البحر

«وكتب إليها من شاطئ البحر، وكان قد ذهب إلى هناك مسشفيًا من علة أصابته».١

لقد كنت والله من وثاق المرض كالسجين المغلغل: يحمل على أعضائه أعضاء من قيود وسلاسل، فلا يجد كل الأمكنة أوسعها وأضيقها إلا جسمه والجسد الحديدي الذي فيه جسمه، وكأنه من الكرب لم يقيد، وإنما أقفل على روحه من ذلك الحديد بقفل يكف هذه النفس، ويحول بينها وبين الدنيا.

فلما احتواني البحر جعلت سلاسلي تذوب فيه شيئًا من شيء في يوم من يوم، ثم كأنها لم تكن إلا آثار لون أسود فغسلها البحر ومحاها، أو كانت جمرات ألم أحمر فأطفأها وسال عليها.

ألا ما أعجب رحمة الله! فبينا هموم الإنسان في موضع هي أشد اندماجًا من الحديد، إذا هي في موضع غيره متخلخلة أسرع ذوبانًا من الملح المبتل: كأن مكانًا يلبس أنفسنا، ومكانًا يخلع عنها، أو كأن الأرض بتباين أمكنتها وبقاعها تقابل الأقدار في اختلاف عللها وتصاريفها، حتى يكون السفر من بلد إلى بلد أحيانًا كأنه تحول من قدر إلى قدر.

كان المرض يُخيل لي أن هواء ناحيتي مستنقع معلق … فجئت إلى هواء البحر فإذا هو بحر ذائب٢ يحس المتنفس منه أن في صدره مثل الموج على ما ركد فيه مما تركته الأيام والليالي من أحداثها وهمومها، فإذا صدره جياش مصطخب بالحياة يفور بها ويتضرب، وإذا موجة من العافية قد اندفقت في هذا الصدر فثلج وابترد وتنقى كأنما غسل ثم غسل إلى ملء بحر.
وأرى السماء هنا والبحر متدل منها، فكأنها مخيط أزلي، وهذا البحر كله موجة واحدة، وثبت من هناك عن ثبجها الأزرق٣ ووقعت إلى الأرض، أو هذا بحر سائل موار؛ إذ هو يدفع أنفاس الحياة الأرضية الفانية فلا بد أن يجري ويتحرك، وذاك بحر مستقر لثباته على الأزلية الخالدة، ويقع من أحد البحرين ثبات اليقين في روحي ومن الآخر حركة الأمل في قلبي، وتندمج بهما في حياتي روح أيام زاهية مضيئة كأنوار السماء، وروح آمال بلية منعشة كأنفاس البحر.
وأرى البحر مائجًا يترشرش ويتناثر وهو بارد، ولكنه يبدو كما يغلي الماء في وعاء على النار، يتقاذف من شدّة ما يغلي، يضطرب ويدوي كما يرجف الرعد ترددت هدهدته٤ يجاوب بعضها بعضًا، فكأنما البحر سحاب عظيم قد حبسه الله في الأرض فهو أبدًا ثائر يضج ويرعد، ولا يبرح ينازع الأرض أن يفر منها!
وأعرف للبحر في نفسي كلامًا؛ فهو يوحي إليَّ: أن تجدَّدْ تجد في آمال قلبك كأمواجي لكيلا تمل فتيأس؛ وتحرك … تحرك في نزعات نفسك كتياري لئلا تركد فتفسد، وتوسع توسع في معاني حياتك كأعماقي لئلا تمتلئ فتتعكر، وتبحر تبحر في جوك الحر كرياحي٥ لئلا تسكن فتهمد.
كن مثلي جبار الحياة مجتمعًا من ألين اللين وأعنف القوة، كن مثلي قديس الحياة واسع الروح نظيف المادة مستعينًا لواحدة بواحدة٦ … كن مثلي جميل الحياة ثابتًا على الرقة والصفاء، وإن من وراء شاطئيك الرمال والحجارة وطين الأرض وناس الأرض … كن مثلي حر الحياة محتفظًا بالسعة والحركة والعمق، كن مثلي إلهي الحياة ليس بينك وبين السماء شيء يحجبك أو يحجبها، وعلى وجهك دائمًا أنوار الشمس والقمر والكواكب، كن مثلي شاب الحياة فلن تهزم أبدًا إذا أثلجت روحك بالرضا فتبلل شبابك بأندائها، فعمرك كله عمر الفجر!

•••

ولكن أيها البحر! ما هذا البريق الذي تسطع به حتى لكأنك تحت الشمس أرض من الزمرد والفيروز والماس؟

وما هذه الرقة في هذا الأديم الذي تتعرى به حتى لكأن كل موضع فيك عليه بضاضة وإشراق من جسم فاتنة عارية؟

بل ما هذا التوحش في هذا الموج الذي تزأر به زئيرًا يتردد في كل نواحيك حتى لتلوح كل موجة من كل موجة كأنما هي لبد أسود بيض غاطسة في الماء يحمل بعضها على بعض للقتال؟

وما هذا الهدوء ساعة تستقر في جو خافت كهمس التسبيح فتبدو كقلب المؤمن رسب في أعماقه اضطراب الظن بالحياة، وطفا على اطمئنان التوكل على الله؟

وما هذه الثورة ساعة تستقر في جو صاخب كمعمعة المعركة، فتظهر كالمخبول ثارت خواطره فهن كأمواجك مبعثرة طائرة، وكأن زوبعة سكنت فيها؟

•••

ولكن أيها البحر! هل يقال لك: ما هذا؟ وما هذه؟

كلا، فما أنت إلا كذلك الجمال المعشوق: يسطع ويرق ويتوحش ويهدأ ويثور، وله الأشعة الزاهية البراقة، والعري الحريري المخمل، والزئير والهمس، والأعاصير والزوابع، ثم لا يسأل في كل هذا ولا مرة واحدة: ما هذا؟ وفي كل هذه ولا مرة واحدة: ما هذه؟

•••

ورأيت يا حبيبتي هذا البحر مضيئًا ممتدًا كأنه نهار أبدى أمسكته الدنيا؛ لينير النور في قلوب أهلها فإن النور يظلم فيها.

ورأيته كالمعاني الندية بثها الله من رحمته في جفاف الحياة ومعانيها، ورأيته استواء واحدًا في وضع الجمال، ليس فيه موضع أعلى من موضع.

ورأيته دائم الترجرج كأنه متهيئ أبدًا؛ ليسكب معانيه في فكر الناظر إليه.

ورأيته لا يحمل أن يوضع لإرادته حد فهو دائمًا يصدم الشاطئ كأنه يقوله له: اذهب من هنا …!

•••

رأيت فيه كل هذا؛ لأن مثل هذا كله في جمالك أنت وفي معانيك.

فأنت بجمالك المشرق لمعة من نهاري.

وأنت بعواطفك رحمة من الله لقلب لولاك لجف.

وأنت بحسنك لؤلؤة كلها وضع واحد في الحسن.

وأنت دائمة الترجرج في خواطري دائمة الانسكاب في قلبي.

وأنت لا تحتملين أن أضع شاطئًا لإرادتك.

وأنت، أنت، أنت …

١  كان صاحب الرسائل قد مرض مرضة طويلة بالنزلة الشعبية. فجزعت لمرضه، وكانت تعالجه بأسطر من بلاغتها كالدواء، وذهب إلى البحر متثقلًا، فلما وجد خفًّا من نسيمه وروحه كتب إليها هذه الرسالة، ولم ننشر رسائلها إليه في مرضه؛ لأنها خاصة.
٢  جو البحر: ظهره يكون مشبعًا من بخار مائه، فكأن تلك البلة بحر ذائب في الهواء.
٣  ثبج البحر: ظهره؛ ومن ينظر إلى البحر في آخر الأفق يتخيله كذلك.
٤  الهدهدة: رجفان الرعد على السحاب.
٥  التبحر: التشقق والتوسع.
٦  كل واحدة من هذه المعدودات تعين على اكتساب الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤