هل أخطأت …؟

قالت له يومًا في أمر من الأمور: «قد أخطأت!» وغضبت أو تغضبت … فكتب إليها هذه الرسالة:

لقد قلت يا حبيبتي إني أخطأت، ورميتني بها كلمة مقفلة لا منفذ منها ولا مخرج، ولا أدري والله كيف أخطأت، ولكنك لما قلتها وتغضبت فيها وتعتبت لها أثبت في الكلمة معناها …

ولو أني راجعتك في ذلك مئة مرة، ولكل مرة برهان، ومع كل برهان اقتناع، لما استطعت أن أنتزع دلالك أو نعتك من هذه الكلمة. فأنا بدلالك أخطأت لا بعملي، وبرغبتك في الإساءة إليَّ قد صرت مخطئًا لا بإساءتي، والتهمة ثابتة عندك لا بواقعة ولا دليل، ولكن بثبوت حبي لك …!

ولقد نظرت إليك حين قلتها ونظرت إليَّ، فكانت شفتاك تتهمان، وعيناك تعتذران، وكان لساني يعتذر، وعيني تتهم، وكانت الكلمة نفسها تكاد تقول: ما جئتك لأدل على معنى وقع منك أنت؛ بل على معنى وقع فيها هي …

وقد اعتدت منك في بعض حالات قلبك أن لا تضعي المعنى في اللفظ الذي هو تعبيره، بل في الذي هو تعبير ما بيني وبينك، فمعنى قولك إني أخطأت، يجيء في تعبير آخر كأنك تقولين: تذلل لي.

•••

لا تزال الكلمة كلمة من اللغة حتى تقوليها أنت، فإذا هي كلمة من الفن؛ وإذا فيها ذاتية وحياة ولها تاريخ؛ ولو بمرورها من شفتيك!

أنا أخطأت لأني لم أخطئ … فهي كلمة حب من معناك أنت لا من معنى الخطأ اللغوي، ولذلك أقرها، فإذا قلت لك، نعم تجيء هكذا: هل ترضيني؟ نعم أرضيك! ألست تطيعني؟ بلى أطيع! هل تتذلل؟ نعم أتذلل! هل أخطأت … نعم أخطأت!

وأرضيك، وأطيع، وأتذلل: كلها بمعنى أحبك أحبك أحبك!

فما رميتني بخطأ، ولا أجبت بإقرار، ولا بقيت للكلمة عقدة تمسكها في معناها، ولو رأينا لرأينا الحب يضحك في هذه اللفظة بمقدار ما تعبس فيها اللغة!

•••

وكلمات الحب كلمات يتغير عليها الحس فتفهم على أوجه مختلفة، وتشاكلها معانٍ كثيرة؛ وكأن طريقة قولها تخلق فهمها، فما هي من عالم اللغة بل هي من خاصها؛ إذ اللغة بين أهلها جميعًا، وهذه بين اثنين خاصة، واللغة ألفاظ مفسرة بما تلبسه، وهذه تفسر بما يلبسها، واللغة تشير إلى الموجود؛ إذ لا يراد بها إلا التعبير للفهم، وهذه تشير إلى غير الموجود أيضًا؛ إذ تريد مع الفهم العاطفة، ولا بد أن يعطى فيها القلب إرادة.

ورب كلمة ينبذها إنسان لإنسان فإذا هي على قلبه كالريح السافية تعقد في الظهرة ضبابًا خانقًا من تراب الأرض … فإذا ما لفظها حبيب لحبيبه نسمت على قلبه كرويحة الفجر في ضباب من الطل والندى، على حديقة ملتفة؛ إذ كانت هناك في منطقة اللسان، وكانت هنا في منطقة القلب، وكانت ثمة في جو من عداوة قائلها، وكانت هنا في جو من حب قائلها!

•••

أنت علمتني بحبك أن هذا الكون على اتساعه موضع خاص بقلبي وحده، فمهما اتسعت اللغة في مذهب تعبيرها ففي قولك إني أخطأت معنى خاص بي وحدي يا حبيبتي …

وأنت أريتني أن الجمال هو تصوير الحياة بك، فكلامك لي هو تصوير اللغة بك وحدك أيضًا يا حبيبتي …

وإذا ابتسمت وقلت إني أخطأت، فتلك ألفاظ متبسمة من دلالها، وإذا عبست وقلت إني أخطأت، فتلك ألفاظ متعنتة من دلالها، إذن فاعلمي أن في كلمات غضبك معنى كذلك أراه لي وحدي يا حبيبتي …

وكلام الكبير مع الطفل يكون بلغة واحدة وهو في الحقيقة بلغتين لمعنى عاجز في الطفل،١ وكلام الحبيب مع المحب بلغة واحدة هو كذلك بلغتين لمعنى قادر في المحب. فالمعنى المفهوم من إحدى اللغتين في قولك إني أخطأت، هو يا حبيبتي لي وحدي، وكما أفهمه أنا وحدي …

وإدلالك عليَّ برهان خاصيتك مني، فلم لا يكون اتهامك إياي برهان خاصيتي منك؟

سأتذلل لك يا حبيبتي، وسأرضيك وسأطيعك و … سأخطئ …!

١  الكبير قوي في الإدراك محيط بصور كثيرة من المعاني، والطفل قليل الصور الذهنية في إدراكه فيفهم من كلام الأول إذا فات قدرته عجائب وغرائب في لغة ليس فيها عجيب ولا غريب، وكذلك المحب، يتأول الكلمة من حبيبه فيخرج منها تهاويل وتهاويل، وربما قضى ليلة إلى صباحها في تفسير لفظة واحدة صحبتها إشارة أو لابستها قرينة، وقد لا يكون فيها غير معناها، ولكن العاشق يريد فيها رغبة لا معنى، فكأنه من همه بها مكلف أن يخلق منها خلقًا. وهكذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤