الفصل الخامس

القسم الأول

(يظهر الملعب بهيئة مقبرة وعلى قبر الملكة إكليل.)

المشهد الأول

(جنديان)
أول جندي : لقد طال غياب جلالة الملك في حديقة المقبرة.
ثاني جندي : نعم، فمحبته للملكة كانت عظيمة، ولقد كان موتها مجلبة أحزان وكدر، فهو لا تصفو له ساعة ولم يعد يطيق ترداد اسمها على مسامع جلالته.
أول : ما أجمل هذا الإكليل الذي وضعه اليوم على قبرها! إن مشهد الموت لمؤثر.
ثانٍ : وأشد تأثيرًا منه ركوع ملك عظيم فوق قبر منفردًا، إن سلطان الموت لأعظم من كل سلطان.
أول : دعنا يا أخي من حديث المقابر وأهل القبور.
ثانٍ : وبماذا تريد أن نتحدث؟
أول : حدثني عن كولومب، فقد سمعت أن أخاه برتلماوس جاء أمس يطالب بحقوقه، ويسأل جلالة الملك القيام بالعهود.
ثانٍ : ولكن ألم تعلم أن جلالة الملك طرد برتلماوس، وقال له: إن قيامي بما وعدت يهدم أركان مملكتي، ويحمل الإسبان على الخروج.
أول : ولمَ ذلك؟
ثانٍ : ذلك لأن الأهلين هناك يكرهون جدًّا كولومب وأخويه.
أول : ولماذا لم يحضر كولومب بنفسه؟
ثانٍ : إن كولومب في أشد الخطر، وقد ثقلت عليه وطأة المرض، وهو في مدينة سافيليا، فسفرته الأخيرة إلى الجماييك كانت ويلات ومصائب، وقد قذفته الأنواء إلى العالم الجديد فعامله حاكمه أوفاندو معاملة سيئة، وتكسرت مراكبه ولم يبقَ معه غير سفينة واحدة، جاء بها إلى سان لوكار ميناء الأندلس، بعدما قاسى أشد الاضطهاد.
أول : مسكين هذا الرجل فإنه يسير والمصائب جنبًا لجنب!
ثانٍ : أتظن الملك يجيب طلبه؟
أول : لا، لا، هذا لا يكون.
ثانٍ : إِذَن خرج برتلماوس غاضبًا ساخطًا.
أول : وسيعود كولومب أيضًا مثله، فقد بلغنا أنه بعد شفائه سيحضر لقيام الدعوى، ويطالب بحقوقه رسميًّا.
ثانٍ : ومن يطالب؟ أيكون الملك المحاكم والحكم ويأمل كولومب بنجاح دعواه؟! (يهز برأسه) لا تعاند من إذا قال فعل يا أخي.
أول : مسكين كولومب! لقد كانت الملكة تعضده ولكنها ماتت، وبموتها موت كل آمال كولومب.
ثانٍ : أبلغَهُ موت الملكة يا ترى؟
أول : لا ريب، فالملكة ليست برجل خامل الذكر، حتى لا يشيع خبر موتها.
ثانٍ : أصبت فيما تقول، ولكن لا بد أن يحضر.
أول : إذا لم يمت، أنسيت أنك قلت لي إنه مريض.
ثانٍ : أنا أنسى، فالكذاب يلزم أن يكون قوي الذاكرة، وقد مارسنا هذه الصنعة في قصر مولانا الملك؛ لأن الظروف تقضي علينا بالكذب غالبًا، والملوك لا ترضيهم الحقيقة كل حين.
أول : دع هذه المجون، أنسيت أنَّا في مقام الجد؟
ثانٍ : خلِّ السياسة لأصحابها، فإنها تشغل الفكر ولا فائدة نجتنيها منها، فالمجون أحرى بنا وأولى.
أول : مهلًا، اجلس الجلوس العسكري، أسمع وقع أقدام، أظن الملك مقبلًا.

(يجلس الجنديان على السلاح.)

المشهد الثاني

(كولومب – الجنديان)
ثانٍ : لا، هذا كولومب المسكين.

(يدخل كولومب ويرتمي على القبر.)

كولومب : هنا على هذا الضريح على قبر الملكة إيزابل يجب أن تموت يا كولومب، على هذا اللحد يجب أن تسكب الدموع، وعلى أحد جانبيه أن ترقد رقادًا أبديًّا جزاء معرفة الجميل، شلت يمينك أيها الموت، كيف قوَّضت أركان ذلك الهيكل الشريف رمز العفاف والطهارة؟! آه ما أقوى شوكتك! فإنك لا تخاف العروش ولا تهاب الجنود! أصم أبكم لا تشفق ولا ترحم، أيها القبر، انطق، تكلم، خبرني عن فناء هذه الدنيا، وحدثني كيف تعامل الملوك؟ آه إنه لا يجيب!
إيزابل سيدتي، أجيبي عبدك الواقف ينتظر الجواب، ما هذا السكوت؟ عهدتكِ لا تسكتين عن جوابي! قد كدت ترهنين تاجك حبًّا بي، أتبخلين عليَّ بكلمة في هذا الموقف الأخير، إيزابل أنا راكع على الحصى فأنهضيني كما أنهضتني الأمس عن البسط الحريرية، أين تلك اليد الناعمة؟ آه قد أكلها الدود! (يغص بالبكاء) تكلمي يا مليكتي، عهدتك طليقة اللسان، آه أخرسها الموت! يا ملكة كستيليا نظرة واحدة إلى كولومب، نظرة واحدة تحييني يا إيزابل، قومي انظري ظلم فردينان.
أول : ويحه، اسمع ما يقول!

(يشير الثاني بالسكوت.)

كولومب : قومي انظري كيف يخلف الملوك الوعود! انهضي وانتقمي بعدلك من الظلم، وأنقذي كولومب من مخالب المستبدين … ما تراني أضع على قبرك! أإكليلًا جميلًا؟ أتمثالًا من الذهب الذي اغتنمناه من العالم الجديد؟ وا أسفاه لا أملك شيئًا من ذلك، ولكن بقي لي واحد وهو هذا الصليب الذي رافقني في كل أسفاري، فها أنا أضعه تذكارًا على قبرك ليؤنسك في وحشة الليل، فاقبليه مني يا ولية نعمتي، أيها الضريح، أشفق عليها فقد كانت مصدر الشفقة والرحمة، ويا ملائكة السماء احرسي جثمانها؛ فقد كانت ملاكًا بصورة إنسان، لقد عاد كولومب يا إيزابل فقومي بحقك وانظريه، ولكن هيهات!(نشيد):
سلامٌ على قبر به الفضل والتقى
سلامٌ على مثوى الطهارة والمجد
سلامٌ على لحدٍ به العدل نائم
فيا ليتني قد كنت في ذلك اللحد
سلامٌ على شمس المكارم والعُلى
فلما توارت غاب مع نورها مجدي
سلامٌ على جيدٍ هوى فوقه الثرى
وقد كان يشكو أمس من حملة العقد
سلامٌ على عرشٍ هوى بعد فقدها
وكان وطيد الركن من قبل ذا الفقد
سلامٌ على كولومب من بعد أُمه
فيا ليتني قد غبت قبلك في لحدي
سلامٌ على الدنيا الجديدة بعدها
سلامٌ على الدنيا سلام على الهند
فلا أملٌ أرجوه من بعد فقدها
وهل يُرتجَى الإصلاح من فاقد الرشد؟
«إيزابل» رقي وارحمي ضعف هائم
أسيدتي رفقًا وعطفًا على العبد!
«إيزابل» فردينان زوجك ظالم
فقومي انظريه اليوم يخلف بالوعد
«إيزابل» فردينان خان عهوده
وويلاه من ملك غدا ناكث العهد!
مليكة قلبي، إن بُعدك قاتلي
فيا رب صبِّرني على لوعة البعد!
تُرى نلتقي من بعد بُعدٍ وجفوة
تُرى نلتقي من بعد هجرٍ ومن بعد؟
وداعًا إلى حينٍ وإنَّا سنلتقي
على رغم أنف الدهر في جنة الخلد
والآن فاسمحي لي أن أقبِّل ثرى ضريحك قبلة الوداع، على أمل اللقاء في عالم الأبدية.

(يظهر الملك قادمًا من وراء القبر.)

المشهد الثالث

(الملك – كولومب – الجنديان)
الملك : ما هذا النواح؟ ما هذا العويل؟ ومن دخل المقبرة يا أوفاندو؟
أول جندي : كريستوف كولومب يبكي على قبر الملكة.
الملك : أجاء يزعجها في مماتها كما أزعجها في حياتها؟ إن مطاليبه كثيرة، فما جاء يطلب؟ آه من هذه المطاليب!
كولومب : أطلب العدل والإنصاف أيها المولى.
الملك : وممن تريد أن ننصفك يا كولومب؟
كولومب : من الملك فرديناند.
الملك : وماذا تطلب منه؟
كولومب : القيام بالعهود وإعطاء كل ذي حق حقه.
الملك : قل أيُّ حق لك؟
كولومب : لا إخالك تجهل، وهل تنكر إمضاك؟
الملك : يريد أن يعاملنا قانونيًّا، على رسلك أيها الرجل.
كولومب : واعدل أيها الملك العظيم.
الملك : أنا عادل ولكن عين الطمع حديدة البصر.
كولومب : لقد أرسلت أخي برتلماوس وطردتموه فأتيت بنفسي لأطلب حقي فماذا تجيب يا مولاي؟
الملك : نجيبك كما أجبنا أخاك، أنا هو المملكة، ولنا أن نفعل ما نشاء.
كولومب : ليس على الظالم من حرج (على حدة) صرِّح، لم أفهم شيئًا.
الملك : لا حق لك علينا، وإذا جدنا عليك بشيء فذلك من حلمنا.
كولومب : أطلب عدلًا لا رحمة، اذكر وعودك أيها الملك شفاهًا وخطًّا، اذكر هذه الشروط (ويظهرها) إن التاريخ يحكم عليك بها.
الملك : أنا في مأمن حكومة التاريخ، إن حكمها لي لا عليَّ.
كولومب : التاريخ لا يرتشي، فرديناند، أستحلفك بهذا الضريح، أستحلفك بعظام إيزابلا، أستحلفك بهذه الراقدة رقادًا هادئًا، أنصفني.
الملك (يغطي وجهه بيديه) : لا توقظها أيها الرجل، لا تزعج عظامها.
كولومب : إن روحها تطل علينا من فراديس الجنان، فلا تدعها تغضب.
الملك : لا تلفظ اسمها فيما بعد، لقد قدتها إلى القبر بمطاليبك المزعجة، فلا تلحقها إلى الأبدية.
كولومب : مظالمك قادتها إلى الموت!

(جندي يستل سيفًا ليضرب به كولومب.)

الملك : احذر أيها الجندي، مكانك، أليس من العار أن ننتقم من المجانين؟
كولومب : مجنون لأني أرجو عدلك؟
الملك : اذهب أيها الرجل، اذهب أنا أسامحك، وإن كنت قد أهنت الملوك.
كولومب : أيسامح الظالم المظلوم؟! هذا أمر غريب، أنا أسامحك أيها الملك؛ لأنني أحس بدنو الأجل، أسامحك لأنني سأغادر هذا العالم، ومن يترك هذا العالم يصفح عن كل آثامه.
الملك : إِذَن لماذا تطالب بهذه الحدة والعنف؟
كولومب : أطالب لئلَّا يقال مات كولومب ولم ينصفه الملك، أحاول أن أمحو بهذا الطلب نقطة سوداء في تاريخ حياتك، ولكن يظهر أنك لا تريد.
الملك : لا، لا أريد (يهم بالخروج).
كولومب : كلمة واحدة يا فردينان.
الملك : لا كلمة ولا كلمتان.

(يخرج الجميع إلا كولومب.)

المشهد الرابع

كولومب (وحده) :
هذا جزاء «سِنِمَّار» ظفرت به
من المليك فأين العدل يا بشر؟!
سيأخذ الله ثأري وهو لي عضد
ومن عدالته يا ويل من غدروا!
عدلًا ملوك الورى فالله يرمقكم
عن عرشه وهو للمظلوم ينتصر
لا تجزعوا يا بني الدنيا لمظلمة
جاء الملوك بها يومًا بل اصطبروا
لم يرشفونا كئُوس الظلم مترعة
إلا وفي كأس ذاك الظلم قد سكروا
لكم بما ذقته يا إخوتي مثلٌ
الله أكبر وهو الفوز والوطر
آه من الجور! آه من الظلم! من لي بأن تكوني ناظرة يا إيزابلا شقاء كولومب، يا ليتكِ بقيت حية لتشاهدي آخر مشهد من رواية حياتي المحزنة، آه إني أحس بارتخاء في مفاصلي، ستعاودني نوبة المرض، إني أشعر بدنو الأجل، بقرب الاجتماع بالملكة إيزابل بين الملأ الأعلى، حيث الحق والنور، حيث العدل والرحمة، فهناك لا ظلم ولا خيانة ولا غدر، آه من ناس هذا العالم فأكثرهم خونة ناكرو الجميل … ما هذا الضعف ما هذا الدوار؟! ساعدني يا الله لأصل إلى فراشي ولا أحتاج إلى أحد ينقلني إليه، فأنا مسكين لا نصير لي.
من لي بأن أراك يا ولدي المحبوب؛ لأودعك وأوصيك لتخط على قبري مات مظلومًا، قرَّب الله الساعة التي أقول بها على فراش الموت: سامحك الله يا فردينان، واغفر يا رب لمن أساء وأخطأ إليَّ.
(ستار)

القسم الثاني

(يمثل الملعب غرفة نوم والملك راقد في سريره.)

المشهد الخامس

(الملك – الأشباح)
الشبح : فردينان، فردينان، انهض.
فردينان (يتحرك في فراشه بين النائم والمستيقظ) : ما أطول الليل!
الشبح : نعم، ليل الظالمين طويل، استفق يا فردينان.
فردينان : ربَّاه! أسمع صوتًا، من يجسر على إقلاق الملك؟!
الشبح : الحقيقة فوق كل ملك، العدالة أكبر من كل سلطان، استيقظ يا فردينان.
فردينان : تبددي أيتها الأحلام، تفرقي أيتها التصورات المزعجة.
الشبح : فردينان، ويلك من يوم الحساب! فردينان، أنت ظالم!
فردينان : من هو هذا الوقح؟
الشبح : هذا أنا يا ظالم.
فردينان : ماذا أرى؟ ماذا أنظر؟ ما هذا الشبح؟ جنودي!
الشبح : اسمع لأناقشك الحساب، فأنا لست من هذا العالم، أنا روح، وهيهات أن تقوى الجبلة الترابية على الأرواح!
فردينان (بصوت مرتجف) : ماذا تريد؟ قل ولا تعذبني.
الشبح : العدل، القيام بالعهود.
الشبحان : العدل، العدل.
فردينان : إنه يخيفني، عجبًا! أنا فردينان لا أخاف الجيوش الجرارة، كيف أخاف الظل؟ أين أنت أيها السيف؟ (يمد يده إلى سيفه).
الشبح : خلِّ عنك السيف، فلست من لحم ودم.

(يقع السيف من يده ويرتجف.)

فردينان : قل من أنت؟ ولا تطل عذابي أيها الخيال، قل ما تريد.
الشبح : أريد إنصاف كولومب، أريد القيام بالعهود.
فردينان : يا رب، بقيت الأرواح لم تطالب بحقوقه، وها قد أتت الآن فما أصنع؟ قل من أنت أيها الشبح؟
الشبح : هذا لا يعنيك، فقم بعهودك يا رجل.
فردينان : ناشدتك الله، قل من أنت أيها الخيال وأنا لا أخيب لك طلبًا.
الشبح : أنا ملكة كستيليا، أنا روح إيزابل، ثم يتوارى الشبح ويتبعه الشبحان.
فردينان (ينهض الملك مذعورًا وينير المصباح ويضرب الجرس) : ما هذا الليل المزعج؟ يا الله! (يدخل أوفاندو) قل للوزراء والحاشية أن يعجلوا بالحضور.

المشهد السادس

(الملك – ستنجل – ألونزو – الكردينال – وزير – جندي)
فردينان : يا رب ألا يفارقني ظل كولومب أين سرت؟! أأرسل الله هذا الرجل حتى يعذبني ويكدر صفاء عيشي؟! ما أنكد حظي! أجل، لا راحة لي إلا بإنصاف الرجل، فلننصفه ونرتاح من كل هذا العذاب (يدخل الوزراء) لقد دعوتكم لنتباحث في أمر كولومب.
ستنجل : ماذا جرى؟ خير إن شاء الله.
فردينان : ظهرت لي في هذا الليل روح إيزابل تقضي بإنصاف كولومب.
ألونزو : ما هذه الأوهام يا مولاي؟!
فردينان : ويحك قد رأيتها بأم عيني وأرعدت فرائصي بكلامها الجريء ومنظرها الهائل، والآن عزمت على إعطاء الرجل حقه.
ألونزو : أنسيت يا مولاي تقريعه لك وغضبك عليه؟ أيليق بالملوك أن تعود عن أقوالها؟!
فردينان : ويلاه! ما هذه الحيرة؟!
الكردينال : وأي حيرة يا مولاي؟
فردينان : من هذا الرجل.
الكردينال : لا داعي للحيرة، ولك أن تسمع نداء الضمير.
فردينان : نعم يا نيافة الكردينال، سنعيد الرجل إلى مقامه، وإذا عاد أحد العامة عن غلطه يعدُّون له ذلك فخرًا عظيمًا، فكيف لو عاد الملك؟ لنعلِّم الشعب أمثولة جديدة بعودنا عن خطئنا.
الكردينال : بارك الله فيك يا مولاي، إنك بذلك ترضي الله.
فردينان : اخرج أيها الحاجب، وعجِّل بحضور كولومب إلى هذا النادي.
ألونزو : هذا لا يليق يا مولاي.
فردينان : عجل أيها الحاجب، عجل فلا مرد لأوامرنا.

(يخرج الحاجب.)

المشهد السابع

(المذكورون – دياكو كولومب)
فردينان : يا نيافة الكردينال، أيها الوزراء والأمراء:
إذا فعلنا هذا الأمر فإنما نحن مشيئة الله، وننتصر للعدل، ونمحو الظلم الذي فعلناه عن غير عمد. إن الملوك يقترفون المظالم أحيانًا وهم يحسبون أنهم يفعلون العدل ويلبُّون أوامر الشريعة، فمثل هؤلاء يجب ألَّا نسميهم ظالمين؛ لأنهم لم يبنوا حكمهم إلا على ما اتصل بهم، فاعذروني إذا كنت ظلمت كولومب، وها أنا أطلب المغفرة من التاريخ.

(يدخل الحاجب.)

الحاجب : مولاي، صان الله مملكة إسبانيا من كل داهية، وحفظ جلالة ملكها الأعظم (ويقدم الرسالة).
فردينان (بعدما يقرأ الرسالة) : أنعَى إليكم أيها الوزراء كريستوف كولومب المكتشف العظيم، مات ولكن آثاره لم تمت، قضى ويا لهف نفسي عليه! فقد عاش عظيمًا ومات عظيمًا، مات مكسور الخاطر وليته عاش إلى هذه الساعة لكان فارق الحياة قرير العين عزيزًا كريمًا، ولكن لله في خلقه شئون، سر يا كولومب بأمان إلى العرش السموي، واصفح عن سيئات هذا العرش الترابي؛ لأنه لم ينصفك لأنك مت مظلومًا، وأنتِ يا روحه الطاهرة فسيري على أجنحة الملائكة، وارقدي في حضن إبراهيم في عالم الحق والنور، في عالم الحياة الأبدية، ترثيك يا كولومب مآثرك الغرَّاء وتبكيك أياديك البيضاء، وتنوح عليك الإنسانية جمعاء، فقد كنت لها أعظم نصير، تندبك البلدان التي افتتحتها، ويرثيك العالم الجديد الذي أطلعت في سمائه بدور المدنية وشموس الدين الساطعة، تؤبنك إسبانيا وتقر فوق قبرك بفضلك العظيم، فقد خلدت لها في التاريخ ذكرًا لا يمحى، يندبك فردينان ملك إسبانيا ويكفِّر عن إثمهِ إليك بهذه الدموع، لقد مت حانقًا عليَّ يا كولومب ولا يبعد أن تكون أمطرت عليَّ صواعق اللعنات، ولكن لا، فأنت مسيحي حقيقي تصفح عمن أساء إليك، فسر بسلام إلى ملكوت الله حيث تجتمع على مائدة الأبرار والصديقين بمليكتك إيزابل.
ألونزو : مولاي، ما هذا الانفعال؟!
فردينان : اسكت فالرجل يستحق أعظم من هذا، والآن بما تراني أكفِّر عن ذنبي يا ترى؟ (يفتكر ثم يقول) الآن قد اهتديت إلى طريقة أمحو بها ما سبق من الذنوب، سأقيم ابن كولومب مقام أبيه كما آليت على نفسي في الشروط.

(جندي من الخارج يدخل.)

الجندي : مولاي، على الباب رجل يلبس الحداد يطلب المثول بناديك.
فردينان : قل له يدخل، من هو هذا يا ترى؟ (يلتفت الملك فيراه ويقول له): تعال يا ابن الأميرال، تعالَ يا ابن كولومب الشهيد، فقد أرسلتك العناية الإلهية في أوانك، نحن في حاجة إليك.
دياكو : وأي حاجة يا مولاي؟!
فردينان : حاجة عظمى، وهي أن نقيمك خلفًا لأبيك.
دياكو : شكرًا لك يا مولاي (يركع).
فردينان : انهض فأنت منذ الآن حاكم البلاد التي اكتشفها أبوك، ولك كل ما عاهدناه عليه، لا تشكرني فأنا أكفِّر عما أخطأت به ضد أبيك، وها أنا أسأل روحه في السماء أن تغفر لي، وأنتم أيها الوزراء فجهِّزوا المعدات لسفر هذا الشاب وقولوا: لتحيَ عظام كولومب.
الجميع : فلتحيَ عظام كولومب.
الملك : وأنا أقول قولًا ستردده بعدي الأجيال والأعصار:
لو كنتُ أقدر أن أعاقبَ أبحُرًا
قاسى بها «كولُمبس» الأهوالا
لنزعت منها دُرَّها وجعلتهُ
فوق الضريح لمجده تمثالا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤