الفصل السابع عشر

النضج والوداع

دلفت السيدة دارلينج صباح اليوم التالي إلى حجرة أطفالها، فوجدتهم ينامون نومًا عميقًا وكأنهم لم يغادروا المنزل قط.

ظنت لحظة أنها تخيلت من الأساس أنهم غادروا، كانت ستشك في ذلك لولا أنها وجدت السيد دارلينج نائمًا في بيت نانا.

كان الأطفال بالطبع يتظاهرون فقط بأنهم نائمون، فلما لم يستطيعوا كبح حماسهم أكثر من ذلك، قفزوا من أسرتهم صارخين، وركضوا لاحتضان والدتهم وتقبيلها.

فلما سمع السيد دارلينج هذه الجلبة زحف ناعسًا إلى خارج بيت الجراء وركضت نانا أيضًا إلى الغرفة.

شاهد لم شمل الأسرة من على إحدى الأشجار خارج المنزل صبي صغير يدعى بيتر بان. سالت من عينه دمعه، وشعر أنه لن يجد مثل تلك السعادة قط.

أما الصبية التائهون، فقد خبأتهم ويندي في الطابق السفلي من المنزل، لكنها استدعتهم الآن وجعلتهم يقفون صفًّا أمام والدتها، إلا أنها تمنت لو أنهم لم يظلوا مرتدين زي القراصنة.

قال القراصنة الصغار: «أرجوك تبنينا!»

قال نيبز: «لن نأكل الكثير.»

فصاحت السيدة دارلينج على الفور: «بالطبع سنتبناكم!» لكن عندئذ عبس السيد دارلينج.

وقال: «هؤلاء الصبية كثيرون.»

كان في الواقع يتمنى لو أن السيدة دارلينج لم تجب بدون أن تسأله عن رأيه؛ فقال: «أتمنى فقط ألا أعامل وكأنني نكرة في منزلي.»

فصاح توتلز: «نحن لا نرى أنك كذلك.» ووافقه الجميع الرأي.

فهمست السيدة دارلينج لزوجها قائلة: «أنت لي كل شيء.»

فسعد السيد دارلينج بذلك وقال إنه يعتقد أنه بالإمكان تدبير مكان للصبية بطريقة ما.

أما بيتر، فظل ينتظر خارج المنزل.

رأته ويندي فسارت إلى النافذة.

فقال لها بلا مبالاة وكأنه لم يرها إلا مصادفةً: «آه، أهلًا.»

قالت له ويندي: «بيتر، أرجوك ادخل، سيتبناك والدي أنت أيضًا.»

فأتت السيدة دارلينج ووقفت خلف ابنتها وقالت: «هذا صحيح.»

فقال بيتر: «سترسلينني إلى المدرسة وتتوقعين مني أن أنضج. هل تنكرين هذا.»

لكن السيدة دارلينج لم تستطع إنكار هذا.

فصاح بيتر: «كنت أعلم هذا. ابتعدي عني يا سيدتي. لن يمسك بي أحد ويجبرني على أن أكبر. سأذهب إلى نيفرلاند.»

فقالت ويندي: «لكنني سأفتقدك للغاية. لقد أعدت جون ومايكل، لعل هذا يكفي. ربما علي أن أعود معك.»

فالتفتت إلى والدتها.

فقالت السيدة دارلينج على الفور: «لا! لا!»

فقالت ويندي: «لكنه بحاجة إلى أمٍّ.»

فقالت السيدة دارلينج: «وأنت أيضًا يا عزيزتي.»

رأت السيدة دارلينج أن قرارها آلم بيتر وويندي، لذا وافقت على أن تعود ويندي إلى نيفرلاند بعد عام من الآن، وتمضي أسبوعًا لتساعده في تنظيف منزله في الربيع.

ففرح بيتر بهذا؛ إذ كان لا يشعر بمرور الوقت على أي حال؛ وودع ويندي وقال إنه سيعود الربيع القادم.

التحق الصبية بالمدرسة وتعلموا الكثير من الأشياء، لكنهم في نهاية الأمر نسوا كيف يطيرون. زعموا أن السبب هو أنهم ما عادوا يتدربون، لكن الواقع هو أنهم ما عادوا يؤمنون بأنهم يستطيعون ذلك، كما لم يعد معهم بعض غبار الجنيات لمساعدتهم. تشبث مايكل باعتقاده بأنه يستطيع الطيران لوقت أطول من الآخرين، وعاد بيتر كما وعد مع ظهور أول علامات الربيع.

كانت ويندي قد كبرت منذ أن رآها بيتر آخر مرة؛ لذا تخوفت من أن يلحظ هذا، لكنه لم ينتبه للأمر، وفكر وتحدث كالعادة عن نفسه بالدرجة الأولى. تطلعت ويندي إلى أن يعيشا معًا بخيالهما مغامراتهما القديمة، لكن بيتر خاض الكثير من المغامرات الجديدة منذ مغامرته معها، من ثم لم يتذكر تلك المغامرات.

بل سألها: «من القبطان هوك؟»

فقالت له: «ألا تذكر أنك قتلته وأنقذت حياتنا؟»

فأجابها: «أنا أنسى هذه المغامرات عندما تنتهي.»

انتظرت ويندي ربيع العام التالي قدوم بيتر، لكنه لم يأت.

قال مايكل: «لعله مريض. لعلنا تخيلناه وحسب.»

فبكت ويندي عندما سمعت هذا. هل يعقل ذلك؟

لكن العام التالي، أتى بيتر كما تقرر، لم يدرك أن عامًا قد فاته، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي ترى فيها بنت تدعى ويندي صبيًّا يدعى بيتر بان.

•••

بعد عدة أعوام، كانت ويندي قد تزوجت وعاشت في البيت الذي كبرت فيه، وأصبح كل الصبية التائهين رجالًا. أنجبت ويندي فتاةً صغيرة تدعى جين أحبت أن تسأل أسئلة عن بيتر.

أحيانًا تذكرت ويندي بيتر على نحو واهٍ، فقد نسيت الكثير من التفاصيل عنه، لذا سعدت بالتحدث إلى الآخرين عنه قبل أن تنساه تمامًا.

قالت لها جين ذات مرة: «أماه أنا أعرف كل شيء عن بيتر.»

فرفعت ويندي بصرها إلى ابنتها في ذهول وسألت: «حقًّا.»

فأجابتها جين: «أنا أيضًا أعرفه.»

لم تشك ويندي في هذا وابتسمت في حزن؛ فكل الأطفال يعرفون بيتر بان.

يوم ما كانت ويندي تجلس على فراش جين حيث أودعت لتوها الأخيرة، فطار بيتر بان عبر نافذة الغرفة المفتوحة وهبط على الأرض. لم يتغير فيه شيء على الإطلاق.

قال بيتر وكأن وقتًا لم يمض على الإطلاق: «أهلًا يا ويندي. أين جون ومايكل؟»

ثم خفض بصره إلى جين وقال: «من هذه التي تنام؟»

فأجابته ويندي برقة: «بيتر، هذه ابنتي ويندي. إن صح اعتقادي، فقد التقيتما من قبل في أحلامها.»

لم ينظر بيتر في عينيها، فقد رفض الاعتراف بأنها كبرت.

ثم قال في صرامة: «لا أدري عما تتحدثين. حان التنظيف من أجل الربيع وقد وعدت بالقدوم.»

فقالت: «لا أستطيع هذا. لا أذكر كيف أطير.»

فقال: «سأعلمك من جديد.»

بدا أنه على وشك البكاء، فنهضت ويندي لتحتضنه، لكنها لما فعلت هذا بدت أطول منه بكثير، بدت فتاة ناضجة إلى حد واضح حتى إن عينا بيتر اتسعتا في ارتياع وشهق.

فقالت هي: «هذا صحيح يا بيتر. لقد كبرت.»

فقال: «لقد وعدت بأنك لن تفعلي هذا.»

قالت: «لم أستطع منع نفسي. أنا الآن زوجة وأم.»

فشرع بيتر في البكاء، فهبطت ويندي درج المنزل لتجلب له بعض اللبن الدافئ، لكن أثناء غيابها، أيقظ بكاؤه جين، فتعرفت على بيتر على الفور. فلما عادت ويندي، وجدت بيتر يضحك من جديد ويطير هو وجين في أرجاء الغرفة ضاحكين.

قالت جين: «أماه، إنه بحاجة لأم.»

فقالت ويندي في حزن: «أعلم هذا.»

فجذب بيتر جين معه إلى النافذة وذهبت الأخيرة معه برغبتها.

قالت ويندي: «لا!» ووقفت بين بيتر وجين كما وقفت أمها بينها وبينه من قبل.

فتوسلت إليها جين قائلة: «سنغيب لتنظيف المنزل من أجل الربيع وحسب.»

فأغمضت ويندي عينيها وهمست: «حسنًا.» وشاهدت — كما ستشاهد جين من بعدها وابنة جين من بعدها — ابنتها وهي تطير في السماء إلى نيفرلاند مبتعدةً إلى أن بدا حجمها كالنجمة الصغيرة.

فأدارت ويندي ظهرها إلى النافذة وهمست لبيتر وجين ولنا: «تصبحون على خير.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤