المقدمة

(يظهر الملعب بهيئة دير رابيدا وكولومب وولده في فنائه.)
(كولومب – دياكو (ولده) – الأب جوان – مرتين ألونزو – فرنسوَى («قندلفت» خادم))
كريستوف كولومب :
خداعٌ كله هذا الوجودُ
وغير الكِذْبِ فيهِ لا يسودُ
وليل المطل ممتدٌ ظليلٌ
يضلُّ بدجنِهِ الرأيُ السديدُ
وتلك عقولُ أهل الأرض طُرًّا
تُكبِّلها السلاسل والقيودُ
فوا لهفي على من كبَّلتهم
سلاسل دون قسوتها الحديدُ
هو التقليد سبَّكها فجاءت
وفيها يزدهي عُنُق وجِيدُ
عجيبٌ! كيف لم يسمع ندائي
مليكٌ أو غنيٌّ أو عميدُ؟
أجئتهمُ ترى بخزعبلاتٍ
وأوهام بها عبثَ الوليدُ؟
لقد حدَّثتُ نفسي باكتشاف
فمنْ بالمالِ لي منهم يجودُ؟
متى تمتدُّ نحوي كفُّ يُسرٍ
فيبدو ذلك القطرُ الجديدُ؟
لقد قضَّيتُها عشرين عامًا
وعنَّي قد تحجَّبتِ السعودُ
ونارُ الشَّيبِ قد لَعِبت برأسي
وأيامُ المُنَى والحظ سودُ
وقد ضاقتْ يدي بل ضاقَ صدري
فكيفَ تبدَّدت تلك الوعودُ؟!
لقد أصبحتُ جوعانًا شريدًا
وعريانًا، فيا أقوامُ جُودُوا
حياتي كُلُّها تعبٌ وكَدٌّ
وأحزانٌ يمازجها الجحودُ
إذا عُرضت على الموتَى حياتي
بعيشٍ مثل عيشي لم يُريدُوا
(يركع وينظر إلى السماء.)
إلهِي لم يَعُدْ لي قطُّ ملجا
سواك ففيكَ لم تَخِبِ العبيدُ
أنا لا أختشِي مَوتي ولكنْ
وَليدي بائسٌ مُضنًى شريدُ
أموتُ ولستُ أورثه نضارًا
ولكنْ يُتمُهُ الإرثُ الوحيدُ
إلهي! (وينتحب).
دياكو (الابن) :
يا أبي صبرًا فليس الـ
ـبكاءُ بمثلِ موقِفِنا يفيدُ
أبي بالله لا تجرَحْ فُؤادي
كولومب :
بُنيَّ يحقُّ لي النوحُ المديدُ
فقد أنفقتُ ما جمَّعتُ قدمًا
وهَا إني من الدنيا طريدُ
أنا لا أبتَغِي مالًا وجَاهًا
ولكنْ ما يتمُّ به الوجودُ
فإن نُوِّلتُ ما أبغِي فإنِّي
أنا هو ذلكَ الرجلُ السعيدُ
دياكو :
أبي قد جُعتُ … …
كولومب :
… … يا وَلدِي اصطبارًا
دياكو :
فَمَا صبرِي وبي جوعٌ شديدُ؟!
كولومب :
تجلَّد يا بنيَّ فعينُ ربي
تراكَ وفي تجلُّدِنا نسودُ
ومن كَانَ الزمانُ له عدوًّا
فإن الصَّبرَ مَعقِلُهُ الوطيدُ
ولكنْ لا ففوزِي ليس يُرجَى
فشطر غدٍ به الفشلُ العتيدُ
آه، ما هذه التعاسة وما هذا الشقاء يا كولومب؟! كاد يقتلني الجوع ويخنقني الظمأ.
فيا سَاكِني دير الفرنسيس رحمةً
بكولومب، من يَرحَمْ أخَا الرب يُرحمِ
أعندكمُ ما يقتل الجوعَ في الحَشَا
وما يطفِئُ النيرانَ في كبدِ الظَّمِي؟
ما هذه الأطمار البالية، إني لأخجل أن أظهر فيها:
فَصاحَة سَحْبان وخط ابن مقلةٍ
وحِكمة لقمان وزهد ابن أدهمِ
إذا اجتمَعَتْ بالمرءِ والمرءُ مفلسٌ
ونَادَوا عليهِ لا يُباعُ بدرهمِ
(يتنهد) ويلاه! ما العمل؟ أي ولدي الصغير، تقدم واقرع باب هذا الدير، فقد عهدت الرهبان الأتقياء يحبون الفقير، ويعطفون على البائس المسكين.

(دياكو يتقدم متلفتًا تارة إلى أبيه وتارة إلى الباب.)

كولومب : تقدم ولا تخف هذا الباب الحديدي، فصوت المسكين يخرق الحديد.
دياكو (يقرع الباب مرارًا ويتنصت) : أسمع أصواتًا رخيمة يا أبي.
كولومب : إنها لترانيم سماوية يا ولدي تصعد على أجنحة الملائكة وترتمي على أقدام العرش الإلهي تستغفر الله عن جرائم الإنسانية وفظائع البشرية. ما أجمل هذه الحياة الهادئة، وأقرب سكان هذا المكان من باب الملكوت! اركع يا بني لنصلي ونشارك الرهبان في صلاتهم، ما أعذب الصلاة! فهي خير تعزية للمرء في ضيقته، ومهما أظلمت الدنيا بوجه الإنسان فعند ارتفاع بصره إلى السماء يلوح له نور مقدس يمزق هذه الدياجي (يركعان).

(بعد صمت قليل يسمع صوت داخلي يقول: من يقرع الباب؟)

كولومب : فقير، مسكين، طرحته الفاقة على أبوابكم أيها الأتقياء فافتحوها له فتح الله بوجهكم باب ملكوته.

(يُفتح الباب ويخرج منه الأب جوان وفرنسوى ومرتين ألونزو فينهض مسلِّمًا ثم يأمر ولده قائلًا):

كولومب : حَيِّ يا ابني آباءنا الرهبان فقد طفنا البلاد ولم يرثِ لحالنا أحد ولم يقابلنا بَشرٌ بهذه البشاشة.
فرنسوى : من تكون أيها البائس ومن أي بلد أنت؟
كولومب : أنا كريستوف كولومب مجنون القرن الرابع عشر.
جوان (على حدة) : قد سمعت قبل الآن بهذا الاسم.
كولومب : أنا الرجل الذي فر من سريره إلى فم المخاطر فركب البحار وذلل الأمواج وطاف الأقطار والأمصار مدفوعًا بشقائه وتعاسته، وما زال يتقلب من حال إلى حال حتى أصبح كما تراه يلتمس الكِسَر ليقتات بها ويبسط يده على الطرق مستعطفًا أبناء السبيل.
فرنسوى : يظهر أيها الرجل أن في حياتك سرًّا من الأسرار.
كولومب : نعم، وأي سر لم يكن في حياتي؟! تعاسة، فقر، يأس، مخاطر، كل هذا رأيته في حياتي ولكنني لم أزل أعلل النفس بالآمال أرقبها.
جوان : من يصبر إلى المنتهى يخلص.
كولومب : آه يا أبت الفاضل! لو بسطت لك تاريخ حياتي لرأيت أنني ذقت من البلايا ما لم يذُقْهُ الشهداء، بَيْدَ أن عزمي لم يخر، وهمتي البعيدة لم تشبع من مُعَاركة الأيام، وقد شاب شعري من كُثرِ ما رأيت من الأهوال، ولكن عزمتي لم تزل شديدة المراس، وقناة همتي لا تلين للغامزين.
فرنسوى :
وإذا مَا خَلا الجبانُ بأرضٍ
طلبَ الكرَّ وحدَهُ والنِّزالا
إنك مهذار أيها الرجل، وحديثك يدل على اختلال في دماغك، أملكٌ أنت أسقطك الزمان عن عرشك وحطَّم على أقدامك تيجانك حتى تدَّعي هذه الدعوى وتفتخر كل هذا الافتخار، أم حسبتنا قومًا بعيدين عن ضوضاء العالم نصدق كل ما ينسج لنا على منوال الخديعة والهذيان؟
كولومب : أفي كل مكان يقوم بوجهي أخصام؟! هو ذا عدو جديد تحت سماء الدير النقية. آه ما أشقاك يا كولومب!
فرنسوى : نحن لا نعادي ولا نكره أحدًا؛ ففادينا علمنا محبة الأعداء، ولكننا نكره الرذيلة لا الإنسان، فقل الصدق ولك منا فوق ما ترجو.
جوان : ما لك وما له يا فرنسوى؟ دعهُ يقص علينا تاريخ حياته.
فرنسوى : وأي عبرة وذكرى في تاريخ حياة شريد طريد مجنون فقير يتوهم أنه علامة عصره وفيلسوف دهره؟
جوان : ابسط يا كولومب قضيتك مع الزمان فكلنا على الدهر أنصار وأعوان.
كولومب : يعزُّ عليَّ يا أبتِ أن أعيد نظري في الصفحات المنطوية من سجل حياتي؛ فهي تستنزف عبراتي وتُؤَثِّر في عواطفك الشريفة، فدعنا فالحديث شجون.
فرنسوى : ابتدأ الخلاط يهيئ الأذهان لسماع أكاذيبه، آه ما أقدر هذا الصنف من البشر على استمالة القلوب!
جوان : هات الحديث فلعل عندي باب فرج أفتحه بوجهك.
كولومب : أبتِ، ولدتُ سنة ١٤٣٦ في مدينة جانوا من أعمال إيطاليا، ومن بزوغ فجر صباي مِلت إلى فن الجغرافية والرياضيات، وعشقت الملاحة مهنة والدي، ولم أكن أكره غير البطالة التي تفسد الشبيبة وتقودها إلى حضيض الفقر والهوان. وإذ كان أبي دومينيك كولومب مشهورًا بركوب الأبحار أخذ يدربني ويعلمني مهنته، ثم أرسلني إلى كلية بافيا حيث أتقنت علم الفلك والجغرافية والهندسة، فخضت البحار في عمر البدر ليلة تمامه، وكان إعجاب الناس فيَّ شديدًا والثناء ينهال عليَّ من كل جانب. جُلت أول الأمر في البحر وأخذت أسعى بتوسيع دائرة السفر فاستخدمت في سفينة نسيب لي كانت مسافرة في الأوقيانوس الشمالي، وكنت أطارد السفن الفينيسانية حتى وقعت في لجج الأخطار مرات عديدة، وقد اشتد القتال مرة بيني وبين أصحاب تلك السفن فاضطرمت النار في سفينتي وسفينة أخرى من سفنهم فارتبكوا في أمرهم، أما أنا فتمسكت بجذع من الخشب حتى قادتني يد العناية إلى شواطئ مملكة البرتوغال، وهناك في تلك الأقطار بقيت في حالة الخطر من جَرَّاء التعب أيامًا عديدة، ولما عوفيت سرت إلى ليزبونه عاصمة تلك المملكة، وهناك عرفت بحَّارتها أحذق بحارة العالم والساعين في اكتشاف طريق جديدة تؤدي إلى الهند الغربي، وعرفت أيضًا في ليزبونه سيدة شريفة كريمة الشيفاليه برتولماوس، واقترنت بها فرزقني الله منها هذا الولد الذي تراه أمامك في جزيرة بورتوسانتو.

(هنا يتنهد ويلتفت بولده التفاتة مملوءة حنانًا وشفقة ويتوقف عن الحديث.)

جوان : لا تقطع الحديث يا كولومب بالله عليك.
كولومب : وبقيت في تلك الجزيرة سنوات عديدة أتجول على شطوط أفريقيا وفي جزر كاناريس، وكنت دائمًا أبحث وأفكر في طريق بحرية يدار بها حول أفريقيا، وأقول في نفسي: أليست الأرض كالكرة المستديرة؟ أيُعقَل أن تكون الجهة الثانية من الأرض كلها مياهًا؟ لا، إذن فلا بدَّ من اكتشاف شيء جديد، وقد وطَّد عزيمتي ما قصَّهُ عليَّ أحد بحارة البرتوغال وهو أنه رأى على وجه المياه أخشابًا صنع يد بشرية قذفتها الرياح في الأوقيانوس الأتلانتيك، ووجدوا أيضًا في جزائر أسورس «ما بين أوروبا وأميركا» في البحر الأتلانتيكي جثتين غريبتي البنية، كل هذا يا أبتِ حملني على الجزم بوجود عالَمٍ جديدٍ فحدَّثت نفسي باكتشافه.
جوان (إلى فرنسوى) : يا له من ذكي متوقد الذهن! سيكون من أعظم خُدَّام الإنسانية وأكبر نصراء الصليب.
فرنسوى : ولله درك من ساذج مثله تعتقد ما يعتقده، ولا بدع فشبيه الشكل منجذب إليه! (إلى كولومب) دعنا يا رجل من هذه الأضاليل.

(كولومب يلتفت بفرنسوى متمرمرًا.)

جوان (إلى فرنسوى) : اخرج من هنا أيها الجاهل.
فرنسوى : وابقَ أنت هنا وابنِ مع أخيك في الجنون القصور في إسبانيا (يقول هذا ويخرج ضاحكًا).
مرتين : قد استرحنا من فلسفته، تمِّم حديثك يا كولومب.
كولومب : عزمت عزمًا وطيدًا على اكتشاف العالم الجديد، ولكن ضيق ذات يدي كبَّلني بقيود ثقيلة فعزمت على مُفاتحة دولتي بذلك، وعرضت مشروعي على مجلس جانوا فرفض الطلب ساخرًا بي سخرية هذا الراهب. فتركت بلادي قائلًا: لا يُكرَم نبي في مدينته. وعدت إلى ليزبونه وعرضت على ملك البرتوغال أفكاري، وطلبت أن يمد لي يد المساعدة فلم يرفض، وبعد قليل ألَّف لجنة علمية طرحتُ على مائدتها آرائي فقررتْ أنها آراء فاسدة مزيفة فلم يقنع بذلك، وعيَّن لجنة ثانية فأيَّدتْ رأي الأولى، وإذ رأت الملك معتقدًا اعتقادي طلبت منه أن يرسل قبطانًا من قبله لاكتشاف ذلك العالم الجديد، فأرسل سفينتين تحت رئاسة أحذق البحَّارة، فبعدما سافروا مدة قليلة عادوا يقولون إن مشروعي وهم ومحال؛ فتركت تلك البلاد قاصدًا فينيسيا الجمهورية طالبًا منها المدد فلم أظفر بغير الخيبة، والآن أنا كما تراني قد أنفقت كل شيء ولم أعد أملك شَرْوَى نقير، ولو لم تأووني هذه الليلة لكنت هلكت جوعًا.
جوان : مسكين أنت يا كولومب! أسأل الله أن يفرِّج أزمتك، ويريك جزاء أتعابك سعادة الدارين.
كولومب : أنا لا أطلب يا أبي غير التوصل إلى العالم الجديد، فإما أن نزداد مدنية أو نمدِّن أولئك الناس التائهين في بيداء الهمجية. طفت كالبؤساء من بلاد إلى بلاد حتى وصلت إسبانيا، هذه المملكة الواسعة المتراخية الأطراف، كما أنني أرسلت أخي برتلماوس ورفيقي في هذا الجهاد إلى جلالة هنري السابع ملك إنكلترة، فعسى الله أن يُقيِّض لنا يدًا كريمة تجري منها أنهار الكرم والجود وتساعدنا على هذا المشروع العظيم.
جوان : أنا من رأيك يا كولومب، ولو لم أكن راهبًا لكنت أطلب الانتظام في سلك بحريَّتك الذين يركبون ذلك المركب الخشن في سبيل خدمة الإنسانية، آه يا ليتني أملك شيئًا من المال لأضحِّيه في سبيل هذه الخدمة الجُلَّى ولكن:
لا خَيل عندَك تُهديها ولا مَالُ
فَلْيَسْعدِ النُّطقُ إن لم تسعدِ الحالُ
سأكتب لك إلى مرشد الملكة إيزابلا فهو صديقي الحميم وسيكون لك أكبر مساعد أمامها، إن ملكتنا يا كولومب تحب العلماء وتعتبر الأدمغة الكبيرة، فأسرع إليها بجرأة ولا تخف، فلنشرع الآن بالكتابة.
مرتين : ما أجمل هذا الاجتماع بعلَّامة مثلك يا كولومب! إن خدمتك ستكون باهرة للبشرية وسيذكرها التاريخ بالإعجاب والتعظيم إذا خدمك الحظ، ولكن يا للأسف! فالفلاسفة والأدباء والعلماء والشعراء أشقياء في كل زمان ومكان، طَالِعِ التاريخ فتجد لك أعظم تعزية على فقرك وشقائك، أفلاطون وسقراط وديوجين عاشوا في الفاقة وماتوا في الفقر، ولكن أملي وطيد بالعناية الإلهية فهي تمهِّد سبيلك وتعدُّ طريقك فلا تعثر بحجرٍ رجلُك. سأرافقك يا كولومب إذا توفقت إلى السفر، وأضحِّي ما تملكه يدي في سبيل هذه الخدمة الأدبية. إن الأغنياء يعشقون المال أما أنا فلا، هاك يا كولومب هذه الدراهم فهي تقضي حاجات سفرك.
كولومب : شكرًا لك أيها المولى على هذا الجود، وأراني الله مثلك قومًا عديدين يعتبرون الآداب والأدباء ويجلُّون العلم والعلماء.
جوان : وإليك الكتاب يا كولومب، عجِّل بالسفر إلى مدينة كردو حيث تقابل هذا السيد العلَّامة مرشد الملكة وتدفع الرسالة إليه، أمَّا ولدك دياكو فأبقه هنا ما بيننا وثِق أنه سيصادف من إخوتي الرهبان ومني حنان الأم وشفقة الأب.
كولومب (يتناول الرسالة ويلتفت إلى ولده قائلًا) : تعالَ يا مهجتي أطبع على صفحات وجهك قبلات الحنان والمحبة الوالدية، سأتركك هنا ولكن إلى أجل غير بعيد؛ لأن الأمل بالنجاح يلوح لي كخيط من نور في أحشاء ظلمة مُدلَهِمَّة.
ضَاقتْ ولمَّا استحكمَتْ حلقاتُها
فُرجَتْ وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ
اقترب مني يا حبيبي فأضمك إلى صدري ونقتبل كلانا بركة الأب جوان.

(كولومب راكع وابنه واقف قربَهُ يقبِّله، والأب جوان رافع يده يباركهما ومرتين ينظر إليهما متأثرًا.)

(وهكذا يطبق الستار.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤