تصدير

لقد رأينا جميعًا هذا الأمر؛ يوجد مائة خبير يحذِّروننا من كل اختراعٍ يظهر للنور، فحين اختُرِعت الصحافة المطبوعة ارتفعَتْ دعواتُ الخوف من فقدان الهالة المميزة وتهديد إخفاء الهُوِيَّة، مقارَنةً بالوثائق الشخصية التي كان يخطُّها الرهبان بأيديهم، كما اعتُبِرت السكك الحديدية تهديدًا للروح البشرية، وقُوبِل الهاتف بقدر كبير من التشكُّك؛ إذ لم يَعُدِ الناس بحاجةٍ إلى مغادرة منازلهم، وسيؤدي ذلك إلى أن يصِيروا وحيدين ومنعزلين. لم يحدث أيٌّ من هذه الأمور؛ إذ كانت الفرص دومًا أعظم من المخاطر. ولو أننا أَعَرْنا السمعَ على الدوام للمائة خبير، لَظللنا إلى الآن جوعى ونقطن الكهوف؛ فكلُّ شيءٍ جديد لم يُسمَع به من قبلُ يحمل قدرًا معينًا من الخطورة، وكلُّ تطورٍ جديد — وفكرةٍ جديدة — له جانب إيجابي وآخَر سلبي، والبشرُ يحقِّقون التقدُّمَ فقط عن طريق التركيز على الجوانب الإيجابية وتطويرها إلى نقاطِ قوةٍ ذات شأن.

إن الأفكار الجيدة لا تظهر إلى الوجود بمحض الصدفة، بل بإمكانك إمَّا أنْ تمنعها وإمَّا أن ترعاها. وناديا شنتزلر وشركة برين ستور الخاصة بها متخصِّصون في احتضان الأفكار ورعايتها. إنهم واعون بقانون الأعداد الكبيرة (السعي وراء عدد كبير من الأفكار)، والتفكيرِ الجانبي (الربط بين المناطق التي يبدو من الظاهر أنه لا يوجد رابط بينها)، والتسامحِ مع الفشل (الخوف من الفشل يجعل البشر يميلون إلى التردد)، والتعامل مع التعبيرات «المُثبتة» القاتلة للابتكار (عبارات مثل: «لطالما فعلنا الأمرَ بهذه الصورة»)، والحفاظ على التواصُل الرسمي وغير الرسمي، وبطبيعة الحال هم واعون بكل أساليب العَصْف الذهني (إنتاج الأفكار من دون انتقادٍ متسرِّع).

لا يزال تطبيقُ هذه المبادئ في الشركات والمؤسسات يبدو صعبًا، ولا يزال التفكيرُ الضيق مستشريًا؛ ففي الحقيقة، غالبيةُ الابتكارات لم تأتِ نتيجةَ قفزاتٍ عملاقة، وإنما هي نتيجةُ انتقالٍ غير متوقَّع لبِنية أو ممارَسة مُحددة من قَبْلُ إلى أخرى، بالطريقة التي نعرفها ونحبها في تفكير الأطفال وحديثهم. إن الأشخاص الذين ينتقلون فقط على الطرق السريعة المعتادة المستخدَمة بكثرة، ينبغي ألَّا يفاجئهم تنوُّعُ الحياة، عندما تمرُّ بهم عن اليمين واليسار مساراتٌ مجهولة لا يعلمون عنها شيئًا …

يبدأ الأمر في الروضة والمدرسة الابتدائية؛ إذ يحتاج الابتكار والتفكير المستقل إلى الدعم والتشجيع. أمَّا الانتقادُ المتسرِّع السطحي، والضرورةُ المزعومة للتكيُّف مع ما هو معروف وطبيعي، وإقحامُ الأطفال في منظومة تعليمية يحدِّد الجمهور ملامحَها؛ فتقتل كلَّ صورِ الحماس نحو الأشياء والخبرات الجديدة. بالطبع نحن بحاجةٍ إلى خطوطٍ ومبادِئَ إرشادية، فليس ضروريًّا أن يوجد تعارُض بين المعايير والأفكار؛ وفي هذا الكتاب، توضح ناديا شنتزلر، من بين أمورٍ عدة، أنَّ فنَّ تحديدِ إطارِ العمل الصحيح هو مفتاحُ التوصُّل إلى أفكارٍ غير متوقَّعة. أما الضغطُ المتواصل من أجل تحقيق الإنجازات المدرسية، و«إضفاء الصِّبْغة المدرسية» المُبالَغ فيه على جامعاتنا؛ فلن يؤدي مطلقًا إلى بناء أرواح حُرة!

كأفرادٍ، نحن نتقبَّل كلَّ صورِ المخاطَرة في الرياضات المتطرفة، لكن كجماعاتٍ ننتظر أن يكون كلُّ شيء آمِنًا مائةً بالمائة. ليس هذا ممكنًا في حالة الابتكارات، كما أنه يمنعنا من رؤية إمكاناتها بوضوح، وعلى السياسيين والإداريين أن يُظهِروا تقبُّلَهم للابتكار، والمخاطَرة، والاكتشاف. إن الرغبةَ في الإصلاح في كل المناحي الضرورية ينبغي على الأقل أن تُرَى في أعين السياسيين، حتى لو ظلَّ التنفيذ الفعلي للإصلاحات صعبًا؛ فلو أن شركة بيل جيتس الصغيرة التي أسَّسَها داخلَ جراج وُجِدت في وقتنا الحالي، لَأُغلقَتْ على يدِ مفتِّشِي المصانع في ألمانيا، ولو كان لَقَاحُ شلل الأطفال قد ظهر اليومَ لَكان من المحال أن يُسمَح به. لكنْ ليس بوسعنا تحمُّلُ تكلفةِ هذا النوع من السياسات، بتركيزها على التحذيرات والحظر، بل نحن بحاجةٍ مجددًا إلى ذلك النَّهَم بكلِّ ما هو جديد وغير معتاد، كي نتمكَّن من دخول الألفية القادمة ونحن نتحلَّى بالثقة.

آمُلُ أن يساعدك هذا الكتاب غير المعتاد على تعزيز ذلك النَّهَم!

د. فلوريان لانجنشايت
ميونيخ، يناير ٢٠٠٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤