وبعد

وبعدُ، فقد مرت بنا في الصفحات الماضية صورتان فيها ملامح واضحة — وإن تكن موجزة — لكلٍّ من الاستعمار والشيوعية في وضعهما الصحيح من تاريخ العصر الحاضر.

فالاستعمار حركة من حركات التاريخ الدولي بلغت نهايتها، وفقدت حجة وجودها.

ومن فقدان حجة وجودها أنها لا تستند إلى مبدأ ولا تدعيه، فلا يوجد اليوم من أساطين الاستعمار مَن يقول إنه مستعمر، أو يُقَال عنه إنه مستعمر فيقبل هذه التسمية، ومَن كان من المستعمرين يتشبث بدعوى القوامة من الجنس الأبيض على سائر الأجناس، فهو يلوذ بهذه الدعوى من مكانٍ إلى مكانٍ ويكاد يقصرها على أرجاءٍ من القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة، وتضطره وقائع العالم وأطوار الشعوب التي يعاملها إلى التحفظ الكثير في استغلال دعواه؛ فهو لا يستطيع «أولًا» أن ينكر حق شعبٍ من الشعوب في حكم نفسه، وإن راوغ في تقدير الوقت الذي يتولى فيه حقه، وهو لا يستطيع «ثانيًا» أن يستأثر بأمانة الرجل الأبيض لدولةٍ واحدةٍ تنهض بها من عند نفسها، بغير موافقةٍ من زميلاتها فى الاستعمار، ومن زميلات الأمة المحكومة في مقاومة الاستعمار، وهو لا يستطيع «ثالثًا» أن يبني دعواه كلها على أمانة الرجل الأبيض موكولة إلى دولةٍ واحدةٍ، أو مجموعة من الدول، بل يحاول جهده أن يقرن هذه التعلة «الأدبية» بتعلةٍ واقعيةٍ تدور على دعوى السلام العام، والحيطة المشتركة لمدافعة الأخطار العالمية، وهو — بعد هذه الضروب الكثيرة من التحفظ والروغان — يحاول بما في وسعه أن ينشئ له مع الأمة المحكومة علاقة غير علاقة السيد والمسود، وقد تكون هذه العلاقة قائمة على الاشتراك في «الكومنولث»، أو في مجموعةٍ دوليةٍ واحدةٍ، أو في اتحادٍ بين أعضاء على درجاتٍ متقاربةٍ من المساواة.

وإذا كان الاستعمار قد فقد مبدأه عند أصحابه، فهو من قبل ذلك لم يكن له مبدأ يستند إليه عند ضحاياه، فلم يوجد من قبلُ — ولن يوجد اليوم — إنسانٌ ينتمي إلى بلدٍ مغلوبٍ ينادي بمبدأ الاستعمار، ويتردد في وصف العاملين على خدمته في بلادهم بصفة الخيانة والإجرام.

حركة من حركات التاريخ قد صارت إلى نهايتها، وأصبحت اليوم بغير قوامٍ تستند إليه غير الواقع الذي يتراجع أمام واقعٍ أعظم منه، وأجدر بالثبات في مجرى الحوادث؛ فليس للمستعمر اليوم مبدأ يسوغ به مطامعه، وليس لهذا المبدأ قيمة السند المرعي عند مَن ينتفع به، فضلًا عن المنكوبين بدعواه.

•••

هذا هو وضع الاستعمار في التاريخ الحديث.

أما الشيوعية فهي استعمار وشيء آخَر غير الاستعمار.

ومصير الشيوعية المستعمرة كمصير الحركة كلها في مراحلها التاريخية، ولكنها تختلف كثيرًا في أخطارها؛ لأنها لا تأتي بأخطار الاستعمار خالصة من أخطار الدعوة، التي تعم المستعمرين الشيوعيين وضحاياهم على السواء.

فإذا علمنا أن الاستعمار قد فقد حجته وضيَّع مبدأه الذي يستند إليه، فالشيوعية تدعو إلى مبدأ وتنادي بأنه هو المبدأ الذي لا مبدأ غيره بعد حينٍ، وحجتها إذا حبطت في الحاضر أنها تعمل للمستقبل، وترجو من النجاح فيه ما فاتها أن تدركه في خطواتها الأولى.

والخطر من الشيوعية أنها تُفقِد ضحاياها القدرة على المقاومة؛ لأنها لا تبقي لهم تلك الكرامة القومية التي تجمعت، وما زالت تتجمع بين أبناء الأمم المحكومة حتى اقتلعت الاستعمار من جذوره، وتكاد تقتلع تلك الجذور من كل أرضٍ نبت فيها.

فالاستعمار في الهند لم يقدر على استئصال عناصر المقاومة، ولم يزل يثير سخط الهنود عليه حتى تألبت منهم أمةٌ متفقةٌ في كراهته، معتزة بكرامتها على سلطانه، ولكن الأمة من الأمم لا تُبتلَى بالشيوعية بضع سنوات ثم تبقى فيها بقية للكرامة الوطنية تحفظ كيانها وتعيد لها أركانها؛ لأنها تمحو الأمة ولا تُبقِي منها غير قطيعٍ من الطَّغَام المهازيل، لا يشعرون بعاطفةٍ عامةٍ تجمعهم وتهدِّد سيادتهم، وما يشعرون به من «عاطفة» الحسد والقحة، فإنما يثيرهم على النعمة والمَزِيَّة ولا يثيرهم على الطغيان والجبروت، ويستغله السيد الغاضب المنتفع بطغيانه وجبروته على أيسر الوجوه بقليلٍ من شقشقة اللسان، وكثيرٍ من سموم الضغينة والشنان.

والكلمة الأخيرة في هذه العجالة أننا إذا عرفنا مساوئ الشيوعية والاستعمار، فلا محل عندنا للشيوعية والاستعمار، فإنهما شرَّان لا تبقى منهما بقية ويبقى معها خير لأمةٍ شرقيةٍ، وكل ما بين الشر والشر من فارقٍ فهو الفارق في الجهود التي تلزمنا للتيقُّظ له والحيطة منه، والسعي الناجح للخلاص من فِعْلِه ومن دعواه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤