مقدمة الترجمة العربية

الأيديولوجيا والتاريخ
فيثاغورس موضوع لدراسة حالة

اختلطت الأسطورة بالتاريخ، وصبغت الأيديولوجيا نسيج الحقيقة بلونها وانتفت الموضوعية الشفافة. ويرى جمهرة الباحثين ما تُؤكِّده سوسيولوجيا المعرفة، وما يؤكده مبحث السيميوطيقا من أن التاريخ نسيج جامع في خيوطه المتشابكة ما بين الذاتي والموضوعي، وأن التدوين التاريخي لذلك يقترب ويبتعد بدرجات متفاوتة عما يمكن إثباته تحت اسم «الحقيقة الموضوعية».

الأيديولوجيا من حيث هي منظومة رمزية تُحدِّد للباحث ما الذي يغفله، وما الذي يدركه، وكيف يفهمه ويصوغه في لغة … الأيديولوجيا هي البارادايم أو النموذج الإشاري أو الإطار الفكري الذي يصوغ الرؤى الممكنة عن النظام الاجتماعي في خطاب مُتَّسق مع نفسه ومفهوم لأصحابه صياغة هادفة … يرى المرء من خلالها أهدافه/توقعاته/آماله/أفعاله … ثم ينفثها أو يغرسها في رأس الآخر الخصم ليتَبنَّاها وليتوحَّد معه فكرًا، منسلخًا عن ذاته، ويبقى أسير وعي جديد مفروضٍ عليه قَسْرًا من طرف له الهيمنة. وحيث إن البشر كائنات مستخدمة للرمز/اللغة.

واللغة ليست شفَّافة، فاللغة قِناع بقدر ما هي أداة توصيل … ولهذا فإن خبرتنا بالواقع والحقيقة الواقعية (الحدث التاريخي) تتم صياغتها بناء على معنى الأشياء عند المرء، ويتم تأطيرها على أساس المعتقدات والمُثل العليا، والعواطف المشتركة ضمن الوعاء الرمزي الذي نسميه اللغة.

وتأسيسًا على هذا الفهم تستلزم مِنَّا المعرفة التاريخية، وفقًا لمبحث سوسيولوجيا المعرفة، دراسة العلاقة بين الفكر والمجتمع، وفَهْم الظروف الوجودية الاجتماعية للمعلومة، الظروف التي أحاطت بإنتاج وتلقِّي الأفكار التي صِيغَت أيديولوجيًّا في نسق معرفي هادف … وهذا هو منهج التأويل «الهرمنيوطيقا».

وكما يقول كارل مانهايم: «جميع الأفكار بما في ذلك الحقائق وثيقة الصلة مُتأثِّرة بالموقف الاجتماعي والتاريخي الذي انبعثت عنه.»

وتُحدِّد أيديولوجيا الباحث؛ أي ثقافته، هدفه من البحث والمعرفة والكلمة المنشورة، وتُحدِّد له اللغة والأسلوب ورؤيته للحدث وللعالم … والأيديولوجيا بذلك هي القوة الناعمة في إطار الصراع للسيطرة على الأذهان الرؤية/الفهم/النظر إلى الأمور … ومِن ثَمَّ السلوك والفعل … وتعيد صياغة الإطار الفكري التاريخي. هذا ما يحدث على الصعيد المحلي بين شرائح المجتمع؛ وعلى الصعيد العالمي فيما بين المجتمَعات … الصراع المُسلَّح الذي يُتوِّجُه صراع الثقافات. ولهذا نقول إن مبحث التاريخ في حد ذاته هو أحد ميادين الصراع الأيديولوجي.

مبحث التاريخ حَلْبة صراع بين الثقافات: الرُّؤى والمصالح والسلوك … والكلمة العليا لصاحب الغلبة، للمنتصر دائمًا … لهذا يشتمل التاريخ على ما نسميه المنفى الفعال … أعني ما حجبته قسرًا قُوى المنتصِر وسُلطانه، وإن ظل باقيًا خافيًا كَمنْ يتربَّص إلى حين فرصة تمنحه قوة وقدرة على الظهور مثلما كان في الماضي دون اعتبار للتغيرات فيكون رِدة، أو في ثوب جديد ملائم لمقتضيات روح العصر فيكون تطورًا وارتقاء. ويَصدُق هذا أكثر ما يَصدُق على تاريخ مصر المهزومة سياسيًّا منذ ٥٠٠ق.م.

اصطلحَت إرادات القوى الغازية على اختلاف مشاربها على طمس الذاتية الثقافية لمصر ووعيها بذاتها الذي يُشكِّل ركيزة جوهرية لتماسُك البنية الاجتماعية ولِوحدة الوعي التاريخي واستعادة مبرِّرَات قُوَّتها الإقليمية لكي تَعقِد العزم على الشروع في بناء نهضة جديدة.

وإذا كان اختيار الباحث لموضوعاته، ونهجه في المعالَجة يعكسان انحيازًا أيديولوجيًّا، فإنني أعترف بداية أن اختياري لهذا الكتاب تعبير عن انحيازي؛ التماسًا لتاريخ مصر الأقرب إلى الموضوعية والحقيقة. تاريخ مصر الذي افترى عليه الغزاةُ، بل ومصريون أيضًا، باسم الأكاديمية الزائفة حينًا، وباسم المُقدَّس حينًا آخر، وأصبح منذ احتلال الفرس لمصر ومَن جاء بعدهم مِن الغزاة موضوعًا للتجريم أو التحريم. والأمر في الحالين تَعبير عن صراع أيديولوجي يُخفِي صراع مَصالح، ولا تزال الجريمة ممتدَّة في حق التاريخ على الرغم من استقلال مصر.

وتُمثِّل قصة حياة فيثاغورس وإنجازاته تطبيقًا لهذا النهج في الصراع … مَن الذي كَتب تاريخه؟ وكيف تناوَل المؤرخون في الغرب حياته؟ ما الموقف والردود والهدف والمَصلحة والسياق والإطار الفكري في الزمان والمكان للمؤرِّخ؟ ويُحفِّزنا إلى اختيار موضوع فيثاغورس الذي يتناوله هذا الكتاب أن ما رواه المؤرِّخون في الغرب، وما تعلَّمه المصريون على أيدي الغرب، وعاشوا أسرى له يدخل ضِمن جهود استلاب تاريخ أمة، وانتحال ثقافتها، وتزييف دَورها العلمي؛ لغرس مشاعر التفوُّق والهيمنة في نفوس الغرب، ومشاعر الدُّونية عند أهل مصر لإعاقتهم عن الحركة أو عن التطلع إلى النهوض والمناهَضة النِّدِّية للغرب.

ولكن لا يفوتنا — من باب الأمانة — أن نُقرِّر أن بعض مُفكِّري الغرب في النصف الثاني من القرن العشرين — بخاصة — كانوا أسبق من بني مصر في بذل الجهد لنقد كتابة التاريخ من منظور غربي، ومن ثَمَّ رد الاعتبار لمصر ودورها الحضاري، ولكنَّ مصريين أكاديميين انبروا للتَّصدِّي لما يُخالِف إطارًا فكريًّا تَربَّوا عليه وظَنُّوه الحقيقة.

وهذا هو ما حدث أيضًا بالنسبة لتاريخ العديد من المستعمَرات التي انبرى كُتَّابها ومؤرِّخوها لكتابة تاريخ بلادهم من منظور وطني وواقعي موضوعي قدْر الاستطاعة ليكون التاريخ أرضية صُلبة تؤكِّد وحدة الذاتية القومية والانتماء وتوحيد الجهود للنهضة على نحو ما نجد في الصين والهند وغيرهما؛ إذ إن الوعي بالتاريخ يُمثِّل دعامة أساسية، بل حيوية لحشد الجهد نحو هدف قومي مشترك.

ويُمثِّل فيثاغورس نموذجًا واضحًا وصارخًا لنهج الغرب، ويُمثِّل تجسيدًا لافتراءات الغرب على الشرق، وأيضًا تجسيدًا لمراجعة الغرب لذاته وكشف المسكوت عنه. ولعل هذا هو سِر حياة فيثاغورس اللغز الذي اختلطت فيه الأسطورة والحقيقة. وتُعبِّر عن هذا الخلط رؤيةٌ للفيلسوف البريطاني برتراند رسل الذي يقول في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» ص٤٦: «لا نعرف القليل عن حياته. قال عنه البعض إن أباه تاجر ناجح يُدعَى مينيسا ركوس، وقال آخرون إنه ابن الرب أبوللو … فيثاغورس من أهم رجال التاريخ وأكثرهم إثارة للحيرة … ليس فقط لأن التراث الموروث عنه خليط مُعقَّد على نحو لا مثيل له بين الحقيقة والزيف.» (ص٤٨-٤٩).

بدَا فيثاغورس لغزًا في سياق تاريخ الفكر الغربي من حيث النشأة الفكرية وتعاليمه ومنهجه في نشر فكره أو فلسفته، بل وغرابة هذا الفكر قياسًا إلى ما كان شائعًا في بلاد الإغريق، وقياسًا إلى العقلانية التي يراها البعض خاصِّية مميِّزة للفكر الإغريقي. وهذا ما يؤكده العديد من رجال الفكر الغربيين، وحفَّزَهم إلى البحث عن المصادر غير الإغريقية التي استمد منها فيثاغورس فكره ونظريته فكانت أساسًا بَنى عليه اجتهاداته وإبداعاته الخاصة.

وتعددت الآراء التي تشير إلى هذا الشذوذ وإلى أسباب الجهل بفكره. مثال ذلك ما يقوله مؤلِّفَا كتاب «التَّناغُم الإلهي»: «ربما يُمثِّل فيثاغورس المفكرَ الأقل حظًّا من حيث الدراية بفكره وحياته دون جميع مؤسِّسي التراث الفكري الغربي … وإن تقييم أثر هذا العالِم والصُّوفي وأول فيلسوف يُمثِّل أمرًا جوهريًّا لنا إذا ما شِئنا تجاوُز الفهم السطحي لجذورنا الفكرية.»

ثمة مصادر قليلة قريبة العهد من زمن فيثاغورس عُنِي أصحابها بتاريخ فيثاغورس وفكره، وكتبوا عن سيرته الذاتية وعن فكره ومنهجه، ونذكر من بين هؤلاء: فورفيريوس الفيلسوف الأفلوطيني تلميذ الفيلسوف المصري في العصر الهلليني أفلوطين، وديوجينوس لاريتوس (Diogenus Laortius) في القرن الثالث الميلادي، هذا علاوة على عدد من محاوَرات أفلاطون التي تُعبِّر مباشرة عن فكر فيثاغورس، وكذا بعض شذرات من تعاليم فيثاغورس حَفِظها لنا التاريخ. ثم إن فيثاغورس وهو أول مَن سمَّى نفسه المحب للحكمة، وأن فكرة حب الحكمة «فيلوسفيا» أو فلسفة هذا اللقب كما أوضح د. مصطفى النشار، مُشتَق من كلمة قال عنها أفلاطون في مقدِّمة محاوَرة «أقراطيلوس»: إن كلمة سوفيا ليست من أصل إغريقي، إنها كلمة وافدة. وأكد مارتن برنال في كتابه «أثينا أفريقية سوداء» (Black Athena)، كما أكد غيره، أنها كلمة مصرية قديمة.

وامتدادًا لهذا النهج الغربي النقدي، واتساقًا معه، والتزامًا بروح وطنية مؤسَّسة على فكر علمي، ظهرت دراسات مصرية عديدة ترد الاعتبار لمصر القديمة باعتبارها أحد المصادر الأولى، مع بابل والهند والصين، وغيرها للفكر الفلسفي، وأوضحت كيف أثَّرت مدارس الفكر الفلسفي القديمة في الفكر الإغريقي، وكيف أثراها الفكر الإغريقي بإبداعاته؛ ذلك أن الفكر إنساني المَنبع والطابع، وإن تنوَّعَت خصوصياته مع خصوصية الفعل والسياق. ونذكر من هؤلاء: د. محمود محمد علي محمد، في كتاب له بالِغ الأهمية «الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، ود. مصطفى النشار، في عدد من الكتب المهمة، ود. حسن طلب، والكاتب عزيز فهمي، المغترب في الولايات المتحدة ويعيش بوجدانه وبفكره مع تاريخ مصر، وقد عكَف على دراسة فيثاغورس، التاريخ والشخصية والإنجازات، أربع سنوات، وهو الذي أهداني نسخة من كتاب «التَّناغُم الإلهي» وله منِّي جزيل الشكر. وأذكر أيضًا د. لطفي عبد الوهاب، بجامعة الإسكندرية، وله دراساته المهمة عن تاريخ مصر القديمة، هناك أيضًا الدكتور. مصطفى العبادي الذي دأب على أن يُقدِّم في كتاباته تاريخ مصر الحقيقي، نذكر من بينها كتاب «مكتبة الإسكندرية القديمة وسيرتها ومصيرها».

ويُوجِز عزيز فهمي تاريخ حياة فيثاغورس في ردٍّ له على مقال لكاتب التزم النهج الغربي في كتابته عن فيثاغورس (انظر مقال عزيز فهمي، في المصري اليوم، ٥ / ٧ / ٢٠١٠م).

  • أولًا: فيثاغورس شخصية حقيقية قَدِم إلى مصر وهو ابن الثامنة عشرة، وعاش في مصر ٢٢ سنة دارسًا في معابدها، ودخل نظام الأسرار المصري وأصبح كاهنًا. وأخذه الفُرس أسيرًا مع كثيرين آخَرِين من الكهنة العلماء المصريين عندما احتل الفُرس مصر عام ٥٢٥ق.م. وأرسلوه إلى بابل التي أصبحت آنذاك مركزًا لإدارة شئون الإمبراطورية الفارسية.
  • ثانيًا: عاش فيثاغورس في بابل ٥ سنوات تحت السيادة الفارسية، ثم حصل على إذن للعودة إلى مهبط رأسه ساموس.
  • ثالثًا: جاء إلى الشرق وهو ابن الثامنة عشرة، وغادر الشرق وهو ابن الخمسين من عمره، وتعلَّم واستوعب علوم مصر وبابل أهم حضارتين في تاريخ الشرق. وتَميَّزت هاتان الحضارتان في علوم الرياضيات، والفلك، والهندسة، والفلسفة، والموسيقى، وغيرها.
ويقول فهمي: «ولم تختلف شهادة المؤرخ الإغريقي الأول هيرودوتس (٤٨٤–٤٢٥ق.م.) عن ذلك، وأفاض في فضل الحضارة المصرية الفرعونية على الحضارة الإغريقية، ثم يستطرد موضِّحًا موقِف الاستشراق الغربي المنحاز، ويقول مع تقدُّم الحفريات الأثرية خلال القرن العشرين، وفك طلاسم اللغتين الهيروغليفية والأكادية … جاءت النصوص القديمة لتُقدِّم الأدلة على أن فيثاغورس تعلَّم في معبد ديوسبوليس (Diospolis) بمصر وأنصفَت الكثير من أطروحات هيرودوتس.»
ويقول فهمي أيضًا: «وتقتضي الأمانة الثَّناء على مؤرِّخي علم الرياضيات في جامعة سان أندروز باسكتلندا المتخصصة في الرياضيات، الذين قدَّموا تاريخًا صحيحًا لحياة فيثاغورس، وإقامته المطوَّلة في الشرق.» ويوضح المؤرِّخ سالينجروس (Salingros) في مقالة على موقع الجامعة «أنَّ الهندسة المعمارية في التاريخ القديم كانت جزءًا من علم الرياضيات.» ويضيف قائلًا: «إن ما أريد التأكيد عليه هنا هو فضل مصر الفرعونية على علم الرياضيات طوال ٣٠٠٠ سنة قبل مجيء فيثاغورس مصر.»

وجدير بالذِّكر أن هذا ما تُؤكِّده دراسات عديدة صادرة عن الجمعية الفلسفية الأمريكية نذكر منها دراسة ضخمة من عدة مجلدات بعنوان «العلم المصري القديم كتاب مرجعي» المجلد الثالث بعنوان «الرياضيات في مصر القديمة» عام ١٩٩٩م. تتبعت الدراسة تاريخ نشأة الرياضيات في مصر القديمة إلى ما قبل حكم الأسرات وتطورها مع احتياجات الحياة العملية الحساب، والقياس؛ قياس المسافات، وقياس المواقيت، الأزمنة/السنة/الشهر/ساعات النهار، وسنوات الحكم، وقياس الأحجام، وتقرأ فيها عن قياس المُثلَّث، والمُثلَّث قائم الزاوية … إلخ.

ونجد في كتاب «الأصول الشرقية للعلم اليوناني»، تأليف د. محمود محمد علي محمد، عرضًا وافيًا للنشاط العلمي في بلدان الشرق القديم والأصول الشرقية للرياضيات اليونانية، وللطب اليوناني، والفلك اليوناني. ويتسع أفق البحث في هذا الكتاب ليقدم لنا عرضًا وافيًا للنشاط العلمي قديمًا في مصر، وبابل، والهند، والصين، ويُبيِّن أنه سابق تاريخيًّا على الإبداع الإغريقي.

وحيث إن موضوعنا هنا يَنصَب على إبداعات فيثاغورس الرياضية أو المنسوبة إليه باعتبارها دون سوابق تاريخية ممَّا يُمثِّل افتراءات على حضارات شعوب الشرق؛ فإننا نقتبس من هذا الكتاب المهم بعض الفقرات التي تُدعِّم ما ذهبْنا إليه في كتابنا «الحضارة المصرية صراع الأسطورة والتاريخ». ويقول في فصل عنوانه «الأصول الشرقية للرياضيات اليونانية»:

المنهج الرياضي عند القدماء المصريين:

«كشفت بَردِيَّات عديدة لمصر الفرعونية عن مدى تقدُّم المصريين القدماء في عدد من العلوم، في الطب، والفلك، والرياضيات وغيرها.» وخص بالذكر عددًا من البرديات المَعنِية بالعلوم الرياضية منها: بردية أحمس والمعروفة باسم بردية ريند (Rhind) وهو العالم الذي اكتشفها عام ١٨٥٨م، وتحتوي بردية أحمس على خمسة أبواب موزَّعة على النحو التالي: الباب الأول: في العد وكتابة الأرقام، والثاني: في القواعد الأربع، والثالث: يحتوي على الكسور، والرابع: عن الجذر التربيعي وحل معادلات الدرجة الأولى والمتواليات، والباب الخامس عن الهندسة.
ويشير د. محمود محمد علي محمد إلى وجود برديات أخرى تَمَّ اكتشافها حديثًا تدل على تقدُّم المصريين في الرياضيات مثل: بردية كاهون (Kahoun)، وبردية برلين، وبردية موسكو، وبردية إخميم … ويضيف: «جمع العالم «أرشيبالد» مع آخرين حوالي ست وثلاثين بردية خاصة بالرياضيات المصرية قديمًا، وهي مكتوبة باللغات المصرية، والقبطية، واليونانية، ويمتد تاريخها من عام ٣٥٠٠ق.م. إلى عام ١٠٠٠م، ويؤكِّد العلماء الذين درسوا تلك البرديات أن المصريين القدماء كانوا على معرفة بطرق الحساب، والهندسة، وقياس الأحجار، وكذلك الهندسة الوصفية.»

ويضيف قائلًا، ص ١١٥:

«كما تحتوي البرديات الرياضية المصرية على معلومات رياضية أخرى؛ منها أن المصريين تمكَّنوا من حساب أطوال الأوتار في الدائرة، وعرفوا المثلَّثات، وأشباه المنحرِف، والأهرامات الناقصة وقانونها وأحجامها، ونصف الكرة وكيفية إيجاد مساحة سطوحها، كما عرفوا مسائل دقيقة تتعلق بالمستطيلات وخواصِّها، وفي الجبر معادلات الدرجة الأولى والثانية على الصورة س٢ + ص٢ = ١٠٠، ص = ٤ / ٣ فتكون س = ٨، ص = ٦، وتتصل هذه المعادلة اتصالًا مباشرًا بالحل الهندسي للعلاقة بين الأعداد = ٥، ٤، ٣ في مُثلَّث قائم الزاوية، والتي صاغ منها فيثاغورس نظريته المعروفة باسمه في حساب المُثلَّثات.»
وينفي د. محمود، زَعْم الغرب بأن العلوم الرياضية عند قدماء المصريين، والشرق بعامة، تأسَّست على مجموعة من قواعد عملية ذات طابع تجريبي أو نفعي عملي دون تأمُّل نظري والتماس لبرهان. وأوضح أن العلوم الرياضية عند المصريين القدماء تأسَّست أيضًا على قواعد نظرية وارتقاء عقلي وتقدُّم فكري مما يكشف عن حب للاستطلاع الهندسي بدليل وبرهان … ويستشهد هنا بما قاله عالم الرياضيات الأمريكي كاربنسكي عندما يقول:

«وصل المصريون حوالي عام ٢٠٠٠ق.م. إلى درجة عالية في الرياضيات من الناحية التحليلية، ويرجع الفضل في ذلك إلى كَهنَتهم الذين كانوا يجدون في دراسة الرياضيات والبحث في موضوعاتها لَذَّة ومُتعة. ويزعم البعض أن اهتمام المصريين بالرياضيات اقتصر فقط على الناحية العملية، وأنهم لم يبلغوا شأْوًا عظيمًا في النظري منها، وقد أشار هيرودوتس إلى ذلك … ولكن من دراسة بعض الآثار المصرية التي وصلتْ إلينا عن طريق المحفوظات الرياضية تُبيِّن خطأ هذا الزعم، وتُوضِّح بجلاء أن الاهتمام لم يقتصر على الناحية العملية فحسب، بل تعداه إلى النظري منها.»

ويوضِّح الكتاب أيضًا استنادًا إلى عديد من المراجع العلمية أن النظرية المنسوبة إلى فيثاغورس كانت معروفة لدى البابليين والصينيين فضلًا عن إبداعات أخرى تَميَّز بها هؤلاء وأولئك ممَّا يؤكِّد التكامُل الحضاري للإنسانية معًا. وهذا هو ما ذهب إليه مؤلِّفَا كتاب «التَّناغُم الإلهي» إذ يقولان: «وطبيعي أننا جميعًا نذكر اسم فيثاغورس مقترنًا بنظريته الهندسية الشهيرة، ولكن هذه النظرية التي تحمل اسم فيثاغورس كانت معروفة في بابل قبل أن يبرهن عنها بألف عام.»

يُمثِّل كتاب «التَّناغُم الإلهي» جهدًا غربيًّا متميزًا على الطريق لإنصاف موضوعية التاريخ، يُضاف إلى جهود العديدين ممن انتقدوا انحياز الغرب، وانقلابه على ذاته، والتزامه أيديولوجية المحورية الغربية التي تعني انتحال إنجازات حضارة الآخر مثلمَا تعني غطرسة الغرب في النظر إلى الآخر التي تلخصها عبارة الغرب وبقية العالم الآخر (West and the Rest). ويمثل الكتاب أيضًا دعوة إلى أصحاب الشأن الحضاري؛ أعني المفكِّرِين، وعلماء الآثار والتاريخ المصريين لإنصاف ذاتهم؛ إعادة كتابة تاريخهم من منظور موضوعي ليس انحيازًا قوميًّا بل انحيازًا للإنسان/الإنسانية عامة في تفاعُلها الحضاري وتَراكُم الإنجازات والقدرة الإبداعية المشترَكة، وأن تؤكد مع الآخَرِين في جهودهم، قاعدة علمية إنسانية بسيطة، وهي أن الإنسان فكرًا وسلوكًا هو ثمرة ومحصِّلة حياته الاجتماعية، واتصالاته، وتفاعلاته مع الآخر في مسيرة ممتدة زمانًا محاكاة وإبداعًا. وهذا هو حال فيثاغورس الذي عاش حياة علمية/فكرية خصبة واسعة الأفق متعدِّدة ومتنوعة المناهل ممَّا أهَّله للاستيعاب والإبداع معًا.

وحرِيٌّ ألا ننسى أن التاريخ حَلْبة صراع أيديولوجي، وليس الهدف هنا انتحال أو اصطناع تاريخ، وليس دعوة إلى رِدَّة في التاريخ، بل الهدف رَد اعتبار لتاريخٍ انسلخنا عنه وصدَّقْنا الأسطورة، وهذا شأننا قبل أن يكون شأن الآخر الغرب أو غيره من غزاةٍ تتابَعُوا على أرض مصر، وإن تنوَّعت أساطيرهم. لعل هذا يكون منهجنا في التعليم المدرسي لِغرْس الثقة في نفوس أجيال المستقبَل.

شوقي جلال

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤