مارش الغروب

كانت الصاجات تخرج صاخبةً زاعقةً، وعلى دفعات كهدير الديك الرومي، وكنت تستطيع أن تسمعها من بعيد، حتى إذا ما وصلت إلى كوبري شبرا البلد عثرت على مصدرها؛ على بائع العرقسوس.

كان الرجل مُسنًّا كمعظم بائعي العرقسوس، ويرتدي زيهم التقليدي؛ فوطة حمراء قديمة نظيفة لفَّها حول وسطه، وفانلة بمبة بأكمام، ولا شيء غير هذا يستر الجسد خلا السروال الطويل الذي يترك الساقين عاريتين.

وكان للبائع لحيةٌ طويلة، ولكنه لم يكن سنيًّا، كان واضحًا أنه يطلق لحيته كنوع من عياقة الكبار، أو لإحاطة نفسه برهبةٍ مصطنَعة، أو على أقل تقدير ليوفِّر ثمن حلاقتها كل يوم كل يوم.

كان واقفًا في وسط الكوبري تمامًا وهو وإبريقه يكادان يسدَّان الطريق؛ فالإبريق كان ضخمًا قديمًا، وكأنه هو الآخر عجوز مقعَد كتب على البائع أن يحمله فوق صدره مدى الحياة، وكانت له بوز رفيعة ممتدة وملتوية عند آخرها، وكأنها يد العجوز التي عوجها الشلل حين تمتد لتستجدي.

وكانت يدا الرجل مدلَّاتين خلفه، ويده اليمنى لا تكفُّ عن دق الصاجات، ويخرج صوتها له ضجة وصراخ. وكان يدق على دفعاتٍ كل دفعة دقتين متتاليتين، ثم يصمت برهة، ويعود على الدق، ويقول: «يا منعنش!» وكان ينطق منعنش بلهجة لا نعنشة فيها ولا حماس؛ فالدنيا كانت شتاءً، والشمس غابت من هُنيهة، والكون يعبق بذلك الجو المريض الذي يتبع مغرب الشمس، ويسبق حلول الظلام. وكان الناس يمضون فوق الكوبري صامتين مُسرعين. في إسراعهم كآبة يوم يموت، وبرودة شتاء.

كان الناس يمضون ولا أحد يلتفت إلى البائع أو تسترعيه دقاته؛ فالدنيا شتاء، ومن يشرب عرقسوسًا في الشتاء؟! من يفكر حتى في فتح فمه أو التلكؤ لأخذ شفطة؟!

ورغم هذا استمرَّت الصاجات تعمل وتهدر بزعيقها المُتوالي، وكلما حدَّق البائع في الكون، ورأى الناس يختفون من حوله، ويتسربون وكأنما تبتلعهم مخابئ سرية، وكلما رأى الجرح المُدمم الذي أحدثته الشمس الغائبة في السماء حين اخترقها إلى عالم الظلام، كلما رأى هذا قصرت المسافة بين الدقات، وأصبح صوتها أعلى وأكثر حدة، وانطلقت حنجرته تعضد الدقات، وتقول يا منعنش، تقولها حنجرتها متقلصةً مثنية على نفسها، وكأنما انحنت تستخلص «منعنش» وهي عاصية في قاع حنجرته لا تريد أن تخرج؛ فالإبريق كان لا يزال راقدًا فوق صدره كالمصيبة الثقيلة، ولا يزال ممتلئًا، وكل ما باعه منذ الصباح كان لم يتعدَّ بضعة قراريط لا توقد مصباحًا ولا تغمس لقمة.

والدقائق تمضي بسرعة، والوقت يتسرب تسرب الناس كأنما أصابه البرد هو الآخر.

وتدق الصاجات عاليةً صاخبة هستيرية تريد أن تتحدى وتستوقف الأسماع، والظلام يتكاثر وتصبح له دنيا كبيرة، وبرد السماء يطبق على الأرض، والناس يصغرون ويصغرون، وكل شيء تصبغه رماديةٌ زرقاء ويبرد ويصبح لا حياة فيه. وتزأر الحنجرة يا منعنش، وتخرج منعنش حادةً تُكمل صخب الدقات، وبين كل آن وآن يقول: يا كريم سترك. ويمدُّ الكاف وكأنه يصنع منها حبلًا رفيعًا يمده فوق الكوبري ليوقف الناس، ويُتبعها بسترك مقتضبةً خارجة من الصدر، وكأنما يسترضي الناس بعد هديره ويُصالحهم بها.

والناس رائحةٌ غادية، ميتانة، سقعانة، ناشفة، وجوههم شاحبة فيها غضون، وعيونهم ذابلة فيها شتاء، ولا يريد أحد — رغم وجوده في وسط الكوبري — أن يُلقي عليه نظرة.

وأطلق الرجل يا منعنش، وأتبعها بيا كريم سترك، أطلقهما عاليتين صاخبتين مدويتين كاستغاثاتٍ أخيرة لسفينةٍ تغرق.

وأيضًا لم يلتفت أحد.

والوقت يمضي، والمارَّة يقلُّون، والسماء تزداد إطباقًا على الأرض، وعالم الظلام يكبر ويكبر، والجرح الذي في السماء يلتئم وتذهب حمرته وشفقه، والناس يتحولون من كائنات إلى أشباح.

وبدأت دقات الصاجات تنخفض، ولم يعد الرجل يقول يا منعنش، كان فقط يردِّد يا كريم سترك. وكان يقول يا كريم متضرعًا، يقولها لكل شيء حوله؛ للأرض والسماء وعربات النقل والكارو، وحتى لصاحب الغرزة الجالس هو الآخر يرتعش ويستعد للرحيل.

وكان ما في صوته من ضراعةٍ ينتقل إلى نحاس الصاجات، فتخرج الدقات متتابعة نغم، وعلى دفعات، ولكن فيها بحة، وكأنه يريد أن يرجو الناس فقط أن ينظروا إليه، فقط ينظرون إليه ولا يشترون. لماذا يزوَّرون عنه ويشيحون بوجوههم يتهربون وكأنهم يفرُّون من واجبٍ ثقيل؟ ماذا عليهم لو فقط يلتفتون؟

ولم تُفلح الدقات ولا أفلح النداء في جلب نظرة.

وهنا كست وجهَ العجوز تكشيرةٌ طيبة فيها يأس، وتهدَّل حاجباه فوق عينيه في عتابٍ صامت، وكانت يداه لا تزالان مدلَّاتين خلفه، ولكن الدقات همدت حدتها وتباعدت، وأصبحت كدقات قلب المُشرِف على الموت؛ تسكت طويلًا ثم تبرق فجأةً وكأنها تُقاوم الفناء. وبين الحين والحين يُلقي الرجل نظرة على القراريط التي باعها وآلاف القراريط التي لم يبِعها، ثم يُتمتم من بين شفتين ترتجفان بالبرد: يا كريم سترك.

وظل الرجل واقفًا هكذا وكأنما ينتظر شيئًا ما؛ معجزة تحدث وتُفرغ الإبريق وتملأ جيبه. ثم خفَّت القدم، وخطا الكوبري علَّه يُرزَق، ولم يُرزَق، ووقف على جانب يحدِّق في الأرض والسماء والأضواء البعيدة والقريبة، ولا شيء يحدث ولا معجزة تهبط.

وهبط عليه يأسٌ كامل، فارتفع حاجباه المُتهدلان، ومضت التكشيرة إلى غير رجعة، وانبسطت ملامحه، وبدأت الدقات المتباعدة تتقارب وتتآلف، ولكنها اتخذت طابعًا غريبًا، فلم يكن لها ضجة الهدير المُتتالي الذي يُشبه صراخ الأوزَّة المذعورة. تآلفت الدقات وصنعت نغمةً أخرى، نغمة خافتة راقصة حزينة. ظل الرجل يدقُّ بيدَيه دون وعي، وتخرج النغمة دون وعي أيضًا، وتخرج هامسةً تتستَّر بالظلام ولا أحد يسمعها، حتى فطِن الرجل إلى ما تُحدثه أصابعه، فأنصت برهةً وابتسم، ورفع حاجبيه وكأنما أعجبته النغمة وجاءته على الوجع فأوغل فيها، ومضى يضبطها ويحسِّنها وهو الخبير بدق الصاجات، حتى استحالت إلى همساتٍ فيها بحة تخلع القلب وتُرهف الأنفاس. وأطربته النغمة إلى الدرجة التي راح يهزُّ رأسه هزاتٍ خفيفةً وقورة على وقعها، ثم ما لبث الاهتزاز أن وصل إلى شعيرات ذقنه، فأخذت تتأود وتتراقص.

وقف طويلًا يرمق الناس والدنيا بلا مُبالاةٍ تامة، ويده اليمنى تهمس بالنحاس إلى النحاس، والطرب قد وصل إلى الإبريق وبوزه، فأخذ يرتعش هو الآخر ويتمايل، ولا أحد يسمع سواه، وهو مُنتشٍ؛ لأن أحدًا لا يسمع سواه، ولا أحد يلتفت إليه، والنغم يخرج حنونًا دامعًا حلوًا في سكون المساء.

ظل واقفًا إلى أن أحاله الظلام المُتكاثر إلى شبح من الأشباح.

ثم بدأ الرجل يتحرك مروحًا في اتجاه شبرا البلد.

تحرَّك بطيئًا يائسًا مثنيًّا إلى الوراء، ويداه خلفه، والصاجات تدق وهو يتحرك على وقع نغمتها الهامسة. كل خطوة بهمسة؛ همسة موجوعة ثكلى. وكل خطوة بدقة؛ دقة ناعمة فيها شجن. ويذوب شبحه في الليل حتى يختفي تمامًا، ولا تعود الأذن تسمع سوى همس النحاس إلى النحاس، وهو ينخفض ويشفُّ وينخفض.

والدنيا كبيرةٌ كبيرة، والظلام كثيرٌ كثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤