وعنصرية

في القارة الآسيوية بضع عشرة أمة صغيرة يتراوح عددها من مليون إلى خمسة عشر مليونًا أو نحو ذلك، وكلهم في الأصل تُرْك طورانيون يدينون بالإسلام على المذهب السني، ويتكلمون لهجات من اللغة التركية يفهمونها جميعًا بكتابةٍ واحدةٍ، ولا يصعب على أحدهم أن يتفاهم بها مع أبناء الأقاليم الأخرى، ولا شك أنها تتوحد كما توحدت الفرنسية أو الإيطالية بين لهجات الأقاليم في بلادها، إذا استُخدِمت في الكتابة والأحاديث العامة كما تُستخدَم اللغات القومية.

ولكن القيصرية الشيوعية — باسم رعاية الحقوق واحترام الاستقلال الذاتي لتلك الشعوب — تمزقها في حدودها وأنظمة حكمها أجزاء مبعثرة لا يجتمع جارٌ منها على جارٍ، ولا يُقبَل من أحدها أن يُذكَر له أصلًا جامعًا ينتمون إليه باللغة والسلالة.

… والعمل على محو معالم القومية في هذه الشعوب، وقطع كل علاقةٍ بينها وبين تراث اللغة والتاريخ — فيها — هو زبدة المبادئ التي تعلنها قرارات الحزب، وتذيعها الصحف الرسمية، ويشرحها في الكتب والمنشورات علماؤها المُجنَّدُون لتنفيذ برامجها الثقافية. وما من كتابٍ يُؤذَن له بالخروج من المطبعة في أرجاء روسيا، إلا وهو بمثابة الأمر الحكومي المفروغ من تحضيره ومراجعته وتطبيقه على مشروعات السنين كما تقررها نظم الدولة، بعد أن تفرض العقوبة الصارمة على مَن يخالفها.

ولقد سلك المستعمرون الحمر مسلك جميع المستعمرين في تخدير ضحاياهم بالوعود الكاذبة، وتغريرهم بزخارف الأباطيل ومحرجات الإيمان على نية الحنث بها من اللحظة الأولى، فأعلنوا في أوائل أيام الانقلاب الشيوعي بلاغًا طنانًا وجَّهوا فيه الخطاب إلى الشعوب الآسيوية الإسلامية بصفةٍ خاصةٍ، وأكدوا فيه لكل شعبٍ منها أنه آمن بعد اليوم على حريته التامة في معتقداته وشعائره وعاداته، ومقومات العُرف واللغة بين عشيرته وأهله، وآذنوه بزوال الحكم القيصري، وزوال عهد الحجر والطغيان بزواله إلى غير رجعة، وما هو إلا أن هدأت الثائرة، واستقرت الدولة الجديدة في مراكزها حتى عادت القيصرية في أشنع صورها، وحل الخوف محل الأمان في كل وعدٍ من وعود الحرية والطمأنينة، وقال قائلٌ من أمناء تلك الشعوب المهاجرين في حديثٍ يمتزج بالسخر الأليم: «إن المخدوعين المساكين كانوا إذا أرادوا أن يعرفوا مواضع المُصادَرة المُنتظرَة، رجعوا إلى بقية الشعائر التي وعدوهم باحترامها، فعلموا أنها هي الهدف المقصود بالضربة التالية …»، ولم يكن هذا الساخر مازحًا فيما وصفه من تقدير قومه، وإن ساقه في مساق التهكم والسخرية؛ فإن الشعائر المقدسة قد أصبحت في الواقع مرادفة للجرائم المُحرَّمة على تلك الشعوب … حتى الشكوى من القيصرية في إبَّان طغيانها أصبحت دليلًا على التشبث بالنعرة القومية، فوجب اتهام المجاهرين بها والقضاء على دعاتها، وتساوَى في هذا الاضطهاد جميع الشعوب الإسلامية، مَن كان منهم في أقاليم أوروبية ومَن كان منهم في أقاليم آسيا الغربية أو آسيا الوسطى، فصدر الأمر في القرم بتقسيم اللغة التي يتكلمها القرميون إلى ثلاث لهجات، وضبط كتابتها على حسب الأبجدية الروسية لا على حسب الأبجدية العربية، ونادى وزير المعارف — ألكسندروفتش — في المؤتمر الشيوعي السابع عشر بوجوب تطهير هذه اللهجات، وإدخال الكلمات الروسية في موضع الكلمات المحذوفة منها، وشاعت سياسة التشتيت والتمزيق في اللهجات، بل في فروع اللهجات؛ ليتيسر محوها وتصعيب استخدامها في مقاصد العلم والثقافة، وتعجيزها عن الثبات — من ثَمَّ — أمام اللغة الروسية التي اجترفتها جميعًا في معاهد الدراسة ودواوين الحكومة، ومنشورات المصالح والمجالس السياسية.

وقد كان ستون مليونًا من أبناء الشعوب الآسيوية يقرءون صحيفة «ترجمان»، التي كان يصدرها المصلح الكبير إسماعيل غصبر المعروف في القاهرة، وكانوا على اختلاف لهجاتهم يفهمونها ويتداولونها، فأمر المستعمرون الحمر — أنصار حرية الشعوب — بمصادرة كل صحيفةٍ من قبيلها، واعتبارها داعية إلى النكسة والرجعية والتشبث بالنعرة الوطنية، وصادروا مع مصادرتها كل سيرةٍ من سِيَر البطولة يتغنى بها أبناء الشعوب المغلوبة؛ لأن ثورة الأبطال الوطنيين في وجه القياصرة إنما كانت ثورة على الأمة الروسية، التي ساقت الحضارة والمعرفة إلى تلك الشعوب …

وحاقت اللعنة بالأدباء الذين يذكرون أوطانهم بالثناء، ويفخرون بالانتماء إليها، فاتُّهِمَ الشاعر التركماني جمعة مرادوف بالنكسة الرجعية؛ لأنه نظم قصيدة عنوانها «بلدي تركمانستان» عابتها صحيفة الحزب «تركمانسكايا أسكرا» في عددها الصادر في الحادي والعشرين من شهر سبتمبر سنة ١٩٥١، وقالت في انتقاد الشاعر: إنه لا يختص التركمان السوفيتية بالكلام، بل يعمم القول على جميع بلاد التركمان، ويصورها كأنها جنة على الأرض … وإنما ينبغي على الشاعر أن يتحدث عن تركمان السوفيتية؛ لأنها إحدى الجمهوريات الأخوات في داخل الاتحاد السوفييتي العظيم.

وسيقت الأمم غير الروسية إلى عقد مؤتمر تُعلِن فيه ولاءها للدولة المستعمرة، وسخطها على دعاة التجديد والإحياء في الحركة الوطنية، فخطب باجيروف نائب الرئيس بذلك المؤتمر قائلًا: «إن رئاسة اتحاد الكُتَّاب السوفيتيين رأت حوالي سنة ١٩٤٨ أن تعقد في موسكو اجتماعًا لتنظيم المناقشة في مسألة القومية، التي ينتمي إليها الكُتَّاب السابقون ومؤلفاتهم غير مستثنية من ذلك أمثال ذلك الكتاب الرجعي، الذي ينطوي على عداوة الشعب وتسميم الأفكار بسموم الجامعة الإسلامية، نعني كتاب ديدى كركوت dedakorkyt

ولكن هذا الرأي قد تقرر رفضه في لجنة الحزب المركزية، وعرفنا بفضل هذه اللجنة طوايا الكتاب السيئة، وأن نميط اللثام عن حقيقة الرجعية.

وتعقَّب النقاد الرسميون أناشيد البطولة والوطنية في الأمم الخاضعة للدولة المستعمرة، فوصموها بخبث النزعة وسوء الطوية، وقال باجيروف المتقدم ذكره في عدد يوليو سنة ١٩٥٠ من مجلة بولشفيك، وهو يتحدث عن «شامل» بطل القوقاز الذي اشتهر بثورته على القيصر قبيل منتصف القرن التاسع عشر: «إننا اذا أردنا أن نفهم فكرة صميمة عن حركة شامل هذه، فَلْنذكر أنها كانت حركة دينية، وأنها أشد أعراض الجامعة الإسلامية نكسةً وعداوةً.»

وقالت مجلة كومونست في عدد يناير سنة ١٩٥٣: «إن المؤلف جعفروف الذي كان يظن سنة ١٩٤٤ أن الحركات القومية، التي ثارت على روسيا خلال سنة ١٨٩٨ وسنة ١٩١٦، كانت من حركات التحرر الوطني، قد عاد فأدرك خطأه وكتب في سنة ١٩٥٢ أنها كانت حركات إقطاعية متعصبة …» ومضت المجلة تقول: «إن هذا الكتاب — أيْ كتاب جعفروف — يتعمق في البحث عن جذور العلاقة الودية بين أمم آسيا الوسطى وبين الأمة الروسية العظيمة، ويلفت النظر على نحوٍ خاصٍّ إلى الدلالة التقدمية التي يدل عليها ضم هذه الأمم إلى الحظيرة الروسية … فإن هذا الضم قد أتاح لها فرصة المساهمة في ثقافة روسيا العظيمة.»

وصحيفة الدولة — برافدا — تردِّد هذه الأقوال، وتصرِّح في السابع من أكتوبر سنة ١٩٥٢ أن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي تمنع سموم الجامعة الإسلامية … ثم تصرِّح في الثالث عشر من فبراير سنة ١٩٥٣ بأن المؤرخ سليمانوف مضلِّل كاذب؛ لأنه يزعم أن الشعوب التركية تجمعها ثقافة مشتركة. وتصرِّح صحيفة الدولة الأخرى — ازفستيا — قبل ذلك في الثاني من سبتمبر سنة ١٩٥١ ببطلان الدعوة التي يجنح إليها مجمع العلوم ببلاد الأزبك لإحياء كتب السلف الإسلامية، وادخار مخطوطاتها ومتفرقاتها.

وقد بدأت هذه السياسة منذ الأيام الأولى التي أفاق فيها سادة الكرملين من شواغل حربهم الداخلية، ولكنهم كانوا يراوغون في تنفيذها بين المصانعة والخديعة، أو بين القمع والحيلة، حتى كشفوا القناع عنها حوالي سنة ١٩٣٠، فدفعوا أذنابهم إلى المؤتمر الذي سمَّوه بالمؤتمر التاريخي في سمرقند؛ ليعلنوا البراءة من الوحدة القومية … أو ليعلنوا بعبارةٍ أخرى أنهم — أبناء آسيا الوسطى — أشتات متفرقون، وليسوا بالعنصر الواحد في الأصل، ولا في اللغة ولا في التراث القديم، وقد اجتمع المؤتمر سنة ١٩٣٥، وأصدر قراره — العلمي — بوجوب تصحيح النظر إلى تلك الوحدة المزعومة بين القازاق والتركمان والجرغيز والأزابكة، وجيرانهم الآخرين … ولسنا ندري كيف يطمع دعاة الاستعمار الأحمر في تصديق هذه الأضحوكة عن أناسٍ طائعين مختارين، يشدون رحالهم إلى بلدٍ واحدٍ؛ ليسوِّغوا للغاصب تمزيقهم وإنكار أصولهم وابتلاعهم بعد ذلك أشتاتًا مبعثرين.

ويجوز تصديق هذه الأضحوكة لو كانت المسألة هنا مسألة مبدأ في المذهب الماركسي، يطبقونه على جميع الأوطان وبين جميع الشعوب … أو لو كان الشعور الوطني على مذهبهم شعورًا بغيضًا لديهم يحرِّمونه على الأمم الحاكمة، كما يحرِّمونه على الأمم المحكومة، ولكن الواقع في الإمبراطورية الروسية على نقيض ذلك من طرفيه؛ فإن العصبية الوطنية مفروضة مشكورة في روسيا، حيث تكون مذمومة مدحورة في البلاد الخاضعة لسلطانها، وكلما اشتدَّ ولاة الأمر في تحريم العناية باللغة والتراث القومي في قُطْرٍ من الأقطار الآسيوية، قابلوا ذلك بالحماسة الروسية للعنصر واللغة والثقافة في أضيق حدودها، ولم يصنع النازيون والفاشيون في تهوسهم المرذول بالمفاخر المحتكرة للجنس الآري، والمآثر الموقوفة على الجرمان وأسلافهم دون سواهم من أمم العالم؛ بعض ما صنعه دعاة العظمة السلافية — بل عظمة الجنس الروسي على حدة — بين سائر أجناس السلاف الحاضرين والغابرين، فإنهم ردوا إلى هذا الجنس فضلًا واحدًا لا منازع لهم فيه، يدعون به السبق إلى كل اختراع، والانفراد بكل فكرةٍ قبل انتشارها بين بلاد الحضارة الحديثة.

ففي سنة ١٩٤٠ منح مجلس الوزراء جائزة الدولة للمؤرخ ريباكوف reybecov؛ لأنه زعم في كتابه عن صناعات روسيا القديمة أن روسيا كانت مصدر المعارف الصناعية التي انتقلت منها إلى الغرب، واستفادت منها بولونية وبوهيمية وما جاورهما.
وصحيفة الدولة تحيي قصة كاترين الثانية في الصور المتحركة، فتُعِيد قصيدة شاعرها الذي وصف ذلك العهد بأنه عهد الظفر القاصف، والغلبة الجانحة، والعبقرية الروسية في ميادين القتال. وقادة روسيا الذين خدموا القياصرة تُعَاد ذكراهم المئوية أو الخمسينية لكل مناسبة عارضة، أو لغير مناسبة على الإطلاق غير أرقام التواريخ، فيشيد كاتبهم شاتاجين shatagin في شهر مايو سنة ١٩٥٠ بذكرى انقضاء مائة وخمسين سنة على وفاة القائد سفيروف suverov، ويحيي هذه الذكرى الخالدة بمقالٍ مُسهَبٍ استغرق أكثر من عشر صفحات في العدد التاسع من مجلة البولشفيك، والدولة هي التي تتولى نشر كتاب كوفاليف kovalev، الذي يُعِيد معظم المخترعات إلى سابقةٍ روسية، ويقول فيه إن لومنسوف الروسي سبق لافوازيه إلى قانون بقاء المادة والطاقة، وأن بتروف سبق جميع العلماء العالميِّين في كشوف الصناعة الكهربية، وأن لينز وياكوبي سبَقَا المخترعين والكاشفين إلى استطلاع أسرار المغناطيسية الكهربية، وأن بلزنوف سبق واطس إلى اختراع القاطرات البخارية، وأن يابلخوف ولوديجين سبَقَا المخترعين إلى الاهتداء لنور الكهرباء بأكثر من ثلاثين سنة، وأن بوبوف هو مخترع جهاز الإذاعة حوالي سنة ١٨٩٥، وأن برويجين سبق الفلكيين إلى رصد حركات المذنبات، وأن لوباشفسكي هو صاحب الآراء الحديثة التي جدَّد بها علوم الرياضة، وأنشأ بها هندسة تنافس هندسة إقليدس القديمة، وأن علماء الروس بالإيجاز قد سبقوا جميع العلماء والمخترعين في ميادين الصناعة العصرية والعلم الحديث.

وكلما اجتمع مؤتمر المعلمين الذي يوحي بسياسة التعليم إلى المدارس كافة في أنحاء الامبراطورية، نادى بوجوب تعليم الدروس جميعًا باللغة الروسية … وصحيفتهم المخصَّصة لإذاعة هذه السياسة هي التي نشرت خلاصة هذه القرارات في السابع من شهر أبريل سنة ١٩٥٤، فقالت في الفصل الافتتاحي: إن الأكرانيين وأبناء روسيا البيضاء واللاتفيين والاستونيين والقازاق والأزابكة والشراكسة والأرمن والتتر إلخ إلخ … يدرسون بجد وشغف لغة أختهم الكبرى الأمة الروسية العظيمة.

وهذه الصحيفة هي التي نشرت في الثلاثين من شهر يونيو سنة ١٩٤٣ برنامج التعليم، فقالت إنه من اللازم في السنوات الباكرة أن يتعلم الأطفال محبة كل ما هو وطني من تربة الوطن … وأن تغرس في نفوسهم الفكرة التي تجلب دموع الفرح إلى أعينهم عند الإشارة إلى هذه الأمم الكبرى، وتسري بالقشعريرة إلى الدم، كلما مر بالذهن خاطر يهددنا بفقدها.١

فالمبادئ التي يروِّجها سماسرة الاستعمار الأحمر عن الوطنية البغيضة والعنصرية البرجوازية، وأشباه هذه المحفوظات المبتذلة إنما هي بضاعة تصدير لمحو جميع العناصر، وبقاء عنصر واحد يسودها، ويرغمها على التغني بمفاخره والاشمئزاز من مفاخرها، وهذه سياسة عنصرية لم تبلغ مبلغها سياسة مرسومة في عهدٍ من عهود الاستعمار، مما سبقت به دول العصور الوسطى، أو لحقت به دول الاستعمار الحديث إلى القرن العشرين.

فالمستعمرون حتى هذا القرن، لم يعلموا ولا حاولوا أن يعملوا على ابتلاع السلالات وهضمها في سلالةٍ واحدةٍ تحيط بالأمم المغلوبة، وتُخرِجها عن أصولها، وتقتلعها من جذورها، وتسوقها إلى عقد المؤتمرات ووضع برامج التدريس لهجر لغاتها ودفن تراثها التنكري لماضيها ومستقبلها، وغاية ما ترامى إليه أمل المستعمرين في محو معالم القومية بين الشعوب الخاضعة لهم، أنهم كانوا يجعلونهم بالمنزلة الثانية فيما يتعلق بالحكم وولاية الأمور العامة، فأما هذه السياسة التي تجعل القومية جريمة ومفخرة في وقتٍ واحدٍ، وتفرض على المغلوب أن يتغنى بمفاخر سادته، ويزري بمفاخر قومه، فتلك خاصة من خواص هذه القيصرية الحمراء لم يسبقها سابق في تاريخ الاستعمار.

١  مقدمة كتاب الاستعمار الاقتصادي من سلسلة الناقوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤