مقدمة

استرعت ظاهرة المد الديني الإسلامي — الظاهرة التي يطلِق عليها أصحابها اسم «الصحوة» — أنظار الكثير من الدارسين والباحثين من تخصصات مختلفة وبتوجهات ورؤًى متباينة. وتعددت المداخل، وتناقضت النتائج، واختلط التفسير — تفسير الظاهرة — بالتبرير. وإذا كان من الصعب هنا الإلمام المستوعب بالخطوط والاتجاهات العامة والدراسات والأبحاث التي أُجريت، فإنه يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى الاتجاهات والمواقف الرئيسية. أول هذه الاتجاهات وأكثرها بروزًا اتجاه المؤسسة الدينية الرسمية للدولة الممثلة في الأزهر، وفي بعض رجال الدين الذين يصنَّفون عادة في صفوف «المعارضة الدينية». ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الظاهرة إيجابية في مجملها، أي من حيث دلالتها ومغزاها، وإن كانت تحتاج إلى الترشيد والتوعية بصفة خاصة. وفي الفصل الأول من هذا الكتاب تعاملنا مع هذا الموقف من منظور التوحيد بينه وبين الظاهرة ذاتها، من حيث إن كليهما يستند إلى الثوابت الفكرية نفسها، ويعتمد على الآليات نفسها في إنتاج الخطاب.

أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الذي تعامل مع الظاهرة بوصفها تعبيرًا حضاريًّا عن واقع جديد، يرفض التبعية والهيمنة الأمريكية الأوروبية. وهذا الاتجاه يتبنى في الغالب مفهومًا ﻟ «الخصوصية» يقوم على الانعزال والتقوقع والاكتفاء الذاتي، ويتناسى أن الخروج من أسر التبعية والهيمنة لا يمكن أن يتم بمجرد العودة إلى الأصول الحضارية والثقافية للأمة، وهي الأصول التي تُختزل في «الإسلام» وحده، وكأن الأمة لم تكن لها حياة سابقة مديدة قبل الإسلام، حياة أنتجت فيها حضارات، وصاغت ثقافات، تمثل «أصولًا» هي الأخرى. وبالإضافة إلى ذلك، فليست الأصول، التي تحدد خصوصية الأمة وتصوغ لها هويتها التاريخية، أصولًا ثابتة ساكنة خامدة معلقة في الفراغ، بحيث يمكن استدعاؤها وارتداؤها كما يغيِّر الإنسان ثيابه. ويتعدد الممثلون لهذا الاتجاه، وأغلبهم — إن لم يكن جميعهم — لهم إسهاماتهم المتأثرة بقراءاتهم لجانب أو آخرَ من الثقافة الأوروبية الحديثة، وكانوا ينتمون بدرجات متفاوتة إلى تيار اليسار السياسي والفكري بالمعنى العام الذي يستوعب الماركسية والاشتراكية والقومية. وليس يهمُّنا مِن ممثلي هذا الاتجاه الثاني مَن ارتدُّوا على أعقابهم وارتحلوا من اليسار إلى اليمين، وحسموا اختياراتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية، بشكل نهائي. لذلك كان الفصل الثاني قراءةً في مشروع اليسار الإسلامي كما يتجلى في كتابات حسن حنفي بشكل عام، وفي مشروعه الموسوعي «من العقيدة إلى الثورة» بشكل خاص. ولأن اليسار الإسلامي يقدم قراءة للإسلام مغايرة لقراءة اليمين الديني، فضلًا عن نظرته الحيوية للتراث الفكري في الإسلام، فقد كان من الطبيعي أن يتركز الحوار في هذا الفصل الثاني حول آليات القراءة ومشروعية التأويل.

وكان من الضروري والمنطقي أن ننتقل في الفصل الثالث من قراءة التراث الفكري إلى طرح إشكاليات قراءة النصوص الدينية ذاتها، وهي إشكاليات لم تُطرح حتى الآن بشكل علمي موضوعي. ولعل هذا الطرح يساهم بشكل أو بآخرَ في ترشيد الجدل السِّجالي القديم والمستمر من جانب الرافضين لمشروعية شعار «الإسلام هو الحل»، وهو الاتجاه الثالث في التعامل مع ظاهرة المد الديني. وهذا الاتجاه ينافس في بروزه الاتجاه الأول — اتجاه المؤسسة الدينية الرسمية — وإن كان لا يطاوله من حيث الانتشار الإعلامي. وليس هذا الاتجاه الثالث وليد حركة المد الديني أو مجرد استجابة سلبية لها، بل هو تيار أصيل في فكرنا الحديث، لعل من أبرز ممثليه مَن يُطلق عليهم اسم «التنويريين»، ويُطلق على أصحاب هذا الاتجاه الآن اسم «العلمانيين»، وهو اسم يراد به أحيانًا الوصم بالكفر والإلحاد والمروق من الدين، وكل ما يستتبع ذلك من أوصاف التبعية والعمالة والخيانة القومية والوطنية.

وليس من قبيل الاستطراد هنا أن نكرر ما هو معروف من أن المعركة شبه الدموية التي دارت حول كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» لم تكن معركة ثقافية فكرية حول قضية الشعر الجاهلي موضوع الكتاب. لقد دارت المعركة حول ما طرحه طه حسين في سياق كتابه، بتردد وتواضع، من قراءة لبعض النصوص الدينية المتصلة بالوقائع التاريخية. والدليل على ذلك أن الطبعة الثانية من الكتاب، التي صدرت باسم «في الأدب الجاهلي»، لم يحذف المؤلف منها سوى تلك السطور عن القرآن وعن مدى إمكانية اعتباره مصدرًا للوقائع التاريخية. لم تكن المعركة إذن معركة الشعر بل كانت معركة قراءة النصوص الدينية طبقًا لآليات العقل الإنساني التاريخي، لا العقل الغيبي الغارق في الخرافة والأسطورة. ولضراوة المعركة وشراسة القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في سيطرة الخرافة والأسطورة تم قمع الخطاب التنويري. ولقد تكررت المعركة مرة ثانية، وإن على مستوًى أكاديمي، حين تقدم محمد أحمد خلف الله لنيل درجة الدكتوراه من كلية الآداب جامعة القاهرة في موضوع «الفن القصصي في القرآن الكريم». ورأى بعض الأساتذة من أعضاء لجنة فحص الرسالة أن بعض ما ورد في الرسالة من تفرقة بين الحقائق التاريخية وبين القصص القرآني يخالف حقائق الدين والشريعة. وتم رفض الرسالة، بل وتقرر حرمان المشرف عليها، الشيخ أمين الخولي، من حق الإشراف على أية رسائل علمية تتعلق بدراسة النصوص الدينية.

المعركة في حقيقتها إذن معركة قديمة في فكرنا الحديث، وهي ليست مجرد معركة حول قراءة النصوص الدينية أو حول تأويلها، بل هي معركة شاملة تدور على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. معركة تخوضها قوى الخرافة والأسطورة باسم الدين والتمسك بالمعاني الحرفية للنصوص الدينية. وتحاول قوى التقدم العقلانية أن تنازل الأسطورة والخرافة أحيانًا على أرضها. ولأن النزال غالبًا ما يتم بآليات السجال الأيديولوجي دون البدء في تحقيق وعي علمي بطبيعة النصوص الدينية، وبطرائق قراءتها وتأويلها، تظل الغلبة على هذا المستوى من السجال للخطاب الديني على الخطاب العقلاني. وقد آن الأوان للخروج من هذا المأزق، والتخلص من عقدة التأويل والتأويل المضاد للنصوص بتحديد طبيعة النص الديني وآلياته في إنتاج الدلالة، وهذا هو المشروع الاستكشافي الذي يحاوله الفصل الثالث. وهو مشروع في حالة تخلُّق يحتاج إلى جهود كثيرة، مخلصة ودائبة، كيما يتحقق وينهض على أساس علمي مكين.

وإذا كان هناك من لا يزال يتشكك في جدوى التصدي بالدرس والتحليل والتمحيص للفكر الديني بمختلف اتجاهاته وفصائله، بدعوى أن «الدين» مكوِّن جوهري أصيل من مكونات هذه الأمة، وأنه لا بد من ثم أن يكون عنصرًا أساسيًّا في مشروع النهضة، فإن عليه ألا يأخذ الخطاب الديني بظاهر أطروحاته الدعائية الإعلامية. وعليه أن يفهم اليافطات في سياق المواقف السياسية المباشرة من قضايا التنمية والعدل الاجتماعي والاستقلال الاقتصادي والسياسي. إن عملية النصب الكبرى الأخيرة — التي لا مثيل لها ربما في تاريخ البشرية — التي تمَّت باسم الإسلام لم يكن يمكن لها أن تحقق ما حققته دون تمهيد الأرض بخطاب يكرس الأسطورة والخرافة ويقتل العقل. وكانت الأسطورة أن التقوى تجلب البركة وتدرُّ الربح الوفير، وهي أسطورة وقع في أحابيلها الشيطانية لا العامة والأميون فقط، بل متعلمون ومثقفون وعلماء واقتصاديون. وليس مهمًّا أن يكون محركهم للوقوع في الأحبولة الإيمان أو الطمع، ما دام غياب العقل والمنطق — بما في ذلك العقل النفعي الخالص — ارتبط بالحالتين.

لا خلاف على أن الدين — وليس الإسلام وحده — يجب أن يكون عنصرًا أساسيًّا في أي مشروع للنهضة، والخلاف يتركز حول المقصود من الدين: هل المقصود الدين كما يُطرح ويمارَس بشكل أيديولوجي نفعي من جانب اليمين واليسار على السواء، أم الدين بعد تحليله وفهمه وتأويله تأويلًا علميًّا ينفي عنه الأسطورة، ويستبقي ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية؟ والعلمانية في جوهرها ليست سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، لا ما يروِّج له المبطلون من أنها الإلحاد الذي يفصل الدين عن المجتمع والحياة. إن الخطاب الديني يخلط عن عمد وبوعي ماكر خبيث بين فصل الدولة عن الكنيسة، أي فصل السلطة السياسية عن الدين، وبين فصل الدين عن المجتمع والحياة. الفصل الأول ممكن وضروري وقد حققته أوروبا بالفعل، فخرجت من ظلام العصور الوسطى إلى رحاب العلم والتقدم والحرية، أما الفصل الثاني — فصل الدين عن المجتمع والحياة — فهو وهم يروِّج له الخطاب الديني في محاربته للعلمانية، وليكرس اتهامه لها بالإلحاد. ومن يملك قوة فصم الدين عن المجتمع أو الحياة، وأية قوة تستطيع تنفيذ القرار إذا أمكن له الصدور؟ والهدف الذي يسعى له الخطاب الديني من ذلك الخلط الماكر والخبيث واضح بيِّن لا يخفى على أحد: أن يجمع أصحاب المصلحة في إنتاجه بين قوة الدين وقوة الدولة، بين السلطة السياسية والسلطة الدينية. ويزعمون فوق ذلك كله أن الإسلام الذي ينادون به لا يعترف بالكهنوت ولا يقبله. لكن عجائب الخطاب الديني لا تنتهي فيناقض نفسه ويحدثنا عن أسلمة العلوم والآداب والفنون! وهل فعلت كنيسة العصور الوسطى في أوروبا أكثر من ذلك؟!

وبعدُ، فإذا كانت هذه الفصول الثلاثة قد سبق نشرها منفصلة — نُشر الفصل الأول في الكتاب غير الدوري «قضايا فكرية»، الكتاب الثامن بعنوان «الإسلام السياسي: الأسس الفكرية والأهداف العملية»، صدر في القاهرة في شهر أكتوبر عام ١٩٨٩م؛ ونُشر الفصل الثاني في مَجلة «ألِف» التي تصدر عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد العاشر عام ١٩٩٠م؛ أما الفصل الثالث والأخير فقد أُلقي أولًا في شكل محاضرة في سلسلة المحاضرات التَّذكارية التي تُلقى كل عام تخليدًا لذكرى عبد العزيز الأهواني، أُلقيت في الذكرى العاشرة، مارس عام ١٩٩٠م؛ ثم نُشر بعد ذلك في الكتاب الدوري «قضايا وشهادات»، العدد الثاني، دمشق عام ١٩٩٠م — فإن وحدتها لا تكمن فقط في وحدة الموضوع الذي تتناوله، وهو الخطاب الديني، بل تتجلى بشكل أبرز في كونها جزءًا حيويًّا من منظومة أكبر، منظومة العقل في صراعه ضد الخرافة، والعدل في صراعه ضد الظلم، والحرية في صراعها ضد كل أنماط العبودية والقهر والاستغلال.

نصر حامد أبو زيد
الجيزة في يونيو ١٩٩٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥