النجوى

وبي زهرة في جانب النيل قد نمت
فرف عليها إذ يروح وإذ يغدو
لطافته في طبعها الحب والرضا
وتياره في طبعها الهجر والصد
ويحكي وفاء النيل فيض وعودها
ويا شد ما ينحط من بعدها الوعد
وفي زمن تصفو علي كما صفا
وفي زمن ما من «تكدرها» بد
ووالله ثم الله، إن حلاوة
من النيل للعينين في فمها تبدو
وإني وإياها على ظمإ الهوى
أنا الفم هذا الهوى وهي الخد

•••

آه! وأنا حين أقول: آه، أحسبها شعلة تتلوى ذاهبة ممتدة في قلبي!

آه! وأنا حين أقول: آه، أشعر أن قلبي يمدها طويلًا طويلًا لتصل إلى قلب آخر!

آه! وأنا حين أقول: آه، أراني كأن روحي طارت إلى آخر مدها ووقعت!

•••

وكنا في يوم من أيام الربيع، وكل شيء حولنا يتكلم بلغة الشمس في لمعة وضوء وجمال، وفي الأزهار معانيها الغزلية التي بها وحدها تظهر الطبيعة في رقة امرأة عاشقة.

وفي الهواء نسمات بليلة متعطرة قد خيمت فيها روح قبلة متعرضة١ كأن الرياض في نشرها الذكي٢ مصانع يقلد فيها الربيع صنعة أنفاس الحبيبات.

وفي الزمن ذاتية واضحة أشعرتني أن كل ما حولي هو تعبير يهم أن يتكلم.

وكأنما سقط قوس قزح من السماء، وماجت ألوانه بعضها في بعض فغطى الأرض ألوانًا شتى بأزهارها وأعشابها.

وكأن السماء مازجت قلبي في تلك الساعة فأضاءته بنور الفجر الندي العبق بالنسيم، الملون بالشفق، المتحرك بالسحاب.

وكنا في صباح جميل يشعرنا بكل ما فيه أن شمسه طلعت لنا وحدنا.

وكان كل شيء يرف ويزهو كأنه طبع بقبلة من شفتيها.

وبدا الصباح عليها بمعاني الرياض، وعلى الرياض بمعانيها هي، فاجتمع نشاط الكون ونشاط قلبي، وتقتلت كما تتقتل٣ … وقالت ضاحكة: لا أحبك!

قلت: إن فيها «أحبك» وهذا يكفي!

قالت، وزادت في ضحكها: أعني أبغضك!

قلت: ولكنه بغض من تضحك كما أرى …!

قالت، وزوت من وجهها وتكلفت العبوس قليلًا: أعني …

فابتدرتها أقول: إن تكلف وجهك ينطق بأنه لا يعني …!

فذهب بها الضحك مذهبًا ظريفًا، وقالت: الآن قطع بك،٤ فلقد كنت أريد أن أقول «أعني أحبك» فنفيتها أنت فانتفت!

قلت: بل الآن وصل بي … ما دمت قد قلت «أعني أحبك» وأثبتها أنت فثبتت …

قالت، واستطلق وجهها: إني والله أجد من سروري أن أعجزك، ولكنك داهية لا تعجز، ولا يزال في لسانك جواب ما أقوله وما لم أقله!

فقلت: وأنا والله أجد من سروري أن أقدر، ولكن هل أقدر على ما هو مقدر؟ إن بعض كلماتك هي الآن كلمات، ولقد تكون غدًا حوادث!

فاعترضتني قائلة: أنت تنظر في نور من خيالك مع نور الطبيعة، فترى أشياء كثيرة غير الأشياء.

قلت: ولكنه هو النور الذي يقيد الطبيعة كلها بمنظر واحد …

قالت: أهو منظر جميل؟

قلت: بل الجمال بعضه …

قالت: وما عسى أن يكون باقيه إذا لم يكن الجمال إلا بعضه؟

قلت: إن في قلبي كلامًا يُسمع من غير أن أتكلم به، وفيه جواب سؤالك!

فاستضحكت، وقالت: وعلى هذا فهمت من غير أن أفهم … ألا قل لي، لماذا تكون لغتك هكذا؟

فقلت: لأن الحب يجعل كل سهلٍ واضحٍ في الأشياء غامضًا معقدًا في النفس، وهذا هو سره، وبهذا يرتفع عن الإنسانية، ويجنح إلى التأله، وبسره وتألهه يخلق كل ما يمسه في صورة ثانية مع صورته التي تقوم به، فيجعله بصورتيه من الكون، ومن النفس العاشقة أيضًا، وليس من شيء خلق مرتين، ولكن أشياء الحب كلها كذلك خلق ثم خلق.

ليت شعري، أيعذب العاشق المسكين بهذا التأله الخيالي فيكون عقابًا شديدًا بطريقة غير أرضية؟ أم ينعم به فهو ثواب عظيم بطريقة غير أرضية كذلك؟

إنه لسر عجيب رائع في قلب من تيمه الحب، يدل عليه أنه ما من عاشق إلا وهو يرى أن رضاه عن جمال حبيبته، وتكوين أوضاعها وتناسقها ومشاكلة بعضها بعضًا، كرضا الصانع عن صنعته، وافتنانه بما أبدع واخترع، وبما أتقن وأحكم، كأنه هو قدر وسوى، وسوى وخلق، ولو جاز أن يهبه الله القوة على أن يذرأ ويبرأ، ثم أمره أن يخلق لنفسه امرأة، لما صنع إلا هذه التي أحبها بكل ما يحبه فيها، وإن لم يستطع الحب أن يخلق إنسانًا فهو يخلق إنسانية.

بذلك لا يفهم هذا الحب إلا في أسلوب ملتو؛ لأن له طرفًا غائبًا وراء النفس، كالعود من الأعواد غمس أسفله في الماء فلا يتراءى للعين في صفحة الماء إلا ملتويًا متثنيًا، لا بعمل من ذات نفسه، بل بموضعه، وبتأثير أحكام الضوء في موضعه.

والحب يشبه ألوهية دون حدها، فهو بهذا مفهوم غير مفهوم، ويشبه إنسانية فوق حدها، وهو بهذا أيضًا مفهوم غير مفهوم، ولا نراه أبدًا إلا مصرحًا غامضًا. إن صرح من جهة الحاسة غمض من ناحية الفكرة، وكل دونه هو في النفس يأتي من بعده في الموضع والقيمة والاعتبار؛ لأن في الحب وحده المعنى الأكبر للحياة في وهم المحب، على حين كل ما في الحياة هو في الواقع أكبر منه، ولن يعيش من لا يأكل ولا يشرب، على أن من لا يحب نراه يعيش.٥

قالت، وضحكت: بذلك لا يفهم الحب، وبذلك استطعت أن تجعل لغتك هكذا …

قلت: وبذلك أيضًا استطعت أنت أن تجدي مخابئ لغوية كثيرة تخبئين فيها الكلمة التي تريدين النطق بها ولا تنطقينها، فصارت لغتك عندي تفسر من معجمات كثيرة: من نظرة والتفاتة وخطرة وحركة، ومن شيء ومن لا شيء، وتقولين الكلمة بما شاء دلالك من أساليبه الكثيرة، إلا بأسلوب النطق كأنها تراغمك على أن تظهر وتراغمينها على أن تختفي. أتعلمين أنك كالدولة من الدول العظمى، حاشدة كل وسائل الحرب، معدة لها في كل وقت، فهي بذلك ظافرة غالبة من غير حرب، كأن وسائل الحرب تقاتل من غير أن تقاتل؟٦

قالت: يا ويحك! فإذا قبلت منك أني دولة عظمى، فكيف أقبل أني «أكاديمية» عظمى … حتى تجعل لي معجمات كثيرة؟ وترى ما الذي يمكنك أن تفسره من معجماتي؟

قلت: يا ويح غيرك!٧ أمكنني يا جبارة المستحيلات ما أمكن الغزال من جبار الممكنات …

قالت: أسألك عن مستحيلاتي، ولكن ما هي ممكنات غزالك؟

قلت: إن غزالي هذا كان فيلسوفًا لا يصدق إلا ما يقره، ولا يقر ما لا يمتحنه، على طريقة الفيلسوف (كانت)٨ … ولم يكن رأى سبعًا قط، وهولوا عليه في أوصافه ورهبته وسطوته، فلم يصدق شيئًا من ذلك إلا أن يراه ويدرسه درسًا تحليليًّا، كما تسمين أنت كلامك وفلسفتك. قالوا: فأطال الغزال الفكرة في ذلك، ودبر أن يلقى الأسد ويدرسه. ثم إنه قسم الدرس إلى أعمال خمسة على هذا النسق: فالأول: أن يتجسس مخالب السبع، ثم يعجمها، ويدق عليها بحجر؛ ليعرف مبلغ صلابتها، ويقف على سر تركيبها … والثاني: ألا يكتفي بمثل هذا الصنيع في الأنياب؛ بل قرر أن يحطم واحدًا منها … ليعلم ما سر قوتها ومضائها، والثالث: أن يتناول عضلات الأسد في زوره ورقبته وأعضاده فيغمزها غمزًا شديدًا؛ لعلها من ورم أو شحم وما يدري الناس، والرابع: أن يجيء بالموسى فيحلق لبدة الأسد فيكشف عما تحتها، ويرى منظره وقد عري منها، فلعلها من شعوذته في القوة واحتياله على مظهرها ورهبتها، والخامس: أنه متى فرغ من كل ذلك حملق في عيني الأسد، ودرس ذلك اللمح المخيف من شعاعهما، فإن لم يبلغ من ذلك ما أراد علمه وفلسفته اقتلع إحداهما وأسالها، وبحث فيها ما شاء!
قالوا: ولما جاء العرين، وأصبح من الأسد بمرصد، وهبت رائحة لحمان أجداده … قال: النجاة النجاة! ما هذا بالذي خلقت له فلسفة رأسي، ولكنه الذي خلق له عدو ساقي … ووثب يشتد مع الريح.٩

ولكن آه من تعقيد الحب، إن الفيلسوف المتهزم الآن هو الأسد بلبدته وأنيابه ومخالبه، وبكل ما هو به أسد، والمنتصر هو الغزال بلينه ونعومته وبعينه الكحيلة، وبكل ما هو به غزال!

قالت: آه! ولم تزد.

•••

قلت: آه! أنت يا حبيبتي فيَّ، وأشعر بك دائمة الاندفاق والانصباب في نفسي، كأنك جمال لا ينتهي، وكأني عشق لا يمتلئ، وأنت خارجة عني وبي شوق دائم النزوع إليك، يخيل إليَّ والله أنه ملء الكون لا ملء صدري: وأنه لا يزال شاردًا متسحبًّا على الوجود كله لا يجد ما يستقر عليه، مع أنه واجدك، ومع أنه حائم عليك، وما ذلك إلا لأنك دائمة الدلال، أي دائمة الانحراف عن لمسات قلبي، أي دائمة الاهتزاز بمعانيك الجميلة، كيلا تثبت صفة منك على صفة مني، كيلا نتعانق حتى ولا في المعاني.

أنت اثنتان عندي، وليس في يدي من واحدة شيء، وإذا كثرت الآمال؛ لتكثر حسرات الإخفاق عليها، فلماذا لا تقول إن الأمل هو الاسم الصحيح للخيبة؟

إنك لي كالرؤيا من الرؤى السماوية، فالتي هي أنت ليست في التي هي أنت، وبذلك فالتي أحبها فيك لا يمكن أن أجدها فيك،١٠ كأنما نتلاقى في عالم بعيد من وراء ظواهرنا.
كأنما قامت منا في الحب حدود دولتي، فلن يتقدم حد منهما إلى حد ويكون بينهما سلم، ولا سلم إلا في هذه الوقفة الثابتة، ولا إخلاص ولا محبة ولا ثقة إلا أن يدق مسمار الزمن في كليهما فإذا هو من الآخر بعيد على قرب قريب على بعد!١١

كأننا نعيش في أمس، يجيء يلبس كل يوم من أيامنا لا قوة تناله فتنزعه، ولا قوة تناله فتبليه، فما تزال تتجدد من تحته أيام الحب في سر منا، ونعطي كل يوم عالمنا، ولا نأخذه، ولا نتلقاه!

كأننا في يوم هجر خالد علينا، فكل ما يأتي بعده من الأيام ميت فيه لا محالة؛ إذ أيام الحب إنما هي بنسبتها إلى الحبيب لا إلى الزمن.

كأن هذا الحب قد ضرب بيننا وبين الحقائق بسور ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبلة العذاب، فكل ما رأيناه رأي العين من فرح الأشياء ولذاتها، علمناه في علم أنفسنا أوجاع مكابدة وآلام حرمان …!

•••

فأضجرت فلسفتها هذه الفسلفة، فقالت وابتسامتها ظاهرة على قولها: وأما قبل؟١٢

قلت: وأما قبل فكأنما أنا المكان الحي الذي تئن فيه الأشياء أنينها الباكي، وتبتغي فيه موسيقى الحب من أوتار متقطعة متبعثرة إن جاءت بشيء فبأنغام موتى أو مرضى، وإني لأحسب الدنيا كلها تصدح من حولك تلقين فيها النغم، ثم لا تحبسين الصمت إلا لي أنا وحدي.

قالت: أف للشاعر من الشاعر نفسه! أنت كما تريد من الحياة مسرة لابتسامك تريد منا آلامًا لعبوسك الشعري، وإذا لم تجد الألم أوجدته واخترعته، كأنه لا بد لمن يصنع شعرًا أن يصنع مقادير يفرح بها ويحزن!

ما أراني أفهم عنك حين تقول: السماء والطبيعة وهي، والشمس والقمر وهي، والخير والشر وهي: فأنت وحدك تفهم هذا؛ لأن للشعراء شياطينهم، فلك مثلهم شيطان يحدثك وتحدثه، وترى ما اسمه.

قلت: اسمه «هي» …

وكأنما كان الشيطان غائبًا في سفر طويل، ورجع عند ذكر اسمه، فلما رآها هي اسمه ألقى فيها سحرًا من سحره فإذا على ثغرها برهان ثغرها … وقالت: اسكت!

قلت: لقد عرفنا الشيطان باسمه …

قالت: اسكت!

قلت: ما يسكتني ولا الشيطان نفسه.

فمدت إلي نظرة طويلة كلها براهين على قوة هذا الشيطان الفاتن، وقالت: اسكت اسكت!

ثم لا أدري ما الذي أسكتني حينئذ … أحسب أن الشيطان سد فمي بفمه! …

•••

آه! وأنا حين أقول آه! أحسبها شعلة تتلوى ذاهبة ممتدة في قلبي!

آه! وأنا حين أقول آه، أشعر أن قلبي يمدها طويلًا طويلًا؛ لتصل إلى قلب آخر!

آه! وأنا حين أقول آه، أراني بعدها كأن روحي طارت إلى آخر مدها ووقعت، آه!

١  خيمت الرائحة في الثوب أو المكان: إذا أقامت.
٢  النشر: الفوح الطيب.
٣  يقال: تقتلت له المرأة، أي تعرضت له، هكذا فسروه، والتعبير من أدق ما في لغات البشر قاطبة، ولا نظن أن في غير اللغة العربية ما يقاربه، ومعناه: أن المرأة الجميلة حين تتعرض لحب الرجل تبرز مقاتل أنوثتها واحدًا واحدًا، فكأنها تتقتل له … هذا تعبير دقيق جدًّا إلى الغاية.
٤  انظر الرسالة السابعة من (رسائل الأحزان)، ففيها ما يشبه هذه المحاورة الطريفة على طريقة أخرى، وهناك وصف مجلس كهذا المجلس.
٥  قالوا: اجتمعت أديبة بمحبها، وشغلهما الحديث، ومر وقت الطعام، فقال: ما لي لا أرى ذكرًا للطعام؟ فقالت له: أما في وجهي ما يشغلك عنه؟ قال: بأبي أنت وأمي لو أن جميلًا وبثينة اجتمعا يومًا لا يأكلان ولا يشربان؛ لبصق كل منهما في وجه صاحبه وانصرفا.
٦  تمنع الأعداء فكأنها تقاتله، وترده الدولة المستعدة، إذ يقيها غيرها.
٧  يقول العرب: ويحك! واستعملها عدي بن الرقاع في شعره: ويح غيرك، اضطرارًا لإقامة الوزن، ولكنها بذلك تكون في غاية الظرف إذا وقعت في مثل موضعها هنا.
٨  هو الفيلسوف الألماني الشهير المتوفى سنة ١٨٠٤، وكتب على قبره (الناموس الأخلاقي فيّ، وسماء النجوم فوقي) وكان في دروسه يجعل الأخلاق والدين فوق كل شيء، ومذهبه في البحث والامتحان أساس التفكير المستقل.
٩  ترى أمثالًا من هذا النحو في كتابنا (تحت راية القرآن) وفي النية — إن شاء الله — وضع كتاب منها في معارضة كتاب كليلة ودمنة، فإن العربية خالية من كتاب في ذلك تسميه كتابها، وتقابل به ما في اللغات الأخرى، كما كانت خالية من رسائل الحب.
قلت: وانظر ما كتبنا عن ذلك في ص ١٦٥ من كتابنا (حياة الرافعي).
١٠  أي يهوى التي يهواها؛ ليجد فيها مسرات الحب، وهذه ليس فيها إلا عذاب الفلسفة … كما يعرف من وصفها في (رسائل الأحزان).
١١  إذا كان السلم بين دولتين متجاورتين، فأبعد الأشياء منالًا عن كل منهما حد جارتها الذي هو أقرب الأشياء إليها.
١٢  مرت رسالة (أما قبل) فانظر فيها، وفي سبب هذه الكلمة ومعناها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤