فيلمَر

لقد تحقق إتقان الطيران نتيجة مجهود آلاف الرجال؛ اقتراح من هذا الرجل وتجربة من ذاك، وفي نهاية المطاف لم يَتبقَّ سوى مجهودٍ ذهني مكثَّف لاستكمال هذه المهمة. غير أنَّ الرأي العامَّ وما يتَّسم به من إجحافٍ دائم قرَّر أنَّ رجلًا واحدًا فقط من بين هؤلاء الرجال، وهو رجلٌ لم يتمكن من الطيران قَط، حَرِيٌّ بأن يُمْنَح لقب المُكتشِف، كما حدث حين قَرَّر أن يُنسَب الفضل في اكتشاف البخار إلى واط، والمُحرِّك البخاري إلى ستيفنسون. وبالرغم من وجود كل هذه الأسماء التي حَظِيَت بالتقدير والاحتفاء، فلم يكن من بينها اسمٌ كاسمِ فيلمَر المسكين، الذي كان الاحتفاء به وتشريفه غريبًا ومأساويًّا. إنه فيلمَر ذلك الخجول المفكِّر الذي تمكَّن من حل المسألة التي حيَّرَت العالَم وأثارت فيه الرَّهبةَ على مدى أجيالٍ عديدة، وهو الرجل الذي ضغَط على الزر الذي غيَّر السلام والحرب في العالم، وكذلك معظم أحوال البشر وسعادتهم. ولن نجد أروع من ذلك مِثالًا على تواضُعِ رَجُل العلم أمام عظمة عِلمه. والواقع أنَّ الكثير من الأمور التي تتعلق بفيلمَر لا يزال غامضًا للغاية، وسوف يظل كذلك لا ريب — ففيلمَر ومَن هم على شاكلتِه لا يجتذبون إليهم كُتَّاب السِّيَر — غير أنَّ الحقائق الأساسية والمشهد الخِتامي هي أمورٌ واضحة بما يكفي، ثم إنَّ لدينا بعض الخطابات والمُذكِّرات والإشارات العَرَضية، ويمكننا استخدام كل ذلك لِتشكيلِ الصورة الكاملة ورَبطِ الأمور بعضها ببعض. وتلك هي القصة التي أكتُبها؛ إذ أربط بين هذا وذاك، لأُصوِّر حياة فيلمَر ووَفاتَه.

إنَّ أَوَّل أَثَرٍ حقيقي تركه فيلمَر على صفحة التاريخ هو المُستنَد الذي تَقدَّم به للحصول على مِنحةٍ دراسية لدراسة الفيزياء في المُختبَرات الحكومية بساوث كينسينجتون. وهو يَصِف نفسه في هذا المُستنَد بأنه ابن «صانع أحذيةٍ عسكرية» (أو «إسكافي» باللغة الدارجة) من دوفر، كما أنه يَذكُر العديد من البَراهينِ التي تدُلُّ على براعته في الكيمياء والرياضيات. ورغبةً منه في الظهور بِمَظهر الكرامة والكبرياء، فقد كان يُحاوِل تعزيز هذه الإنجازات بادِّعاء الفقر وسُوء الحال. وها هو يكتب عن المُختبَر بوصفه «نَحرًا» لِطموحه، وهي زلةٌ كتابية لكنها تُؤيِّد زعمه بأنه قد كرَّس نفسه تمامًا للعلوم. كان المُستنَد مُعتمَدًا بما يدل على أنَّ فيلمَر قد حظي بتلك الفرصة التي كان يبتغيها. غير أننا لم نَتمكَّن من العثور على أي دليلٍ يُشير إلى نجاحه في هذه المُؤسَّسة الحكومية، وذلك حتى وقتٍ قريب.

وعلى الرغم من ذلك، ومع ما عبَّر عنه فيلمَر من حماس للبحث، فقَد اتضح الآن أنَّه قبل عام من حصوله على هذه المنحة كان يجِد بعض الإغراء في احتمال حدوث زيادةٍ صغيرة في دخله الحالي؛ ومن ثَمَّ تَخلَّى عن هذه الأحلام لكي يعمل بأجرٍ يبلغ تسعة بنسات في الساعة، وذلك لدى أحد الأساتذة المَشهورِين بإجراء الأبحاث المُوسَّعة في مجال الفيزياء الشمسية، التي لا تزال من الموضوعات التي تُثير حَيرَة علماء الفلك. بعد ذلك، وعلى مدى فترة سَبعِ سنوات، لم يعرف أَحدٌ عن فيلمَر أي شيء فيما عدا قوائمَ نجاحِ جامعة لندن التي وَردَ اسمه فيها، وارتقاها بِبطء ليصل إلى درجة المرتبة الأولى مع الشرف في بكالوريوس الرياضيات والكيمياء؛ فلم يعرف أَحدٌ عن حياته أين قضاها وكيف، لكنَّ الأرجح أنه استمر في التدريس لتوفير نفقات المعيشة مع إجراء الدراسات اللازمة للحصول على هذه المرتبة. وفجأة بعد ذلك، نجده وقد وَردَ ذِكرُه في مُراسَلات الشاعر آرثر هيكس.

فقد كتب هيكس إلى صديقه فانس: «لعلك تتذكر فيلمَر. حسنًا، إنه لم يتغير على الإطلاق بِغمغَمته العَدائية وذَقَنه البغيض — كيف «يمكن» لرجل أن يَتحمَّل أن يقضي ثلاثة أيامٍ دون أن يَحلِق ذَقَنه؟ — ثم إنَّ مَظهَره يُوحي بالمكر والخداع، وحتى مِعطَفه وياقته البالية لا يَشِيان بأي أَثَر على مرور السنين. كان يكتب في المكتبة وقد جلستُ بجواره وأنا لا أقصد إلا خيرًا، غير أنه تَعمَّد إهانتي حين أَخفَى عني مُفكِّرته. يبدو أنه كان يعمل على بحثٍ مُميَّز ومُبتكَر، وهو يَشكُّ بي أنني من بين جميع الناس سوف أسرقه؛ فقط لأنني كنتُ أحمل كُتَيِّبًا من مطبوعات بودلي بوكليت! لقد نال العديد من الدرجات الرفيعة في الجامعة، وقد أخبرني بها بسرعةٍ كبيرة كما لو أنه كان يخشى أن أُقاطعه قبل أن ينتهي من إخباري بها كلِّها، وتحدَّث عن نَيلِه لدرجة الدكتوراه في العلوم كما قد يتحدث المرء — عادةً — عن استقلال سيارة أجرة. سألني عن عملي بِلُكْنة تحمل في طيَّاتها نَبرة المُقارَنة بين حالينا، بينما كانت ذراعه تَستلقي بِتَوتُّر على الأوراق التي تُخفي فكرته الثمينة حمايةً لها؛ فكرته الوحيدة الواعدة.»

تحدَّث قائلًا: «الشِّعر، حسنًا، الشِّعر. وما الذي تريد أن تعلِّمه للناس من خلال الشِّعر يا هيكس؟»

«إنَّها وظيفةُ تدريسٍ على المستوى الإقليمي، وهي لا تزال مشروعًا في بداية تَبرعُمه، وإنني أشكر الله بإخلاص على نعمة التراخي؛ فلولاها، لكان من الممكن أن أَسلُك أنا أيضًا طريق الدكتوراه في درجة العلوم والدمار …»

سأُوضِّح لكم باختصارٍ ما أعتقد أنه قد وضع فيلمر على الطريق الذي أدَّى إلى ميلاد اكتشافه، أو حتى قد قرَّبه منه. كان هيكس مُخطئًا حين تَنبَّأ لِفيلمَر بالتدريس على المستوى الإقليمي؛ فالمرة الثانية التي سنعرف فيها أخبارًا عنه ستكون وهو يُحاضر في جمعية الفنون عن «المطَّاط وبدائله» — إذ كان قد أصبح مديرًا لِشركةٍ كبيرة في مجال تصنيع المواد البلاستيكية — وفي ذلك الوقت أصبح من المعروف أنه كان عضوًا في جمعية الملاحة الجوية، بالرغم من أنه لم يُساهم قَطُّ في مناقشات هذه الجمعية؛ فقد كان يُفضِّل بالطبع أن يترك فكرته العظيمة كي تَنضَج وتَختمِر دون أي مساعدةٍ خارجية. وفي غُضون سنتَين من تاريخ هذه الورقة التي قدَّمها أمام جمعية الفنون، راح يحصُد العديد من براءات الاختراع، ويُعلن بالعديد من الطرق الغير المُناسِبة أنه قد انتهى من الأبحاث المُتشعِّبة التي جَعلَت من تنفيذ آلة الطيران التي اخترعها حقيقةً واقعة. وقد ظهر أَوَّل تصريحٍ مُؤكَّد بشأن هذا الأمر في جريدةٍ مسائية لا يزيد سِعرها عن نِصفِ بنس تَصدُر عن وكالةِ رجلٍ كان يُقيم مع فيلمَر في المنزل نفسه. ويبدو أنَّ ذلك التعجُّل الذي ظَهر في النهاية بعد طول صَبره المُضني وعمله في السر، قد كان بسبب هَلَعه الذي لم يكن هنالك داعٍ له؛ إذ أعلن بوتِل، ذلك العالِم الأمريكي المدَّعي السيِّئ السمعة، إعلانًا أساء فيلمَر تفسيره بأنه تَنبُّؤ بفكرته.

والآن، ماذا كانت فكرة فيلمَر بالتحديد؟ الواقع أنها فِكرةٌ بسيطة للغاية؛ فقبل عصره، كان مجال علم الطيران يتمثل في اتجاهَين مختلفَين. أَنتَج أحدُهما المناطيد، وهي أجهزةٌ كبيرة أَخفُّ من الهواء، تُحلِّق فيه بسهولة، وهي آمنةٌ نسبيًّا في الهبوط على الأرض، غير أنها تُحلِّق باستسلامٍ تامٍّ مع أي هبَّةِ هواءٍ في أي مكانٍ تَصحَبها إليه. وأمَّا الاتجاه الآخر، فهو الآلات الطائرة التي لم تكن تطير إلا نظريًّا؛ فهي هياكلُ مستويةٌ كبيرة أَثقلُ من الهواء، تدفعها وتُديرها للتشغيل مُحرِّكاتٌ ثقيلة، وهي تتحطم في معظم الأحيان عند هبوطها لأول مرة. وبغض النظر عن حقيقة أنَّها ستتحطم عند الهبوط لا مَحالة، مما يجعل تنفيذها مستحيلًا، فإنَّ وزن الآلات الطائرة قد منحها مَيزةً نظرية؛ فهي تستطيع أن تطير في الهواء ضِدَّ اتجاه الرياح، وهو شرطٌ ضروري لكي يكون للملاحة الجوية أي قيمةٍ عملية على الإطلاق. وأمَّا الإنجاز المُتميِّز الذي حقَّقه فيلمَر فيتمثل في أنه قد أدرك أنَّ المزايا المُتناقِضة التي لا يتوافق بعضها مع بعضٍ في كُلٍّ من المناطيد والآلات الطائرة يمكن أن تجتمع في جهازٍ واحد أَخفَّ من الهواء أو أثقل منه، حسبما نشاء. لقد استَلهَم الفكرة من مثانة السَّمَك القابلة للانقباض والتجاويف الهوائية لدى الطيور، وابتكر تصميمًا لبالوناتٍ مغلقةٍ تمامًا وقابلةٍ للانقباض؛ فحين تَتمدَّد تتمكَّن من رفع جهاز الطيران الفعلي بسهولة، وحين تنقبض من خلال «التركيب العضلي» المُعقَّد الذي دَمجَه حولها فإنها تنسحب بالكامل تقريبًا إلى داخل الهيكل الخارجي. وقد بنى الهيكل الكبير الذي يحمل هذه البالونات من الأنابيب الصُّلبة المجوَّفة، وصمَّم فيها آليَّةً ذكية تقوم بتفريغها من الهواء تلقائيًّا حينما يهبط الجهاز؛ ومن ثَمَّ، فإنَّها تبقى مُفرَّغةً ما دام الطيَّار راغبًا في ذلك. لم تكن تلك الآلة تحتوي على أجنحةٍ أو مَراوحَ كما كانت الحال فيما سبقها من الطائرات، وحتى المُحرِّك الوحيد اللازم لها، لم يكن سوى جهازٍ صغير وقويٍّ يُستَخدم في دفع البالونات إلى الانقباض. وقد تَصوَّر أنَّ هذه الآلة التي ابتكرها يمكن أن تصل إلى ارتفاعٍ معقول وهي تحمل معها الهيكل المُفرَّغ والبالونات المُمَدَّة، ثم يُمكِن بعد ذلك أن تنقبض البالونات، فتسمح للهواء بالدخول إلى الهيكل، ومن خلال تعديل أوزانه يمكن توجيه الهواء في أي اتجاهٍ مُراد. وعندما يهبط ستزداد السرعة المتجهة ويقل الوزن؛ ومن ثَمَّ يمكن استخدامُ الزَّخَم الناتج عن اندفاعه إلى الأسفل من خلال تحويل أوزانه لدفعه في الهواء مُجدَّدًا بينما تَتمدَّد البالُونات. وبالرغم من ذلك، فإنَّ هذا التصوُّر، وهو التصوُّر الجوهري في جميع آلات الطيران الناجحة، لا يزال يحتاج إلى قَدْرٍ هائل من المجهود في العمل على تفاصيله وإتقانها، حتى يُصبح من الممكن تنفيذه في الواقع، وقد بذل فيلمَر هذا المجهود «بِسخاءٍ ودون توانٍ»، وذلك مثلما اعتاد على أن يُخبر مُقابلِيه من الصحفيِّين الذين كانوا يحتشدون حوله في أَوجِ شُهرته. غير أنه كان يُواجه بعض الصعوبة في بِطانة المِنطاد المطَّاطة والقابلة للانقباض؛ إذ وجد أنه يحتاج إلى مادةٍ جديدة. وفي رحلة اكتشافه لهذه المادة الجديدة وتصنيعها بذل فيلمَر مجهودًا شاقًّا ومُضنيًا، حتى إنه يفوق ما قد بَذلَه في العمل على إنجازه الفعلي لاكتشافه العظيم، وهو ما لم يتوانَ فيلمَر عن التأكيد عليه والتصريح به لِمُقابلِيه من الصحفيِّين.

بالرغم من ذلك فلا تتخيَّلْ أنَّ هذه المقابلات قد توالت مباشرةً وبِوَفرة بعد أن أعلن فيلمَر عن اختراعه، بل انقَضَت خمس سنوات ظل خلالها قابعًا في مصنع المطَّاط الخاص به، الذي يبدو أنه كان يعتمد عليه كُليًّا في توفير دَخلِه الصغير. وخلال هذه المدة ظل يقوم بالعديد من المحاولات المُهدَرة لِيؤكِّد لجمهورٍ غيرِ مُبالٍ أساسًا أنه اخترع بالفعل ما قد زعم أنه اخترعه. كان يقضي الجزء الأكبر من وقت فراغه في مراسلة المجلات العلمية والصحف اليومية وغيرهما، يَذكُر فيها ما تَوصَّل إليه من نتائجَ ويَطلُب فيها دعمًا ماليًّا، وقد كان ذلك وحده كفيلًا بإهمال خطاباته. وكان يقضي أيام العُطلات في ترتيب مُقابلاتٍ غيرِ مُوفَّقة مع حارسِي مَقرَّات الصحف الرائدة في لندن، لكنه لم يكن يتمتَّع بتلك الموهبة الاستثنائية في أن يَحُثَّ حارسِي العَقَارات والحمَّالِين على الوثوق فيه. ولا شك في أنه قد حاول أن يُثير اهتمام مكتب الحرب بعمله، ولدينا هذا الخطاب السرِّي من الجنرال فولي فاير إلى إيرل فروجز، الذي يقول فيه الجنرال بطريقته العسكرية الصارمة الحكيمة: «إنَّ الرجل غريبُ الأطوار، وهو يفتقر إلى الذَّوق والكِياسة.» ولهذا فقد ترك اليابانيين لكي يحظَوا بالأولوية في هذا الجانب من الحرب، كما فعلوا بعد ذلك بالفعل، وهي أولويةٌ ما زالوا يتمتَّعون بها، وهو ما يُسبِّب لنا مَشقَّةً عظيمة.

وبضربة حظٍّ، اتضح أنَّ الغِشاء الذي اختَرعَه فيلمَر لكي يستخدمه في بالُونه القابل للانقباض سيكون من المُفيد استخدامُه في صَمَّامات نوعٍ جديد من المُحرِّكات الزيتية، وقد تمكَّن من صُنع نموذجٍ تجريبي لاختراعه. تَخلَّى فيلمَر عن التزامه بمصنع المطَّاط، وكفَّ عن كتابة المُراسَلات، وكرَّس نفسه للعمل على جهازه؛ وذلك في جوٍّ من السرية بدا أنه صِفةٌ ملازمة لجميع ما يقوم به. يبدو أنه كان يُدير عملية صُنعِ أجزائه وجَمعِ مُعظمِها في غُرفة في شورديتش، لكنَّ عملية التجميع النهائية تمَّت في ديمشِرش في كِنت. لم يكن الجهاز الذي صَنعَه كبيرًا بما يكفي لِحَملِ رجل، لكنه استخدم ما كان يُعرف وقتها باسم أشعة ماركوني استخدامًا رائعًا لِلتحكُّم في طيرانه. وفي أول رحلةٍ لجهاز الطيران العملي هذا، حلَّق فوق الحقول بالقرب من جسر بورفورد، وهو يقع بالقرب من هايث في كِنت، وقد تابع فيلمَر مساره في الرحلة ووجَّهه وهو يقود دراجةً بخارية ثلاثية صُمِّمَت خُصوصًا لذلك.

حَقَّقَت رحلة الطيران التجريبية نجاحًا ساحقًا من جميع الجوانب؛ فقد نُقل الجهاز في مَركبةٍ من ديمشِرش إلى جسر بورفورد؛ حيث حلَّق على ارتفاع ثلاثمائة قدمٍ تقريبًا، واندَفَع من هناك حتى كاد يعود إلى ديمشِرش مرةً أخرى، ثم غيَّر اتجاهه باندفاعٍ وسرعة، وارتفَع مُجدَّدًا، وراح يدور، ثم هبط أخيرًا بسلامٍ في أَحَد الحقول التي تقع خَلْف نُزُل بورفورد بريدج. وعند هبوطه، حدث شيءٌ غريب؛ فقد ترجَّل فيلمَر من فوق درَّاجته الثلاثية، وراح يَتلمَّس طريقه في الخَندقِ الفاصل، ثم تَقدَّم ما يَقرُب من عشرين ياردةً نحو انتصاره، وفَردَ ذِراعَيه في حركةٍ غريبة، ثم سَقطَ مَغشيًّا عليه. وعندها، رأى الجميع علاماتِ الرعب التي ارتَسمَت على مَلامِحه، وكذلك جميع علامات الإثارة التي لاحظوها خلال التجربة؛ وإلا لَمَا تَذكَّروها لو لم تكن كذلك، لكنه حين دخل إلى النُّزُل، انتابَتهُ نوبةٌ غيرَ مُبرَّرة من النحيب الهيستيري.

لم يَشهد هذا الحادثَ سِوى عشرين شخصًا على الأكثر، وقد كان مُعظمُهم من البُسطاء الذين لم يَحظَوا بِفُرصةٍ في التعليم. أمَّا قائمة المُتعلِّمِين من الحضور، فلم تتمثَّل إلا في الطبيب الجديد لبلدة نيورومني، الذي شَهِد الصعود، لكنه لم يشهد الهبوط؛ إذ إنَّ حِصانه قد جَفَل من الجهاز الكهربائي الموجود على درَّاجة فيلمَر، وتعثَّر به في الطريق؛ وفَردَين من شرطة كِنت، كانا قد شاهَدا التجربة من عَربتهِما بصفةٍ غير رسمية؛ وكذلك بائع كان يجول بين الحشد ببضاعته، مع سيدتَين تركبان درَّاجتَين. حضر العرض اثنان من المُراسِلِين؛ أحدهما يمثل صحيفة فولكستون، وقد كان صحفيًّا من الدرجة الرابعة يختص بتغطية «الندوات»، وقد تكفَّل فيلمَر بدفع أَجْره الزهيد؛ فلطالما كان حريصًا على التغطية الإعلامية المناسبة، ولمَّا توصَّل إلى طريقةٍ للحصول على تغطيةٍ إعلانية مناسبة لجهازه، ها هو قد دفع أجرها. وأمَّا الآخر، فقد كان من هؤلاء الكُتَّاب الذين يمكنهم أن يُضْفُوا على أكثر الأحداث مِصداقيةً وواقعيةً طابعًا خياليًّا مُقنِعًا، وقد ظَهرَت روايته عن الحدث، والتي كانت تحمل قَدْرًا من الجِدِّية وقَدْرًا من الطَّرافة، في صفحةٍ بإحدى الصحف الشهيرة. ولِحُسن حَظ فيلمَر أنَّ ما يستخدمه هذا الشخص من طرقٍ ودِّيَّة، كان أكثر إقناعًا؛ فقد ذهب ليعرض على بانهريست مقالةً إضافية عن الموضوع — وبانهريست هو مالك صحيفة نيو بيبر، وهو أحد أَقدرِ الرجال في مجال الصحافة في لندن، ومن أكثرهم افتقارًا إلى المبادئ الأخلاقية — وقد استغل بانهريست الموقف على الفور؛ فقد اختفى المُراسِل من القصة بعد أن حصل على تعويض كافٍ بالطبع، وهو ما يثير الشكوك. أمَّا بانهريست، فسوف يذهب بنفسه إلى ديمشرِش، بذَقَنه المزدوجة، وبَذلَته الرمادية المصنوعة من القطن المُضلَّع، وبطنه وصوته وحركاته، متَّبعًا حاسَّته الصحفية التي لا مثيل لها. لقد عرف حقيقة الأمر كلِّه من لمحةٍ واحدة، وعرف ما كان وما قد يُصبِح عليه.

وبظهوره في المشهد حقَّقَت أبحاث فيلمَر، التي ظلَّت طيَّ الكِتمان لفترةٍ طويلة، شُهرةً عظيمة، وكذلك حقَّق هو شُهرةً كبيرة على الفور. وإذا تصَفَّحتَ مِلفَّات الجرائد للعام ١٩٠٧، فستجد صعوبةً في تصديق مدى الشُّهرة والانتشار الذي حظي به هذا الاكتشاف. إنَّ جرائد شهر يوليو من ذلك العام لم تكن تعرف أي شيءٍ عن الطيران على الإطلاق؛ فكأنها تُقرِّر بأنجع درجات الصمت أنَّ البشر لا يستطيعون الطيران ولن يستطيعوا الطيران وما ينبغي لهم. أمَّا في شهر أغسطس، فقد اجتاحت الصحفَ العناوينُ التي تتحدث عن الطيران وفيلمَر والمناطيد الهوائية والتكتيكات الجوية والحكومة اليابانية، ثم فيلمَر والطيران مُجدَّدًا، حتى إنَّ هذه العناوين قد أطاحت بأخبار الحرب في يونان ومناجم الذهب في أبَر جرينلاند من الصفحات الرئيسية. أمَّا بانهريست فقد قدَّم عشرةَ آلافِ جنيه، ثم خمسةَ آلافِ جنيه إضافية، كما أنه قد خَصَّص مُختبَراتِه الخاصة المُذهِلة والشهيرة (بالرغم من أنها لم تكن قد وَطِئَتها قَدمٌ حتى ذلك الوقت)، وكذلك عِدَّةَ أفدنةٍ من الأرض الواقعة بالقرب من مسكنه الخاص على تلال صَري هيلز؛ للانتهاء من آلة الطيران القابلة للتنفيذ بحجمها الفعلي، وهو ما سيكون أمرًا شاقًّا ومُرهِقًا، كما هي عادة بانهريست وطريقته. وفي هذه الأثناء، وعلى مَرأى الجُموع من صَفوة القوم في الحديقة المُسَوَّرة لمنزل بانهريست الموجود في مدينة فولهام، كان فيلمَر يُقدَّم في الحفلات الأسبوعية التي تُقام في الحديقة لِتجريبِ نُموذج الآلة وبتكاليفَ ضخمةٍ آتت ثمارها في النهاية. قدَّمَت جريدة نيو بيبَر إلى قُرائها صورةً فوتوغرافيةً تذكاريةً جميلة لأَوَّل مناسبةٍ من هذه المناسبات.

ومرةً أخرى، تُسعفنا خطابات آرثر هيكس وصديقه فانس.

وفيها يكتب آرثر بِنبرةٍ لا تخلو من الحسَد المعهود من شاعرٍ أَفَل مَجدُه: «لقد رأيتُ فيلمر في أَوْج شُهرته، كان الرجل حليق الذَّقَن وقد مشَّط شَعَره وارتدَى ثيابًا على أحدثِ طِرازٍ كمُحاضرٍ مَسائي بالمعهد الملكي؛ فقد كان يرتدي أحدث أشكال المَعاطفِ الرسمية الطويلة وحذاءً طويلًا لامعًا، وقد شكَّل ذلك فيه مزيجًا استثنائيًّا لرجلٍ يجمع بين العظمة والرصانة من جانبٍ والخَجلِ الشديد من الظهور، وكأنه يُعرَّى بقسوة. كان وجهه شاحبًا تمامًا وخاليًا من أي لون، ورأسه بارزًا إلى الأمام، بينما تدور عيناه الضيِّقتان بلونهما الكَهرماني الداكن حوله، تنظران إلى ما حَقَّقه من شُهرة. كانت ثيابه تناسبه تمامًا، رغم أنها كانت تبدو عليه كأنه قد ابتاعها جاهزة. كان لا يزال يتحدث بصوتٍ خفيض، لكن يمكنك أن تتبيَّن في نبرته اعتدادًا شديدًا بالذات. وها هو يعود إلى مُؤخِّرة المجموعات تلقائيًّا حين يبدأ بانهريست في الحديث ولو لِلحظةٍ واحدة، وحين يمر من أمامه، تراه مسرعًا لاهث الأنفاس، قابضًا يديه الضعيفتَين الشاحبتَين. إنه يشعر بالتوتُّر، بل التوتُّر الفظيع، وهو المُكتشِف الأعظم في هذا العصر، بل المُكتشِف الأعظم على الإطلاق! وإنَّ أكثر ما يُدهِشك فيه هو أنه لم يتوقَّع ذلك بأي شكلٍ من الأشكال، ليس بهذا الشكل على أي حال. أمَّا بانهريست، المُضيف المُتحمِّس لهذا الحفل الذي يحتفي بِصَيده الهائل الصغير، فهو يَتَجوَّل في كل مكان، وأُقسم أنه سيُحضِر الجميع إلى منزله قبل أن تنتهي عملية صنع المُحرِّك. لقد أركب فيه رئيس الوزراء بالأمس، وليُبارك الله قلبه؛ إذ لم يكن حجمه أكبر من اللازم، وذلك في أَوَّل محاولة. تخيل ذلك! فيلمَر! فيلمَر الغامض المغمور، ها هو وقد أصبح فَخرَ العِلم والعُلماء في بريطانيا! تحتشد حوله الدُّوقات، وتَتجمَّع لديه النبيلاتُ ذواتُ الجمال والجرأة يتحدَّثنَ معه بأصواتهن الصافية الواضحة الجميلة — ألاحظتم كيف أنَّ السيدة العظيمة تُصبِح أكثر فِطنةً هذه الأيام؟ — «أوه، أيها السيد فيلمَر! كيف تَمكَّنتَ من هذا؟»»

إنَّ مُعظم الرجال حين يتملَّكهم التوتُّر لا يتمكَّنون من الإجابة، لكن يمكننا أن نتخيل أنه سيُجيب في مثل هذه المُقابَلات بشيءٍ على غرار: «عَناءٌ قد بَذلتُه بسخاءٍ ودون توانٍ يا سيدتي، وربما، لا أعرف، لكن ربما بعض القُدرات المُميزة.»

حتى الآن، نجد أنَّ رواية هيكس والصورة التذكارية التي نشرتها صحيفة نيو بيبر، تتسقان مع الوصف؛ ففي إحدى الصور تتمايل الآلة إلى الأَسفلِ نحو النهر، ويَظهَر تحتها من خلال فَتحةٍ في أشجار الدَّرْدار بُرج كنيسةِ فولهام. وفي صورةٍ أخرى يظهر فيلمَر بجوار بطاريات التوجيه، ويحُفُّ به كُل ما في الأرض من جمالٍ وعظمة، ومن خلفه بانهريست وقد انضم إلى الصورة بهيئةٍ تَدُل على التواضُع غير أنها لا تنفي العزم والثبات، وقد وقف في مقابل فيلمَر بشكلٍ غريب. وكذلك وَقفَت الليدي ماري إلكينهورن، والتي لا تزال تحتفظ بجمالها بالرغم من الشائعات، وبالرغم من أعوامها الثمانية والثلاثين، تَحجُب من بانهريست الكثير، وتنظر إلى فيلمَر بنظرةٍ مُتأمِّلة مُتفكِّرة، وقد كانت هي الشخصَ الوحيد الذي لم يُلقِ بالًا إلى الكاميرا التي كانت تلتقط صُورًا لهم جميعًا.

لقد أسهبتُ في ذِكر الكثير من الحقائق الظاهرية في القصة، لكنها مُجرَّد حقائقَ ظاهريةٍ على أي حال، أمَّا جوهر الأمر فهذا مما نجهله تمامًا. ما شعور فيلمَر وقتها؟ ما مدى التوتُّر والقلق اللذَين كان يحملهما ذلك الجسم المُتدثِّر بهذا المِعطَف العصري الجديد؟ كان لا يزال يظهر في جميع الجرائد، سواءٌ كان ثمنها نصف بنس أم بنسًا واحدًا أم ستة بنسات، وكذلك الجرائد الأغلى ثمنًا على حَدٍّ سواء، وقد عَرفَه العالَم بأَسْره على أنه «أَعظمُ مُكتشِف في هذا العصر وكل العصور.» لقد اخترع آلة طيرانٍ يمكن تنفيذها على أرض الواقع، ويوميًّا في صَري هيلز كانت الاستعدادات تَجري للانتهاء من تنفيذ هذه الآلة بحجمها الحقيقي. وحين تم الانتهاء من تنفيذ هذه الآلة أصبَحتِ النتيجة البديهية والحتمية هي أنَّ فيلمَر قد اختَرعَ آلة طيرانٍ وصَنعَها، وقد افترض الجميع دون أدنى ذَرَّةٍ من الشك، ولا أي ثَغرة بين كل هذا الزَّخَم والتلهُّف أنه سيَصعَد على مَتْنها بكل فَخرٍ وابتهاج، وسوف يُقلع بها ثم يُحلِّق.

غَيْر أننا نعرف الآن بكل وضوحٍ أنَّ الفَخر البسيط والابتهاج في مثل هذه الحالة لا يتفقان على الإطلاقِ مع تكوين فيلمَر الخاصِّ، ولم يَخطرْ ذلك ببال أَحدٍ وقتها، لكنَّ تلك هي الحقيقة. يمكننا الآن أن نُخمِّن ببعض الثقة أنَّه كان يُفكِّر في الأَمر أغلب النهار، ومن الرسالة القصيرة التي أَرسلَها إلى طبيبه يشكو فيها من الأَرَق المستمر، لدينا كل الحق في أن نفترض أنه كان يَستَحوِذ على تفكيره في الليل. لقد كان يُفكِّر أنه بالرغم من مُقوِّمات الأمان النظرية التي صمَّمها، فإنَّ الآلة لا تزال خطيرةً وغيرَ مُريحةٍ ومقلقة للغاية؛ فلا يمكنه أن يركبها ويُحلِّق بها في الهواء على ارتفاعٍ يَقرُب من ألفِ قَدَم. لا بد أنَّ الفكرة كانت تطرأ على ذهنه منذ البداية، منذ أن أصبح المُكتشِف الأعظم في هذا العصر وكل العصور، وكان يَتَصوَّر نفسه وهو يقوم بهذا وذاك، وهذا الفضاء الشاسع من تحته. ربما يكون قد نَظَر إلى الأَسفلِ من فوق ارتفاعٍ شاهق، وهو في شبابه، أو سقط بشكلٍ مُريع، أو ربما يكون قد اعتاد النوم على الجانب الخطأ، مما تَسبَّب له في كابوس السقوط المُزعِج الذي نعرفه، وتَشكَّل لدَيه ذلك الرعب، الذي لا يُمكن أن نَشُك في قُوَّته الآن، ولو بمقدار ذَرَّة.

والواضح أنه لم يُفكِّر قَطُّ في ضريبة الطيران تلك حينما بدأ في إجراء أبحاثه؛ فقد كانت الآلة هي غايتَه على أي حال، لكنْ ها هي الأمور قد صارت الآن أَبعدَ من غايته، لا سيَّما ذلك الدوران المائد بالأَعلى. لقد كان مُكتشِفًا وها هو قد قام باكتشافه، لكنه ليس بِطيَّارٍ، ولم يبدأ في إدراك أنَّهم يتوقَّعون منه الطيران بالآلة إلا الآنَ فحسب. وبالرغم من أنَّ ذلك كله كان يدور في ذهنه، فإنه لم يُفصِح عن ذلك إلا في نهاية الأمر، أمَّا قبل ذلك فقد كان يروح ويغدو على مُختبَرات بانهريست الرائعة، وقد سُلِّطَت عليه أضواء الشهرة وظهر في الكثير من المُقابَلات. كان يرتدي ثيابًا جيدة ويأكل طعامًا جيدًا ويعيش في شقةٍ أنيقة، مستمتعًا بتلك الوليمة الوفيرة من الشهرة والنجاح، وقد كانا في غاية الجودة والنقاء والسطوع؛ لا سيما بعد أن قضى كل هذه السنوات من الحرمان؛ لذا فمن الطبيعي جدًّا أن يرغب في الاستمتاع.

بعد فترةٍ تَوقَّفَت اللقاءات الأسبوعية في فولهام. وفي أحد الأيام لم يَستجبِ النُّموذج لِلحظةٍ لتوجيه فيلمَر، أو ربما تَشتَّت فيلمر إِثْر ما تَلقَّاه من إطراءِ كبيرِ الأساقفة. على أي حال فقد اندَفعَت مُقدِّمة الآلة في الهواءِ بميلٍ أَكثرَ من اللازم قليلًا، بينما كان كبيرُ الأساقفة يُفسِّر للجميع اقتباسًا باللاتينية، وذلك كما يليق بأسقفٍ تمامًا، وسَقطَت الآلة على طريق فولهام على بُعدِ ثلاث يارداتٍ من «حِصان كان يَجُر حافلة». وَقفَتِ الآلة لِثانيةٍ تقريبًا، وقد كان ذلك مُدهِشًا، وربما كانت الآلة نفسها مُندهِشة كذلك، ثم تَكوَّمَت وتناثَرَت منها الشظايا، وقُتل «حِصان الحافلة» بالطبع.

لم يحظَ فيلمَر بالجزء الأخير من إطراءِ كبيرِ الأساقفة، وقد وَقَف مُحَدِّقًا إلى اختراعه وهو يختفي من مَدى بَصَره ومن مُتناوَل يدَيه. كانت يداه البيضاوان الطويلتان لا تزالان تُمسِكان بآلته التي أصبَحَت بلا قيمةٍ ولا فائدة، أمَّا كبير الأساقفة فقد راح هو الآخَر يُحَدِّق تجاه السماء بِتخوُّف لا يليق بأسقف.

ثم جاء صوت الاصطدام والصُّراخ والصَّخَب من الطريق لِيُخفِّف من توتُّر فيلمَر الذي همس: «يا إلهي!» ثم جلس.

راح الجميع يُحَدِّقون بحثًا عن المكان الذي اختفَت فيه الآلة، أو تجدهم قد انطَلَقوا مُسرعِين بالدخول إلى المنزل.

وبسبب ما حدث ازداد مُعدَّل التقدُّم في عملية صُنع الآلة الكبيرة بصورةٍ أكبر. كان فيلمَر يدير عملية صُنع الآلة ويُشرف على كل شيء ببطء وحَذرٍ شديد، ودائمًا ما كان ذِهنُه منهمكًا ومشغولًا بشكلٍ متزايد. كان يهتم بقوة الجهاز ومدى الأمان فيه اهتمامًا استثنائيًّا؛ فكلما ساوَرَته أدنى درجة من الشك، كان يُؤجِّل كل شيء حتى يمكن استبدال ذلك الجزء الذي يَشُكُّ فيه. كان أكبر مساعدِيه، ويلكينسون، يُعبِّر عن غضبه أحيانًا من بعض حالات التأجيل، التي كان يصرُّ على أنها تكاد تكون غير ضرورية؛ أمَّا بانهريست فقد أكَّد في جريدته نيو بيبر ما يتمتَّع به فيلمَر من صبر وأناة، لكنه انتَقَد سلوكه بِشدَّةٍ إلى زوجته؛ وأمَّا مساعده الثاني، ماك أندرو، فقد كان يستحسن حكمة فيلمَر، وكان يقول: «إننا نريد أن نَتجنَّب الفشل يا رجل. إنه مُحِقٌّ تمامًا.»

وكلما سَنحَت أي فرصة كان فيلمَر يستفيض في الشرح إلى ويلكينسون وماك أندرو، ويُوضِّح لهما كيفية التحكم في كل جزءٍ من أجزاء آلة الطيران وتشغيله؛ وذلك حتى يكونا على القَدْر نفسه من المهارة، بل ليكونا أكثر مَهارةً وجَدارةً في توجيهه في السماء، حين تحين تلك اللحظة أخيرًا.

والآن يمكنني أن أتخيل أنه لو رأى فيلمَر أنه من المناسب أن يُحدِّد ماهية شعوره تحديدًا في هذه المرحلة، وأن يتخذ موقفًا واضحًا بشأن صعوده، لكان قد تَجنَّب هذه المِحنة المؤلِمة بسهولةٍ أكبر. ولو كان ذهنه صافيًا، لكان قد تمكَّن من القيام بالكثير والكثير من الأشياء؛ فلا شك في أنه لم يكن لِيجدَ صعوبةً في أن يعرض حالة قلبه الضعيف على طبيبٍ مختص، أو أن يَدعَ أي مشكلةٍ مَعِدية أو رئوية أن تقف في طريقه — وذلك هو الاتجاه الذي يُدهِشني أنه لم يَسلُكْه — وكذلك كان بإمكانه أن يَتَحلَّى بالشجاعة الكافية، وأن يُعلِن أنه لن يقوم بالأمر. وبالرغم من أنَّ الرعب كان يستحوذ على عقله، فالواقع أنه لم يكن يُدرِك ذلك بوضوحٍ على الإطلاق. أعتقد أنه ظَل يُخبِر نفسه طَوال هذه المدَّة بأنه حين يحين الوقت سيجد أنه مُستعِد لِلفرصة. لقد كان كرجلٍ أصابه مَرضٌ خطير، ويشكو بأنه ليس على ما يُرام، غير أنه لا يزال ينتظر أن يَتَحسَّن في وقتٍ قريب. وأمَّا في هذه الأثناء فقد أَجَّل الانتهاء من الآلة، وترك الافتراض بأنه سيطير بها ينتشر ويزدهر ويَتَرسَّخ بشكلٍ كبير، حتى إنه صار يَقبَل عِباراتِ الإطراء المُبكِّرة عن شجاعته. ولأنه على ما هو عليه من التدقيق الذي يصل إلى حَدِّ الوسوسة، فلا شك في أنه قد وجد كل هذا الثناء والتمييز والجلَبة التي تدور بشأنه جرعةً مُبهِجة، حتى إنها تَخلُب الألباب.

غير أنَّ الليدي ماري إلكينهورن زادت من تعقيد الأمور بالنسبة له.

أمَّا عن بداية هذا الأمر، فقد وجد هيكس هذا الموضوع مَحلَّ تخمينٍ لا يَنضب. كانت البداية على الأرجح في أنها كانت تُعامِله بالقليل من «اللطف»، لما تتسم به من محاباةٍ نزيهة، وربما استطاعت أن ترى بعينَيها، إذ وقف هو بارزًا يُوجِّه ذلك الوحش الذي اختَرعَه في السماء، أنَّ به صفةً مميزة لم يكن هيكس أهلًا لأن يَكتشِفها. وبطريقةٍ ما لا بُد أنهما قد حَظِيا بِلحظةٍ أُتيحت لهما فيها فرصةٌ كافية من العُزلة، وحَظِي المُكتشِف الأعظم بِلحظةٍ تمتَّع فيها بالقَدْر الكافي من الشجاعة لِيُعبِّر فيها عن شيءٍ شخصي قليلًا، فيُغمغِم به أو يتلفَّظه بسرعة. بالرغم من ذلك، فقد بدأ الأمر، ولا شك في أنه قد بدأ، وها هو قد أصبح ملحوظًا لِمجتمعٍ قد اعتاد أن يجد في حياة الليدي ماري إلكينهورن وأفعالِها موضوعًا للتسلية. وقد أدَّى ذلك إلى تعقيد الأمور؛ إذ إنَّ حالة الحب في عقلٍ غَضٍّ وخامٍ كعقل فيلمَر يجب أن تُعزِّز من تصميمه على مُواجَهة الخطر الذي يخشاه، ولو بدرجة معقولةٍ حتى وإن لم تكن كافية، وكذلك أن تمنعه من مثل هذه المحاولات في التهرُّب، وهو الأمر الذي ما كان لِيحدُث في أي ظروفٍ أخرى طبيعيةٍ ومُلائمة.

وتَبقَى حقيقة مَشاعرِ الليدي ماري تجاه فيلمَر ورأيها فيه مَحلَّ التخمين؛ ففي سن الثامنة والثلاثين، ربما يكون المرء قد جمع الكثير من الحكمة، غير أنه لا يمتثل لها تمامًا، ويظل الخيال ناشطًا بما يكفي لِخَلق الفتن وتحقيق المُحال. لقد بدا لِعينَيها أنه رجلٌ مهم للغاية؛ وذلك أَمرٌ لا يُستهان به أبدًا، ثم إنَّه كان يتمتَّع بِقُدراتٍ مميزة في الهواء على أي حال؛ فقد كان لأدائه في تَجربةِ نُموذجِ الآلة لَمسةٌ تُشبِه في تأثيرها تَعويذةً سِحرية فعَّالة. ولَطالَما أَظهَرتِ النساء مَيلًا مُفرِطًا في خيالهنَّ؛ فإذا رأين من رجل أنَّه يتمتَّع بقُدراتٍ معينة، فإنهنَّ يُسلِّمن بأنه يتمتَّع حتمًا بالقوة والنفوذ. وقد كان فيلمَر يتمتَّع بالكثير من المُميِّزات؛ فحتى ما يَفتقِر إليه في المظهر أو السلوك قد أصبح مَيزةً إضافية فيه. لقد كان رجلًا متواضعًا يكره الظهور، لكن حين يتطلَّب الأمر ظهور صفاته الحقيقية، فإنَّ المرء سيرى الكثير منه!

لقد رأتِ المرحومة السيدة بامبتون أن من الحكمة أن تُفضي إلى الليدي ماري برأيها في فيلمَر، وهو أنه إذا نظرنا إلى جميع الجوانب، فسنجد أنَّ فيلمَر رجلٌ «رَثُّ الهيئة». وقد ردَّت عليها الليدي ماري بمُنتهى الهدوء والسكينة ورَباطة الجأش: «إنه بلا شك رجلٌ مُختلفٌ عن جميع مَن قابلتُهم من الرجال.» بعد أن رَمقَتها السيدة بامبتون بنظرةٍ مُختلَسةٍ خَفيَّة، ورأت تلك السكينة، قَرَّرَت أنَّها قد أدَّت ما عليها وأَخبرتِ الليدي ماري بما يمكن أن تُخبرها به، لكنها قالتِ الكثيرَ والكثير لِغيرِها من الناس.

وفي النهاية بَزغَ فجر اليوم بهوادةٍ كما يليق به. إنه اليوم العظيم الذي وعد فيه بانهريست جمهوره، بل العالم بأكمله، بأنَّ البشر سيتمكَّنون أخيرًا من الطيران ومن التغلُّب على أي مُعوِّقاتٍ تحول بينه وبين تحقيقه. وقف فيلمَر يُراقب بُزوغ الفجر، بل كان يُراقبه منذ الظلام قبل أن يَبزُغ الفجر؛ فشَاهَد النجوم وهي تخبو، لِترحل ألوانها الرمادية والوردية اللؤلُئيَّة، لِتحل مَحلَّها في النهاية سماءٌ زرقاءُ صافية لهذا اليوم المُشمِس الصحوِ الخالي من الغيوم. لقد شاهده من نافذة غُرفته الواقعة في الجناح الحديث البناء في منزل تيودور الذي يمتلكه بانهريست. وبينما راحتِ النجوم تتلاشى وراحت أشكال الأشياء والمَوادِّ تتَّضِح من بين هذا الظلام البَهيم، لا بد أنه قد رأى الاستعدادات الاحتفالية فيما وراء تكتُّلات أشجار الزان بالقرب من الجناح الأخضر في الحديقة الخارجية بوضوحٍ أَكبرَ وأكبر: المنصَّات الثلاث لِلمُتفرجِين المُميَّزِين، والسياج الخشبي الجديد المحيط بالحوش والسقائف والورش، وكذلك السواري الفينيسية والأعلام المُرفرِفة التي رأى بانهريست أنها ضرورية، كل ذلك كان أسودَ ورَخوًا في ذلك الفجر الذي لمَّا يتخلَّلْه النسيم بعدُ، وبين كل هذه الأشياء وَقَف جِسمٌ ضخم مُغطًّى بالقماش المُشمَّع. كان هذا الجسم بمثابة نذيرٍ غريب ومُريع للإنسانية، بداية ستُؤدِّي ولا شك إلى توسُّع وتغيُّر جميع شئون البشر والهيمنة عليها، أمَّا بالنسبة إلى فيلمَر فمِن غير المحتمل أنه قد رأى فيه أَيَّ شيء سوى أملٍ شخصيٍّ ضئيل. سَمِعه العديد من الأفراد وهو يخطو في ساعات الصباح الأولى؛ إذ كان المكان الفسيح يَعجُّ بضيوف صاحبِ مؤسسة النشر، والذي كان قبل كل شيءٍ يفهم معنى الإقناع. وفي الساعة الخامسة، إن لم يكن قبلها، غادر فيلمَر غُرفته وخرج من منزل النوم إلى الحديقة، التي كانت قد دبَّت فيها الحياة وقتها؛ إذ انسدل عليها ضوء الشمس وغرَّدَت فيها الطيور واستَيقَظَت السناجب والإِيَّل الأسمر. التقى به ماك أندرو الذي كان يستيقظ مبكرًا كذلك، بالقرب من الآلة، وذهب الاثنان لِيُلقِيا عليها نظرةً معًا.

الأرجح أن فيلمَر لم يتناول أيَّ شيء للإفطار، بالرغم من إلحاح بانهريست على ذلك. وبعدها بوقتٍ قليل، وبينما بدأ الضيوف يتجمَّعون وقد زاد عددهم يبدو أنه قد عاد إلى غرفته، ثم في العاشرة تقريبًا ذهب إلى منطقة الشُّجَيرات، وذلك على الأرجح لأنه رأى الليدي ماري إلكينهورن هناك. كانت تسير جِيئةً وذَهابًا وقد انهَمكَت في الحديث مع صديقتها القديمة من أيام الدراسة، السيدة برويس كريفين. وبالرغم من أنَّ فيلمَر لم يلتقِ السيدة الأخيرة من قبلُ، فقد انضم إليهما وسار بجوارهما لبعض الوقت، وقد تخلَّل ذلك عِدَّة فتراتٍ من الصمت، بالرغم من براعة الليدي ماري وتألُّقها. كان الموقف صعبًا بِحق، ولم تتمكَّن السيدة برويس كريفين من التغلُّب على صعوبته، وقد قالت فيما بعدُ بتناقُضٍ ذاتيٍّ شديد الوضوح: «إنه يبدو لي رجلًا تعيسًا للغاية، وقد كان لدَيه شيء يقوله، ولَشَدَّ ما أراد أن يُساعده أَحدٌ على قوله، وأنَّى لنا ذلك ونحن لا نعرف ما هو؟»

في الساعة الحادية عشرة والنصف كانت المَنطِقة المُخصَّصة لِلجمهور في الحديقة الخارجية مُكتظةً للغاية. وعلى طول السياج المُحيط بالحديقة الخارجية ظَهرَ سَيلٌ مُتقطِّع من العربات، وانتَشَر المَدعوُّون إلى الحفل في الفِناء ومنطقة الشجيرات ورُكْن الحديقة الداخلية، في سلسلةٍ من الدوائر المُزخرَفة البديعة، وكلهم يندفعون نحو آلة الطيران. سار فيلمَر في مجموعةٍ من ثلاثة رجالٍ مع بانهريست، الذي كانت تفيض ملامحه بالسرور بكل جلاءٍ ووضوح، والسير ثيودور هِيكِل رئيس جمعية الملاحة الجوية. أمَّا السيدة بانهريست فقد كانت تقِف بالقرب خلفَهم مع الليدي ماري إلكينهورن وجورجينا هيكِل ورئيس الكهنة في ستييز. تحدَّث بانهريست وكان حديثُه فَخمًا وجَزلًا، وأمَّا ما كان يتخلَّله من فجوات، فقد كان هيكِل يملؤها بعبارات المديح التي يُوجِّهها إلى فيلمَر، الذي كان يسير بينهما دون أن يتحدث بكلمةٍ واحدة، إلا حين يُضطَر إلى الردِّ على شيءٍ ما. وبالخلف، كانت السيدة بانهريست تستمع إلى مُحادثةِ كبيرِ الكَهَنة المُتناسِقة الجميلة بدرجةٍ تُثير الإعجاب، غير أنها لم تستطع أن تمحو من خيالها صُورته وهو لا يزال راهبًا صغيرًا، وهي الصورة التي لم تَتبدَّد من خيالها، حتى بعد سَنواتِه العشر التي تَرقَّى خِلالها حتى وصل إلى هذا المَنصِب. أمَّا الليدي ماري، فقد كانت تُشاهِد هذا الرجل ذا الكتفَين المُتهدِّلتَين، ذلك الرجل الذي لم تلتقِ مِثلَه من قبلُ، وهي تثِق ثقةً تامَّة في تَحريرِ العالم من الأوهام.

حين ظَهرَتِ المجموعة الرئيسة من بينِ الباحة المُسيَّجة صَفَّق الحاضرون، لكنه لم يكن تصفيقًا جماعيًّا ولا حتى حارًّا. كانوا على مَسافةِ خمسين ياردةً من الجهاز، حينما التفَتَ فيلمَر فجأة لِتقديرِ المسافة بينه وبين السيدات من خَلفِه، وقَرَّر أن يُفصِح عن أَوَّل تعليقٍ له منذ أن غادروا المنزل. كان صوته مبحوحًا قليلًا، وقد قاطَع بانهريست في مُنتصَف جُملةٍ كان لا يزال يتحدث بها.

تَوجَّه فيلمَر بحديثه إلى بانهريست: «أرى يا بانهريست …» ثم تَوقَّف.

أجابه بانهريست: «أجل!»

بلَّلَ فيلمَر شَفتَيه وقال: «أتمنى لو … أَشعُر بأنني لَستُ على ما يُرام.»

تجمَّد بانهريست فجأةً في مكانه وصاح: «ماذا؟!»

تَمكَّن فيلمَر من أن يَتحرَّك، لكنَّ بانهريست ظلَّ واقفًا في مكانه بلا حَرَاك، وتَحدَّث فيلمَر قائلًا: «إنه شعورٌ غريب. لا أدري، رُبَّما أَشعُر بالتحسُّن بعد قليل، وإلا فربما … ماك أندرو …»

تَحدَّث إليه بانهريست وهو يُحدِّق في وجهه الشاحب: «أَتشعُر بأنك لَستَ على ما يُرام؟»

ثم تحدَّث إلى السيدة بانهريست التي كانت قد انضمَّت إليهم: «عزيزتي! فيلمَر يقول إنه ليس على ما يُرام.»

تَحدَّث فيلمَر مُتعجِّبًا وهو يُحاول أن يَتجنَّب عينَي الليدي ماري: «إنه شعورٌ غريب قليلًا. ربما يزول بعد قليل.»

سادت فَترةٌ من الصمت.

وشَعَر فيلمَر بأنه الشخص الأكثر انعزالًا في العالم.

تحدَّث بانهريست قائلًا: «على أي حال، لا بد أن نقوم بتجربة الإقلاع؛ فربما إن استرحتَ قليلًا …»

تَحدَّث فيلمَر: «أعتقد أنه الزِّحام.»

سادت فَترةٌ أخرى من الصمت، واستَقرَّت عينا بانهريست على فيلمَر تَتفحَّصان مَلامِحه، ثم راح يَتفقَّد بهما الجمهور الموجود في الباحة.

تحدَّث السير ثيودور هيكِل: «إنه لأَمرٌ مؤسف؛ لكن من الممكن … مساعداك. هذا بالطبع إن كُنتَ تشعر بأنكَ لستَ على ما يُرام أو كُنتَ لا ترغب في القيام بذلك …»

تحدَّثتِ الليدي ماري: «لا أظن أنَّ السيد فيلمَر سيسمح بذلك على الإطلاق.»

تحدث هيكِل وهو يَسعُل: «إن لم تكن أَعصابُ السيِّد فيلمَر بِخير، فقد تُمثِّل المُحاوَلة خطرًا عليه …»

بدَأتِ الليدي ماري في الحديث: «ما أَقصِده أنَّ الأمر خطيرٌ فحسب.» فشَعَرت بأنها قد أَوضحَت وِجهةَ نظرها ووِجهةَ نظَر فيلمَر كذلك بدرجةٍ كافية.

أمَّا فيلمَر فقد راحت تتصارع بداخله دوافعُ مُتضارِبة، وتَحدَّث وهو ينظُر إلى الأرض:

«أَشعُر بأنَّ عليَّ النهوض.» ثم رفع عينَيه فالتقتا عينَي الليدي ماري، وأكمل حديثه: «إنني أُريد أن أنهض.» ابتَسَم لها بِشُحوب، ثم التَفَتَ إلى بانهريست قائلًا: «ربما لو استرحتُ قليلًا بعيدًا عن الزحام والشمس …»

وأخيرًا بدأ بانهريست يفهم الموقف، فتَحدَّث إليه: «تَفضَّل إلى غُرفتي الصغيرة بالجناح الأخضر، إنَّ الجو رطبٌ هناك.» ثم اصطحب فيلمَر مُمسِكًا بذراعه.

التفَتَ فيلمَر بوجهه إلى الليدي ماري مُجدَّدًا وقال: «سأكون على ما يُرام في غُضون خمس دقائق. إنني في غاية الأسف …»

ابتَسمَتِ إليه الليدي ماري، ثم تحدَّث إلى هيكِل: «لم أستطع أن أُفكِّر.» ثم استسلم بعدها لِقبضة بانهريست التي كانت تَشُدُّه.

وظَل الباقون يُشاهدونهما وهما ينحسِران عن النظر.

تحدَّثتِ الليدي ماري: «إنه رقيقٌ للغاية.»

ثم تحدَّث رئيس الكهنة: «إنه عصبيٌّ للغاية ولا شك.» والواقع أنَّ نقطة ضعف رئيس الكهنة هي أنه ينظر إلى الجميع، فيما عدا رجال الدين المُتزوجِين ولديهم عائلاتٌ ضخمة، على أنهم «عصابيون».

تحدث هيكِل: «بالطبع؛ لا شك في أنه لا يَلزَم أن يطير بالجهاز بنفسه لأنه قد اختَرعَه …»

تساءَلَت الليدي ماري بنبرةٍ تحمل بين طياتها بعض السخرية: «وكيف يُمكِنه أن يتجنب ذلك؟»

وردَّت السيدة بانهريست بنبرةٍ أكثرَ حِدَّة: «لا شك في أنه سيكون مُصابًا كبيرًا أن يَمرَض الآن.»

تحدَّثتِ الليدي ماري وقد التقت عيناها بالتأكيد عينَي فيلمَر: «إنه لن يمرض.»

تحدَّث السيد بانهريست في أثناء سيرِهما إلى الجناح: «ستكون بخير، كل ما تحتاج إليه هو رَشفةٌ من البراندي. أنت تعرف أنه عليك أن تطير بنفسك؛ فسوف يكون الأمر صعبًا إن ترَكتَ رجلًا آخر …»

قال فيلمَر: «أوه، إنني أُريد أن أقوم بذلك بالتأكيد. سأكون بخير. إنني أشعر بأنني أصبَحتُ مُستعِدًّا بالفعل. كلَّا! أعتقد أنني سأتناول رشفةً من البراندي أَوَّلًا.»

أَخذَه بانهريست إلى الغرفة الصغيرة، وراح يبحث فيها إلى أن عثَر على دَورقٍ زجاجيٍّ فارغ، فتناوَلَه وخرج لِيأتي بالشراب، ثم عاد بعد خَمسِ دقائقَ تقريبًا.

لا يمكن كتابةُ تاريخِ هذه الدقائقِ الخمس؛ فمِن وقتٍ إلى آخر، كان وجه فيلمَر يظهر لِلموجودِين في أقصى شَرق المنصَّات بارزًا لِلمُتفرِّجِين وهو يُطِل من إفريز النافذة، ثم يَنحسِر عن النظَر ويخبو. أمَّا بانهريست، فقد اختفى وهو يصيح خلف المنصَّة الكبيرة، وها هو الساقي قد ظَهرَ الآن وهو يتجه إلى الجناح بِصينيةٍ في يده.

كان الجناح الذي استقر فيه فيلمَر أخيرًا عِبارةً عن حُجرةٍ صغيرة تحتوي على أثاثٍ بسيطٍ أخضر اللون ومكتبٍ قديم؛ إذ كان بانهريست يتسم بالبساطة في جميع شئون حياته الخاصة، كما أنها كانت تحتوي على نقوشاتٍ صغيرة على طِراز مورلاند، ورَفٍّ من الكتب. والواقع أنَّ بانهريست كان قد ترك فيها على سطح المكتب بُندقيةَ صيدٍ كان يصطاد بها أحيانًا، وفي رُكن الرَّفِّ الموجود فوق المَوقِد تُوجد عُلبةٌ من الصفيح وبها ثلاثةُ خراطيشَ أو أربعة. وبينما كان فيلمر يُمشِّط هذه الغرفة جِيئةً وذَهابًا وهو يُصارِع ذلك المَأزِق الذي لا يُحتمل، سار أَولًا باتجاه البندقية الصغيرة الرفيعة المُقابِلة لنشَّافة الحبر، ثم اتجه إلى العُنوان الأحمر المكتوب بخطٍّ رفيع وصغير:

«طول ٢٢.»

لا بُد أنَّ الأمر قد تَبادَر إلى ذِهنه في الحال.

يبدو أنَّ أحدًا لم يربط بين الدويِّ وبينه، بالرغم من أنَّ البندقية قد أَصدَرَت صوتًا عاليًا ولا شك؛ إذ انطَلقَت في مكانٍ ضيِّق، كما أنَّه كان هناك العديد من الأشخاص في غرفة البلياردو التي لا يفصله عنها سِوى حاجزٍ من الخَشب والجَص. وفورًا، كان الساقي الذي يعمل لدى بانهريست قد فَتحَ الباب، واشتمَّ رائحة الدُّخان اللاذعة، وقد قال إنه عَرفَ ما قد حدث؛ فقد خَمَّن الخَدَم الذين يعملون لدى بانهريست على الأَقلِّ شيئًا ما كان يدور في عقل فيلمَر.

على مَدى هذا العصر العسير كان بانهريست يَتَصرَّف وفقًا لما كان يراه على أنه التصرُّف السليم الذي يجب أن يقوم به الرجل في المَصائب الشِّداد، وقد نجح ضيوفه بدرجةٍ كبيرة في ألا يُركِّزوا على الواقعة — بالرغم من ذلك فقد كان من المُحال أن يُخفوا إدراكَهم لها بالكامل — وهي أنَّ المُتوفَّى قد خَدعَ بانهريست تمامًا وبكل وضوح. وقد أخبرني هيكس أنَّ الجمهور الموجود في الفِناء قد تَفرَّق «كجماعةٍ تتهرب من موقفٍ عسير»، ويبدو أنه لم يكن هناك شخصٌ واحد في القطار المُتجِه إلى لندن لم يكن يعرف منذ البداية أنَّ الطيران أَمرٌ مستحيل على البشر، غير أنَّ الكثيرِين قد قالوا: «لكنه كان من الممكن أن يُجرِّب ذلك، لا سيَّما بعد أن قطع كل هذا الشوط.»

وفي المَساء، عندما استطاع بانهريست أن يختلي بنفسه بعض الشيء، انهار وسَقَط كرجلٍ من الفَخَّار. عَرفتُ بأنه راح يَنتحِب، ولا شك في أنَّ ذلك كان مَشهدًا جليلًا، ولا بد أيضًا أنه قال إنَّ فيلمَر قد دَمَّر حياته، وعَرَض آلة الطيران بأَكملِها على ماك أندرو وباعها إليه مُقابل نصف كراون. وقد قال ماك أندرو في نهاية الصفقة: «لقد كنت أُفكِّر …» ثم توقَّف عن الكلام.

في الصباح التالي، ولِلمرَّة الأولى، كان اسم فيلمَر في جريدة نيو بيبر أَقلَّ بروزًا منه في أي صحيفةٍ يومية أخرى. أمَّا بقية الصحف، فوَفقًا لِما تتمتَّع به من نزاهة، ووَفقًا لِدرجةِ تنافُسها مع نيو بيبر، فقد اختلف ما أَوْلَته من تركيزٍ للأمر، وصرَّحت بأنَّ «الفشل التام يلحق بآلة الطيران الجديدة.» وكذلك نَشَرَت عن «انتحار المُخادِع». أمَّا في مقاطعة نورث صَري، فقد خَفَّف من وَقْع استقبال هذه الأخبار وجودُ ظواهرَ جويةٍ غيرِ عادية.

على مدى الليل اشتبك ويلكينسون وماك أندرو في جدالٍ عنيف بشأن الدوافع الفعلية التي أَدَّت بمديرهما إلى ارتكاب مثل هذا الفعل المُتهوِّر.

تحدَّث ماك أندرو: «لا شك في أنَّ الرجل كان جبانًا وهَزيل الجسم، أمَّا فيما يتعلق بما أنجزه في العلم، فهو ليس بالمُحتال على الإطلاق، يا سيد ويلكينسون، وأنا مُستعِد لإثبات هذا الرأي بالأدلة العملية، حالما استطعنا أن نحوز على بعض الخصوصية في هذا المكان؛ إذ إنني لا أثق على الإطلاق في كل هذه الدعاية التي تُحيط بالمُحاوَلات التجريبية.»

وتحقيقًا لتلك الغاية — بينما كان العالم بأكمله يقرأ عن الفشل المؤكَّد لآلة الطيران الجديدة — عكف ماك أندرو على آلة الطيران، وراح يُحلِّق ويقفز باقتدارٍ وبراعة على ارتفاعٍ كبير فوق منطقتَي إبسوم وويمبلدون. أمَّا بانهريست، الذي استعاد الأمل والنشاط مرةً أخرى، فبِغض النظر عن الأمن العام وغُرفة التجارة، فقد راح يُتابعه في تَجواله ويُحاول أن يسترعي انتباهه؛ فراح يقود سيارةً مُرتديًا منامته — فقد تمكَّن من رؤية الإقلاع بينما كان يفتح سِتارةَ النافذة في غُرفة نومه — إذ كانت تلك النافذة مُزوَّدةً مع غيرها من الأشياء بكاميرا فيلم، عَرفَ فيما بعدُ أنها لا تعمل. أمَّا فيلمَر، فقد كان مُمدَّدًا على طاولة البلياردو في الجناح الأخضر، وقد انسَدلَت على جسده مُلاءةٌ تُغطِّيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤