الهيكل الفني في قصة يوسف

لعل سورة يوسف هي خيرُ مثالٍ للفكرة التي نحاول أن نُبلوِرها من خلال استقراء القصص القرآنية؛ فالقرآن في هذه السورة يُصارِح بأنه يقُص القَصَص.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (من سورة يوسف: آية ٣).

فالقرآن إذن يقص القصص ليصحو الغافل. وما أعظم النقلة بعد هذه الآية:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (من سورة يوسف: آية ٤).

من القواعد القصصية المعروفة أن القصة يجب ألا تفاجئ القارئ؛ فلا بد لكل حدثٍ من تمهيدٍ يسبقه. وأحسنُ ما يكون التمهيد إذا كان غيرَ واضح. إذا التأم في نسيج القصة بحيث لا يُنبئُ عما يمهِّد له. حتى إذا وقع الحدث تنبَّه القارئ إلى هذا التمهيد فتذكَّره. والحلم هنا خيرُ تمهيدٍ للأحداث التي جرت بعد ذلك، بل إن الآيات لا تكتفي بهذا، وإنما تمضي قدمًا.

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (يوسف، آيتا ٥، ٦).

في هذه الآيات القليلة عرفنا أن إخوة يوسف على استعداد أن يكيدوا، وأن يوسف من آل يعقوب. عرفنا معنى الحُلم وما سيصير إليه أمرُ يوسفَ من بعدُ. وفي هذه اللمحة قمة التشويق، وإن كنتَ عرفتَ حقيقةً ستأتي فيما بعدُ؛ ذلك أن القارئ سيقرأ ليعرف كيف وصل يوسف إلى معرفة تأويل الأحلام والحكمة. كما سيقرأ ليعرف كيف انتفع بعلمه هذا. ولو كان القارئ يقرأ لقصَّاصٍ عادي لقرأ ليعرف إن كان هذا التنبُّؤ قد تم أم لا. كل هذا يشوِّق القارئ فيمضي في قراءة القصة في لهفة. وقد حاول بعضٌ من كُتَّاب القصة المتحدِّثين في الغرب أن يُلغوا فكرة التشويق فانهارت القصة، وفرض عليهم التشويق نفسه كعنصرٍ أساسي من عناصر العرض الآتي:

ولعل ألبرتو مورافيا هو أهَم قصَّاصٍ حاول تحطيم التشويق في روايةٍ له، ومورافيا كاتبٌ عالمي، وكل أعماله تحقِّق نجاحًا عالميًّا منقطع النظير، ولكنه في هذه الرواية بالذات التي حاول أن يحطِّم فكرة التشويق باءَ بفشلٍ لم يصادفه في كل أعماله التي قدَّمها وهو في قمته، فالتشويق إذن كان وما زال من أهم عوامل القصة، وهو أروعُ ما يكون إذا سيطر على الرواية أو القصة دون افتعالٍ من المؤلِّف أو من الأحداث.

انظر معي إذن هذا التشويق في قمَّته حين اجتمع إخوة يوسف:

إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ١ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ٢ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (سورة يوسف: من آية ٨–١٠).

أرأيتَ المؤامرة كيف دُبِّرَت. أنتَ بطبيعة الحال تعرف القصة، ولكنك مع ذلك مشوقٌ أن تعرف كيف سارت الأمور بعد ذلك. أنتَ بطبيعة الحال تعرف القصة، ولكنك لا شك واجفٌ على يوسف، مشفقٌ عليه. أتستطيع أن تتصوَّر نفسكَ من المسلمين الأوائل متحلقًا مع صحبك حول النبي تستمع. ماذا أنت فاعلٌ حين يسكت النبي عند هذه الآيات؟ لا شك أنكَ ستظل ساهرًا الليل والليالي حتى يصل الوحيُ ما انقطع من القصة، لتعرف ماذا تم بشأن يوسف. وأنتَ يومذاكَ لا تعرف يوسف. وأنتَ يومذاكَ لم تسمع به قبلُ، ولكنك حين تسمع هذه الآيات يصبح يوسف جزءًا من حياتك، تذكُره في مُضطَرب يومك. وفي هَدْأة ليلك، وتريد أن تعرف ماذا فعل به إخوته .. هل قتلوه؟ هل ألقَوه في غيابة الجُب؟ هل التقَطَه السيارة؟ هل نجا؟ هل مات؟ لقد أصبحت شخصية يوسف شخصيةً حية في محيط حياتك، تعرفُها وتُناجيها وتسألُها لعلها تُجيبك.

ثم أرأيتَ الأسلوبَ الفني في العرض؟ أبونا يُحب يوسف .. اقتلوا يوسف .. مقدمة ونتيجة .. جملةُ حوارٍ أعقبَتْها جملةٌ أخرى .. قال الإخوة جميعًا الجملةَ الأولى. أما الثانية فلم تذكُر الآية قائلًا لها. ولكننا نُحِس أنها رغبة الإخوة جميعًا .. إلا أن واحدًا منهم هو أكثرهم تعقُّلًا .. لا تقتلوا يوسف .. إنه حوارٌ قصصي في قمة الحوار القصصي. ماذا بعد هذه المؤامرة؟

قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (سورة يوسف: من آية ١١–١٤).

انتقلَت القصة نقلةً سينمائية مباشرة من تدبير المؤامرة إلى تنفيذها، وانتقل السر دون أي إطالةٍ إلى الأب، ويُحذِّرهم الأب، ولكنهم خبثاءُ يمكرون، فهم يُظهِرون الحُب لأخيهم. يُريدون أن يرتع ويلعب وهم له لحافظون. والأب أبٌ للجميع، تُراوِده الهواجس، ولكنه مع ذلك يتمنَّى أن تكون هواجسَ كاذبة، ويتمنَّى أن يُحب الإخوة أخاهم الذي يُكِنُّ له الحُب والأثَرة، وهكذا تنتقل الآية في نقلةٍ سينمائية أخرى.

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (سورة يوسف: آية ١٥).

تمَّت المؤامرة إذن، ولكن الله اللطيف بمن يجتبيهم يوحي ليوسف أنكَ ستُنبِّئهم بأمرهم هذا. إذن فقد اطمأن يوسف أنه سيعيش، فلا خوف إذن ولا هلع، بل لقد بشَّره ربه أنه سيُنبئ إخوته بهذا الذي صنعوا دون أن يتوقَّعوا.

ونتركُ يوسف تركًا فنيًّا شائقًا رائعًا لنرى إلى الإخوة ماذا صنعوا مع أبيهم.

وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (سورة يوسف: آية ١٦–١٨).

وتترك القصة الأب مطمئنًّا إلى عدل ربه، والهًا على بِعاد ابنه الأثير، ونرجع مرةً أخرى إلى يوسف في غيابة الجُب.

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ٣ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (سورة يوسف: من آية ١٩–٢٠).

في هذه الآيات نرى قاعدةً من أُم القواعد القصصية، فهؤلاء الأشخاص الذين التقطوا يوسف وباعوه نكراتٌ مسرحية؛ ولذلك لم تهتمَّ القصة بذكر شأنهم؛ من هم، وماذا كانوا يفعلون ولمَ ذهبوا إلى مصر. كل هذا لا يهمُّ القصة، فهي لا تذكُر عنه حرفًا. إنهم نكراتٌ كان دَورُهم أن يصلوا بيوسف إلى مصر. وقد فعلوا. إنهم أداة للحدَث .. لا تؤثِّر شخصياتهم في الحدَث ذاته .. فالقصة إذن تهملهم وتمر بأمرهم عرَضًا دون إطالةٍ أو بحث، وكانوا فيه من الزاهدين. في هذه الكلمات القلائل قمةٌ من القمم الفنية. إنهم زاهدون فيه لأنهم لا يعرفون قيمته، شأن الجاهل إذا وجد جوهرةً من الماس، وظن أنها من الزجاج، فهو فيها زاهد وهو يبيعها بثمنٍ بَخْس. مفارقةٌ فنية بارعة؛ فلو كان هؤلاء السيَّارة يعرفون قيمةَ يوسف وما سيصير إليه أمره لما اكتملَت القصة. لو كانوا يعرفون مكانة يوسف هذا عند أبيه لرجعوا به إليه، ولما اكتملَت القصة، وإنما هم فيه زاهدون.

أين استقر المقام بيوسف .. ما مصيره؟

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ٤ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سورة يوسف: آية ٢١).

أترى هذا الإجمال؟ ألا يشوقُكَ أن تعرف كيف انتفع يوسف بتأويل الأحاديث، وماذا سيكون من أمره في هذه البلاد؟ أنت تعرف القصة، وأنا أعرفها، ولكن لا شك أن كلَينا يريد أن يعرف. إنه الفن في قمة روعته.

أستغفر الله. إنما الفن قد يكون عمل البشر، إنما هذا هو الإعجاز. ومَن أعظمُ إعجازًا من الله العلي الكبير؟

•••

في انتقالةٍ سريعة وامضة تنتقل قصة يوسف إلى فترةٍ زمنية أخرى، انتقالة أشبه ما تكون بالنقلة الفيلمية، أو بالنقلة القصصية الحديثة.

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ٥ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.

وفي انتقالةٍ سريعة وامضة أخرى ذهبنا إلى قصةٍ جديدة. إنها حياةٌ عريضة مليئة بالمغامرات يخوضها سيدنا يوسف وتقدِّمها لنا قصته القرآنية في تشويقٍ أخَّاذ. لو أن قصصيًّا اقتبس هذه القصة لاستطاع أن يُسمِّيَها مغامرات يوسف، ولاستطاع دون جهدٍ يُذكَر أن يجعل منها فيلمًا سينمائيًّا رائعًا .. ماذا فعل يوسف؟ انظر معي:

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.

إن العرض القصصي هنا في قمته .. فأروعُ ما في العرض القصصي السَّرد الفني. وقد كانت السورة خليقةً أن تستُر على يوسف أنه هم بها، ولكن الله سبحانه يريد أن يقول لعباده إن يوسف كان إنسانًا مثلكم، يهمُّ بالخطيئة شأن الإنسان .. ثم يرجع عنها شأن الصالحين. في هذه الجملة روعةٌ فنية وكشفٌ نفسي عميق؛ فهي تجعل القارئ يطمئن أنه أمام شخصياتٍ تحيا وتعيش مثل حياة الناس وعيشهم، يهمُّون بالخطأ، ويُوشِكون أن يقعوا فيه، ثم يرتدُّون عنه. إن لم يفعلوا ذلك كانوا ملائكة. والله سبحانه وتعالى لا يريد أن يقُص علينا قصص الملائكة، إنما يريد أن يروي لنا قصص ناسٍ مثلنا يجري عليهم ما يجري علينا من مشاعر ومن أخطاء ومن رغبات. إن قصص الملائكة لن تُجديَنا في شيء. فإننا سنقول في أنفسنا. وأين نحن من الملائكة؟ أما قصص الناس فإنها تُغرِينا أن نتشبه بهم حتى وإن كانوا أنبياء. لنَمضِ إذن مع قصة هذا الإنسان.

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ٦ وَأَلفَيا٧ سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

في هذه الآية قاعدةٌ قصصية يقدِّمها القرآن في روعةٍ فنية أخَّاذة. وقَدَّت قميصَه من دُبُر إذا قرأتَ هذه الجملة دون أن تكون عارفًا ببقية القصة ما ألقيتَ أدنى اهتمام، إنها كلماتٌ أُلْقيَت، وكأنما أُلقيَت عن غير عمد. هذا هو التمهيد الفني للحدَث في أروعِ صوره. ثم أرأيتَ إلى المفاجأة الواقفة عند الباب؟ تَصوَّرْها إذا كنتَ تقرأ هذه القصة دون أن تكون عارفًا ببقيتها .. زوجةٌ تُراوِد رجلًا عن نفسه .. ثم تُفاجأ بزوجها عند باب الغرفة المُغلَقة. مفاجأةٌ آخذة لا تكاد تُفيق منها. حتى تشُدَّك مفاجأةٌ أخرى أقسى وأنكى .. ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يُسجَن أو عذابٌ أليم. إذن فقد ألقت التهمةَ جميعَها على يوسف في سرعةٍ خاطفة؛ فلم يقُل القرآن فكَّرَت ماذا تفعل، أو حاولَت في أمرِها وأمرِ ذلك الرجل معها. لم يقُل شيئًا من هذا، وإنما صكَّ النفوسَ بالتهمة في مفاجأةٍ فنية مذهلة. وتمضي القصة بعد ذلك في فنيةٍ بارعة، وفي إيجازٍ أعجب.

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.

أرأيتَ محاكمةً الدليلُ فيها قاطعٌ مثل هذا .. ثم أرأيت الكلمة التي أُلقيَت إلقاءً وكأنها غير مُتعمَّدة ماذا أصبحَت الآن؟ إنها براءةُ يوسف مما وُجِّه إليه من اتهام. ثم أرأيتَ الحكم الذي أصدره الزوج كيف كان مانعًا جامعًا؟ إن كَيدكُن عظيم .. حُكمٌ أُطلِق في وجه النساء جميعًا .. غير مُخصَّص للزوجة الخائنة.

وحين تثير نسوة المدينة حديث زوجة العزيز ويوسف تدعوهن:

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا٨ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.

براعةٌ في السرد مُعجِزة .. هل سمعتَ في السورة من أولها إلى أن بلغتَ هذه الآيات أن يوسف جميل .. أو على شيء من الوسامة؟ لم تذكُر السورة شيئًا. ولكن كيف قدَّمَت لك السورة هذه الحقيقة قدَّمَتها صورةً مرئية متحركة أخَّاذة تحمل الدليل الذي لا يستطيع أي كلامٍ أن يصفَه .. لقد قطَّعَت النسوةُ أيديَهُن؛ فهن إذن في ذهولٍ عن أنفسهن وفي ذهولٍ عما حولهن .. فالجمال الذي أمامهن إذن جمالٌ لا يحيط به وصف .. وهل هناك وصفٌ أروعُ من هذا أو أصدق؟

•••

وننتقل بعد ذلك إلى مغامرةٍ أخرى من مغامرات يوسف:

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

إذن فقد عدنا إلى تأويل الحديث، ذلك الذي بدأَت به الآية .. ألستَ الآن مشوقًا أن تعرف كيف انتفع يوسف بهذا العلم؟

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ٩ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.

وتمضي الآيات حتى يقول سبحانه عن لسان يوسف:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ * وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ.

أرأيتَ كيف إذن مهَّد السبيل أن يرجع يوسف إلى الملك؟ لقد نسِي من نجا أن يذكُره حين نجا، ولكن الرؤيا تذكِّره، ويسأل يوسف، ويُجيب يوسف الصديق:

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ١٠ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ١١* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ١٢ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ.

لقد أفتى يوسف، ولكن يوسف يُصِر أن يعرف الملك الحقيقةَ من أمره؛ فقد دخل السجن مُتَّهَمًا من زوجته ومن النساء الأخريات.

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ١٣ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.

لقد رأت النسوة، ورأت امرأة العزيز أن الأمر أصبح جِدًّا لا هزلَ فيه، وأن الشعب كلَّه مُهدَّد بمجاعةٍ إذا لم يأخذ الملكُ قولَ يوسف أخذ صِدْق .. فلا بد إذن تصيح: الآن حَصحَص الحق.

وترفع عن يوسف تهمة الخيانة .. ويمضي يوسف إلى عهدٍ جديد من حياته، ونسير معه في هذه القصة الأخَّاذة المعجزة في عرضها. وإن لم يكن القرآن معجزة، فما المعجزة؟

ماذا فعل الملِك حين عَلِم الحقَّ من أمر يوسف؟

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ١٤ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

في كلماتٍ قلائل أصبح يوسفُ على خزائن الأرض .. ولكن أرأيتَ كيف أُلقيَت إليكَ هذه الآيات؟ طلب يوسف أن يكون على الخزائن، وأبدى السبب القوي .. إنه حفيظٌ عليم؛ أي إنه يريد الخير لهذه الخزائن وللناس .. ثم لا نسمع ردًّا من الملِك، وإنما يقول جلَّ وعلا في جملةٍ إخبارية تبدو كأنها بعيدةٌ عن الخزائن نفسها إنه يريد أن يقدِّم الحكمة من كل ما مضى من أحداثٍ ليوسف .. وَكَذَلِكَ مكَّنَّا لِيُوسُفَ .. أعطيناه ما يستحقه من تكريم .. ومن هذه الجملة تعرف أنه أصبح على خزائن الأرض دون أن يذكر ذلك صراحة.

وتنتقل السورة فجأةً إلى أمرٍ كنا أوشكنا أن ننساه .. ماذا فعل إخوة يوسف؟ ماذا كان من شأنهم وشأن أبيهم؟

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ.

أتُراكَ ترى الإعجاز الفني في هذه الآيات؟ لقد ذكَرَت السورة في أولها أن هناك أخًا شقيقًا ليوسف لم تذكُره السورة بعد ذلك أبدًا. حتى لتعجب ما الداعي إلى تخصيص ذكره. ولا يلبثُ عجبك أن يزول حين تجد يوسف يسأل إخوته عن أخيه هذا الشقيق .. أتُراك تذكُر هذا الأخ؟ وما لنا لا نقرأ السورة من أوائلها، ونتذكَّر تلك المؤامرة التي دبَّرَها هؤلاء الإخوة؟ ألم يقولوا آنذاك:

إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.

أذكرتَ الآن ذلك الأخ؟ وفي إعجازٍ رائع وذكاءٍ قصصي فريد يريد يوسف أن يرى أباه وأخاه، ويريد إخوته هؤلاء المؤتمرون أن يعرفوا حقيقته. فهو لا يطالعهم بهذه الحقيقة في جملةٍ إخبارية ساذجة .. وإنما يسألهم عن أخيهم من أبيهم، ويهدِّدهم إن لم يأتوا به فلا كيل لهم عنده، ولا هو يسمح لهم بأن يقتربوا منه .. ويعرف الإخوة أنهم أصبحوا في مأزِق؛ فإن أباهم لن يسمح لهم أن يأخذوا الأخ الثاني أيضًا .. ماذا يفعلون؟

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ١٥ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

انظر إلى يوسف الذي يعرف إخوتَه ويعرف أباه .. لقد وضع لهم كيلَهم في رحالهم، وهو يعلم أنهم مع ذلك سيعودون، ويعرف أن أباه سيمنع أخاه، ولكنهم سيجدون وسيلةً لإقناعه .. انظر معي:

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ١٦ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا ..

إنها شخصياتٌ بشرية تمور بالحياة. تلك هي الشخصية القصصية المكتملة لا تجد فيها اضطرابًا فنيًّا .. أو تناقضًا في السلوك .. إن الإخوة الطامعين الذين تخلَّصوا من أخيهم حتى يخلُوَ لهم وجه أبيهم هم أنفسهم الذين يحاولون أن يصحبوا أخاهم الثاني ليزداد لهم الكيل؛ فهم غير راضين عما أصابوا، ولكن ما رأيُ الأب؟

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ١٧ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ.

ويعود الإخوة كما توقَّع يوسف .. ويُقرِّب يوسف أخاه ويؤمِّنه ويُخبره أنه أخوه. وفجأةً يواجه الإخوةَ حدثٌ جديد .. مهَّدَ له العزيز يوسف بطمأنة أخيه .. دون أن يُطَمْئِن إخوته.

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ١٨ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ.

مفاجأةٌ قصصية عجيبة، وجديدةٌ على مسار القصة .. ويفتِّشهم العمال باحثين عن صُواع الملك الضائع .. فإذا بالصُّواع في رحل أخي يوسف .. ويُسقَط في يد الإخوة.

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ.

إذن فقد نزلَت الطامَّة. ويتشاور الإخوة فيما يفعلون، فيقول كبيرهم إنه سيبقى إلى جانب أخيه. وعليهم هم أن يُخبِروا أباهم أن ابنه قد سرَق، وأن هذا لم يكن في حسبانهم، ولكن هيهات.

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ١٩.

وهكذا تبلُغ القصة قمَّتَها وتكتمل المأساة .. وأسهل شيءٍ في القصة أو الرواية عند السرد هي القمة أو المأساة، وأصعب شيءٍ هو بلوغ هذه القمة. كيف يستطيع الراوي أن يصل إليها في فنية وبراعة دون قفزاتٍ متكلَّفة لا تمهيد فيها ولا معقولية. إن البلوغ إلى القمة هو أصعبُ شيءٍ في القصة وفي الحياة جميعًا.

وحين يصل الروائي إلى القمة تواجهه صعوبةٌ أخرى. كيف يصل من هذه القمة إلى الحل؟ هذا هو إعجاز القرآن. أما في القصة الكاملة فلا بد أن يكون الكاتب روائيًّا متمكنًا لا تُفلِت منه الخيوط، ولا تنساب من بين يدَيه الشخصيات لتضرب في ظلامٍ دامس من اللامعقولية والتخبُّط.

أعود فأُكرِّر أنني أشُك كثيرًا أن يكون الغرب بمنأًى عن هذه القصص القرآنية. لعل التاريخ قد أهمل .. وكم أهمل التاريخ .. فلم يذكُر لنا أن القرآن قد تُرجِم إلا في العصر الأخير. وإلا فكيف استطاع أولئك الروائيون الذين أنشَئوا فن القصة أن يضعوا هذه القواعد، فإذن هي منقولةٌ عن القرآن وقصصه نقلًا يُوشِك أن يكون حرفيًّا. نعرف أن القرآن قد تُرجِم وأفاد منه تولستوي الذي كان يعرف العربية، ولكني أعتقد أنه تُرجِم قبل أن يُعرف فن الرواية جميعًا.

سيروا بنا مع خاتمة قصة يوسف لنرى كيف أُخذَت قواعدُ القصة من العرض الفني لقصص القرآن.

في غمرة من يأس الأب على فقد ولدَيه يقول لبنيه:

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.

إذن فالأب لم يَيئَس أن يلقى يوسف؛ فإنه لا يَيئَس من روح الله إلا الكافرون. والآية التالية مباشرة تنفيذٌ لرغبة الأب.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ٢٠ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

أرأيتم كيف تجمع القصة الخيوط لا تُفلِت منها شيئًا. لقد غفر الأخ لإخوته عن خطئهم، ولم يَبقَ إلا الأب. هيا بنا لنرى ماذا يكون من شأنه.

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ٢١ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ.

أتُراك ترى مثلي هذا التمهيد الرائع للحدَث عند الأب. وترى معي هذه السخرية التي تجعلُك تتشكَّك في وقوع الحدَث. ولا تنتظر السورة بعد ذلك .. بل تصُك المستقبل بالمعجزة في قوةٍ فنية فائقة.

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

لقد وقعَت المعجزة .. وآن للأب أن يقول لقد كنتُ أعلم ما لا تعلمون .. وتمضي الآيات بعد لتلُمَّ الأسرة التي ظلَّت متفرقةً حينًا من الدهر.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ٢٢ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

وهكذا تستدير القصة .. وتعود نهايتُها إلى أولها، إذ قال يوسف لأبيه:

يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ صدق الله العظيم.

١  غيابة الجب: قاعه.
٢  السيارة: الذين يسيرون في الأرض.
٣  واردهم: الذي يَرِد الماء، ويستقي لهم.
٤  أكرمي مثواه: اجعلي مقامه عندنا كريمًا.
٥  هيتَ لك: أقبِل وبادِر، وهو اسم فعل.
٦  قدَّت قميصَه من دُبُر: أي شقَّت قميصَه من الخلف.
٧  ألفَيا: وجَدا.
٨  اعتدَت لهن متَّكأ: أعدَّت لهن ما يتَّكِئن عليه من الوسائد.
٩  ملة: دين.
١٠  سبعٌ شداد: أي سنون من القحط.
١١  تُحصِنون: تُحرِزون لبذور الزراعة.
١٢  يُغاث الناس: أي يُمطَرون من الغيث وهو المطر.
١٣  حَصحَص: ثبت واستقر.
١٤  مكين: ذو مكانة.
١٥  سنُراوِد عنه أباه: سنجتهدُ في طلَبه من أبيه.
١٦  نميز: نجلبُ ما يُؤكَل.
١٧  يُحاط به: يهلك.
١٨  العِير: القافلة.
١٩  كظيم: مملوء من الغيظ.
٢٠  ببضاعةٍ مزجاة: رديئة.
٢١  فصلَت العِير: انفصلَت الإبل عن أرض مصر.
٢٢  نزَغ: أفسَد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤