القسم الأول

رحلة البحث عن المعرفة

ميلاد فيثاغورس

تتبَّع مؤرِّخو السِّيَر الذاتية القدماء سلسلة نَسب فيثاغورس حتى أنكايوس، وهو الملك الأسطوري على جزيرة اسمها ساموس مقابل شاطئ اليونان. ونظرًا لما تحلَّى به الملك أنكايوس من عدْل وكَرم وقُوة بدنية، اعتبره رعاياه ابنًا للرب زيوس. وخرج أنكايوس في رفقة ياسون في أثناء رحلته إلى البحر الأسود بحثًا عن الفِراء الذهبي،١ وكان أنكايوس من حيث القوة هو الثاني بعد هِرَقل بين ملَّاحي أرجو.

وحدث ذات يوم أن دعت نبوءة أبوللو في دلفي أنكايوس لكي يغادر وطنه، ويبحر شرقًا عبْر بحر إيجه وجمَع ركَّابًا من أرض اليونان للانضمام إليه في سفره وتكوين مستعمَرة جديدة، وعمَدوا إلى استيطان جزيرة وأطلقوا عليها اسم ميلامفيلوس؛ أي أرض الأوراق السوداء، ولها عاصمة اسمها ساموس تيمنًا باسم موطِن أنكايوس.

وتؤكد الشعائر والطقوس الدينية التي كانت تَجري هناك أن مستعمَرة ساموس القديمة المُقامة فوق جزيرة كبيرة تقع قرب آسيا الوسطى، وهذا ما تؤكده أيضًا اللهجة المميَّزة لشعبها، والتي كانت سائدة في العصور القديمة وهي اللهجة التي وفدَت، كما هو واضح، مع مهاجرِين أَتَوا من الغرب.

وكانت بيتيس أم فيثاغورس من نسل أنكايوس هذا مباشرة، ولكنَّ أبَاه ويُدعَى مينساركوس لم يَكُن إغريقيًّا؛ بل فينيقيًّا من بلدة صور، وكان تاجرًا غنيًّا له علاقات تجارية في كل أطراف المتوسط، تمتد من سوريا إلى إيطاليا، ومنحَتْه ساموس صفة المواطَنة لها نظير هِباته من الطعام والمُؤن لشعب ساموس في أثناء فترة مجاعة.

واحتفظ شِعر في ساموس بأسطورة تفيد أن فيثاغورس هو فعلًا ابن أبوللو، رب الموسيقى والنبوءة والتعلُّم عند الهيلينيين، وتناقَل أتباعه هذا الشعر عَبْر القرون، وقد يكون من المهم تفسير نشأة هذا التراث الراسخ وإن كان زائفًا.

وأبحر مينساركوس إلى إيطاليا في رحلة تجارية، وذلك عقب عدة سنوات من زواجه وتأسيس بيت له في ساموس، وتوقَّف في رحلته أولًا عند دلفي؛ ليستفسر عن نبوءة أبوللو في بيتيا بشأن رحلته، وأبْلَغه الكهنة هناك أن رحلته ليست ناجحة فقط، بل إن زوجته أيضًا التي لم تَبْدُ عليها بعدُ أعراض حمْل، سوف تُهديه ابنًا عند عودته، وقالوا إن هذا الابن سوف يَبُزُّ كل الآخَرين ممن سبقوه دون استثناء حكمة وتراحمًا، وسوف يُقدِّم للبشرية منافع لا حصر لها.

وحين تَحقَّق مينساركوس من أن أبوللو أعلن، دون سابق إشارة، عن ميلاد هذا الطفل الذي لا نظير له عزَم على تَغيُّر اسم زوجته بارتينيس، إلى بيتيس، وأن يطلق على ابنه اسمًا تكريمًا وتيمُّنًا بالرب الذي تنبأ له به، وسرعان ما جاء إلى الدنيا الابن الثالث لكل من مينساركوس وبيتيس، واتَّخذَا له اسم فيثاغورس اعترافًا بأنه سوف يتحدث بلغة مَجازية مع العامَّة عن بركات الرب أبوللو في دلفي، ويستحيل علينا تحديد تاريخ الميلاد بِدقَّة، وإن كان التراث العام يُحدِّده بعام ٥٦٩ق.م.

وعاشت الأسطورة على لسان بعض أتباع فيثاغورس التي تقول إن أبوللو أغوى بيتيس، وحاوَل إخفاء هذه الواقعة بأن تنبَّأ بأن ميلاد الطفل ربما لا يكون حقيقة، مِن المحتَمَل أن فيثاغورس، حسب الأسطورة، عاش قبل الميلاد وسط رجال ونساء في رحاب أرباب خالدِين. ولا ريب في أن تعاليمه، وأسلوبه في الحياة يُبرِّر ذلك.

السنوات الباكرة

عقب ميلاد فيثاغورس أقام منيساركوس معبدًا لأبوللو، وحرص على أن يَتلقَّى ابنه أفضل تعليم ممكن، وحرص كذلك على تلقين ابنه كيفية العزف على القيثارة وتأدية الألعاب الرياضية والرَّسم، وذلك خلال سنوات الطفولة الباكرة. واصطحبه معه في رحلاته إلى الخارج ضِمن البعثات التجارية إلى مصر، والمشرق، واليونان، وإيطاليا؛ حيث استوعَب أخلاق وآداب السلوك لأبناء الطبقات الغَنية في بلدان المتوسط قديمًا.

وأبدى الصبي فيثاغورس شغفًا قويًّا بالتعلم، وما إن شَبَّ عن الطوق حتى ألحقه أبوه بأسمَى المدارس مكانة في كل جُزر إيونيا، وكان أول من شمله برعايته لتعليمه هو فيريسايدس السيروس، وهو مِن أوَّل المُعلِّمين في العالَم الكلاسيكي الإغريقي الذي اتَّجه إلى تسجيل أفكاره كتابةً.

وتلقَّن فيريسايدس أسرار ديلوس في الجزيرة السِّرية التي وَضعَت فيها الربة ليتو مولودها أبوللو، وربة الأرض أرتيمس، وكان معبد أبوللو هو الثاني من حيث المكانة والضخامة بعد معبد دلفي في العالَم اليوناني، وها هنا درَس فيريسايدس فنون أبوللو عن الموسيقى، والعِرافة، والطِّب، والفلسفة. وقيل: إن فيريسايدس ألَّف بين عناصر هذه المعتقَدات السِّرية لدى الكهنة الفينيقيين وبين هذه التعاليم، واستحدَث بذلك رؤية جديدة عن العالَم التي جمَعت بين أفكار من الأساطير ومن العِلم معًا. واشتغل فيريسايدس بتعليم خلود الروح وابتكر أربابًا جُددًا، وقدَّم تفسيرات جديدة عن أرباب قديمة؛ لكي يُفسِّر عَمل الطبيعة، وحقَّق شهرة واسعة في كل أنحاء المتوسِّط باعتباره مُؤلِّف أول عمل يوناني مكتوب نثرًا مع قصة رمزية تحمل اسم «الكهوف الخمسة». ونرى في هذه السَّردِيَّة أن زاس الرب٢ الأب ينسج عباءة عالَم الشهادة في صورة هدية زفاف لعروسه كتونيا، وصدرت إلى الوجود كل العناصر المنتظمة مِن رحم هذين الزوجين ورفيقهما كرونوس، وأفاد فيريسايدس في تعليمه أن هذه الشخصيات هي قُوًى أبدية عاكِفة أبدًا على خلْق العالَم.

واستطاع فيثاغورس نتيجة لدراساته على أيادي مُعلِّمين لهم مثل هذه الشهرة، وبفضل مواهبه الطبيعية الذاتية أن يَلفِت الأنظار وهو لا يزال فتًى صغيرًا، وبدأ البعض يظن أنه ابن أحد الأرباب، وعزَّز هذه الشُّهرة بفضل ما تحلَّى به من ضَبْط للنفس وتواضُع وثَبات على الهدف، وكذلك حِرْصه على مظهر جسده وصحته. لم يحدث أبدًا أن استبد به الغضب وخرج عن طوره، أو أن استسلم للعبث والرعونة أو القسوة؛ ولهذا راج الحديث عنه باعتباره نجمًا ساطعًا بين مدارس إيونيا، وفاقَت شهرته شهرة أعظم الأكاديميين الفلاسفة في عصره؛ مثل: طاليس الميلي، وبياس من بريين، وبلغت شهرته كل مدن الإغريق في آسيا الوسطى، وأطلق عليه الناس اسم «الساموسي ذو الشعر الطويل»، ويشير هذا الوصف إلى أسلافه الفينيقيين؛ حيث كان الشعر الطويل عُرفًا سائدًا بين الرجال.

الدراسة في إيونيا

صعد الطاغية بوليكريتس إلى سدة السُّلطة في ساموس وقتما بلغ فيثاغورس الثامنة عشرة من العمر عقب وفاة أبيه بفترة قصيرة. ونعرف أن بوليكريتس ابن طَموح لأسرة من كبار عوائل ساموس وقائد عسكري، واستطاع أن يُحكِم قبضته على الدويلة بعد أن قام بنفْي وقتْل أخويه، عاقدًا العزم على إقامة إمبراطورية بالقوة المسلَّحة، وتنبَّأ فيثاغورس أن أسلوبه الدراسي في الحياة سوف يضطرب ويفسد في ظِل هذا الحكم؛ ولذلك عزَم على الرحيل من ساموس، ورأى قبل الرحيل أن يفيد من اتصالات أبيه ببلاط بوليكريتس بالحصول على خطاب توصية لفرعون مصر أحمس الذي وقَف إلى جانب الطاغية في حربه التي انتصر فيها على الفُرس.

وحمل فيثاغورس الخطاب معه، وأبحر ليلًا، وترك الجزيرة سِرًّا، في رحلة يجوب خلالها جميع مراكز الدراسات العلمية والقدسية في شرق المتوسط، ولم تطأ قدماه أرض ساموس ثانية طوال ثمانِية وثلاثين عامًا، وقام أولًا بزيارة لفيريسايدس السايروسي، ثم سافر إلى ميليتوس على ساحل آسيا الوسطى؛ حيث درس في مدرسَتي طاليس وإنكسماندر، وهما فيلسوفان أفاد ببحوثهما العلمية التي قادتهما إلى رفْض أي تفسيرات للطبيعة تعتمد فقط، على أرباب الأوليمب. وكان طاليس، مثل فيثاغورس، من سلالة فينيقية. ويُعتبَر أول فيلسوف طبيعي في بلاد الإغريق، ولم يَتلقَّ دراسته في المدارس والمعابد الإيجية فقط، بل درس أيضًا في معابد ومدارس بابل ومصر، ونعرف أنه في مصر بَرع في الهندسة والرياضيات، بَيْدَ أن دراسته للتنجيم وحركات الأجرام السماوية في بابل مَكَّنَته من التنبُّؤ بدقَّة مجالات الكسوف والخسوف ومعرفة عائد الحصاد، ولم تقتصر معرفته على القوانين الرياضية التي تُحدِّد سلوك العالَم الحسي، بل عرف أيضًا بالوجود الكوني للقوى الروحية، وأثبَت أرسطو تعاليمه التي تُقرِّر أن جميع الموجودات مُشبعة بالأرباب كمًّا، وأن مصدرًا قديمًا آخَر يعزو إليه قوله: «الرب هو عقْل العالَم، والكل مشبع بالأرواح والنفوس.»

ويفيد التراث أن أنكسمندر، أحد تلاميذ طاليس، وأول إغريقي يفسِّر أصل الإنسان والطبيعة عن طريق الالتزام الصارم في تطبيق الملاحظة وإعمال العقل. وعلَّم تلاميذه أن العالَم المرئي لا بُدَّ وأنه تطوَّر عن «اللامحدود»، الإله الأوحد، والجوهر الخالد المحيط والموجِّه لكل الموجودات. ورأى أن هذا الجوهر في بداية الزمان انقسم إلى أضداد وخلق الأرض والماء، وصدَرت الأسماك من هذه العناصر، وتطوَّر الإنسان من السمك، ووضع أنكسمندر أوَّل خريطة للعالم المعروف المأهول، وتضمَّنَت تعاليمه أن الأجرام السماوية التي تدور في أفلاك سماوية مُتَّحِدة المركز.

وتُمثِّل دراسة فيثاغورس على أيدي هؤلاء الرجال الأساس لبحوثه لمعرفة طبيعة عالَم الشهادة والغيب، وعرَف هذان الفيلسوفان ما يتحلَّى به من مواهب، وكَشفَا له أدَقَّ أسرار مذهبيهما، واحتضَن طاليس بخاصة فيثاغورس. ونَقل إليه كل ما يستطيع من معارف، وحثَّه على السفر إلى مصر للدراسة على أيدي كهنتها في ممفيس الذين تولَّوا مسئولية رعايته وتعليمه قبل جيل مضى. وأوضح طاليس أنه لا يستطيع اصطحاب فيثاغورس في رحلته إلى مصر؛ نظرًا لكبر سِنِّه وتدهْوُر صحته، ولكنه كان على يَقين من أن تلميذه الذي لا يزال فتًى إذا ما تسنَّى له امتلاك ناصية التعاليم المصرية في مصر؛ فسوف يَبُزُّ كل مَن سبقوه قداسة وحكمة. وتعلَّم فيثاغورس الكثير على يدي طاليس، ولكنْ لعل أهم شيء تعلَّمه هو قيمة الزمن في البحث عن المعرفة. وتأسيسًا على هذه القناعة ووعيه بطبيعة تكوينه البدني أمسك تمامًا عن تناوُل النبيذ واللحوم طوال بقية حياته مكتفيًا فقط بشرائح معتدِلة من طعام بسيط سهل الهضم؛ ونتيجة لذلك قَصرت فترات نومه، وتحلَّى بذهن حادٍّ، وصفاء نفس، وصحة بدنية ممتازة.

السفر إلى مصر

أبحر فيثاغورس من ميليتوس مُتجهًا إلى مصر، وتوقَّف أول مرة في الطريق قُبالة ساحل فينيقيا، سأل هنا عن المسئولين عن رعاية الكثير من المزارات والمدارس المحلية مثلما بحث عن رجال الدِّين مِن أتباع النبي موسى، وتلقَّن أسرار مدينة بابل وصُور، كما شارَك في طقوس الرب بَعْل والربة عشتار، وتعلَّم هنا تفسير الأحلام واستخدام البخور في العبادة، واستكمل معرفته بالمبادئ الأساسية للشعائر. ولم يشأ فيثاغورس الإحاطة المعرفية بهذه الأفكار والممارَسات كمُشاهد خارجي أجنبي، بل باعتباره باحثًا ينشد الإحاطة بكل أشكال المعرفة، عاقدًا العَزْم على أن يَشرب في نفسه أي منظومة فِكر يمكن أن تمضي به إلى مدًى أبعد في مسيرة بحثه عن الحقيقة.

وبعد أن تعلَّم فيثاغورس كل ما هو ممكن على أيدي مُعلِّمي فينيقيا اتَّخذ لنفسه مكانًا قَصيًّا على منحدَرات جبل الكرمل للتَّنسُّك متوحِّدًا في مكان يضم كهوفًا منعزِلة، وتحيط بها البساتين والمروج والينابيع؛ إذ كان جبل الكرمل مركزًا لحياة النسك والتعبُّد قرونًا طويلة. وجَدير بالذِّكر أن هذا الموقع هو موقع البشارة المعروفة في كل أنحاء المتوسط فضلًا عن أن تاريخه تضمَّن أيضًا نبوءات الكِتاب المقدَّس لكلٍّ من النبي إليا والنبي ليشع، فضلًا عن العبادة الصوفية لكل من بَعل وزيوس. قضى فيثاغورس أيامه هنا في تعبُّد وتأمُّل منتظرًا أن تَحين أي فرصة تهيِّئُها له الأرباب ليواصل رحلته إلى مصر.

وتصادَف أن رست سفينة لتاجر مصري عند الشاطئ بالقرب من جبل الكرمل للتزوُّد بالماء، ورأى فيثاغورس في هذا نعمة إلهية تمد له يد العون وتهديه في رحلته، ومن ثَم نَزل مِن كهفه إلى الشاطئ، وسأل البَحَّارة عمَّا إذا كانوا يعتزمون العودة مباشرة إلى أرض الوطن. أجاب البَحَّارة ﺑ «نعم»، ورحَّبوا باصطحابه معهم، وإن أضمَروا في أنفسهم خطة تهدف إلى بيع الغريب في سوق النِّخاسة عند العودة.

بَيدَ أن هذه الخطط تَغيَّرت بعد أن شهد البَحَّارة السلوك الغريب لفيثاغورس في أثناء الرحلة، ولحَظ أكثرُهم فِطنة وحِكمة شيئًا خارقًا للطبيعة من الصورة التي ظهَر بها عندما رَسَوا عند جبل الكرمل. ذلك أنه اجتاز بسهولة ويُسر ممرًّا شديد الوعورة والخَطر ابتداءً من قمة الجبل دون أن ينظر أبدًا إلى الوراء، ودون أن يبدو عليه أي تَردُّد عند مواجَهة صخور شديدة الانحدار أو كُتل صخرية ضخْمة تسد الطريق أمامه، زِدْ على هذا أنه ما إن وصل إلى القارب لم يَقُل أكثر من عبارة «هل طريقكم إلى مصر؟» وحين أجابوا ﺑ «نعم» صعد في صمْت وهدوء إلى ظَهْر المركب، وظلَّ طوال الرحلة جالسًا في مكانه ساكنًا صامتًا لا يَتدخَّل إلا نادرًا في شئون الحياة معهم. ولزم فيثاغورس مَوقِعه على مدى يومين وثلاث ليالٍ لا يُغيِّر مكانه، جالسًا في اعتدال دون طعام أو شراب أو نوم. ولحظ البحَّارة علاوة على ذلك، وعلى النقيض من خبراتهم في رحلاتهم السابقة، أن سفينتهم تمضي في رحلتها بسرعة غير معهودة ودون أي صعوبات.

واستنتج البَحَّارة من كل هذه الظروف والمُلابَسات أن شخصية بها قبَس من ألوهية تَصحَبُهم في سَفرتهم. كانوا يعملون معًا بروح تعاونية غير مألوفة، وأكملوا رحلتهم عبْر بحار هادئة إلى أن رَسَوا على الشاطئ المصري دون أن يُعكِّر صَفْو رحلتهم حادث طارئ. وهنا أعان البَحَّارةُ فيثاغورس الذي نال منه الضَّعف على النُّزول إلى البَر، وصَحِبوه حتى الشاطئ بعيدًا وعندها أقاموا مذبحًا أمامه، وقدَّموا إليه أفضل ما لديهم من فاكهة كتَقدِمة قُدسية، ثم رحلوا عنه إلى وِجْهتهم. أصاب جسد فيثاغورس الهزال بسبب صيامه؛ ولذلك قَبِل مساعدة البحَّارة له وانتظر حتى ترَكُوه وبدأ يتناول من الطعام ما يَسُد رمَقه ليستعيد قُوَّته، وبعد أن عاد إليه هدوءه المألوف ورَباطة الجأش وقَف على قدميه مُتَّجهًا جنوبًا على طول ضفتي نهر النيل.

معابد مصر وبابل

بدَا عسيرًا على فيثاغورس إنجاز خُطَّته للتعلُّم على أيدي كهنة مصر؛ ذلك أن الكهنة لم يَسمحوا لأحد من اليونانيين قبْلَه سوى طاليس للدخول إلى مدارسهم، بل إنهم لم يُلقِّنوه أسرارهم. قصد فيثاغورس أولًا بلاط أحمس في هليوبوليس في الجانب الشمالي لوادي النيل؛ حيث قدَّم هناك رسالة التزكية التي حصل عليها في ساموس. استقبله الفرعون بحرارة مَن يشعر بأنه مَدين لبوليكريتس فضلًا على إعجابه بالثقافة الإغريقية، وسبق أن قدَّم أحمس الكثير من الهدايا بسخاء كبير لعدد من المعابد والأماكن المُقدَّسة الهيلينية، ومن بينها معبد أبوللو في دلفي والذي ساعَد في إعادة بنائه بعد أن دمَّره حريق، وأُعجب الفرعون أيَّما إعجاب بحديث الباحث الشاب وسلوكه؛ ولذلك زوَّده بكل الوثائق اللازمة للسماح بإلحاقه بالمدارس الدينية.

والمعروف أن المعارِف العلمية والدينية المصرية كانت وقتذاك مُتمركِزة في أربعة مراكز: هليوبوليس، وممفيس، وهرموبوليس، وطيبة، ولكل منها تقاليدُه المميزة. والتزامًا بتوصية أحمس اتَّجه فيثاغورس أولًا إلى كهنة هليوبوليس؛ ونظرًا لالتزام الكهنة هناك بِقَسم الحِفاظ على تعاليم السَّلف وصَونها، فقد أرسلوه إلى ممفيس في الجنوب مُتعلِّلِين بأن مدارس المعبد هناك أقدم زمنًا ومعتمَدة رسميًّا، ولجأ كهنة ممفيس إلى الحُجَّة نفسها، ووجَّهوه إلى طيبة في جنوب وادي النيل.

وقَبِل كهنة طيبة الْتِحاق فيثاغورس خوفًا من غضَب أحمس، ولكنهم قبل إجراء مراسم الالتحاق فَرضُوا عليه الالتزام ببعض الرياضات القاسية للغاية؛ ظنًّا منهم أن هذا قد يَصرِفه عن هدفه، وعَهِدوا إليه بإنجاز برنامج دراسي صارم وخدمة في المعبد، فضلًا عن الصوم، وغير ذلك من ممارَسات النُّسك القاسية، ويتجاوز هذا البرنامج كثيرًا المتطلَّبات التي يَتعيَّن على الآخَرِين أداؤها مِن الراغبِين في الانخراط في سلك الكهنوت، وأنجزَها فيثاغورس على أكمل وجْه حتى إنه كسب احترامهم وتقديرهم في نهاية الأمر، وتم رسمه ودَعْوته للعيش معهم وتقديم الأضاحي لأربابهم ودراسة علومهم. وهذه ميزات كبرى لم يَسبِق مَنحُها لأي أجنبي. وبعد أن امتلك فيثاغورس ناصية تعاليم مدرسة طيبة تَنقَّل بين جميع معابد مصر ومدارسها. واستطاع في كل أسفاره أن يحظَى باحترام وتقدير جميع الكهنة والباحِثين الذين الْتَقى بهم بفضل جهده الدءوب ومواهبه الفِطْرية، وحرص على استيعاب كل أطراف التعاليم الشفاهية وكل تفاصيل المعرفة. ويُعتَبر هو أول يوناني تَميَّز بطلاقة الحديث باللغة المصرية حديثًا وكتابة، وامتلَك ناصية علوم الرياضيات، والطِّب، والعلاج بالأعشاب، وتلقَّن تعاليم عن مراحل تطوُّر الروح. وأتاحوا له دراسة العلوم المصرية الخاصة بالعمارة والموسيقى، وسمحوا له بممارَسة الطقوس والشعائر الصوفية التي تُعتَبر من أدق الأسرار.

واجتاحَت جيوش الفُرس بقيادة قمبيز مصر خلال العام الثالث والعشرين من إقامة فيثاغورس هناك، وأعدَم الغزاة الفرعون بسماتيك بن أحمس، كمَا أسَرُوا كهنة المعابد المصرية ومِن بينهم فيثاغورس وأرسَلوهم إلى بابل، وشَهِد المجوس — أو هيئة كبار المسئولين عَن الدِّين والعلم في فارس — بِنَهم فيثاغورس للمعرفة وترحيبه للإحاطة علمًا بالأفكار الجديدة.

وكانت هذه لحظة فاصِلة في تاريخ الفكر الفارسي؛ إذ قَبْل أقَل من قرن مضى قامت حركة إصلاحية تَستَلهِم فِكر زرادشت تتحدَّى فترة تعدُّد الأرباب، وترفض التَّراتُبية الاجتماعية الجامدة للدِّين في بابل، وناضَل المجوس لضمان هيمنة مؤسَّساتهم، وملاءَمة الطقوس والشعائر والتعاليم الأخلاقية، وتأكيد الإيمان بوحدانية الإله حسب عقيدة زرادشت في ممارستهم التقليدية. وبدأت الإمبراطورية الفارسية في الوقت نفسه تتوسَّع غربًا في بابل أولًا، ثم في آسيا الوسطى، وبعد ذلك في مصر، ثم أخيرًا في أثينا، ووجدَت التراتُبية الدينية نفسها مُرغَمة على تَمثُّل واستيعاب — ولكن بدرجات متفاوِتة — الأرباب الجُدد والطقوس الجديدة في البلدان الخاضعة للسيطرة.

وألقى فيثاغورس نفسه وسط خِضَم من مصادر المعارف الجديدة والقديمة في تلاقيها معًا، وتقاسَم مع آسريه علومه وخبراته، وتعلَّم على أيديهم وشارَك في طقوسهم معًا مثل تناوُل الشراب المقدَّس من عصير نبات هايوما الأخضر العطري، وكذلك المشاركة في احتفالات التطهُّر الكامل قبل إشعال النار المقدَّسة للرب أهورامازدا (إله الزرادشتية الأوحد خالق العالَم ومصدر النور والخير)، واستكمل معرفته بالعدد والتناغُم والإيقاع وغير ذلك من العلوم الرياضية، وتميَّز أيضًا في الفلك وتفسير الأرباب حتى إنه بَزَّ طاليس من حيث القدرة على التنبُّؤ بالمستقبَل، وقضى فيثاغورس اثني عشر عامًا في بابل، وسمحُوا له بعد ذلك بالعودة إلى وطنه ساموس الذي كان وقتذاك جزءًا من الإمبراطورية الفارسية، وسافر إلى هناك وهو في السادسة والخمسين من العمر.

أسفاره داخل العالَم الإغريقي

لقِي فيثاغورس عند عودته إلى ساموس ترحيبًا حارًّا من أهلها. وعلى الرغم من أن كبار السن من أهل ساموس تعرَّفُوا عليه، فإن ما أذهلهم الكمُّ الهائل من الوقار وبَلاغة الحديث اللذَين يَتصِف بهما، ودَعَوه ليلقي خطابًا عامًّا يعرِض خلاله خبراته التي عاشها منذ أن غادَر الوطن.

وقدَّم فيثاغورس للإغريق خلال عَرضِه منهجًا للتعليم سبق أن تَعلَّمه أول ما تَعلَّمه في مصر، والذي تميَّز به أسلوبه في التلقين طوال بقية حياته، وقدَّم جوهر أفكاره من خلال استخدامه للأرقام والأشكال الهندسية والرموز وجُمَل خَفِي معناها على غالبية مُستمِعيه، ولكنَّ أهل ساموس الذين لم يَتوقَّعوا منه مثل هذه الأمور المُرهِقة للغاية استبَدَّت بهم الحيرة، واضطروا عند نهاية حديثه أن يُغادِروا القاعة مُحبَطِين، وألفَى فيثاغورس نفسه وحيدًا دون أي طالب يستمع إليه.

ولكنه بدافع الولاء لبلدته عزَم على مواصَلة الجهد لإقناعهم بقوة أفكاره، ووصولًا إلى هدفه هذا وضَع خطته التالية:

إذ تصادَف أن الْتَقى فيثاغورس في الجيمنازيوم إيراتوكليس، وهو فتًى ذو موهِبة فريدة وقُدرة على ضَبْط النفس، ويُعاني شظَف العيش بسبب قِلة المال، وتوقَّع أن يُقنعه بمتابَعة دراسته على يديه إذا ما وفَّر له حُجرة وغَيْر ذلك من ضرورات، واقترب منه فيثاغورس في عصر يوم من الأيام بينما يغادِر الجيمنازيوم وقدَّم إليه اقتراحه، وقال له: إن المقرَّر الدراسي سيكون سهلًا يسيرًا ومتتابعًا ولكن مستمرًّا، وعزَم على أن يُلقِّن إيراتوكليس جميع المذاهب التي تعلَّمها في الشرق، والتي رأى أنه يواجِه خطَر نسيانها وقد تقدَّمَت به السِّن، وافق إيراتوكليس على الاقتراح، وقدَّم له فيثاغورس في المقابِل أساسيات الرياضيات، والهندسة، والمعداد، ويعطيه أجرًا مع استيعابه لكل جزء، ومع تقدُّم هذا الفتى الرياضي في المعرفة ازداد التزامًا ومواظَبة على الدَّرس، ولم يكن يُحفِّزه إلى هذا مجرَّد الدعم المالي وتشجيع مُعلِّمه له، بل وأيضًا قوة ودِقَّة الأرقام. وهنا اعترف له فيثاغورس بأنه إزاء تضاؤل مَوارده المالية سيكون عاجزًا عن أن يدفع له أجْرَه؛ ولذا لا بُدَّ وأن يُنهي دروسه عند هذا الحد.

وأصر إيراتوكليس على مواصَلة الدرس، ولكن فيثاغورس احتج بأنه، وبسبب وضْعِه، مُضطر إلى أن يعمل لِيكتَسب رزقه وليس لديه وقت لمثل هذه المهام التي لا تُدِر مالًا مثل تعليم الرياضيات، ولكن إيراتوكليس عقَد العزم على الاستمرار، ومِن ثَمَّ أجاب قائلًا: إذن من الآن فصاعدًا سوف أُزوِّدك بكل ما تحتاج إليه، وأدفع لك مقابلَ كل حصة للتعليم. واستعاد من جديد دراساته باذلًا جهدًا أكبر حتى أصبح مثالًا يحتذيه كثيرون من شباب ساموس مِمَّن شرعوا في الدراسة على يدي فيثاغورس. وجدير بالذِّكر أنه في مرحلة تالية، وحينما قرَّر فيثاغورس تَرْك ساموس كان إيراتوكليس هو التلميذ الوحيد الذي آثَر مُصاحَبة الفيلسوف، وألَّف ثلاث رسائل علمية عن تعاليم فيثاغورس منها كتاب لتعلم التدريبات الرياضية.

ودرَّب فيثاغورس أيضًا أحد رياضِيِّي ساموس ويُدعى إيوريمينيس الذي أصبح — على الرغم من قِصَر قامته — بطلًا أولِيمبِيًّا بفضل التزامه بتعليمات فيثاغورس التدريبية؛ إذ تعلَّم إيوريمينيس أكْل اللحم لِيبنِي جسمه جيدًا ويزداد قوة، وتعلَّم أيضًا أن ينافِس وعقْلُه ليس مركزًا على الفوز والانتصار، بل على مُتعة كمال المهارة البدنية، وهكذا لا يتحطَّم تركيزه، فضلًا على مقاوَمته للغيرة والغطرسة التي تُلازِم النجاح دائمًا.

وسافر فيثاغورس في أثناء إقامته في ساموس إلى جزيرة ديلوس لزيارة الحرَم المقدَّس لراعِيه الإلهي أبوللو، وأثار الفيلسوف الذي ذاعَت شهرته الآن انتباه جميع المُتعبِّدين هناك في أثناء مروره أمام المذبح، وعمَدوا إلى أداء طقوسه أمام مذبح أبوللو الرب وهو الأقدم المبرَّأ من الدم، حيث يجري وضْع تَقْدِمات من الفاكهة والحبوب والأزهار. وبعد أن ترك فيثاغورس ديلوس طاف بهياكل قُدسية أخرى في العالَم الإغريقي من بينها هياكل ساموتراس، وإيمبروس، واليوسيس، وطيبة، ثم أخيرًا هيكل معبد دلفي، حيث كانت النبوءة بمولده قبل ستة عقود، وكانت هذه أول زيارة له لمعبد دلفي؛ حيث أجرى حديثًا مع كهنته وأدهشه أن يعرف أن عبادة أبوللو في بيتيا أو دلفي لها جذورها المُمتَدة إلى كريت؛ لذا قرَّر السفر إلى هناك.

وتلقَّن فيثاغورس في كريت مبادئ عقيدة مورجوس وهو حكيم قديم انخرط أتباعه في احتفالات موسيقية تَتَّسِم بالقَصف والعربدة، ووثيقة الصلة بأسطورة عن ميلاد ووفاة زيوس في الجزيرة. وتولَّت هذه الجمعية تطهيره عن طريق استخدام أحجار سقطَت من نيازك ضِمن طقس تطلَّب منه الرقاد ساعة الفجر ووجهُه إلى أسفل على امتداد شاطئ البحر، والرقاد ليلًا بجانب نهر وعلى رأسه إكليل مصنوع من صوف حمل أسود، ودخل بعد ذلك إلى كهف فوق جبل ديكت الذي قِيل إن زيوس الطفل اختبأ فيه؛ هربًا من الوحش كروتوس الذي قد يلتهمه، وتدثَّر فيثاغورس بالصوف الأسود، وظل في وحدته متنسِّكًا لمدة سبعة وعشرين يومًا. وقام بمراسم العبادة عند أريكة الاحتفالات السنوية التي تُقام لزيوس في كريت، ونقَش عبارة على قبر زيوس بقيت خالدة على مدى قرون، وتبدَأ بعبارة «هنا يرقد الراحل زان الذي يسميه الناس زيوس.»

وسافر فيثاغورس من كريت قاصدًا اسبرطة؛ حيث درس مؤسَّساتهم التشريعية ونظام الحُكم، وتزوَّد فيثاغورس من خلال النظام الجماعي في اسبرطة بنموذج يمكن تكييفه وملاءمته كأساس للطائفة الفلسفية التي بدأ في وضْع تَصوُّر عنها، وعاد إلى وطنه ساموس عاقدًا العزم على البدء في إنجاز مشروعه لجَمْع أفكاره في منظومة واحدة ونَقْلِها، والتي تطوَّرت في رأسه على مدى عقود داخل مراكز دينية وعلمية في مختلف مدارس الفكر في البحر المتوسط.

الرحيل إلى إيطاليا

أسس فيثاغورس عند عودته إلى ساموس أوَّل مدرسة له واسمُها «سيمي سيركل» أو شبه الدائرة، وأقام في كهف منعزِل خارج المدينة، وشغل نفسه طوال النهار وآناء الليل بالبحث العلمي والمناقشات الفلسفية والتأمُّل متوحِّدًا، وذاع صيته واستهوى أفضل العقول الشابة في اليونان للدراسة على يديه. بَيدَ أن أقرانه من أبناء ساموس أصبحوا على وعْي بما يتحلَّى به من موضوعية وإحساس عميق بالعدل والنزاهة؛ لذلك اعتادُوا أن يلتمسوا منه العون في الإدارة اليومية لشئون البلد وهو ما تكرَّر على نحو متزايد، وأصرُّوا على أن يَصحبَهم مع كل سفرة سياسية إلى الدُّويْلات الأجنبية.

وأدرك فيثاغورس استحالة الوفاء بكل هذه المَطالب العادلة، بينما هو مُكِب على دراساته، وشَعر بالإحباط إزاء عُزوف أبناء ساموس عن التعلُّم الجاد، ولحظ أن جميع الفلاسفة السابِقين عليه عاشوا حياتهم بعيدًا عن أرض الوطن؛ لذلك قرَّر ضرورة الرحيل بعيدًا. واتَّخذ وِجْهته مدينة كروتون وهي مركز تجاري في جنوب إيطاليا سبَق له أن زارها وهو فتًى في صُحبة أبيه في أثناء رحلاته إلى الغرب. أسَّسها قبل قرنين مستوطِنون إغريق تحت رعاية أبوللو، وكانت كروتون وقت وصول فيثاغورس إليها تعيش أزهى عصورها؛ إذ كانت هي الأكثر ثراء وتعليمًا في كل اليونان، وعلى الرغم من وقوعها على ميناء جيِّد، فإن نجاحها ورخاءها يعودان أساسًا إلى الزراعة وتربية الماشية. كانت جمهورية أرستقراطية تفيض حياة داخل محيط قدرُه عشرون ميلًا، وفرضَت سيطرتها على العديد من المستعمَرات في المنطقة، واشتهَرت على نطاق واسع برياضييها الأبطال الأولمبيين، وكذا تقدُّمها في الطب. وحدَث قبل وصول فيثاغورس إلى كروتون ببضع سنوات أن انتقل ديموسيدس الطبيب الأشهر بين أبناء جيله والمعاصر لفيثاغورس من ساموس إلى كروتون حيث استقر بها.

وبلغ فيثاغورس قدرًا كبيرًا من الشهرة حتى إنه بعد رَسو السفينة بميناء كروتون بفترة وجيزة تجمَّع حشد كبير جدًّا ليشاهدوه. وسرَت شائعات تؤكِّد أنه أحد أرباب الأوليمب، أو لعلَّه حارس الروح ذو القوة وقد أرسلته الأرباب إليهم مما أثار اهتمامًا عظيمًا لديهم، ووفد إليه البعض وهُم على استعداد لعبادته مثله مثل أبوللو دلفي، أو مثل أبوللو عند شعب هايبربورينز الذي يسكن الجبال في الشمال. هذا بينما اعتبره فريق ثالث أنه أحد الأرواح التي تسكن القمر.

وما إن نزل فيثاغورس من السفينة حتى وقَف يخطب في الحشود. ولنا أن نقول إن ما قاله على مسامِع الحشد يستحيل إعادة بنائه مرة أخرى؛ ذلك أن الحشد احترم رجاءه ألَّا يُثبِتوا شيئًا مما يقوله كتابةً وألَّا يُردِّدوا كلامه، ولكن ما يلي هو بعض المعلومات العامة؛ إذ إنه علَّمهم أن الروح خالدة، وأنها عقب الوفاة تُهاجِر في أجساد حيَّة أخرى. وقال: إن جميع الكائنات الحية، تُعتَبر سواء من حيث الطبيعة؛ أي إنها ذات طبيعة واحدة ويتعيَّن النظر إليها وكأنها تنتمي لأسرة واحدة عظيمة، وقدَّم تفسيرات جديدة عن الأرباب والأرواح، وعن الأفلاك السماوية، وعن كل الطبائع الموجودة في السماء وفي الأرض. وعن الطبائع التي تحتل موقعًا وسطًا المُشاهَدة والغَيبِية. واعتُبِر فيثاغورس أول إنسان يُعلِّم الإغريق هذه الموضوعات، وإن لم يتضمَّن ما تحدَّث عنه أي شيء يُناقِض خبرة أو فطنة مُستمعِيه.

ونتيجة لهذا الخطاب احتشد قرابة ألفين من الرجال والنساء مع أُسَرهم وعقدُوا العزم على أن يُصبِحوا تلامذة لفيثاغورس، والْتأَم شمْل هؤلاء الحَوارِيِّين ليشكِّلوا معًا مجتمعًا فلسفيًّا خاصًّا استهوى الزُّوار من كل أنحاء البحر المتوسط وما وراءه.

١  من المهم أن نلحظ، حسب ما تفيد أساطير كثيرة، أن الموسيقي السحري أورفيوس الذي قال فيثاغورس عنه: إنه مَدين له فيما يختص بكثير من تعاليمه، شارك أيضًا في رحلة أرجو (Argo).
وقيل في موضع ما إنه أنقذ أرجونوتس من غواية السيرانات (Sirens) ساحرات في الأسطورة الإغريقية يَسْحَرْن الملَّاحين بغنائهن ويُوردنهم مَوارد الهلاك [(المترجِم العربي)] بأن تَفوَّق عليهن في الغناء.
٢  تلاحظ أن دراسة أصل كلمات أرباب فيريسايدس (Pherecydes) لها دلالة خاصة؛ إذ يبدو أن زاس (Zas) يتطابق مع زيوس، وهو قوة ذكرية نشطة، كذلك يبدو أن كتوني (Chthonio) ذات علاقة بكتون (Chronas) هو الكلمة الإغريقية الدالة على الزمن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤