ليلة صيف

العشاء ولَّى، والتبن بارد وكومته عالية، والدنيا ليل؛ ليل مفضض؛ فهناك قمر عليه سحابات كمناديل الحبايب البيض تعافيه بالعافية، وتمضي وبلدتنا راقدة، قريبة منا، كقنفذ له أشواك وأحزان وأشجار. وكنا نحن جالسين نتحدث — لا نفعل كالكبار ونخوض في متاعب النهار — كنا نتحدث عن أنفسنا. كنا قد بدأنا نُحس بشيءٍ جارفٍ عارم يتدفَّق في أجسامنا ويغيِّرها، ونُحس بالتغيير يحدث كل يوم، وكان ذلك يُسعدنا ويُدهشنا، ونردِّد ونحن فرحانين: إحنا بلغنا.

كنا لا نخوض في حديث المتاعب مع كثرة متاعبنا في النهار، كنا نشقى كالرجال تمامًا، بل في العادة أكثر من الرجال؛ فالكبار دائمًا كسالى يعشقون الظل ويتركون لنا الشمس، يرجوننا أحيانًا وأحيانًا أخرى يأمرون، ونحن في كلتا الحالتين سعداء؛ فالعمل رجولة ونحن ظامئون إلى الرجولة، وأن نكلَّف به معناه أننا قد أصبحنا كبارًا يُعتمد علينا وأننا شباب، وأن لنا غدًا لا بد قريبًا نتزوج فيه ونخش، ويكون لنا زفة وليلة حنة. كنا نعمل طوال اليوم كالنحل النشيط، ونأكل كثيرًا، نأكل كل ما نعثر عليه في الغيط أو في البيت، وأمهاتنا سعيدات يُدركن بغريزتهن أننا نكبر، وأننا في الطريق إلى النضج، فيدسسن لنا قِطع الجبن والبيض واللحم من وراء آبائنا وإخوتنا وكأننا بط يُزغطنه أو أوز. وكانت أجسامنا تستجيب وتشتعل، وتنفض عنها صفرة طفولة طالت، وشحوب السنين العجاف وما فيها من قصر، وتنمو؛ تنمو بسرع وكأنما تُعوض في أيامٍ كل ما فاتها من سنين، وكانت وجوهنا هي الأخرى تتغير، وتستدير، وتأخذ لون الأرض الخصبة ذات الطمي، وتمتلئ سيقاننا، وتبرز حناجرنا، وتغلظ منا الأصوات.

كنا جالسين فوق كومة التبن نُغمغم ونحكي ونتحدث، والليل يقشعر بأصواتنا وبما فيها من رجولة وافدة جديدة، وأجسامنا تنتفض بقوًى لا تجعلنا نستقر، ولا تجعلنا نحلم كما يفعل الصغار، أو نكبتها في حكمة كما يكبت الكبار.

كنا نجلس، وفي الحقيقة لم نكن نجلس، كنا ندفن أنفسنا في كومة التبن وكأنما نودُّ أن تلمسنا الدنيا ونلمسها، ويضغط التبن علينا فنستعذب ضغطاته.

وكنا نتحدث، كنا نُفرغ تلك الحمَّى المتأجِّجة في كلامنا، وكنا نختار مجلسنا بعيدًا عن البلدة، وبعيدًا عن الناس، وكأننا نُحس بما يدور في خلَدنا، ونعتبره شيئًا قبيحًا لا يصح، فنختار للخوض فيه مكانًا بعيدًا.

ولم يكن حديثنا مرتَّبًا ولا منمَّقًا، كان يبدأ دون أن نعرف، ونستمر فيه ساعات ونحن لا ندري عن أي شيء نحكي. كنا نتكلم والليل وحده يسمعنا، بل لولاه ما تكلَّمنا. كنا نحب أن يشهد الليل حديثنا، بل نكاد ونحن نتكلم نوجِّه إليه حديثنا. ونحب الليل؛ نحبه وكأننا نرى في سواده وهدوئه وحنانه امرأةً جميلة ذات نسمات ودم خفيف وسمرة أبنوسية تهيج كامن أعماقنا. ونكره النهار؛ نكرهه وكأنه رجلٌ خشن غليظ القلب والقول لا يرحمنا ولا يسمح لألسنتنا أن تدور.

كان الحديث يبدأ بالطول، كلٌّ منا يُحاول أن يُثبِت للآخر أنه أطول منه. وتقوم بيننا المراهنات، ويدَّعي الخاسر أن في أعلى فخده ورمًا وألمًا ويريه للباقين، فيُطمنه الباقون؛ فالورم معناه طولٌ جديد وعليه ألا يحزن. ثم ندلف إلى الأحلام ونتفنن في رواية كيف حدثت، ثم نُقارن بين الأصوات، ويمدُّ كلٌّ منا يده ويتحسس حنجرته ويرى مقدار ما حدث فيها من بروز.

ثم يحوم الحديث حول النساء. وكانت نساء بلدنا كبُيوتها سودًا لا أرداف لهن ولا صدور أو شرفات. كن كالرجال أو هن أقرب. كانت نساء البيوت البيضاء هن من يملأن علينا الحديث. وفي القرى بيوتٌ سوداء كثيرة، وقليل من البيوت لها طلاءٌ أبيض. ولا بد في كل بيت أبيض امرأةٌ حلوة سهلة، وإلا لماذا خُلقت دون النساء حلوة؟

وكان التبن يضجُّ بحديثنا، ونهيج أحيانًا ونقذف بعضنا بأحفنته ونُثير العواصف، وينطلق منا من يعوي كالذئاب ويقول: روحوا يا ولاد!

ويُخرسه الباقون لئلا يعثر علينا أحد، ونحن لا نريد أن يطردنا من مجلسنا خفير أو كبير؛ إذ إننا نتفرق بعدها إلى بيوتنا، ويرقد الواحد منا فوق ظهر فرن، أو في «بحراية»، ويكظم وحدته وحيرته وضيقه بالعفاريت التي تُكهرب جسده وتحرمه النوم. هنا فقط — ونحن جماعة — يخيَّل إلينا أن العفاريت تسكن، وأننا حين نتحدث نرتاح، والحديث عذبٌ حلو يا هوه، نريده ونطلبه وليس لنا سواه.

وما كان لجماعتنا قيمة بغير محمد. كان أكبر منا وحائرًا مثلنا، ولكنه كان أكثر منا خبرة. كان قد خرج من بلدنا وذهب إلى البندر، ويعمل فيه، وله قصص ومغامرات. وكانت له بالنساء معرفة، وما من أحد فينا كان قد اطلع على النساء. كنا نراهن من بعيد ونخشاهن، ونتمناهن ويتملكنا خجلٌ قاتل إذا انفردنا بهن. وكان محمد عزاءنا؛ يقصُّ علينا مغامراته بالتفاصيل ونرتشف ما يقوله رشفًا. وكنا نحبه، ونحب شاربه الخفيف الحديث، وكان في استطاعته أن يربِّي شعره؛ فآباؤنا كانت تجتثُّ شعورنا أولًا بأول ولا حق لنا بعد نمرة تلاتة. وكان لمحمد «قَصة» صفراء يطليها أحيانًا بالفازلين الذي يشحته من ناظر المحطة، وإن لم يجد فبالزبدة، وكانت بقية رأسه قصيرة الشعر. وكان يحلو له أن يلبس الطاقية الصوف ويرجعها إلى الخلف، فتظهر «قصته» ناعمة لامعة مسبسبة، ويحسب الرائي أن شعره كله لا بد ناعم لامع مسبسب. وكان بشفته العليا شقٌّ يجعل الإنسان يعتقد أنه شرس ويكرهه، ولكنه لم يكن شرسًا. كان يضحك كثيرًا، ولا يغضب منا، ويطير وراءنا إذا ضحكنا عليه. وكان قمحيًّا لم تسوِّده شمس الغيطان. كان يزرع، وذهب إلى البندر مرة، وما إن تذوَّق عيشه وطعميته حتى أقسم ألا يعود إلى المحراث أبدًا. وكان يخيَّل إلينا ونحن جالسون معه أنه ليس من بلدنا، وأنه واحد من سكان المدينة المُتنورين اللئام الناصحين الذين نرهبهم ونخشى أذاهم.

وكان جريئًا. كنا نخاف الحرام جدًّا، ولكنه طمأننا، وعلَّمنا كيف نملأ حجورنا بالتراب وندخل به منازلنا، ثم نرمي التراب ونملأ حجورنا بالغلة أو الأذرة أو القطن، ونخرج فلا يشكُّ فينا أحد.

وكان هو الذي يتولى بيع ما نجلبه، ويختصر من الثمن برضانا، ونشتري بالباقي حلاوة طحينية ويوسف أفندي وعصي خيزران نتقمع بها في الأسواق.

في تلك الليلة جلسنا، حفنة من أولاد بلدنا أرجلهم خشنة مشقَّقة لا يزال يطمسها طينٌ جاف، وملابسهم مهرأة، ووجوههم لا تكاد تعرف فيها الشعر الأصفر من الشعر الأسود من سمرة الجلد، وروائح العشاء تتصاعد من أفواههم؛ بصل ومش وفلفل مخلل وسردين وكرات، والهدوء تام من حولنا، والقمح يغمرنا من كل جانب؛ قمح واقف تموج به الغيطان، ويتلوَّن بحركة الريح وشعاعات القمر كما يتلوَّن حرام من القطيفة البنية، وقمح محصود ومكوم في أكوامٍ صغيرة متباعدة لها صفوف كصفوف مُصلِّين راكعين في العراء يطلبون الرحمة، وقمح يُدرس، وقمح مدروس ومدرًّى، وأكوام تبن وقصلية، ونورج واقف كجملٍ بارك وعليه «شبرية» عروس، ورائحة المحصول الجديد تملأ الجو وتختلط برائحة التراب بلَّله الندى، ورائحة عشائنا وعرقنا الذي كان قد أصابه التحول هو الآخر، وأصبحت له نكهة ذكرية خاصة.

وفي مثل تلك الليالي يحلو حديث محمد. كان صوته لا يتأرجح مثل أصواتنا، كانت رنة الرجولة فيه قد استقرَّت، وكانت طريقته في الرواية توقف الشعر، وبلاد كثيرة يحدِّثنا عنها؛ بلاد قريبة رآها بعضنا، وبلاد بعيدة ما رأيناها، ولا نعتقد أن محمد هو الآخر رآها. بلاد لها أسماء غريبة ترنُّ في آذاننا رنينًا، ولها في خواطرنا ألوان وأشكال وأفندية وسكك حديد.

كنا نبقي حديث محمد للآخر. نستهلك أولًا كل ما يمكننا قوله عن بلدنا ونسائها، ونُعيد ما قلناه، ويقصُّ كلٌّ منا كيف نظرت له فلانة وكيف وقف يتبصص على علانة.

ثم نحلِّي بحديث محمد.

وعرفنا في تلك الليلة من بدايات حديثه أنه يودُّ أن يحكي قصة المرأة العرباوية التي عرفها في السوق، فقاطعناه وصنعنا ضجة؛ كان قد بدأ يُغالطنا ويحكي لنا أشياء رواها من قبل. وكنا نريد شيئًا لم نسمعه؛ إذ لم تعُد تنطلي علينا مُراوَغاته. وكان محمد أحيانًا يروغ ويحرن ونتذلل إليه ونستحلفه ونعِده بالقمح والذرة والبيض، ولكنه في ليالٍ كان يحرن تمامًا ولا ندري لسكوته سببًا.

وقال لنا محمد وعيونه تبرق: اسمعوا يا ولاد!

قلنا: إيه؟

قال: أقول لكم على حاجة حصلت لي بس اوعوا تجيبوا سيرة لحد.

قلنا: مش ح نجيب سيرة لحد.

قال: تحلفوا على الربعة الشريفة؟

قلنا: وحياة الربعة الشريفة.

قال: والبخاري؟

ولم نكن نعرف ما هو البخاري، كان لا ريب شيئًا أعتى من المصحف.

فقلنا: وحياة البخاري.

قال: واللي يرجع في كلامه؟

قلنا: يبقى مرَة.

قال: مرة وبس؟

قلنا: وابن ستين في سبعين.

قال: وحياة الشمسة الحرة؟

قلنا: وحياة الشمسة الحرة.

قال: كنت مرة رايح المنصورة في طلب.

قلنا: أنت كداب، أنت عمرك رحت المنصورة؟

قال: وحياة المصحف الشريف رحت.

وصدَّقنا ولم نملك أنفسنا ووحوحنا. الحكاية ستحدث في المنصورة؟ والمنصورة كانت لا تبعد عن بلدنا كثيرًا. كان القليل منا هو الذي رآها وهو صغير، وكلنا سمعنا عنها، وكلها أسماعٌ محمومة برَّاقة تغشي وتذهل.

وكانت في نظرنا لا بد شيئًا كبيرًا كالجنة، وفيها خواجات لا يُحصى لهم عدد، وبنات كاللبن الحليب، ونساء أفرنج لهن ملايات لف حريرية تلمع وتلعلط، وقصب براقعهن لا بد صغير دقيق مثل عقلة الإصبع، وأنوفهن لا بد كحبَّة الفول، وأجسامهن لا بد مصنوعة من لحمٍ طري وليس فيها عظام، وإنما هي كالملبن تجذبه فينجذب معك، وتلحسه فيسيل لعابك من حلاوته، والرجال هناك طريُّون لا يُشبعون نساءهم، والنساء يمضغن اللبان فيُطرقع في أفواههن الحلوة الضيقة، ويطلبن الرجال؛ رجال مثلنا فلاحون خناشير كفحول الجاموس.

وقلنا لمحمد مبهورين: وبعدين؟

ومضى محمد يحكي. قال إنه نزل من القطار وقضى طلبه، وبقيت لديه ساعات على موعد القطار التالي، فاشترى رغيفًا خاصًّا، وأكله ومضى يتفسح في شارع المحطة. وكان الشارع ممتلئًا ببيوتٍ كبيرة لها بلكونات، وكانت الدنيا في العصر الضيق، وكانت البلكونات ممتلئة بالستات؛ ستات لو وُزِّعن على رجال بلدنا لناب كل واحد طورة وفردة خربة. ومر ببلكونة كانت واحدة واقفة فيها ترتدي «روبًا» أحمر.

واستخرجنا أنفسنا من التبن وسألناه: ما هو الروب الأحمر؟ فقال إنه شيء كالعباءة. وتشكَّكنا في صحة كلامه؛ فقد كنا نسمع له كالقضاة نتأرجح بين التصديق والتكذيب. كنا نخاف دائمًا أن يكون ما يقوله مجرد حكاية يخترعها ليضحك بها علينا؛ ولهذا كان الشك يغلبنا ونرجِّح في الغالب كفة الاتهام.

ومضى محمد يروي ويقول إنه مر من تحت البلكونة فابتسمت له المرأة.

وتلاصقنا حوله وارتجفنا.

وظن أنها تبتسم لواحدٍ غيره، ولكن الشارع كان خاليًا من الرجال، وليس هناك أحدٌ غيره. ونظر إليها فعادت تبتسم.

وأمسكنا بجلبابه وتشبَّثنا نستأنيه ولم نعُد نصدِّق أو نكذب. كنا نودُّ أن نسمع، وقلنا له: حاسِب. إوعى تسيب حاجة.

فقال: مش ح أسيب حاجة. هي ابتسمت تاني يا ولاد وأنا قلبي دق وجنوني طارت، وقلت في سري دي فرصة جتلك من السما يا واد.

عملت إني مش واخد بالي وبصيت لها تاني فضحكت، فقلت في سري ما ينفعش إلا واحد زبيب.

وسألناه: اشمعنى الزبيب يعني؟

قال: يعني كونياك يا ولاد.

قلنا: وإيه الكونياك؟

قال: خمرة.

وخفنا. محمد يشرب الخمرة؟ النسوان معلهشي، إنما الخمرة أعوذ بالله! المقصود تغتفر لمحمد.

- وبعدين يا محمد؟

- مشيت، لقيت واحد خواجة فاتح. قلت يا خواجة. قال نعم. قلت اديني زبيب زحلاوي والمزة خيار.

قلنا: إيه المزة دي يا محمد؟

قال: خيار.

وخفنا أن نعيد السؤال. كنا نستعجل ما بعد ذلك وما هو أهم.

- شربت الزبيب يا ولاد دمي غلي وطلعت الخمرة على قلبي بقى زي الحديد. قول أجل الاطمئنان رقعت واحد تاني ورجعت على شارع المحطة.

وسألناه: وفُت تاني؟

قال: فُت.

قلنا: ضحكت لك؟

قال: ضحكت ضحكة ترد الروح يا ولاد. مرة حلوة زي الكمترى ولابسة … كانت لابسة إيه يا محمد؟ لابسة قبقاب مشغول وجسمها باين كله من الروب وبتضحك. بصيت لها وضحكت. ضحكت تاني.

قلنا: اشمعنى ضحكت لك تاني يا محمد؟

قال: يا ولاد كنت لابس الحتة الزفرة، وكان عندي طاقية وبر جمل وجزمة لميع وكوفية حرير على كتفي، وشباب في عز نعنعة شبابه. غمزت لها بعيني فراحت داخلة جوة، وطلعت لابسة روب تاني؛ روب سواكبيس أخضر. رحت وجيت من قدام البيت، فشاورت لي وقالت بإيدها اطلع. أطلع يا ولاد؟

فقلنا بعزم ما فينا: إطلع يا محمد.

فقال: طلعت والواحد متاخد. إني غريب وده بيت وداخل على حرمة. افرض حد مسكني ولا حاجة أقول إيه؟ افرض لها أهل. المقصود لولا الاتنين الزبيب يا رجالة لما كانوا يقطعوا رقبتي ما كنت أعتب بيتها أبدًا.

وسألنا: ودخلت؟

فقال: صبركم عليَّا شوية. ضربت الجرس يا ولاد.

قلنا: ضربته ازاي؟

قال: الجرس كان له زر.

قلنا: والأجراس بأزرار؟

قال: أيوه يا فلاحين اتمدنوا الأجراس بأزرار. فتحت لي الباب وقالت اتفضل. وطلع صوتها يا ولاد زي السكر المعقود زي حب النعناع.

وقلنا: ودخلت، ادخل.

قال: الله! ما تحكوا أنتم أحسن. ح تسكتوا ولا لا.

قلنا: ح نسكت.

قال: وقفت على الباب خايف. سندت على الباب، وقالت لي ما تخافش جوزي مسافر. قلت يا واد هي موتة ولا اتنين. قلت لروحي: تدخل يا وله؟

قلنا له: ادخل يا محمد يخرب بيتك.

قال: دخلت وقعدت في أوضة الجلوس. كراسي مدهبة يا ولاد. ومرايات بنور الحيطان ولعاليب وشخاليل في كل ركن من الأركان. وبعد شوية بصيت لقيتها داخلة عليَّا بفستان كحلي بياكل من جسمها أكل. وكانت جايبة معاها إزازة وكاسين. قالت لي: اسمك إيه يا شاطر؟ قلت لها: خدامك محمد. قالت: دانت سيدي، تسلم لشبابك. تحب تقعد على الكرسي يا سي محمد ولا تخليها على البساط أحمدي.

قلنا: اقعد على الكرسي يا عبيط.

قال: لا، قلت أنا مش واخد على قعدة الكراسي يمكن أدوخ. وقلت لها: اسم الكريمة إيه؟ قالت لي: فيفي. قلت لها: وأنت فيفي صحيح. قالت لي: أنت بتشرب يا سي محمد؟ قلت: أشرب تاني يا ولاد؟

قلنا: اشرب يا أخي.

قال: وقعدنا نشرب يا ولاد. واحد في التاني في التالت أنا اتخدرت والأوضة لفت بي. قالت لي: إنت اتاخدت؟ قلت: أبدًا. قالت: أجبلك حاجة تفوقك؟ فانكسفت أقول هاتي.

قلنا: يا خايب تنكسف ليه؟ وجابت لك؟

قال: جابت لي؟ دانا بصيت لقيتها داخلة عليَّا بصينية أكل.

قلنا: فيها إيه؟

قال: ديك رومي يا ولاد محشي من جوه حمام، وبطاطس ولحمة ضاني.

قلنا: يخرب بيتك يا محمد. وأكلت؟

قال: أنا بقيت داري عن روحي. أهو فضلت تطعمني.

قلنا: مش عيب؟

قال: عيب إيه يا ولاد؟ ما عيب إلا العيب. أني كنت بقيت ألسطة قوي وعلى الآخر. فمديت إيدي عليها.

قلنا: من غير ما تغسل؟

قال: يا باي! غسلت. انتو ح تطهقوني.

ورجوناه ألا يطهق، وما كان في حاجة إلى رجاء، كان يبدو هو الآخر منسجمًا لا يستطيع أن يوقفه شيء. ومضى يقول مديت إيدي عليها يا ولاد تقولوش عجمية.

قلنا: وشها كان أبيض؟

قال: أبيض من القطن المندوف.

قلنا: وشعرها كان ازاي يا وله؟ كان أسود؟

قال: ومحصل لغاية ركبتها.

قلنا: قول والنبي قول بس اوعى تفوت حاجة.

قال: كان جسمها ناعم نعومية يا ولاد، أنعم من بذر الخروع. قلت لها أنا في عرضك، أنا خلاص. قالت: طيب تعالى. وخدتني على السرير، ونزلت الناموسية؛ ناموسية بمبي والنبي. ومدت إيدها طفت النور.

قلنا: حاسب على مهلك قوي.

قال: وبعدين لقيت الناموسية بتبرق يا ولاد. أنا قلت القيامة قامت، أتريها ولعت نور تاني في الناموسية. واتبن كان في سقفها لمض صغيرة حمرا وخضرا وزرقا وصفرا. وبصيت لقيتها قدامي يا ولاد حاجة تهبل؛ حتة منها لون والتانية لون، كأنها جنِّية.

قلنا: وبعدين؟

قال: وبس يا ولاد، وشفت معاها ليلة ولا ألف ليلة.

فعدنا نقول: أبدًا ما ينفعشي. وبعدين في عرضك؟ وبعدين؟

قال: ولا قبلين.

قلنا: يا أخي ما تقول، يا أخي ارحم، وحياة رحمة أبوك وبعدين؟

وجاد علينا بالقليل، ولم يشفِ غليلنا أبدًا. وتركنا ولعة كالنار الموقدة. وبدلًا من أن يهدئنا حديثه زادنا اشتعالًا. وقال واحد منا: سيبوكو منه يا ولاد. ده مش كله فتش.

وقال آخر: طيب تحلف إن ده حصل.

وأقسم محمد، وازددنا ثورة ولم نصدِّق.

وأقسم بتربة أمه. وقلنا: كداب أنت بتضحك علينا.

فقال: أبدًا، والله هذا ما حصل.

قلنا: كداب.

قال: يا ولاد أنا عمري ما كدبت عليكم.

قلنا: أنت كداب.

قال: إنتم أحرار.

فقلنا: يعني لو رحنا المنصورة تودينا البيت؟

قال: أوديكم.

- تودينا؟

- أوديكم.

وانتفض واحد وقال: ما تيجي نروح المنصورة يا ولاد.

وهلَّلنا. قال كل واحد كلمة، وصدرت عنا أصوات، وتعانق أكثرنا. كانت عقولنا كالقاعة الضخمة الفارغة أقل الأصوات يُحدِث فيها أعظم الرنين. وهِجنا هياجًا شديدًا، حتى اتنين منا أمسكا بمحمد، واحد من رأسه، والآخر من ساقيه، وظلا يؤرجحانه بينهما حتى ألقياه على التبن. وصرخ واحد وقال: يا رازق الفرخة وديكها.

ثم اندفع إلى النورج يجرُّه ويدور به فوق «رمية» القمح المعَدَّة للدراس. والنورج ثقيل جدًّا لا تكاد تستطيع البهيمة سحبه.

وقال واحد: ولاد، ولاد، اسمعوا يا ولاد، ولاد اسمعوا يا ولاد.

وظل يصرخ حتى سمعنا، فقال: تيجوا نروح المنصورة؟

وعاد الهياج بحماسٍ أكثر، وتعالت سحب التبن فملأ عيوننا وأجسامنا وعفرنا ترابه.

وكنا قد غادرنا الكومة، وأصبحنا في وسط الجرن، وكل منا مشغول بشيء أو مُشتبك مع الثاني في مصارعة، والشاطر من يوقع الآخر.

وقال محمد: تيجوا نلعب يا ولاد ضربونا لما عمونا.

وهِجنا من جديد، ووجدنا أنفسنا نزعق ونقول: عايزين نروح المنصورة.

ووجدنا لها نغمة فعدنا نغنِّيها: عايزين نروح المنصورة.

وتصاعد صوت يقول: الدنيا ليل يا ولاد.

ورددنا عليه جميعًا: عايزين نروح المنصورة.

وهرش واحد وقال: حدانا عزيق بكرة.

فقلنا: يا محني ديل العصفورة، عايزين نروح المنصورة.

•••

وأفقنا لأنفسنا فوجدنا أننا قد قطعنا شوطًا كبيرًا. كنا قد غادرنا بلدنا وحدودها وغيطانها، وأصبحنا نمش في طريقٍ زراعي يقطع زمامات بلدة أخرى. ولحظتها فقط بدأنا نعي أننا مُقدِمون على شيء، وأننا ذاهبون فعلًا إلى المنصورة. وكان سبب يقظتنا أننا شممنا رائحة الأرض الغريبة. في بلدنا كنا نُحس بالألفة لكل شيء، ونتصرف بحرية ولا نخاف. كل نخلة كنا نعرفها، ولا بد طلعناها وأكلنا منها بلحًا، وجمعنا من تحتها رطبًا. كل غيط طرقناه ورأيناه في طفولتنا وصِبانا. كل بيت نعرفه ونعرف أهله كما نعرف أهلنا. والشجرة أي شجرة نعرف فروعها بالفرع الواحد. وكل منا يستطيع وهو مُغمض العينين أن يُفرق بين تراب بلدنا وأي تراب آخر. ولم نُفِق إلا لإحساسنا أننا قد غادرنا أرضنا وأصبحنا في بلاد الناس.

وانتابنا خوفٌ حقيقي حين أيقن كل منا أن الدنيا ظلام، وأنه يسلك طريقًا لا يعرف له نهاية، وأنه لم يعُد في بلده، ولا يستطيع أيٌّ منا أن يصرِّح بما يدور في خاطره. كانت جماعتنا تتحرك وكانت لها رهبة، وكأنها أصبحت عملاقًا كبيرًا له عشرات الأذرع والأيدي والرءوس، حتى بدا ما يفكر كل منا فيه صغيرًا تافهًا يُخيفه هو وحده، وأصبح هم كل منا حينئذٍ أن يلتصق بالآخرين أكثر، حتى يذوب خوفه ويختفي في جسد ذلك العملاق الكبير. وبعد أن كنا مُتناثرين على الطريق تقاربنا وتشابهت خطانا، بل وتشابكت أيدينا، وتولَّانا وجومٌ وسكوت، ونحن نستغرب من سيرنا المندفع الذي لا يتحكم فيه عقل ولا يتوقف. كان في صدورنا هدير لا يرحم، والمنصورة تجذبنا، كلمة ولكنها أصبحت تعني بالنسبة إلينا شيئًا كالحياة أو أغلى من الحياة، تيارٌ عارم كان ينبع من صدورنا ويقودنا ويدفعنا رغمًا عنا.

ولم يعد يُسمَع سوى وقع خطواتنا على الطريق؛ وقع هامس خافت كأننا قافلة جمال؛ فقد كنا حُفاة، ومن كان يرتدي في قدمه شيئًا خلعه ووضعه تحت إبطه، وكنا نلهث، ووجوهنا تلمع، وغبارٌ قليل يثور، والليل من حولنا كبيرٌ أكبر من أي شيء في الدنيا، وأسود ومُخيف ومليء بالهمهمات والأسرار، والزرع كثيرٌ مُحيط كالبحر المالح الذي ليس له بر، والنبات واقفٌ ميت تُحركه النسمات فيتحرك معها حركةً ميتةً بطيئة، وأصوات سواقٍ تأتي من بعيد كأصوات النائحات النادبات في الجنائز حزينة على الزرع الميت، وطلقات بنادق متباعدة لا يُعرَف من ضاربها وأين ضربها وإلى من تصوَّب، وديكة تصيح قبل الأوان، ونباح كلاب يأتي من بلادٍ مجهولة، وهواء واسع يحفُّ بأرضٍ واسعة، فتُهمهم الأرض وتقشعر الرياح، وهمسات الظلام تنبثق في أماكن غير مرئية؛ همسات خفية لئيمة لا تنقطع كأنها تصدر عن حيتان هائلة لا ترى تسبح في بحر الظلام وتتقلب.

ومد واحدٌ يده وزغزغ الذي في جانبه، وانزعج الآخر انزعاجًا عظيمًا، وقفز في الهواء وصرخ، وضحكنا. لم نضحك ضحكًا عاديًّا، متنا من الضحك. ورحنا نزغزغ بعضنا ونموت، وتتقطع أنفاسنا من الشهقات.

وقال واحد لمحمد وهو يلكزه: ورجليها يا محمد، زي رجلينا كده؟

فقال محمد: هي رجليكو دي رجلين، دي قحوفة نخل.

وعاد السائل يسأل: أمال رجليها ازاي؟

فقال محمد: زي الجمار.

- زي رجلين صفية الغازية يا وله؟

- صفية مين يا حمار؟ دي ولا تيجي في ضافر رجلها الصغير.

- وبطنها يا محمد، داقة عليها سمكة؟

- سمكة إيه يا جدع؟ إيه شغل الفلح ده؟

- أمال داقة إيه؟

- ولا حاجة، هي دي بطن يندق عليها؟ دي زي العجين يا وله.

- وكانت حاطة أحمر وأبيض يا محمد.

- والله ما خدتش بالي.

- ما خدتش بالك ازاي؟ ودي حاجة تتنسي؟

- كانت حاطة.

- وبتتكلم بندراوي ولا فلاحي يا محمد؟

- بندراوي مكشكش يا وله.

وهصنا، وطرنا وراء بعضنا، واختفينا من بعض في الأذرة الصيفي، وقد أصبحت المرأة شديدة الوضوح في ذهن كل منا؛ حلوة، تمامًا كما يريدها الواحد منا؛ ملموسة، وكأنها أمامه، وكأنه قضى معها ليالي كثيرة.

ومضينا ونحن نتدافع ونتجاذب ونُسرع، وضحكنا، وتحدَّثنا، وقهقهنا ونحن نستمع إلى تخميناتنا عن المسافة الباقية على المنصورة؛ واحد يقول ألف ألف متر، وآخر يقول أربع محطات. وتشبعت بنا التخمينات.

وتنبَّهنا فجأةً؛ فلم نجد محمد بيننا.

وكأنما اندكَّت سكين في قلب كل منا. ودون أن نتعقل أو نتشاور انطلقنا نجري في كل اتجاه لنمسك به. كان قد زال عنا كل شك في صدقه، وتأصَّل ما قاله في مخيلة كل منا، وحُفرت تفاصيله في عقولنا حفرًا، وأصبحت المرأة ذات الروب الأحمر والإزازة ليست مجرد امرأة أخرى من اللاتي تعوَّد محمد أن يحكي عنهن، أصبحت امرأة كل منا، يكفي أن يصل إلى المنصورة ويُريه محمد بيتها ذا البلكونة الحديدية، ونطلع واحدًا وراء الآخر حتى تموت من السعادة وتُسَر، ويمكن تعطي كلًّا منا جنيهًا؛ فالواحد منا ولد، ولد عترة لا يُعادله أولاد المنصورة كلها وشربين، وإذا بالخنزير يُساهينا ويهرب.

كنا ونحن نجري نُصدِر الأوامر لبعضنا؛ روح أنت ناحية التابوت، دور تاني بر السكة الحديد، اطلع أنت على الكوبري. وبهذا تفرَّقنا في شبكةٍ واسعة لا يستطيع كائن من كان أن يهرب منها. وكان الواحد منا لا يملك منع نفسه من التفكير: ماذا لو لم نجد محمد؟ هل نعود إلى بلدنا بأيدٍ وراء وأيدٍ من أمام؟ وكانت إجابتنا جميعًا: أن لا، لا، لن نعود. يكفي أن نصل فقط إلى المنصورة؛ إذ لا بد أن نعثر هناك على بغيتنا، لا بد أننا واجدون عشرات من نساء إفرنج بملايات لف، نساء كاللبن يؤكَلن أكلًا، نساء حلوين يا وله، أحلى من العسل النحل والقشطة. وسمعنا صرخة تأتي من بعيد: أهه يا ولاد، محمد أهه يا ولاد، لقيته.

وكالريح المُندفعة العاتية اتَّجهنا إلى الصرخة، ووجدنا محمد قد دفع صاحب الصوت دفعة وجري، وجرينا وراءه وتبلور كل ما نطلبه من الله في الإمساك به، ولم يكن عسيرًا أن نقبض عليه، ولم يسكت. مضى يتفلفص ويضربنا، وكانت ضرباته غريبة جامدة قوية كضربات الرجال، وتفادينا الضربات، وتحمَّلنا إلى أن كتَّفناه وأحطناه كما تُحيط جماعة نمل صغيرة بكِسرة خبز، وحاول المقاومة وفشل، وحاول وفشل، وأحسَّ أننا أقوى منه فاستسلم. وخلع واحدٌ جلبابه وربطنا به ذراعيه. وقال بلهجةٍ وقحة جافَّة: إنتم عايزين إيه دلوقت؟

قلنا: عايزين تورينا بيت المرة.

فقال: مش موريكم.

قلنا: غصب عنك ح تورينا.

قال: بالعافية؟

قلنا: بالعافية.

قال: ح أوريكم يا نسوان.

قلنا: إبقى ورينا.

قال: بالعافية يعني؟

قلنا: بالعافية ياللا.

وعترس في الأرض فجررناه بالقوة، ومشى معنا والغيظ يخنقه، ثم تمتم وقال: المنصورة بعيدة يا ولاد وح نتوه.

قلنا: ملكشي دعوة.

قال: ذنبكم على جنبكم.

قلنا: على جنبنا.

ومشينا صامتين وقد تكهرب الجو، ولكن الصمت لم يدم طويلًا. تكلَّمنا وقلنا نغنِّي. ولم نكن نحفظ أية أغنيات؛ البنات وحدهن هن من يحفظن الأغاني، ولهن في هذا باع ومقدرة، كنا لا نحفظ إلا مطلع موال: أقوم من النوم أقول يا رب عدلها. غناه واحد، فخرج صوته قبيحًا فأسكتناه، ومضى كل منا يغنِّيه كما يحلو له.

وهلَّلنا مرة هللولة كبيرة، وتضارينا وتعانقنا وعفرنا بعضنا بعضًا بالتراب، وخلع واحد جلبابه ورماه، ثم عاد وارتداه، وتبادلنا حدف الطوب؛ فقد بدت في الأفق أضواءٌ صغيرة منتشرة كعيون الجراد حين تلمع في النور.

كانت أضواء المنصورة.

كانت المسافة بيننا وبين الأضواء تبدو قصيرة جدًّا، مشوار صغير ونصبح في قلب المنصورة، ولكنا ظللنا نجري ونُرغم محمد على الجري حتى لهثنا. وبدأنا نمشي، ومشينا حتى لم يعُد في استطاعتنا المشي، ومع هذا لم تقترب الأضواء إلا مسافة قليلة، وكأننا كلما اقتربنا غارت في الظلام وابتعدت.

وقال محمد: يا ولاد نرجع.

فأنفجر فيه: اخرس.

وقلنا: مدوا يا جماعة الوقت اتأخر.

واستجمعنا كل ما تبقَّى لنا من عافية وواصلنا المسير.

وفجأةً لعلعت في الظلام قهقهةٌ عالية، والتفتنا فوجدنا محمد هو الذي يضحك. ولما رآنا قد استدرنا إليه مضى يفتعل الضحك افتعالًا، وينثني ويقوم ويضحك وهو يقول الجملة التي نقولها في بلدنا كثيرًا حين يُفلح واحد في خداع الآخرين وسبك الكذب عليهم، ويتطوع آخر الأمر بكشف نفسه: هيه، ضحكت عليكم، هيه، يا هبل ضحكت عليكم.

فسألناه: ضحكت علينا ازاي؟

قال: وانتوا صدَّقتوا؟

قلنا: إيه؟

قال: داني كنت بضحك عليكم؟

- تضحك علينا ازاي؟

- علشان أنتوا هبل.

- يعني مش شفت المرة في المنصورة.

- ولا عمري رحت المنصورة.

- أنت كداب.

- والنبي يا ولاد عمري ما شفت المنصورة بعيني.

- أنت ابن …

- أنتوا اللي عبطا.

وهلَّ علينا صمتٌ ثقيل، رحنا في أثنائه نتلفت إلى أضواء المنصورة، وقد أصبحت قريبة نكاد نمد أيدينا فنقطفها، والحق أننا ما كنا نرى فيها أضواءً ومدينة؛ كانت المنصورة كلها قد استحالت في نظرنا إلى امرأة مثل العجمية، تطل من بلكونة، ولها روب ولها ابتسامة، وتدعونا. ومضينا نتلفت إلى الأضواء، ونعود إلى محمد لنجده واقفًا مائعًا يصطنع الضحك ويسخر منا.

وقال واحد: دا بيضحك علينا يا ولاد. هو مش عايز يورينا المرة. دا بيضحك علينا يا ولاد، هو مش عايزنا نروح.

وتنبَّهنا. صحيح أنه يضحك علينا، وشخط محمد وقال: بضحك عليكو إيه يا حلاليف؟

فصرخنا فيه نلعنه ونُقسم أننا لن نتركه حتى يُرينا بيت المرأة. فعاد يُقهقه ويتَّهمنا بالعبط وإنا مهابيل. وعدنا نقسم أننا لن ندعه يخدعنا ويحتفظ لنفسه بالمرأة من دوننا. وأمرناه أن يواصل المسير. ورفض أن يسير. فجررناه. فرفع ساقه ورفص واحدًا منا في بطنه وهاج فينا. وانفجرنا وجمعنا كل ما فينا من غيظ وانقضضنا عليه وأوقعناه، واندفعنا نكيل له الصفعات واللكمات، وراح يضرب بالروسية وينطحنا ويدفعنا بسيقانه، وتكاثرنا عليه حتى ربطنا ساقيه معًا بقميص، وجرى واحد إلى الخليج، وأحضر ملء يديه طينًا وطلى به وجه محمد، وملأ فمه وبصق عليه. وحاول محمد أن يصرخ فكتمنا أنفاسه وسكت، وخفنا أن يموت، فرخرخنا أيدينا وتنفَّس، وقال واحد: نجره إلى الغيط ونكويه بالنار.

فقلنا كلنا: نكويه.

وجررناه إلى الغيط، وبحثنا عن كبريت ولم نجد، فقلنا: نصنع شرارة بزناد من الزلط.

وبحثنا عن الزلط، وعثرنا عليه فوق السكة الحديد، وقلنا: يلزمنا مسمار أو حديدة.

وهمنا نبحث عن حديدة ولم نجد إلا صفيحة. وبرك واحد على صدره، وأجرى الصفيحة على ساقه، وقال: ح تقول على بيت المرة فين ولا نموتك؟

ولم يعترف، فأخذنا ننشب أظافرنا في جسده ونقرضه ونعضه، ونطلب منه أن يدلنا على البيت.

وأدركنا آخر الأمر أن لا فائدة، وأنه كذاب.

فجُنِنا أكثر، وانهلنا عليه ضربًا من جديد، وحز ماسك الصفيحة في ساقه وقال له: طب قول أنا مرة.

ولعن محمد آباءنا جميعًا ورفسنا.

وقال واحد: لا ينفع إلا الكي.

ورحنا نتبادل الزناد والزلط، ونحاول أن نحدث الشرر، وفي كل منا جزءٌ صغير معجب بمحمد؛ لأنه لم يقل إنه امرأة، وجزءٌ كبير حانق على اللئيم الذي خدعنا.

وحدثت الشرارة واحمرَّت قطعة القطن وهلَّلنا، ونفخنا فيها، واشتعلت النار وملأتنا دهشة؛ فقد كان لونها شاحبًا جدًّا. ونفخنا فيها وشحب لونها أكثر وأكثر. وعدنا ننفخ بلا فائدة.

وتبيَّنا أن النار ليست وحدها الشاحبة، كان كل شيء يشحب ويصفر، ثم بدأت النار والأشياء من حولنا تبيض، ثم صفر شيء في آذاننا كالاستغاثة، وأدركنا مروَّعين أن حادثًا جللًا قد وقع، ومضى كل منا ينظر في وجوه الآخرين ويستعجب ويُفيق. كانت وجوهنا معفرة كلها خدوش، وأجسادنا يكسوها التراب، وذباب؛ ذباب كثير لزج لا يهدأ، ولا يكف عن الطنين.

ومن أين جاءنا ذلك الألم؟ وماذا يقول أهلنا؟ سيضربوننا بالتأكيد ويشنقوننا، وآه من شتائمهم! كلها ألفاظٌ حامية تجرحنا وتُصيب رجولتنا الصغيرة الحساسة في الصميم. كان على بعضنا أن يقوم في الفجر، وكان لا بد من تعليق توابيت وتتريب زرائب. وكنا لم ننَم، لم ننَم أبدًا وعيوننا حمر، هل مرضت؟ وهه طلعت الشمس أيضًا في بلدنا، وأشكالنا ما لها فيها ذهول وإجرام وتوبة؟ ما لها فيها «قشف» و«قوب»، وحفر غائرة، وحب شباب، ونقاط سود؟ لماذا نُحس الآن فقط أننا غلابة فقراء، وأن بيوتنا ليس فيها سوى صيحات كلاب وجعير آباء وأمهات ودخان المواقد الخانق؟

ورُوِّعنا، ونسينا كل شيء ومضينا نتحسس أجسامنا وملابسنا، ونرى مدى ما أصابها من تمزيق، ونرى أنفسنا في وضوحٍ بشعٍ شديد نخاف معه أن نرى أنفسنا.

وكان محمد راقدًا؛ جلبابه ممزَّق، وجسده ممدَّد كالخرقة البالية والذباب يعفُّ عليه بكثرة، والجروح تشوِّه جلده، ودماء متجمدة فوق أنفه وعلى جانب فمه، وتملأ الشق الذي في شفته، نائمًا مستسلمًا كالذبيحة الفاطسة، كالمرأة بعد ليلة حافلة.

وفككنا عنه الأربطة بلا حماس، وتألَّم وأحسسنا بألمه يحز في قلوبنا ويجرحها.

ووجدنا أنفسنا بعد حين هائمين على وجوهنا — عائدين إلى بلدنا من نفس الطريق — تدفعنا قوةٌ قاهرة، عائدين نعرج ونتساند ونئنُّ ونفكر في النهار؛ النهار الذي داهمنا بغتةً، وخلق أمامنا الأرض، وحمَّلنا بهموم الدنيا؛ النهار الحار الجاف الخشن الذي كنا نراه رؤى العين مُنتصبًا أمامنا كرجلٍ عملاقٍ قامته أعلى من قامة الشمس، ولا رحمة في قلبه ولا خرقة فوق جسده، وفي يده هراوةٌ ضخمة، مُنتصبًا هكذا ينتظرنا ويتوعدنا وتقدح عيناه بالشرر، ونحن متجهون إليه خائفون خاشعون عالمون تمامًا أننا لن ننفد من يده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤