الرسالة الرابعة والعشرون

حول الأكاديميات

أجل، كان للإنكليز — قبلنا بزمنٍ طويل — مجمعٌ للعلوم، ولكنه ليس من حُسْنِ التنظيم كمجمعنا، وذلك عن كونه أكثر قِدمًا، فقط، على ما يحتمل؛ وذلك لأنه لو كان قد أُقِيمَ بعد مجمع باريس لانتحل بعض القوانين الحكيمة ولأصلح القوانين الأخرى.

ويُعْوِز الجمعية الملكية بلندن أمران يُعدان ألزم ما يكون للناس، وهما: الجوائز والقواعد، ويُضْمَن قليل مال لمن له مكانٌ في الأكاديمية بباريس، عالمًا بالهندسة كان أو كيماويًّا مثلًا، وعلى العكس يستلزم الانتساب إلى الجمعية الملكية بلندن مالًا، ومن يقُلْ في إنكلترة: «أحب الفنون»، ويُرِدْ أنْ يكون من الجمعية، ينل هذا من فوره، ولكن من يُرِدْ في فرنسة أنْ يكون عضوًا ذا راتب من أعضاء الأكاديمية لا يَكْفِه أنْ يكون هاويًا، وإنما يجب أنْ يكون عالمًا، وأنْ ينازع؛ ليفوز بالمكان، منافسين يُخشى جانبهم بما يمازجهم من طلب المجد والسعي وراء المصلحة، وبما يلاقون من العقبات، وبما اكتسبوا من صلابة العود التي تنشأ — عادة — عن دراسة علوم الحساب بعناد.

ومن الفطنة أنْ قُصِرَت أكاديمية العلوم على درس الطبيعة، والحق أنَّ هذا الميدان هو من الاتساع ما يستوعب معه خمسين شخصًا أو ستين، وتخلط أكاديمية لندن ما بين الأدب والفِزياء بلا تفريق، ويَظْهَرُ لي أنه يَجْدُرُ وجود أكاديمية خاصة بالآداب الجميلة اجتنابًا لاختلاط الأمور، فلا يُبْحَثُ في زينة الرأس لدى الرومانيات بجانب مائة خطٍّ منحنٍ جديد.

وبما أنَّ جمعية لندن قليلة الترتيب خالية من التشجيع، وبما أنَّ مجمع باريس على النقيض تمامًا؛ فإنه لا يُدْهشنا أنْ تكون مذكرات مجمعنا أرقى من مذكرات جمعيتهم — ولا عجب — فالجنود الأحسن نظامًا والأجزل أجرًا يفوزون على المتطوعين على مر الزمن. أجل، كانت الجمعية الملكية تشتمل على رجلٍ مثل نيوتن، ولكنها لم تُنْتِجه، حتى إنَّ القليل من زملائه كانوا يدركون أمره، فعبقريٌّ مثل مستر نيوتن كان ملك جميع أكاديميات أوروبة لما وجب عليها أنْ تتعلم منه كثيرًا.

وفي أواخر عهد الملكة حَنَّة، عَنَّ للدكتور سويفت الشهير إنشاء أكاديمية للغة على غرار الأكاديمية الفرنسية، وقد اعْتُمِد في هذا المشروع على أمين بيت المال الكبير، كونت أكسفورد، وعلى الوزير الڨيكونت، بولينغبروك، الذي أُعْطِي موهبة الارتجال في البرلمان بمثل صفاء ما يكتب سويفت في حجرته، والذي كان يَغْدُو حامي هذه الأكاديمية وفخرها. هذه الأكاديمية التي كانت تؤلَّف — كما يجب — من رجال تبقى آثارهم ما بَقِيَت اللغة الإنكليزية، كانت تؤلَّف من الدكتور سويفت، ومن مستر بريار الذي رأيناه هنا نائبًا عامًّا، والذي له في إنكلترة مثل شهرة لافونتِن بيننا، ومن بوالو إنكلترة؛ مستر بوب، ومن مستر كنغريڨ الذي يُمكن أن يسمى موليار، ومن آخرين كثيرين لا تحضرني أسماؤهم هنا، ومن جميع هؤلاء الذين كان يزدهر بهم هذا المجمع منذ إنشائه، بيد أنَّ الملكة تموت بغتة، ويدور في رأس الأحرار شنق حماة الأكاديمية، ويكون هذا ضربة قاتلة للأدب الجميل كما تَرَون، وكان يبدو أعضاء هذه الهيئة لو تمَّ أمرها، أرقى من الأولين الذين تتألف منهم الأكاديمية الفرنسية؛ وذلك لأن سويفت وبريار وكنغريڨ ودريدن وبوب وأديسن وغيرهم؛ قد مَكَّنُوا اللغة الإنكليزية بمؤلفاتهم، وذلك مع كون شابلن وكُولِّته وكاسِّين وفارِه وبرَّان وكُوتان؛ أي رجال أكاديميتكم الأولين، عار أمتكم، وكون أسمائهم بلغت من إثارة السخرية ما لو كان معه أحد الكُتَّاب العابرون من سوء الحظ ما دعا معه نفسه شابلن أو كوتن لاضطر إلى تغيير اسمه، ومن أخصِّ ما كان يجب أنْ يقع اتخاذ الأكاديمية الإنكليزية أشاغيل تختلف عن أشاغيل أكاديميتنا كلَّ الاختلاف، ومما حدث ذات يوم أنْ سألني أحد الألِباء في ذلك البلد عن مذكرات الأكاديمية الفرنسية، فأجبته عن سؤاله بقولي: «إنه لا يكتب مذكرات مطلقًا، ولكنه طبع ستين مجلدًا أو ثمانين مجلدًا من المجاملات»، ويتصفح مجلدًا أو اثنين منها فلم يستطع أنْ يدرك هذا الأسلوب مطلقًا، مع أنه بدا حَسن الفهم لجميع كُتَّابنا المجيدين. وقد قال لي: «إنَّ كل ما أُبصر في هذا الكلام الجميل هو أنَّ المرشح، بعد اختياره، إذ يوَكِّد أن سلفه كان رجلًا عظيمًا، وأن الكردينال ريشليو كان رجلًا عظيمًا جدًّا، وأن الوزير سيغيه على شيء من العظمة، وأن لويس الرابع عشر أكثر من عظيم. يجيبه المدير بالشيء عينه مضيفًا إمكان ظهور ذاك المرشح المنتخب رجلًا عظيمًا أيضًا، وذلك مع عدم ترك المدير لنصيبه من العظمة.»

ومن السهل أنْ يُرَى أيُّ قدرٍ أوجب على هذه الخطب أن تكون قليلة التشريف لهذه الهيئة، «وسوء الوقت خيرٌ من سوء المرء»، وذلك أنَّ مما قام بالتد يربح تلك العادة التي تقضي على كل عضوٍ من الأكاديمية أنْ يكرر هذه المدائح في حفلة القبول، فكان هذا ضربًا من عوامل تبرُّم الجمهور، وإذا ما بُحث — بعد ذلك — عن السبب في كون أكابر العباقرة الذين دخلوا هذه الهيئة قد أتوا بأسوأ الخطب وجد أنه أيسر من ذاك، وذلك أنهم أرادوا التألق، وأنهم أرادوا أنْ يتناولوا، مجددًا، موضوعًا مطروقًا تمامًا، فضرورة الكلام وورطة عدم وجود ما يقال وشهوة النكَيِّس أمور ثلاثةٌ، يمكنها أنْ تحول أعظم رجل إلى مهزأة، وهم إذ كانوا راغبين عن إيجاد أفكارٍ جديدة؛ فإنهم بحثوا عن لباقات جديدة، فتكلموا بلا تفكير، كمن يعلك بلا علكٍ، وتظاهروا بالأكل مع خورهم جوعًا.

ومع أنَّ من قواعد الأكاديمية الفرنسية أنْ تُطْبَع جميع هذه الخطب التي عُرِفَت بها؛ فإنه كان من الواجب عدم طبعها.

وقد هدفت أكاديمية الآداب الجميلة إلى غرضٍ أعظم حكمة وأكثر فائدة، وهو أنْ تُعْرض على الجمهور مجموعةٌ من المذكرات الزاخرة بمباحث النقد الطريف، وقد قُدِّرت هذه المذكرات لدى الأجانب، وإنما الذي يُرْجى هو أنْ تكون بعض الموضوعات فيها أكثر عمقًا، وألا تعالج فيها موضوعات أخرى، ومن ذلك أن يستغنى مثلًا عن البحث في مزية اليد اليمنى على اليد اليسرى، وعن مباحث أخرى، ليست أقل لغوًا تحت عناوين أقل إثارة للسخرية.

وتشتمل أكاديمية العلوم — في مباحثها الأكثر صعوبة والأظهر نفعًا — على معرفةٍ للطبيعة وإكمال للفنون، وهنالك ما يحمل على الاعتقاد بأن الدراسات البالغة العمق والسياق، والحسابات البالغة الضبط، والاكتشافات البالغة الدقة، والمقاصد البالغة العظمة، تسفر — في آخر الأمر — عما فيه خير العالم.

ومما لاحظناه معًا أنَّ أنفع الاكتشافات وقع في أكثر القرون بربرية، ويلوح أنَّ نصيب أكثر الأزمنة نورًا والجمعيات عرفانًا يقوم على البرهنة حول ما كان الجاهلون قد اخترعوه — ومما يُعْلَم اليوم — بعد مجادلاتٍ طويلة بين السيدين هويغنز ورينو، تعيين أنفع زاوية في سكان١ السفينة مع الحيزوم،٢ ولكن كريستوف كولنبس اكتشف أمريكة من غير أنْ يخطر بباله أمر هذه الزاوية.

وأراني بعيدًا من الذهاب بهذا إلى وجوب الوقوف عند حَدِّ العمل الأعمى فقط، ولكن من الخير أنْ يقرن علماء الفزياء والهندسة أمر العمل بالنظر، وهل من الواجب أنْ يكون أكثر ما يشرف الذهن البشري أقل ما يكون فائدة في الغالب؟ ويصبح الرجل العالم بقواعد الحساب الأربع مع حسن الفهم تاجرًا كبيرًا؛ أي مثل جاك كور أو دلمه أو برنارد، على حين يقضي العالم الجبري حياته باحثًا في الأعداد عن النسب والخاصِّيَّات العجيبة، ولكن من غير استعمالٍ، ومن غير أنْ يتعلم منها ما المبادلة مثلًا، وهذه حال جميع الفنون تقريبًا، وتوجد نقطةٌ إذا ما جاوزتها وَجَدْتَ المباحث أمر طرافة فقط، والنقطة هي أنَّ هذه الحقائق الدقيقة غير النافعة تشابه النجوم التي لا تنير لنا السبيل مطلقًا لبُعدها.

وأية خدمةٍ لا تكون الأكاديمية الفرنسية قد أسدتها إلى الآداب واللغة والأمة إذا ما طَبَعَتْ أحسنَ آثار عصر لويس الرابع عشر خالية من جميع الأغاليط اللغوية التي تسربت فيها، وذلك بدلًا من أنْ تَطْبَعَ مدائح في كل عام؟ وترى كرناي وموليار زاخرين بالأغاليط، وترى الأغاليط كثيرة في لافونتن. وما لا يمكن إصلاحه منها يُشَار إليه على الأقل، ومن هؤلاء الكُتَّاب الذين تقرءهم أوروبة تتعلم لغتنا تعلمًا مضمونًا، وبهم يثبت صفاؤها إلى الأبد، وتكون الكتب الفرنسية الجيدة التي تُطْبع بهذه العناية على حساب الملك من أفخر آثار الأمة، وقد سمعت أنَّ مسيو دبريئو كان قد قام بمثل هذا العَرْض فيما مضى، وأنه جُدِّد من قِبَلِ رجلٍ مشهورٍ بالذكاء والحكمة والنقد الصحيح، بيد أنه كان لهذه الفكرة مِثْلُ نصيب كثير من المشاريع النافعة، فقد قُبِلَتْ وأُهْمِلَت.

١  السكان من السفينة: الدفة.
٢  الحيزوم: وسط الصدر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤