مبدأ الاستعمار

إن تنازع الأمم لتغليب أمة على أمة، وتسخير الأضعف منها في خدمة الأقوى بالأنفس والأموال؛ ديدن قديم في التاريخ.

وهو قديمٌ أيضًا في التنازع بين الشرق والغرب منذ عرفت هذه التفرقة في تقسيم الأمم إلى شرقيةٍ وغربيةٍ، ولا شك أن هذا التنازع قديمٌ سابقٌ لعصور التاريخ؛ لأن البقايا الثابتة التي بقيت لنا مما قبل التاريخ تدل عليه. ومن هذه البقايا وجود اللغات الهندية الجرمانية، التي صدرت من أرومةٍ واحدةٍ سكنت زمنًا في البقاع الوسطى بين القارتين الآسيوية والأفريقية، ثم اتجهت طائفةٌ منها شرقًا وجنوبًا، واتجهت طائفة أخرى غربًا وشمالًا في مواقع شتَّى تمتد من أقصى الهند إلى أقصى الجُزُر البريطانية؛ فهذه الأصول الهندية الجرمانية هي في الوقت نفسه أصول التنازع والتغالب على رقعةٍ واحدةٍ من الأرض، لم تتسع للنازلين بها من سلالةٍ واحدةٍ أو من عصبةٍ لغويةٍ واحدةٍ، ولا تكون هذه أول سلالةٍ في هذه الرقعة، مع قيام السلالات من حولها بين سامية وكوشية وطورانية وغيرها من الفروع أو الأصول المجهولة.

فالتنازع إذن قديمٌ بين الأمم، وهو قديمٌ كذلك بين الشرقيين والغربيين، أو بين مَن كانوا يومًا من الأيام شرقيين أو غربيين …

ولكن ليس هذا هو الاستعمار الذي يعنيه المؤرخ الحديث منذ القرن الثامن عشر؛ لأن الاستعمار عند المؤرخ الحديث إنما يُطلَق على حركةٍ إجماعية ترمي إلى غرضٍ مشتركٍ تحقيقًا لدعوى واحدة، تدَّعيها أمم متعددة في فترةٍ محدودةٍ، لها عواملها وأسبابها التي لم تجتمع قَطُّ لحركةٍ إجماعية من قبلها؛ فلا استعمار بهذا المعنى قبل الاستعمار المعروف في القرون الأخيرة، بل لم توجد بين الأمم حركات إجماعية من قديم الزمن، فكل ما ظهر من هذه الحركات في التاريخ، فإنما ظهر بعد عصور التاريخ القديم، ولم يكن في الوسع أن يظهر قديمًا؛ لأنه مرتبط بمرحلةٍ من مراحل التاريخ العالمي لا يتهيأ لها أن توجد قبل الأوان.

وهذه الحركات الإجماعية في العصور المتأخرة متداخلة مشتبكة لا تنفصل إحداها من الأخرى بفاصلٍ حاسمٍ يقطع الصلة بينها، بل لا تخلو حركةٌ اليومَ كلَّ الخلُوِّ من عوارض أمسها وغدها على صورةٍ واضحةٍ لا التباس فيها، فمَن كتب عن حركةٍ إجماعيةٍ في القرن العشرين لم يتيسر له أن يفهمها حق فهمها دون الرجوع إلى الحركة الإجماعية، التي مهدت لها في القرن الثامن عشر، ومهدت لها قبل ذلك في القرون الماضية.

وحركة الاستعمار إحدى هذه الحركات، لا نفهمها حق فهمها ما لم نرجع قبلها إلى حركة الحروب الصليبية، ولعلها أول حركةٍ إجماعية قامت بدعوى واحدةٍ في التاريخ العالمي، منذ وعيناه وألممنا بالجوهري من دعاواه ودواعيه.

وينبغي أن نفرق بين الحركات الإجماعية التي تحدث من جرَّاء التحالف بين دول عدة، وبين الحركات الإجماعية التي تحدث من شيوع دعوى واحدة بين أممٍ متفرقةٍ، فإنما يحدث ذلك التحالف لأنه خطة من خطط القتال في أقدم الميادين وأحدثها على السواء، ولا تحدث الحركة الإجماعية للاتفاق في دعوى واحدة، إلا لأنها مرحلةٌ في التاريخ العالمي شاملةٌ للحكومات والشعوب، مرتبطةٌ بميادين القتال وبغير تلك الميادين.

والحروب الصليبية هي أكبر الحركات الإجماعية بين الغرب والشرق، ولعلها أولها ومصدرها.

والاستعمار هو الحركة الإجماعية التي تليها، وتستعيد الكثير من دعاواها ودواعيها.

لا بد لهذه الحركات من «دعوى» مشتركةٍ أو من حجةٍ عامةٍ، وهذا هو الفارق بينها وبين الحركات التي لا ترجع إلى شيءٍ غير توازن القُوَى، وإتمام العدة للهجوم أو الدفاع.

وقلما خَلَتْ دعوى من أثرٍ يبقى فيها من آثار سابقتها كما تقدَّمَ، وقد تجتمع الدعويان في وقتٍ واحدٍ إلى حين.

وقد كانت دعوى الاستعمار قائمة على «رسالة الرجل الأبيض»، أو على الأمانة التي اضطلعت بها الحضارة الأوروبية لإصلاح أمم العالم.

وما كان في وسع القوم أن يخترعوا هذه الدعوى لو لم تسبقها دعوى مثلها من القارة الأوروبية، ترمي إلى غايةٍ كهذه الغاية في زمانها، ونعني بها دعوى الحروب الصليبية.

ولقد مضى اليوم على آخِر الحملات الصليبية نحو خمسة قرون، ولا يمكن أن يقال إنها اختفت من ميادين السياسة أو الدعاية، ولا تزال لها رجعات تتردد طوعًا أو كرهًا في تصريحات الساسة وتعليقات المؤرخين، كما تتردد حينًا بعد حينٍ في مساعي الجماعات والآحاد.

يقول المؤرخ الهندي سردار بانيكار panikkar في كتابه «آسيا والسيطرة الغربية» بعد تمهيدٍ وجيزٍ عن عصر الامتداد الأوروبي: «إنه من الضروري لفهم الدافع الديني الاقتصادي السياسي وراء هذا الحلم وهذا المسعى، أن نعرض بإيجاز لبعض النزعات في التاريخ الأوروبي خلال القرنين السابقين، فمن عهد صلاح الدين الذي استرد بيت المقدس من الصليبيين أصبح الإسلام من قاعدته في مصر منظَّمَةً قوية حائلة بين القارتين الأوروبية والآسيوية، وانتهت إلى غير طائلٍ تلك الانفجارات الملتهبة من الحماسة والغيرة والحركة التي جاشت بالعالم المسيحي في الحملات الصليبية الثلاث، وإذا بالنصر الذي أحرزه صلاح الدين كما يبدو من وجهة النظر التاريخية في أثناء العصور المتأخرة قد أصبح عاملًا من أقوى العوامل الحاسمة في تاريخ العالم، ووطد السيادة الإسلامية على سواحل سوريا ومصر لعدة قرون مُقبِلة، ولم تخفَ هذه الحقيقة عن ساسة الغرب، كما يؤخذ من توجيه الحملة الصليبية الخامسة (١٢١٨–١٢٢١) إلى مصر نفسها.»

إلى أن يقول: «وإذا كانت البرتغال قد أصبحت وريثة (جنوا) في الرحلات البحرية، فقد أصبحت كذلك في القرن الخامس عشر وريثة المسيحية في وجه الإسلام، ولم تسرِ روح الحملة الصليبية إلى الجزيرة الأندلسية وحسب، بل أضافت إليها وقدة من الحَمِيَّة والنشاط في القرنين الخامس عشر والسادس عشر للميلاد؛ إذ بينما كان الإسلام في رأي الممالك الغربية الأخرى خطرًا بعيدًا، كان هذا الخطر مرهوبًا مخِيفًا على الأبواب في رأي أبناء قشتالة وأراغون وبرتغال.»

وليست هذه وجهة نظر هندية شرقية أوحاها الشعور الهندي الشرقي إلى كاتبٍ يمثلها من ناحية القومية، بل هي وجهة نظر المؤرخ حينما نظر إلى الموقف من جميع نواحيه.

وفي كتاب «أوروبا والدنيا الواسعة بين سنتي ١٤١٥ و١٧١٥»، يقول المؤلف الأستاذ باري parry: «إن خطة البرتغاليين نحو الشرق لم تكون قَطُّ مجرد خطة من خطط التزاحم على التجارة، وما خطر لهم قَطُّ أن يضاربوا العرب والبنادقة بأسعار يخفصونها، وبضائع من الأبازير يُغرِقُون بها الأسواق الأوروبية، وما كان في وسعهم أن يفعلوا ذلك لو أرادوا، وإنما كان الموقف بين البرتغاليين والعرب من البداية موقف قتال عنيف ملأته العصبية بالمرارة.»

ويقول وليام كارلتون من جامعة فلوريدا في كتابه عن تطور السياسة الخارجية الأمريكية: «إن الحرب الإسبانية الأمريكية سنة ١٨٩٨ هي التي أدت إلى العدول عن مذهب القارية الأمريكية، وكان من نتائج هذه الحروب أن أمريكا ارتبطت بالفلبين على بُعد سبعة آلاف ميل من قلب الشرق الأقصى، وكانت حجج الاحتفاظ بها متعددة، ومنها حكم القدر وأمانة الرجل الأبيض، وفرصة تنصير الوطنيين، وتوفيق الحظ بالاستيلاء على مكان إلى جوار أرض القارة الآسيوية.»

وتراخى الزمن ولم تزل دعوة الدين ودعوة السياسة تتماشيان معًا بعد أن دخل الاستعمار في آخِر أطواره بالقارة الأفريقية، فكان دعاة الدين والسياسة يختلفون؛ لأنهم مختلفون في المذهب الذي ينتمون إليه، كما يختلفون على الدولة التي يعملون لضم البلاد المستعمرة إليها. وقال بارنز barnes في كتابه الإمبراطورية أو الديمقراطية: «إن المسيحيين في أوغندا من أتباع الكثلكة والكنيسة البروتستانتينية ظلوا يتقاتلون بينهم — ويسمَّى الآخرون في لغة أهل البلاد وإنجليزا، والأولون بتلك اللغة وإفرينسا — وكم من مرةٍ ضجت بينهم عداوة الجنس والدين.»
وكلٌّ من المؤرخين الشرقيين والغربيين يكتب تاريخه في النصف الأول من القرن العشرين، وهو يستمع إلى خطب القادة الغربيين الذين تكلموا عن غزو فلسطين في الحرب العالمية الأولى، فوصفوها بأنها الحرب الصليبية الأخيرة، وبعد انتصاف هذا القرن يتناول تاريخ العالم ثلاثةً من المؤرخين، هم هيس hayes ومون moon ووايلاند wayland، فيلخصون أسباب الاستعمار العصري في أربعة، هي: (١) رغبة أصحاب الحماسة الوطنية في إضافة أملاك إلى أوطانهم. (٢) رغبة أصحاب الأعمال في فتح الأسواق وحماية التجارة. (٣) فكرة الاستيلاء على بعض المواقع، أو الدفاع. (٤) الرغبة في تمدين الأمم المختلفة أو تنصيرها.

وأولى الأمور بالملاحظة في هذا الصراع أنه يتكرر في بقاع الأرض بعد فصل الدولة والكنيسة في البلاد الفرعية، وأن الدولة تعترف بالدعوة الدينية خارج بلادها؛ لأنها تعتبرها دعوةً سياسية تستعين بها على خصومها في مجال السياسة الدولية.

•••

ومن هذه البداءة نعلم كيف انتهت أوروبا إلى رسالة الرجل الأبيض عنوان الاستعمار الحديث، وميسمه الظاهر بين حركات التاريخ الجماعية.

فما استطرد الأوروبيون إلى هذه النتيجة إلا من تلك المقدمة، وما كانت رسالة الرجل الأبيض وأمانة الحضارة الأوروبية إلا النسخة المُنقَّحة من رسالة الخلاص الروحي، وأمانة الإصلاح، وتطهير الأرض من مفاسدها.

ولم يتحول الأوروبيون إلى هذه الدعوة، إلا لأن هذا التحول ضرورة قاسرة تفرضها مجاراة الزمن على أنصار الكنيسة ومعارضيها، فقد كان القرن السادس عشر وما بعده فترة متَّسِمة بالانشقاق بين أتباع الكنيسة، والثورة على سلطانها، فتحوَّلَ المستعمرون إلى النداء بأمانة الرجل الأبيض؛ لأنه النداء الذي يعطي الأوروبيين ما يدَّعونه من حقوق الفتح والسيادة، ولا يُلجِئهم إلى الاعتراف بالسُّلطة الدينية والتسليم بما تميَّزَ به بعض المستعمرين على بعض من حقوق التبشير والولاية. ولم يرفض أنصار الكنيسة هذا النداء الجديد، بل قبلوه وكرروه؛ لأنه نداء يؤيد الدعوة الدينية في بعض معانيه، ولا يستلزم حتمًا أن يلغيها أو ينقصها ويُسقِط حقوقها، ولعله كان وسيلةً منتظرةً للتوفيق بين روح الزمن الماضي وروح الزمن الحديث زمن الثورة العلمية، والتبشير باسم الثقافة الإنسانية، فمَن أراد من المستعمرين أن يجاري العصر ولا ينشقَّ عن الماضي، أمكنه أن ينادي رسالة «الرجل الأبيض»، كأنها كلمة مرادفة لرسالة القارة الأوروبية، تشمل بدعواها كل ما شملته دعوى هذه القارة قبل عصر الاستعمار بعدة قرون؛ فإن حجة الرجل الأبيض إنما هي حجة القارة الأوروبية في جميع عصورها، ويزداد عليها بعد عصر الحروب الصليبية أنها امتدت إلى الرجل الأمريكي، الذي صبغ الأقطار النائية فعلًا بالصبغة البيضاء، وحقَّق له السيادة على الأجناس الحمراء والسوداء.

ولا نحسب أننا نفهم سر انتقال الدعوة الصليبية إلى الدعوة البيضاء، إلا إذا فهمنا أن الرسالة الجديدة جاءت لتحل محل الدعوة الصليبية، كما جاءت لتمتد بها وتستفيد من سوابقها؛ فنحن لا نفهم سر هذا الانتقال على حقيقته إذا فهمنا أن رسالة الرجل الأبيض نسخة مكررة من الحروب الصليبية في جميع تفصيلاتها، ولا نفهمه على حقيقته إذا فهمنا أن اللاحق من الدعوتين يلغي السابق في جميع تفصيلاته، وإنما القول الفصل بين الأمرين أن هناك اختلافًا كثيرًا، وهناك اتفاقًا كثيرًا بين الدعوة التي سلفت والدعوة التي حلت في محلها. وكذلك يكون الحال في كل شيئين حل أحدهما محل الآخر … ليست سيارة اليوم مناقضة لمركبة الخيل بالأمس، وليست هذه بتلك في جميع أجزائها ومنافعها، ولكنهما — بعدُ — شيء واحد في الغاية، وشيئان مع اختلاف الزمن في الصنعة والتركيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤