نظراتها

أكتب إليك يا حبيبتي كتاب عيني؛ إذ أكتب عن نظرتك السحرية التي أجد لها في قلبي معرض فن كامل من صور المعاني الجميلة. فإن نظرة الحب تقع في العين وحقيقة معناها في القلب، كأختها قبلة الحب: هي في الفم، وحلاوة طعمها في الفكر.

أتدرين يا حبيبتي كيف أراك؟ … إن في عيني من أثر حبك ما جعل في نظري قوة خلق معنوي تريني كل شيء من فوق معانيه، كأني خلقت فيه جمالًا أو معنى، أو خلقت فيه القدرة على أن يسمو في روحي، ويرتفع بها فوق ما هو في نفسه وحقيقته، وعلى الجملة فكأني أسبغ الفن على المادة، فإذا كل شيء يُرى هو في نفسي شيء ألبس مجازًا أو استعارة أو نحوهما مما يحقق فيه مع صنع مادته عمل فكري وخيالي.

في نظري من أثر حبك حس من الفكرة، فهو نظر وتقدير معًا، والأشياء لديه مادة وعبارة سواء، والإدراك به حقيقة وخيال جميعًا، وبكل ذلك فالجمال في نظري جمال من ناحيتين: حسنه في ذاته، وحسنه في خيالي الذي يجعله أسمى من ذاته.

ولو أردت مثلًا أضربه لقلتُ لك: خذي جمالين في معنى واحد فإني أنشأت حديقة زهر، ولكني لا أقول لك أنت غرست حديقة؛ بل أقول لك: غرست الفجر.

ومن ذلك يبدع لي الحب فكرة عنك لو هي كانت في خاطر ملك من الملائكة يمر بها في السماوات لما زادت ولا ارتفعت عما هي في نفسي ولو دخل بها الجنة، في هذه الفكرة عنك يا حبيبتي الجنس كله بأحسن ما فيه، وبهذه الفكرة أراكِ وفيك الجمال النسوي كله، فإذا نظرت إلى غيركِ لم أرَ فيها إلا شخصها هي حسبه.١

كذلك أراك بحس الشاعر الذي يضيف دائمًا إلى الحياة والطبيعة زوائده وفنونه، ولكني أراك أيضًا بحس الطفولة التي تضيف إليها الحياة والطبيعة دائمًا مثل تلك الزوائد والفنون، فما أحسبني رأيتك مرة إلا وكأني رأيت فيك أول أنثى، وكأنما الحب هو بدء الدنيا مرة ثانية من أولها، أي ولادة خيالية: إن لم تولد بها الأشياء في أشكال جديدة فبألوان جديدة، أي زخرفة الوجود كله ونقشه لعين العاشق بجمال المعشوق، كأن الوجود بيت قد طلي وزخرف ونقش؛ لأنه ستدخله عروس الحب!

•••

وانظري الآن يا حبيبتي صور نظراتك في قلبي، فإن لها بعثات من ورائها بعثات،٢ وفيها المعاني من تحتها المعاني.

فهذه نظرات تمتد تأمر تشعرني قوة سطوتها كأنها تقول: أريد … أريد … ثم لا يرضيها الرضا فكأنها تقول: أريد منك أكثر مما أريد …!

ونظرات تجيء تشعر النفسَ قوة سحرها، فلا تتفتر بها عيناك حتى أرى الحياة وقد ملأت وجهك بفن من الأنوثة الساحرة كأنما أبدعته لك خاصة.

ونظرات من عين ساجية ساكنة الطرف كأنها تقول لي: إن نظراتي إليك بعض أفكاري فيك!

ونظرات بتقطع الطرف بيني وبينك فيها كأنها تقول لي أفهمت …؟

ونظرة طويلة صارمة لها سِيماء قاض محقق تبحث فيّ عن توكيد لتهمة أو براءة!

ونظرات من عين تسأل متجاهلة وقد شطرت بصرها٣ كأن فيها فكرين؛ أحدهما يقول أعرفك، والآخر يقول لا أعرفك!
ونظرات الحبيبة لألات بعينها٤ كأنها تقول لقلبي: أنت جريء كالفراشة، ولكن على الشعلة المحرقة …!

ونظرات الجميلة المزهوة كأن فيها شيئًا أعلى من أرواحنا يوضح لمحات من الجمال الأزلي.

ونظرات الضاحكة اللعوب تنفر وتتدلل كأنما تقول لي: إنها تحس بأفكاري تداعبها وتلمسها!

ونظرات الخفرة الحيية التي كأنما تحاول أن تخفي سر قلبين تحت كسرةِ طرف ضعيفة.

ونظرات العذراء أومضت بعينيها وسارقت اللحظ٥ لأن روحها تريد أن تقول: إنها للحب متيقظة!

ونظرات ترنو في سكون واسترخاء كأنها تقول: إن تعبيري هو أن يموت في التعبير!

ونظرات أراها محدجة٦ كما تنظر من روعة وفزع حين لا فزع ولا روعة، فاعلم أن الجمال يهاجمني بسلاحِ خوفه!

هذه نظرة بريئة، ولكن في شكل خاص من البراءة … لينبعث منها فجأة معنى ظريف يتماجن ويمكر ويعبث!

وهذه نظرة ناعسة، كأن وراءها فكرًا خطرًا نائمًا تجتهد أن لا ينتبه …!

وهذه نظرة — نظرة واحدة — يقول من يعرف أنساب معاني الحب: إنها ربما كانت … أخت القبلة، في قصيرة لا ينفتح بها الجفن حتى ينطبق!

وهذه نظرة طويلة قوية في جذبها، فربما كانت أخت العناق!

وهذه نظرة — نظرة واحدة — يجشع فيها بصرك؛ لأن تهمة لك من عيني التقت مرة باعتذار لي من عينك.

وهذه نظرة بين المعنيين تحتمل كليهما: إساءة الدلال إليَّ وإحسانه عليّ!

وهذه نظرة بين اللقاءين٧ تجذب في قلبي الخوف والأمل بمقدار واحد.

•••

تلك يا حبيبتي صور نظراتك في معرض قلبي، وتقابلها هناك الصور الأخرى التي لا تريدين أن أصفها لك؛ لأنها الصور المسكينة: صور أحلامي …!

١  حسب: أي فقط، والهاء: هاء السكوت للوقوف على الكلمة.
٢  أي: لها في نفسه أمارات مما تبعثه وتهيجه في النفس.
٣  يقال في هذا الشخص الذي كأنه ينظر إليك وإلى آخر … فشطر من بصره هنا وشطر هناك.
٤  كما يقول العامة (برقت) وذلك يكون من إعجاب ودهشة.
٥  أي: كأنها تنظر وميضًا ينبعث ويختفي.
٦  تنظر ملء العين.
٧  لقاء الغضب ولقاء الرضا، فهي في حالة بينهما لا من هذا ولا من ذاك لا عابسة ولا باشة في وجهه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤