة أو ما إليها جاء لوقته كأن فيه حياة.

وكأنه مولود لا مصنوع، ولدته رغبتك ولم يصنعه هو، فأنت تتلقاه كما يتلقى الأب أو الأم أولاده وقطع كبده؛ لا يزال عليهم كل يوم طابع قلبه.

وما كان في الحبيب سلبًا فهو الذي يفتن في دلاله وامتناعه، وهو مبعث سحر الجاذبية، وهو الذي يحقق من جماله الخيالي أشكالًا تتلهف عليها الروح لهفة الظمآن الضائع في القفر على تموج السراب وصبغة الرمل الجاف الملتهب بلون الماء البارد الصافي.

يمنعك الحبيب ما تشتهي منه، فإذا هو قد منحك الخيال ولذته وسحره، وإذا هو قد جعلك بالسلب كالمرآة لا تتلقى إلا لتعكس — فأنت للحب والشوق، ولكنك أيضًا للتفسير والتعبير، وتجد في قلبك من أثر ذلك النقص تكامل الحياة، ويصبح عندك فهم الجمال جزءًا من الخلق والفكر، كما هو فيك جزء من الحاسة والعاطفة، فإذا نار قلبك تحرق المعاني، وإذا كل شيء يتفجر لك عن ضوء أو شعلة، ويحقق لك الحب: أن الله نور السموات والأرض …

يا حبيبتي، أليس كذلك؟

•••

إذا لم يكن ما نعده بغيضًا شيئًا مفصولًا عن الكون فهو — ولا ريب — من ضروراته، وهو بهذا من أجمل جماله في معنى التكوين والإبداع، غير أننا لا ننظر منه إلى هذا المعنى، ولا نعتبر صلته بالوجود؛ بل ننظر إليه بمعنى التكوين الذي فينا، ونعتبر صلته بنا، فلا يكون من هذا إلا أنه قبح وسمج من قبحنا لا من قبحه.

فالكون بما فيه من أثر الخالق هو اتساق واحد منسجم لا شذوذ فيه ولا تنافر ولا قبح ولا بغض، ولكننا نحن بما فينا من قوة الخلق،٢ نتمرد على الانسجام والاتساق؛ إذ لا نملك من ضعفنا إلا خلق هذا التمرد، وتتطلع شهواتنا ورغباتنا إلى شيء ما فيكون جميلًا وحبيبًا، وتنصرف عن شيء ما فيكون قبيحًا وبغيضًا.

ومن هذا فليس في الكون إلا الحب والجمال والخير؛ إذ سقطت الشهوات، إذ كل شيء حينئذ يكون مقصورًا على حقيقته التي لم نفسدها بتغييرها، ولأن قبح شيء من الأشياء إنما هو صورة انحرافنا عن إدراك لا حقيقة، وجهلنا بناحية اندماجه في قانون الاتساق الإلهي.

أفليس بذلك يكون المشوق الجميل كأنه تهذيب علمي لروح من يهواه، وتدريب له على الاندماج بفكره وعاطفته في جمال الخليقة؟

أليس بذلك يكون المعشوق الجميل هو الوسيلة التي يتعلم بها العاشق علم قلبه. أي فن الارتفاع بالأشياء الجميلة عن سذاجتها الفطرية، وإكسابها في روحه الإشراق الإلهي؟

أليس بذلك يعمل العاشق في جمال العالم، ويكون الجزاء الإلهي فيه هو الذي تحرك للحب؛ لينكشف حبيبه بمعانيه السامية، ويشهد جمال ذاته في الصورة الجميلة التي يهواها، حتى ليستطيع أن يقول لحبيبه: يا نفسي، ويا روحي! وهو يحس أنه على الحقيقة نفسه وروحه؛ إذ يرى أنه متعلق به تعلق الطفل بروحه الكبيرة في أمه وأبيه؟

وهل غير الحب علَّم الإنسان كيف ينادي روحه ونفسه في غيره؟

أليس كذلك يا نفسي، ويا روحي …؟

١  أي من حيث ينخرق الفضاء، أي منه كله.
٢  لا تستعمل كلمة الخلق للإنسان إلا في إيجاد الأوهام والخيالات والصور الكاذبة، ومنه قوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، أو في التحويل، ومنه قوله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، ولا تجوز غير ذلك مما يستعمله ضعفاء الكتَّاب في هذا العصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤