الفصل الأول

القسم الأول

(يظهر الملعب بهيئة قصر الملك فردينان.)

المشهد الأول

(الأسقف مرشد الملكة – جنود ذاهبة إلى الحرب)
مرشد الملكة :
ظَلمتْنَا سيوفُنا اليمنيَّهْ
واستبدَّت رماحُنا الخطِيَّهْ
ومَشَى الناسُ للحروبِ الوفَا
بابتهاجٍ لمجزرِ البشريهْ
فكأنَّ المسيحَ قد قال حِبُّوا الـ
ـحرب واصلوا الأعداءَ نارَ المنيهْ
ليتَ عيني تعمى ولم أرَ فيها
كل يوم شقا نعاجي البريه
من زمانٍ صاح الملاك على الأرْ
ضِ سلام وراحة أبديهْ
في أُرشليم قد عَلا الأمس صوت
ذاك صوتُ المسيحِ في الناصريهْ
قَال عيشوا براحةٍ وسلامٍ
واتركُوا الحربَ فهي شرُّ بليَّهْ
لعنَ الله ساحةَ الحربِ كم فيـ
ها شقاءُ الملوكِ ثم الرعيهْ
رافعُ السماواتِ دون عمادٍ
رأفةً في جبلتكم التربيه
يطمعُ المالكون في شِبرِ أرضٍ
يُشترَى بدماءِ شعبٍ زكيَّهْ
ويقُولونَ بالعدالةِ نبغِي
حقَّنَا فاعدلوا ملوك البريهْ

(يسير عدة خطوات متفكرًا والحزن بادٍ على وجهه وفي حركاته، ثم تعزف الموسيقى من الداخل بنشيد الدعاء الملكي ثلاث مرات ويهتف الجنود بآخر كل مرة: «فليحيَ الملك» ثم يصرخ الجنود: إلى الحرب إلى الأندلس.)

المرشد :
وإلى الشَّرِ إن صدقتُم قُولوا
ليسَ في الحربِ غير شر رزيَّهْ
أَمَدَى الدَّهرِ يشتكي السيفُ جوعًا
أَفَمَا ترتوي القنا السمهريَّهْ؟
يَا صليبَ المسيح يا علمَ السلـ
ـم ومُحيي الرجاءَ في البشريهْ
أرمِ صلحًا بين الملوكِ ليلقى
شعبُك اليومَ أَطيب الأُمنيهْ

(يسمع ضجيج داخلي فيسكت المرشد ويقف مبهوتًا إذ تدخل الجنود مارة في الملعب أزواجًا بخطى عسكرية تتقدمهم الموسيقى وهم ينشدون هذا النشيد الموقع على لحن الجزائر المشهور.)

(نشيد):

بشرى لنا، ولَّى العنا، نلنا المنى، في بطشنا، يوم الطعان
أسيافُنا، لا تنثني، وقت التفاني، بحب الأوطان
صاح المدد، خصم أَلَدْ، حتى ارتعد، منا الجلد
ما أحلى الحروب، إذ تنفي الكروب، والأعدا تذوب
فاشحذوا البيض الرقاق، وأسرجوا الخيل العتاق، واهتفوا: «فليحيَ فردينان»
: وإذا لم يكن غير عشرين جنديًّا فيمكن إظهارهم عددًا وافرًا؛ إذ يدخلون ثانية وثالثةً بدورانهم من وراء الستار الداخلي ودخولهم من حيث دخلوا أولًا، ولكن بشرط أن يظلوا متصلين ببعضهم.
المرشد (بعد ذهاب كل الجنود وسكوت الموسيقى يقف ناظرًا إلى الباب الذي خرجوا منه ثم يقول) :
يا جنودَ الإسبانِ للنصر سِيري
واحمدي الله بُكرةً وعشيَّهْ
وإذا ما قضيتِ في الحربِ قولي
قتلتنَا المحبةُ الوطنيَّهْ
فظائع وآثام، بلايا ورزايا ترافق الإنسانية من المهد. ما زال جو السلام مكفهرًّا مظلمًا ونهار القناعة تُغشِّيه غيوم المطامع. ملوك وسلاطين يقتتلون على حطام الدنيا اقتتال الآساد في الغابات، يجلسون على الأسرَّةِ والعروش ويجنِّدون من رعيتهم جنودًا جرَّارة يطرحونها في مهاوي الشقاء في البلاد البعيدة؛ فيعكرون صفاء العيال الصغيرة، ويقتلون راحة المساكين بأيديهم القاسية، أي أشعيا النبي، متى تأتي الساعة التي تنبأت عنها، الساعة التي تصب فيها السيوف وآلات الحرب سككًا ومعاول لحراثة الأرض؟ أيها السيد الناصري، يا رسول السلام ومنقذ آدم من رق عبودية الشيطان، متى تنقذ الشعوب من هذه الشرور والويلات الدائمة؟ منذ أربعة عشر جيلًا نودي على الأرض السلام وإلى الآن لم تزل الحروب مشمرة عن ساقها، لم يزل ذلك الغول الهائل يبتلع الشبيبة ويطحن عظامها بأنيابه الزرق، متى تنطفئ نار المطامع في الصدور فيقف كل ملك عند حده، ولا تكون للقوة هذه السيادة الحاضرة؟ آه إن ذلك لبعيد!
سِيري بأمان أيتها الجنود الإسبانية إلى بلاد الأندلس إلى الموت تحت العلم الإسباني القاهر، فأنا أسأل الله أن يرقق قلب الملكين المتحاربين فيروا أن في السكون خير بقاء لعروشهما وتيجانهما، ماذا تفيدنا الأندلس إذا خسرنا من رجالنا عددًا غفيرًا؟ وماذا تفيد سلطان غرناطة مطامِعُهُ الغريبة وعناده الشديد إذا هلك جيشه وذهب من رعيته ألوف في ألوف؟ إن الأزمة شديدة فأنقذ يا رباه المملكة الإسبانية، تولى الملك فرديناند بنفسه قيادة الجيش فمن يضمن له العود بالسلامة؟ اكلأه يا رب بعين رحمتك، واسكب على قلب الملكة الملتهب ماء العزاء والصبر، أي إيزابلا ابنتي الروحية، إني أصلي لأجلك ولأجل مملكتك ليصونها الله من يد العدو ويجعل أسوارها من حديد فلا تزعزعها أيدي الطامعين وترتد الأبصار عنها كليلة.

(يتمشى بسكون وتأمل.)

المشهد الثاني

(المرشد وكولومب)
كولومب (يدخل) : تحية وسلام أيها السيد الجليل (يركع ويقبِّل يده).
المرشد (على حدة) : رباه ماذا جرى؟! ماذا يريد هذا الغريب؟!
كولومب : سيدي، أحمل إليك هذا الكتاب من الأب جوان راهب دير رابيدا صديقك الحميم.
المرشد : الآن ارتاح خاطري، هات الكتاب أيها الرسول لنرى ماذا يريد صديقنا الفاضل (يدفع إليه الكتاب فيقرؤه وكولومب ينظر إليه وإذ ينتهي يقول): آه ما أعذب راحتك يا صديقي جوان! إنك بعيد عن ضوضاء العالم، لا تقلق خاطرك مشاغل البشر التي تلقي على منكبي أحمالًا ثقيلة، أنت تحت سماء الدير بمعزل عن معترك السياسة ولذلك تحسب كل شيء سهل المنال، لا تعلم أن الظروف تجعل المرء عبدًا لها، ليتك تحضر وتشاهد بأم عينك قلق هذه المملكة لما كنت ترسل إلينا مثل هذا الرجل الذي تحدثه نفسه باكتشاف عالم جديد.
كولومب : مولاي، لا بل أنا متأكد من ذلك وكأنني أرى الآن أمامي من وراء البحار الهائلة إخوتنا في الإنسانية الذين وقف بيننا وبينهم كرور الأيام والأعوام.
المرشد : حقق الله آمالك يا ولدي، ولكن الأجدر بنا أن ندع أولئك الناس في وحدتهم؛ فخير لنا ألَّا نعرفهم لئلَّا نعلمهم من ضروب الشقاء ما لم يكن عندهم.
كولومب : أتجهل يا سيدي أن هذا العالم الجديد مما يزيد مملكة إسبانيا قوة وبطشًا وغنًى وافرًا وجاهًا طويلًا عريضًا؟
المرشد : دعنا يا بني من هذه التعللات والأماني فما يتفيأ ظلال العلم الإسباني يكفيه، دعنا من العالم الجديد لئلا يزيد شراهة الملوك ويدفعهم إلى الحرب فلا تكسب الإنسانية غير ويل وشقاء، ألا ترى كيف أن الحرب مشمرة عن ساقها في بلاد الأندلس حتى جبلت تراب تلك الأرض بدماء البشر، وكم ذهب من النفوس في تلك المجزرة الهائلة التي سد أنينها مسامع الفضاء وعلا صراخ الضحايا إلى السبع الطباق؟
كولومب : سمعت بذلك وقد مسَّ قلبي منظر الجنود الذاهبين إلى الحرب والابتسامة على أفواههم وهم ينادون: فليحيَ الوطن! فليعش الملك!
المرشد : إذن لا تعلل نفسك بمقابلة الملكة فهي مشتغلة عن كل شيء بإعداد المهمات والذخائر اللازمة، هي تنظر إلى ما وراء الغيب نظرة الأمل ممزوجة بالخوف، تنظر إلى جيوش الأعداء الواثبة كالآساد في مرابضها وهي تود أن تقبض على ناصية المملكة الإسبانية لو قدرت، آه من الطمع!
كولومب : حقق الله آمال هذه الملكة العظيمة، ولكن أملي وطيد بأنها تتنازل إلى مقابلتي رغمًا عما يشغلها في الأحوال الحاضرة؛ فقد سمعت عنها أنها تحب العلماء وتصبو إلى الأفكار الجديدة.
المرشد : إنها لكذلك أيها الرجل وأنا أيضًا أحب العلم الذي يقرب الناس من الدين، ولكن أفكارها في أشد الاضطراب ومن العبث يا ولدي أن نباحثها في هذا الشأن فلربما تغضب وعلى الفور ترفض.
كولومب : إن أملي لكبير فيك أيها السيد النبيل بعدما عرفت من صفاتك العالية من صديقك جوان راهب دير رابيدا، ولهذا أراني أتجاسر وأسألك أن تستأذن لي بالدخول عليها.
المرشد : إن هذا لا يكون في هذه الأزمة الحرجة، فلا تعلل نفسك بالمحال، ولا ريب عندي أنك إذا حظيت بمقابلتها لا تفلح، وذلك بدخولك الأمور من غير أبوابها فاصبر يا ابني فالأمور مرهونة بأوقاتها.
كولومب : ساعدني أيها السيد الخطير والله من وراء أعمالك، مهد سبيلي ليحفظ لك التاريخ أعظم ذكر وأطيب ثناء، اعضدني ناشدتك الله.
المرشد : سأساعدك إنما عليك بالصبر.
كولومب : مولاي، خير البر عاجلهُ.
المرشد : قد أزعجتني أيها الرجل.
كولومب : إزعاج الابن لأبيه.
المرشد : أتطمع باكتشاف عالم جديد وقد سبقك قوم كثيرون علماء فلاسفة جغرافيون مهندسون ولم يحلموا بهذا الحلم الجديد، حقيقة إن آراء الإنسان ومطامعه لبعيدة غريبة، ولكننا إذا سلَّمنا بما تقول لا نرضى أن تقابل الملكة الآن لئلا تعود بالفشل، فعد من حيث أتيت وادعُ للملكة بالنصر، وأنا أسأل الله أن يوفقك إلى ما به الخير.
كولومب : سيدي! طفت العالم ولم يسمع ندائي أحد، ناشدتك الله خذ بيدي.
المرشد : لو تنسم أحد في كلامك الصدق لسمعه ووعاه، فاذهب عنا الآن وعد عن هذا الإلحاح، إنه لضرب من الجنون.
كولومب : جنون، جنون، كلمة لم أزل أسمعها منذ ثماني عشرة سنة، آه ما أصعب ولادة الحقائق الجديدة! فإنها لا تبصر النور ما لم تتمخض بها الأجيال والدهور.
المرشد : لا تقل الحقائق يا رجل، بل قل الأماني والأحلام.
كولومب : حقائق يا سيدي حقائق.
المرشد : قد ضاق صدري، حقائق ولا بأس، وثق أنها لو كانت الجواهر ملقاة على مسافة يومين أو ثلاثة وقيل للملكة أن تعيرها جانبًا من اهتماماتها لما قبلت في الحالة الحاضرة؛ فإن الأهم أدعى للاهتمام منه من المهم، أفهمت ما أقول لك؟
كولومب (يهم بالخروج) : زودني بركتك وادعُ لي بالتوفيق.
المرشد : أسأل الله أن يوفقك يا بني.

المشهد الثالث

(الكردينال – المرشد – ألونزو)
المرشد : يزعم المسكين كولومب أنه سيخدم الإنسانية وسينقذ عالَمًا جديدًا من رق الهمجية، وقد ذهب هذا المذهب غيره من الجغرافيين والملاحين كما يزعم المتفلسفون بوجود عالم ثانٍ في المريخ. آه ما أوسع أفكار هذه الجبلة الترابية منذ البدء وهم راكبون سفينتهم المحطمة يمخرون بها بحر الفلسفة الهائج وإلى الآن لم يهتدوا إلى ميناء الخلاص والسلام! أرض جديدة؟ هذا فكر غريب، وإني لأخجل أن أفاتح الناس بهذا الفكر، خرج كولومب ولا أدري إلى أين ذهب، لا ريب أنه سيفاتح بهذا الرأي غيري من البلاط الملوكي، بيد أنني سأجتهد في البحث في هذه المسألة المهمة التي لم تخطر لي ببال مع كل خبرتي الواسعة بفن الجغرافية وعلم الفلك، ولا يبعد أن تكون أعمال الله عجيبة. أسمع وقع أقدام، من القادم يا ترى؟ ذلك كولومب؟ لا هذا نيافة الكردينال وصديقنا ألونزو (يدخل الكردينال) سلام أيها السيد الجليل (يركع ويقبِّل يده).
الكردينال : كيف حالك أيها الأخ المحترم؟
المرشد : أطلب بركة سيدي ودعاءه.
الكردينال : هل سمعت بآراء الرجل الإيطالي وقوله بوجود عالم جديد؟
المرشد : وهل بلغت مسامع نيافتكم؟ وكيف رأيتها؟
الكردينال : نعم، وقد رأيتها قريبة التصديق.
المرشد (على حدة) : عجبًا للكردينال من هذا الرأي! أنت تصدق يا سيدي؟ إن المسألة خطيرة ولا تظهر بغير البحث المدقق وسنرى رأي العلماء بها، ولكنني أستبعد أن تكون.
الكردينال : ولماذا تعجب يا أخي؟ ألم تكن كل الأفكار الجديدة مثلها عرضةً للهزء والسخرية، ومع ذلك فإننا اليوم نسخر بمن لم يصدقها؟
ألونزو : نعم، وأين الغرابة في رأي كولومب، ألا يحتمل أن وراء هذا البحر الطويل العريض بلاد مثل هذه البلاد؟ ما زلنا نرى الجزائر التي تكتنفها البحار من كل جهة، فكيف نرفض رأي كولومب يا ترى؟
المرشد : أنا لا أصدق ما تصدقون ولا أستطيع أن أسلِّم بذلك أبدًا ما لم يؤيَّد بالبراهين، فاعذروني على قصر معرفتي.
الكردينال : إننا نعذرك، ولكننا لا نسألك عما أخطأت به ضد كولومب.
المرشد : وبماذا أخطأت إليه؟
الكردينال : لم تدعهُ يقابل الملكة.
المرشد : فإذنْ أَخبرَكُمْ كل ما جرى بيني وبينه؟
الكردينال : نعم، وهو يتذمر كثيرًا من سيادتك ولم يكن ينتظر أن يصادف لديك ما صادفه؛ لأن شهرتك العلمية جرَّأته على الطمع بحلمك.
المرشد : وأنا — شفقةً على آماله أن تتبدد كالهباء المنثور — لم أسمح له بمقابلتها في هذه الأزمة الحرجة؛ لأنني واثق بأنه لا يعود بغير الخيبة والفشل.
ألونزو : سيدي! ها الملك والملكة مقبلان.

المشهد الرابع

(الملك – الكردينال – المرشد – ألونزو – أنتوان – حاجبان)
الملك : بماذا تتحدثان؟ فإنني أرى فرنندو بارتباك.
المرشد : نعم يا سيدي فإن آراء الإيطالي الجديدة غريبة.
الملك : ومن هو هذا الإيطالي؟
الكردينال : هو كريستوف كولومب يا سيدي.
الملك : وبأي آراء جديدة أتى؟
الكردينال : يقول إن قسمًا من الأرض لم يزل مجهولًا.
ألونزو : وبأن تلك الأرض إذا اكتُشِفَت ستزيد إسبانيا رفعة ومجدًا وعلاءً.
الملك : ما رأيك يا أنتوان؟
أنتوان : حديث خرافة يا أُمَّ عمر، اسمع يا مولاي واضحك.
الملك : إن هذا الكلام المجرد لا يُعوَّل عليه، أما إذا أسنده بالبرهان نستطيع أن نحكم بصحته أو فساده.
أنتوان : إن الرجل مجنون يا مولاي، إذا سمعت حديثه تظنه يكلمك بالهندية، وإذا تنازلت لمقابلته فسترى.
الكردينال : وهو قد طلب مني مرارًا أن أمهد له سبيل التشرف بالمثول أمام جلالتكم، أفيأمر بذلك مولاي؟
الملك : نعم نأمر، لا بأس من مقابلته ففي الزوايا خبايا، اذهب أيها الحاجب وادعُ كولومب إلى مقابلة مولاك.
الحاجب : سمعًا وطاعةً يا مولاي.
الملك : سنرى هذا الرجل ونسمع ما عنده من الأفكار، ولا يبعد أن يكون صاحب مقدرة عقلية وقد تصدق مزاعمهُ، فما ينبت النرجس إلا من بصل.
المرشد : ما الأخبار الجديدة؟
الملك : أخبار لا تسرك، أخبار الحرب يا فرنندو.
المرشد (يهزُّ رأْسهُ) : ما أشر الحرب!

المشهد الخامس

(المذكورون وكولومب)
الحاجب : مولاي، بالباب كريستوف كولومب، أتأمر بدخوله الآن؟
الملك : قل له يدخل.
أنتوان : ستسمع من مضحكاته ما يجعلك تأسف عليه.
كولومب : سلام عليك أيها الملك العظيم.
الملك : أأنت تزعم أن في الدنيا عالَمًا مجهولًا وتقدر على اكتشافه؟
كولومب : نعم مولاي، وقد عرضت أفكاري على عدة ممالك، ولم يسمع أحد طلبي، وإذا أمرت جلالتك فبراهيني عديدة وحجتي قوية دامغة.
أنتوان (يهز رأسه) : آه ما أشد عناد هذا الرجل!
الملك : قد كنت أحب سماع براهينك ولكن الوقت لا يساعدني الآن فسأجتمع بك مرة أخرى في غرفتي الخاصة وندرس المسألة درسًا مدققًا (إلى المرشد) اجمع يا فرنندو علماء الفلك في مملكتي، وتباحثوا مع كولومب في هذه المسألة، فالحقيقة بنت البحث.
المرشد : أمرك يا مولاي، وفي أي مكان ترخص باجتماعهم.
الملك : في دير مار إسطفانوس للرهبان الدومينيكان، وأنت يا كولومب، سأمدُّ لك يد المساعدة عن قريب كيف كان الأمر.
كولومب : شكرًا لك يا مولاي (ويذهب).

المشهد السادس

(الملك – الكردينال – ألونزو – ستنجل – حاجب)
الكردينال : إن هذا الفكر يا سيدي الملك لمن أسمى الأفكار، آه ما أجلَّ هذا الفخر الذي ستكتسبهُ مملكتنا إذا تم نجاح هذا المشروع الخطير، فسيزداد عدد المسيحيين إن شاء الله، إننا لا نجهل خطر هذا العمل، وها أنا متصور أمام عيني العقبات التي تقف في سبيله كالجبال الشماء، فخزينة المملكة مهزولة بداعي حرب الأندلس، ولا أدري ما يكون من عاقبة هذه الحرب الطاحنة التي أفقدتنا أموالنا ورجالنا!
ألونزو : ستنتهي والنصر بجانب العلم الإسباني إن شاء الله.
ستنجل : ولكن كيف كان الأمر لا يجب أن نهمل كريستوف كولومب، بل يجب أن يرى جلالة مولاي بآرائه وأفكاره التي أدهشت العلماء وأصحاب الأفكار.
الملك : سنرى بعدما يبسط لنا سيادة المرشد خلاصة الجلسة التي يعقدونها الآن، ولا يبعد أن أعضد هذا الرجل إذا لم يتطلب مشروعه مالًا وافرًا ومعدات جزيلة.
الكردينال : ولكنني أرى أنتوان سمير جلالتكم يعارض أشد معارضة هذا الفكر، ويعده من الخرافات والبدع الحديثة.
ألونزو : ويصف مُصدِّقيه بالحماقة والجهل، وقد كان المرشد يزعم زعمهُ، أما الآن فلا يثبت ولا ينفي.
الملك : هكذا يصنع الحكيم في مثل هذه الأمور، وإذا رفض المرشد فذلك لأنه يخاف أن تهلك نفس واحدة من رعيته في سبيل هذا العمل، وهو مسيحي صادق ضنين بالنفوس، يحب خير المملكة وسعادة الشعب، وقد أخبر الملكة بأنه لم يسمح لكولومب بالدخول لعلمه بأنه لا يصادف التفاتًا لديها نظرًا لارتباك أفكارها.
ألونزو : ما أصدق هذا السيد الجليل وأشد إخلاصه!
الكردينال : إنه يفعل واجباته.
الملك : ولهذا يستحق الشكر الجزيل؛ لإننا في زمان قلَّ من يلتفت إلى واجباته.
حاجب (يلتفت إلى الخارج حيث يسمع وقع أقدام ويقول) : مولاي، قد أقبل المرشد ومعه أنتوان وكولومب يطلبون المثول أمام جلالتكم.
الملك : فليدخلوا (يخرج الحاجب) يقال إن ملكي فرنسا وإنكلترة أعارا هذه المسألة الخطيرة التفاتهما.

(يدخل المرشد وأنتوان وكولومب.)

المرشد : مولاي، عرضت أفكار كولومب على لجنة العلماء والفلكيين وجمعتهُ بهم، وبعد البحث الطويل، والجدال العنيف، كذَّبوا كلهم زعمه ولم يعتدَّ بقوله غير رهبان الدير.
أنتوان : إنه لضلال مبين، فلو كان يوجد عالَم جديد لما بقي إلى الآن في زوايا الخفيان.
كولومب : قد أوردت لهم يا مولاي البراهين الحسية، ولكنهم مع ذلك بقوا مصرين مكابرين، ولا حجة لهم غير قولهم هذا محال.
الملك (إلى أنتوان) : أهذه كل براهينكم وحججكم؟
أنتوان : مولاي، إن هذا الرجل بوم خرَّاب، ونذير بالدمار؛ فإن ملك الترانسفال قد بحث بمسألته وأرسل بحارة فعادوا بعد أسابيع يهزءُون به.
الملك : وما رأيك أيها المرشد الفاضل فأنت فلكي ماهر علَّامة كبير؟ فقل لنا وكن مرشد الدين والدنيا.
المرشد : إن الحكم في مسألة كهذه يستوجب إعنات الرويَّة، ولكن أفكار كولومب ليست ببعيدة التصديق.
أنتوان : إنها لكفر وبهتان وهي تناقض الكتاب المقدس.
المرشد : إن البحث في أمور الدين لا يعنيك يا نديم الملك، ولكنكم جماعة علماء هذا الزمان تتخذون الدين ترسًا تحتمون به لقضاء غاياتكم، إن العلم والدين أخوان وإن حاولتم التفريق بينهما، الدين لا يخالف هذا المشروع، أليس الله هو خالق كل شيء؟ أيمكن أن تكون أنت خالق ذلك العالم يا حضرة النديم الفلكي إذا اكتشفه كريستوف كولومب؟ فلا تتذرع بالدين لقضاء مآربك وتأييد رأيك، فالرأي لا يُؤيَّد بغير الحجة والبرهان.
الملك (إلى المرشد) : نطقت بالصواب يا سيادة المرشد.
حاجب : مولاي، بالباب رسول.
الملك : قل له يدخل، لا شك أنه آتٍ من غرناطة، فماذا جرى؟
الرسول : مولاي، إن موقفنا خطر في بلاد الأندلس والحامية في احتياج إلى الذخائر.
الملك (يهم بالخروج) : إلى كولومب! سأساعدك بعد انقضاء الحرب فقَرَّ عينًا.
كولومب : أطال الله بقاءك أيها الملك الأجل.
الكردينال، ألونزو، ستنجل : ندعو لجلالتكم بالنصر.
(يرخى الستار)

القسم الثاني

المشهد السابع

(يبقى المسرح كما كان.)
كولومب (وحده) : وعود عرقوبية وآمال خائبة ما زلت في انتظارها في هذه المملكة، ما زلت يا فرديناند تعدني بمد يد المساعدة فتبرد نار اشتياقي إلى اكتشاف العالم الجديد، ولكن نار مُطلِك تحرق قلبي وتذيبه، يقولون إن وعد الحر دين، فكيف وعد الملوك العظام يا تُرى؟ آه لقد صح ما قاله الطغرائي:
غاضَ الوفاءُ وفاضَ المُطْلُ وانفرجَتْ
مسافةُ الخُلفِ بين القولِ والعملِ
أهكذا يظل كولومب كقصبة في مهب الريح، لقد اجتمع علماء الإسبان وقرروا أن آرائي لا يليق بالملوك أن يكترثوا لها، فأنا لا أقول الآن شيئًا، بل أدع التاريخ يكذبهم إذا قُدِّرت لي المساعدة، دعاني الملك والملكة إليهما وبعدما قضيت السنين في انتظار وعدهما قالا لي بأن الحالة الحاضرة لا تمكِّنهما من مساعدتي، وعند انتهاء الحرب سيكون ما أتمناه، ولكن هذا الجواب لا يفي بالغرض المقصود والضالة المنشودة، بل ليس غير جواب احتيالي للتخلص من لجاجتي، آه ما أتعس حظي! أنا أحبك يا مملكة إسبانيا ولهذا أتيت إليكِ ويعزُّ عليَّ أن أعود منكِ خائبًا، اليوم في هذا الصباح تلقيت رسالة من ملك فرنسا وكتابًا من ملك إنكلترة وتحريرًا من ملك البرتوغال وهذا الأخير يطلب أن أعود إليه، ولكنني لا أعود كَونِي أحب إسبانيا. أحب إسبانيا وحبذا لو بادلتني الحب فلا أكون محبًا غير محبوب.
يا مليكة إسبانيا ويا مليكها، ستندمان يومًا ما على كولومب، ستذكران أن الرجل غير مجنون، بل هو يتكلم عن معرفة أكيدة ولا يهرف بما لا يعرف، قبحكم الله أيها العلماء الجهلاء، وجوزيتم عني خيرًا يا نيافة الكردينال ويا رهبان الدير؛ فقد كنتم أكبر عضد لي، إنكم تمثلون الدين الذي يصافح العلم والعلماء الذين يضطهدونه حتى نسبوا إليَّ الكفر والضلال لو لم يكذبهم المرشد.
طفتُ البلادَ وما ظفرتُ بحاجَتِي
فكأنَّها العنقاءُ والخِلُّ الوفي
ربَّاه رفقًا إنني لا أبتغِي
مجدًا وغير رضاك لست بمصطفِ
فلأَنتَ مسئولٌ بتوفيقي ومَا التـ
ـتَوفيقُ إلَّا بالعليِّ الأشرفِ
قد جاهدت في سبيل آمالي، وسرت إليها على رغم أنف الأقدار، ولكن الدهر أبى إلا معاندتي فلا حول ولا، إنما:
على المَرءِ أن يسعَى إلى الخَيرِ جهدهُ
وليسَ عليه أن تتمَّ الرَّغائبُ
الآن سأغادر إسبانيا كما جئت إليها، وسألحد أفكاري في ضريح السكوت، منتظرًا الساعة التي ينفخ لها ببوق الحياة فتنهض، وإلا فستموت كما مات غيرها من ذي قبل.
غدًا سأجتمع بك أيها الأب جوان، وأقص عليك ما رأيت وسمعت، غدًا سأجتمع بولدي الصغير دياكو الذي تركته في دير رابيدا، ثم آخذه وأغادر هذه البلاد منقادًا بأزمة الأقدار، فالوداع يا مملكة إسبانيا الوداع!

(يذهب وتدخل الملكة والمرشد والكردينال.)

المشهد الثامن

(الملكة – الكردينال – المرشد – رسول – خادم)
الكردينال : اليوم تلقيت رسالة من كولومب يعلمنا بها عزمه على مغادرة إسبانيا، وربما يكون غادرها الآن.
الملكة : يعزُّ على إيزابلا ملكة إسبانيا أن تكون يدها قاصرة عن مساعدة كولومب، آه ما أشأم الحرب! فهي ويل على الظافر والمنكسر، فلولاها لاستطعت أن أمد كولومب بكل ما يشاء من المال، ولكن ما العمل ومطاليب الحرب أكثر من مطاليب النساء؟ في كل يوم وساعة تطلب منا الذخائر، وإذ كنا نعجز عن القيام بالفروض فكيف نقوم بالنوافل؟ فليذهب كولومب إلى حيث شاء ومتى قدرت على مساعدته ساعدته، ولا أظنه يبخل بالعود إلينا.
الكردينال : تاعس هذا الرجل! ورغمًا عن مناهضة علمائنا لآرائه، فأنا أعتقد بصحتها.
المرشد : قد يكون ذلك يا نيافة الكردينال، ولكن العلماء قاطبة سفَّهوا هذه الآراء وهزءُوا بها ولم يصدقها غير بعض الرهبان، وقد كانت جلسة العلماء الثانية ضربة قاضية على مزاعم كولومب فقوَّضت أركانها وهدمت بنيانها.
الملكة : تأكد يا أبي أننا إذا لم نساعد كولومب فما ذاك لأننا استهزأنا بآرائه، بل ذاك صادر عن عجزنا، هكذا يجب أن تعلم.
المرشد : كيف كان الأمر فحسنًا فعلتِ.
الكردينال : أراك أيها الأخ مقاومًا لكولومب بكل قواك.
المرشد : أنا لا أقاومه ولكن أرى مسألته ذات شأن.
الخادم : سيدتي، بالباب رسول يحمل إلى جلالتك هذا الكتاب (يدفعه إليها).
الملكة (تقرأ الكتاب ثم تقول) : قل للرسول أن يدخل (ثم تطرق مفكرة) (يذهب الخادم ويعود بالرسول) (إلى الكردينال والمرشد) هذا رسول بعث به إلينا الأب جوان راهب دير رابيدا وبه يخبرنا عن عود كولومب إلى الدير، وعزمه على الذهاب إلى بلاد الإنكليز، فما رأيكما الآن؟
الكردينال : إن سيدتي صاحبة الرأي الصائب.
الملكة : إذَنْ، عُد يا رسول إلى الدير، وقل للأب جوان يحضر عاجلًا؛ لنرى ما سيكون من أمر كولومب، إن هذه المسألة أشغلت بالي.
المرشد : فلتكن مشيئتك يا رب، لا تسمح بضر هذه المملكة المحبوبة وهلاك الشعب، أرشدنا إلى الخير يا الله.

(يدخل ألونزو وستنجل.)

المشهد التاسع

(ألونزو – ستنجل – الكردينال – المرشد – الملكة – جوان)
ألونزو : سيدتي، تناولت رسالة من صديقي القائد العام في الأندلس.
الملكة : بربك ما بها؟
ألونزو : أهوال يا سيدتي تشيب لها رءوس الأطفال، العرب تهاجم الإسبان كالليوث الكاسرة، يقتحمون الموت كأنهم يهاجمون جبانًا رعديدًا.
الكردينال : آه ما أشد بأس العرب! ما أشجع هذه السلالة النبيلة!
المرشد : بل ما أجنَّ البشر! وويل لمن تهرق بسببه نقطة دم بشرية.
ألونزو : اليوم يا سيدتي يحاصرون غرناطة، والعرب يدافعون عنها دفاع الليث عن أشباله.
ستنجل : وقد بلغني أن قد ذهب من رجالنا عدد غفير، وأن شوكة بأس العرب لا تزال قوية.
الملكة : سنشتري غرناطة بثمن غالٍ، ما أشد عذابي يا الله!
ستنجل : لا تجزعي يا سيدتي، فالله من وراء أعمالك.
الكردينال : يظهر أن النصر بجانب العلم الإسباني.
الملكة : حقق الله الآمال.
جوان (يدخل) : سيدتي، حسب أمرك السامي أتيت (يركع).
الملكة : انهض أيها الأب، انهض.
جوان : أتيت يا سيدتي لأعرض على أعتابكِ مسألة كولومب التي أشغلت نوادي ملوك هذا العصر، فما رأي جلالتكِ؟
الملكة : إن شواغل السياسة تلهيني عن المسألة، ولكن ما العمل وجوان يريد أن نهتم بها؟
جوان : نعم أريد ذلك؛ لأن به أجلَّ فخر للمملكة التي أحبها وأتمنى أن تكون سيدة البر والبحر.
الملكة : وماذا تعتقد برأي كولومب؟
جوان : بصحته يا سيدتي، وأكفل نجاح المشروع.
المرشد : الله وحده يعلم وهو الكفيل بالنجاح، فلنتكل عليه هكذا يجب أن تقول.
الملكة : دعهُ يتمم.
جوان : فبراهين كولومب ساطعة كنور الشمس لا ينكرها غير كليل البصر، وقد بلغني أن سيدتي قد ارتاحت إليها أعظم ارتياح.
الملكة : نعم، إن أفكاره ألفتت أنظاري.
جوان : فما المانع إِذنْ من رجوعه إلى نادي جلالتك والاتفاق معه؟
الملكة : لا مانع غير مشاغل الحرب الحاضرة.
جوان : إنها أزمة ستنقضي بعد حين، فإذا أمرتِ عقد الاتفاق معه الآن، وبعد انتهاء الحرب يبدأ بالعمل.
الملكة : إِذَن عُد من حيث أتيت وقل له يرجع.
جوان : أستودعك الله يا سيدتي (ويخرج).
الملكة : رافقتك السلامة.

المشهد العاشر

(الملك – الملكة – الكردينال – أنتوان – ألونزو – ستنجل – كولومب)
الملكة : ما أصعب سياسة الممالك وما أضيق طريقها! فإنها مكسوة بقتاد المصاعب، فإنني لا أبيت ليلة مرتاحة الفكر، أريد أن أرتاح ولا أقدر؛ لأن إسبانيا تطلب كل يوم مجدًا جديدًا.
المرشد : ما أشرَّ الطمع فقد أضر وما نفع!
الكردينال : نعم، إن النفوس العالية لا تشبع من المجد (يسمع وقع أقدام) هو ذا جلالة الملك مقبل، إنني أرى جبينه مشرقًا فماذا جرى؟

(يدخل الملك.)

الملكة : سيدي، ما أخبار الحرب؟
الملك : لا شيء جديد غير جهاد وعذاب في سبيل غرناطة.
الكردينال : ستجتني ثمرة لذيذة من عذابها إن شاء الله.
الملكة : دعونا من حديث الحرب فهو مؤثر محزن. (إلى الملك) قد كلفت الأب جوان أن يأمر كولومب بالرجوع.
الملك : وأي حاجة لنا بذلك الرجل؟
الملكة : اكتشاف العالم الجديد.
الملك (يهز رأسه) : وهل مضى زمن على ذهابه؟
الملكة : أظن كولومب يصل عن قريب.
الملك : قد كنت أفضِّل تأجيل هذا الأمر، ولكن ما كتب قد كتب، ولا يليق بالملوك أن تعود إلا عن الغلط.
ألونزو : لا محل للندم يا سيدي.
ستنجل : نعم، وملوك عديدون يحبون أن يعضدوا كولومب.
الملك : وأنا أحب أن أعضده، ولكن بغير الأزمة الحرجة.
أنتوان : نطقت بالصواب يا سيدي، ولا بأس من تأجيله.
الملك : لا أيها السمير، فنحن لسنا كصبيان الأزمة، قد دعوناه فيجب أن نقوم بما دعوناه لأجله، فكلام الملوك ملوك الكلام.

المشهد الحادي عشر

(المذكورون وكولومب)
خادم : سيدي، قد عاد الإيطالي، أتأمر بدخوله؟
الملك : نعم. (إلى الملكة) أنت قد دعوته فحدثيه بما تأمرين.

(كولومب يدخل ويحيي.)

الملكة : قد عزمنا يا كولومب على مساعدتك، وفي هذه الساعة سنرى في شروط الاتفاق ما بيننا، خذ يا ستنجل ورقة وقلمًا، واكتب مطاليب كولومب ومطاليبنا.

(ستنجل يتناول ورقة وقلمًا.)

كولومب (بعد الافتكار) : أولًا: أُلقَّب بالقائد الأكبر على البحور التي أكتشفها، وبنائب الملك على البلدان التي أفتتحها، وأُعطَى كل حقوق هذين اللقبين وامتيازاتهما. ثانيًا: لي عُشر أرباح تجارة تلك البلدان. ثالثًا: تقدمون لي اللوازم من سفن ورجال وذخائر وغير هذا لا أطلب.
أنتوان : غير هذا لا تطلب؟! هذا قليل قليل يا حضرة القائد، ويا نائب الملك. آه ما أعظم مطامعك! وإذا خسرت المملكة فأنت ماذا تدفع؟
المرشد : ماذا تريد أن يدفع وهو لا يملك شروى نقير؟
أنتوان : إِذَن فليدعنا وشأننا، فنحن في غنى عن مشترى الأسماك في الأبحار.
الملك : إذا كانت هذه مطاليبك فلا أمل لك عندنا في المساعدة، فدعنا واقصد سوانا.
الملكة (تتأثر) : آه ما أتعس حظ هذا الرجل!
الكردينال : وما أنكد طالعهُ!

(كولومب يخرج والكدر ظاهر على جبينه.)

الملك : هذا الرجل مطماع جسور، فاحذروا أن يحدثني أحد في شأنه فيما بعد، وأسدلوا على مطاليبه الستار.

(يخرج الملك ويتبعهُ أنتوان.)

المشهد الثاني عشر

(الملكة – ألونزو – ستنجل – الكردينال)
ستنجل : إنني أترامى على أقدامك وأسألك ألا تحرمي مملكة إسبانيا من شرف أبدي، إن كريستوف كولومب رجل نابغة نادر الذكاء وأفكاره سامية، ولا عبرة بفقره؛ فقد يوجد الدر في الأقذار، إن مشروعه يعود على المملكة بالخير فساعديه ناشدتك الله، عجبًا! كيف تترددين أمام مسألة ربحها وافر، والرجل لا يطلب غير سفينتين وثلاثين ألف ليرة؟ وما أعظم الأسف الذي يشملنا إذا اكتشف كولومب تلك البلدان بمساعدة مملكة غير مملكتنا!
ألونزو : نعم يا سيدتي، قد طلبهُ بعض الملوك وأنا اطلعت على كتاباتهم إلى هذا العلَّامة الكبير.
ستنجل : فساعديه يا سيدتي، فبمساعدته مرضاة الحق سبحانهُ وتعالى.
الملكة : إنني أخشى أن لا يرضى بذلك، وما رأيك يا مرشدي الجليل؟
المرشد : يفعل الله ما يشاء ويصعب عليَّ الحكم على المستقبل المجهول.
ستنجل : إِذَن لا أمل بذلك يا جلالة الملكة.
الملكة : بلى، أنا أقوم بذلك على اسم مملكة كستيليا، وها إني عزمت منذ الآن على رهن مجوهرات تاجي الملوكي، فإذا نجحت كان سروري عظيمًا، وإن خسرت فلا أسف على تلك الخسارة، وفي كل الأحوال سيحفظ لي التاريخ ذكرًا جميلًا وذلك حسبي وكفى (تأخذ ورقة وتكتب).
ألونزو : ما أكرم هذه الملكة! فإنها رجل في صورة امرأة، وملاك في صورة إنسان.
ستنجل : إنها العذراء الثانية التي ستنقذ عالمًا جديدًا بأسره من رق عبودية الهمجية.
الملكة : خذ أيها الجندي هذه الرسالة وابحث عن كولومب حتى تجده، ثم ادفعها إليه.

(الجندي يأخذ الرسالة.)

ستنجل : أنا ذاهب يا سيدتي لأجهز المعدات.
المرشد : وأنا أصلي إلى الله ليكلل سعيك بالنجاح.
ألونزو : إننا سنضحي كل غال ورخيص في سبيل هذه الخدمة الوطنية.

(يخرجون جميعهم.)

المشهد الثالث عشر

الملكة (وحدها) :
تَاجي ومجدِي والمقامُ السَّامي
سيظلُّ رهنًا كي أنالَ مرامي
إني وعدتُ بأن أمدَّ يدي إلى
كولومبَ هل أستَرْجِعنَّ كَلامي
إني عشقتُ العلمَ والعلماءَ من
صغرِي فقدِّس يا إلهُ غرامي
يا ربُّ لا أبغي بأعمالِي سوى
تمجيدِ إِسْمِك بارِئ الآنامِ
ربَّاه قرِّب ساعةً فيها أرى الدْ
دُنيا الجديدةَ قبلَ وقع حمامي
واجعَلْ فؤادَ الملك منعطفًا على
كولومبَ كي أحيَا بلا آلامِ
ستردِّدُ الأعصارُ: إيزابل قد
ضحَّتْ شعار المجدِ والإكرامِ
جعلتْ ضحيَّتها شعار الملك كي
تقضي لُبانَة عالم الأعلامِ
نعم هكذا سيقال، ولكنني لا أبالي بأحكام المؤرخين إن نسبوا إليَّ الطيش، وجعلوا في تاريخي نقطة سوداء إذا لم ينجح مشروع كولومب. ماذا يقول الملك يا ترى إذا درى بعزمي على رهن تاج ملكي؟ والله لا أدري، إنه سيغضب ولكنني أجيء إليه بذل وخضوع فيرق فؤاده كما رق فؤاد أحشورش على مليكته أستير، تلك قد سعت في خلاص شعبها وأنا أسعى الآن في خلاص شعب لا أعرفه ولا يعرفني، وبهذا أتمم وصية سيدي يسوع المسيح. ربَّاه خذ بيدي فأنت وحدك خير مسئول.

(تتكئ على كرسي بسُكُوت.)

المشهد الرابع عشر

(الملك – ألونزو – ستنجل – الكردينال – المرشد – كولومب)
ألونزو : سيدتي، قد اتصل بمسامع مولاي الملك عزمك الوطيد على مساعدة كولومب، وعن قريب سيأتي ليراك.
الملكة : ربَّاه! احمله على مساعدتي وخلصني من غيظه. وهل ظهرت على وجهه علائم استنكار فعلي؟
ستنجل : لا يخلو الأمر من ذلك، ولكن المرأة الفاضلة تستطيع أن تتصرف بقلب زوجها وأمياله كما تشاء.
ألونزو : ولو كان ملكًا فسلطان الحب الصحيح فوق كل سلطان.
الملكة : حقق الله أقوالكم (يدخل الملك) (تركع) عفوًا يا سيدي، إذا كنت فعلت أمرًا خطيرًا قبل استمداد رأيك. قد كتبت إلى كولومب وعن قريب يصل إلى هذا المكان.
الملك : هذه هي المرة الثانية التي تأتين بها مثل هذا الفعل (يهز رأسه).
الملكة : عفوك سيدي، وإذا شئت تفضل بوضع الشروط.
الملك : الشروط حبر على ورق، ولكن أين المال؟
الملكة : أنا أتعهد بتقديمه وقد عزمت على رهن مجوهرات تاجي.
الملك : رهن تاج الملك؟ أمر غريب! هذا لا يكون.
ألونزو : ونحن لا نرضى بذلك أيضًا.
ستنجل : أنا أجمع المال، بل قد جمعت أكثر من نصفه.
الملكة : رباه ما خاب من يدعوك.
الملك : وكيف جمعته أيها الوزير؟
ستنجل : أقمت قرضًا على الرعايا، وضربت الضرائب على الشعب.
الملك : آه ما أقسى الضرائب! إنها مقوضة أركان العروش وزارعة بذور بغض الملك في قلوب الشعب، أنا لا أرضى بالضرائب أيها الوزير، الشعب فقير فلا تحرجوه، الشعب نائم فلا توقظوه، وليكن لنا قدوة بمرقس أوراليس الذي باع أثاث قصره ولم يطلب بارة واحدة من رعيته، أرجع المال إلى الشعب، فقد كفاه ما قاساه من الضيق في هذه الحرب الأخيرة.
ستنجل : لقد دفعوا يا مولاي عن طيبة خاطر.
الملك : آه ما أكرم شعب إسبانيا! لا بأس، ولكن لا تجمع شيئًا فيما بعد، خذ أيها المرشد، واكتب الشروط لتدفع إلى كولومب فور دخوله، فإذا قَبِلَ بها كان به، وإلا أخرجوه من أمامي، واطردوه من أرض إسبانيا فقد أزعجنا هذا الرجل.

صك الاتفاق

  • (١)

    لكولومب وسليلتهِ لقب الأميرال الأكبر في البحور والبلدان والأراضي التي يكتشفها مع حقوق هذا اللقب وإنعاماته.

  • (٢)

    يُلقَّب كولومب بنائب ملك على الأراضي والبلدان التي يكتشفها، وأمر تولي المناصب في الجزائر والأقاليم منوط بالملك، إنما لكولومب حق الإنهاء بثلاثة يختار الملك واحدًا منهم.

  • (٣)

    لكولومب عُشر الأرباح الشرعية التي تنتج عن تجارة البلدان التي يكتشفها.

  • (٤)

    لكولومب أو وكيله حق فصل الخلاف الذي يقع في إسبانيا بالأمور التجارية في البلدان المار ذكرها.

  • (٥)

    يُقدَّم لكولومب ثمن المصارفات المقتضية عن المستقبل والحاضر للسفر إلى البلدان المراد كشفها، وله الحق بثمن الأرباح الناتجة من تلك البلدان.

في ١٧ نيسان سنة ١٤٩٢

(كولومب يدخل مسلِّمًا.)

الملك : اعرض على كولومب الشروط أيها المرشد، فإننا نريد أن نضع حدًّا لهذه المسألة.
المرشد : هذه هي الشروط يا كولومب، فاقرأها واشكر إنعام الملك.
كولومب (يقرؤها) : قد قبلت بها (يضحك من شدة الفرح).
الملك : إِذَن اخرجوا أيها الوزراء، وأعدوا السفن والبحارة الذين سيرافقون كولومب، وعاملوا الشعب بالرفق واللين، وأنت أيها المرشد اكتب لكولومب أمرًا به نقضي على سائر بلدان المملكة بتقديم كل ما يلزم لهُ.
كولومب : الآن قد أدركت ضالتي المنشودة، الآن نفسي فرحت، شكرًا لك أيها الملك، وأنتِ أيتها الملكة، لا أشكركِ بل أدع شكرك للتاريخ، وإذا سكت تنطق الحجارة.

(يخرج ومعهُ المرشد والوزيران.)

المشهد الخامس عشر

(الملك – الملكة – الكردينال – ألونزو – مرتين – المرشد – الشعب – أنتوان)
الكردينال : ما رأيك مولاي؟ وهل تظن أحدًا من الشعب يخاطر بنفسه ويرافق كولومب؟ فأنا لا أظن ذلك.
الملك : وأنا لا أظن، ولكن القوة لازمة في بعض الأحيان.
الملكة : وكيف ذلك؟
الملك : إذا لم يقنع الشعب يجب أن نخضعه بالقوة.
الكردينال : مولاي، لا تعامل شعبك بالقسوة، فما لاقاه من شقاء الحرب يكفيه.
الملكة : لا أمل بانقياد الشعب عن طيبة خاطر.
الملك : ربَّاه، الأمر لشديد، ألهمني أصنع مشيئتك (يُسمع ضجيج).
ألونزو (يدخل) : قد هاج الشعب وثارت الخواطر وكاد الناس يضربوننا بالعصيِّ، فماذا تأمر أن نجري؟

(الملك يطرق برأسه.)

الملكة : ما هذا الضجيج؟
ألونزو : جمهور من الشعب يحدثون مظاهرة.
الملك : احذروا أن يشتمهم أحد فأنا أنا أخاطبهم.
أنتوان : إن كولومب لا يغادر إسبانيا قبل أن يهدم الملكية، قبَّحه الله من غراب سوء وبوم دمار.

(ضجيج عظيم وهتاف.)

الشعب : لا نسافر، لا نسافر، ما هذا الجور؟ ما هذا الظلم؟ (يدخلون على الملك).
ألونزو : اسمعوا أيها الشعب، فالملك يريد أن يخاطبكم.
الشعب : لا نريد، لا نرضى.
الملك : اسمعوا، أنا لا أريد غير شرف إسبانيا ومجدها؛ ولهذا أدعوكم إلى مناصرة كولومب.
زعيم : ما هذا الشرف؟ ما هذا الوهم؟ إذا كنت تريد أن تميتنا فمر بقتلنا بين أهلنا وأصحابنا، ولا تطرحنا في أعماق اللجج، فنحن لا نغادر وطننا، بل نفضِّل الموت فيه.
الشعب : نعم، نعم.
الملكة : أنصتوا يا أبنائي، أنا ملكتكم إيزابلا أخاطبكم.
الشعب : أنتِ أُمنا فأشفقي علينا.
الملك : إذا لم تخضعوا أمرت الجنود بإجباركم.
الشعب : حبذا الموت في الوطن.
مرتين : إخواني، اسمعوا، تعلمون أنني رجل منكم، وحياتي عزيزة لديَّ، فثروتي واسعة، وشهرتي عظيمة، ولا أطمع بشيء من هذه الدنيا، أنا ملَّاح مشهور، وأريد أن أرافق كولومب، فما قولكم؟ (إلى الملك) مولاي، أنا أول المتطوعين في خدمة كولومب، وأقدم مالي إذا لزم الأمر.

(يسكت الجمهور.)

الكردينال : هو ذا مرتين ألونزو يتقدم إلى مرافقة كولومب، ولو كان في الأمر خطر لما تقدم، فما رأيكم؟ أَلَا تُسلِّمون بالذهاب؟
البحارة : سلَّمنا، أطعنا.
الملك : انفخوا الأبواق، وأنشدوا نشيد الحرب، وسيروا إلى افتتاح العالم الجديد.

(تنفخ الأبواق.)

(نشيد):

يا حبَّذا فتحٌ قريب
ألبابُنا فيه تَطيب
يا قومُ سيرُوا وأَقدِموا
وإلى البِحَار تَقدَّمُوا
فلَكَمْ وراهَا مَغنمُ
وهُنالكَ الأمرُ العجيب
سيرُوا ولا تَخشوا الخَطَر
حتى تفُوزُوا بالوطَن
لا تَرهَبوا بطشَ القدر
إن كانَ تِرسُكم الصَّليب

وعند الانتهاء يركع جميع المسافرين، ويباركهم الكردينال.

(يرخى الستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤