الكنز

عبد العال مُخبِر بوليس طويلٌ أسمر، وعلى ظهر يده اليمنى سمكةٌ فمُها مفتوح، وذيلها مشقوق، وعلى عينها نقطة.

عبد العال مُخبِر، ومع هذا فله عيلة وزوجة أحيانًا تُناكفه، وأحيانًا ترضى عنه، وأحيانًا يحلف عليها يمين الطلاق، ونادرًا ما يقع اليمين.

ولعبد العال ماهيةٌ عشرة جنيهات بما فيها كل ما ناله، وما لم ينَله من علاوات.

وعبد العال سعيدٌ جدًّا بحكاية المُخبر. إذا ركب الأتوبيس وجاء الكمسري قال: «بوليس.» وأحسَّ بأهميته وهو يقول بوليس، والناس يرمقونه ويضربون له بعيونهم السلام.

وعبد العال مِثلَ كل الناس يحلم بالمستقبل. وهو لا يحلم حلمًا عاديًّا مثل أن يصبح ضابطًا أو مساعد حكمدار. هو في الحقيقة يحلم أن يكون وزيرًا للداخلية. يا سلام! يصحى الواحد، ويلاقي نفسه وزيرًا له عربة وله حاجب، ويقف على باب منزله عسكري على الأقل بشريطين. بسيطة! وليست على الله ببعيدة؛ فالذي خلق الأرض والسموات من العدم، ألا يمكنه أن يخلق من العسكري وزيرًا؟ ثم لماذا لا يخلق منه وزيرًا وهو دونًا عن رفاقه يُجيد القراءة والكتابة، ويرطن أحيانًا بألفاظٍ إنجليزية، ويلتهم الصحف ويعرف كوريا، ويستطيع أن ينطق اسم همر شولد صحيحًا.

وعبد العال من مدةٍ كان معه تحقيق وسين وجيم؛ فقد اشترك مرةً في ضبط واقعة، واستلم هو المضبوطات وأمضى بذلك. وبعد أيام جُرِّدت الأحراز فوجدوا حرزًا ناقصًا، وجاءوا بعبد العال وسألوه وأنكر، وألحُّوا في السؤال وأغلظوا وتلجلج. وشك فيه الضابط وهدَّده بالتفتيش. ورأى عبد العال من عينَيه أنه ينوي حقًّا تفتيشه، وحينئذٍ مد يده في جيبه وأخرج منها الحرز المفقود.

وكان الحرز هو الدليل المادي في القضية؛ فقد كان شيكًا مزورًا، شيكًا بمبلغ مائة ألف جنيه أُتقنَ تزويره.

واستغرب الضابط، وفتح محضرًا وراح يسأل. وتوقَّف عند السين التي تقول: لماذا احتفظت بالشيك المزور معك؟ لم يستطع عبد العال أن يُدلِي بسببٍ واضح.

وهَمْهم وغَمْغم، وقال كلامًا فارغًا كثيرًا لم يُقنع الضابط، ولم يقتنع به هو.

وفي آخر النهار عاد عبد العال من القسم منهوكًا محطَّم القوى. عاد وقد خُصم من مرتَّبه نصفه، ونُقل من المباحث، وأُنذرَ بالفصل.

عاد وهو حزينٌ ساخط، ومع ذلك كانت في أعماقه طراوة رضًا وسعادة؛ فلا أحد قد فطن إلى أنه كان قد احتفظ بالشيك المزور ليستخرج له صورةً فوتوغرافية طِبق الأصل، صورةً كلَّفته كثيرًا، ودفع فيها خمسة عشر قرشًا.

ومضى اليوم، ومضت وراءه أيام، وذهب حزن عبد العال وسخطه، ولكن بقيت صورة الشيك المزور.

وللآن لا تزال أسعد لحظات عبد العال هي تلك التي يهرب فيها من زحمة الناس ويختلي بنفسه، ويطمئن إلى أن أحدًا لا يلحظه أو يراه، ثم يُخرج حافظة نقوده بعناية، ويستخرج من جيبٍ مخصوص منها صورة الشيك، ويُحس بالرعد في أذنيه والتنميل في أطرافه، وهو يرى شعار البنك والحروف المطبوعة، ثم وهو يقرأ الجملة الخالدة ويلمس عليها بأصابعه:

ادفعوا لحامل هذا مبلغ مائة ألف جنيه مصري لا غير.

ويستمر يحدِّق في الشيك حتى تهجع الزوابع التي في جوفه، ثم يطويه بعناية ويُعيده إلى جيبه الخاص في المحفظة ويتنهَّد، وكأنما قد انتهى من اعتراف أو صلاة، ثم يعود هو في بطء إلى الناس وزحمتهم، يعود كما كان عسكريًّا طويلًا وأسمر، وعلى ظهر يده اليمنى سمكةٌ فمُها مفتوح، وذيلها مشقوق، وعلى عينها نقطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤