ماكينة لإنتاج الأفكار

لماذا يُعَدُّ الإنتاج الصناعي للأفكار أمرًا منطقيًّا؟

***

تظهر كلمة «فكرة» مرةً واحدة على الأقل في كل فيلمٍ صُنِع تقريبًا منذ بداية القرن العشرين. وثَمَّة مشهد بعينه، يتعلَّق بالأفكار، عَلِق بذاكرتي على نحوٍ خاص، وهو من فيلم «أبولو ١٣» لتوم هانكس. في هذا المشهد ينقطع السبيل بطاقم السفينة الفضائية «أبولو ١٣» في الفضاء، ويواجهون فيما يبدو صعوبات بالغة، ولا بد أن يتحركوا إلى كبسولة الهبوط؛ نظرًا لتَلَفِ جميع الأنظمة في الغرفة الرئيسية. وكأن ذلك لم يكن كافيًا، فواجَهَ طاقم السفينة مشكلات مع مرشحات ثاني أكسيد الكربون في كبسولة الهبوط؛ فهي لا تعمل بالشكل الملائم وتهدِّد سلامةَ الطاقم. في الوقت نفسه، تدور وقائعُ واحدةٍ من أشهر جلسات العصف الذهني في التاريخ في هيوستن، حين يستدعي قائد الرحلة فريقًا من المتخصِّصين، ويقوم بتفريغ جُوال يحوي جميع الأشياء الموجودة وقتئذٍ على متن أبولو ١٣ على طاولةٍ قائلًا: «أَنشِئوا لي مرشحًا لثاني أكسيد الكربون في أسرع وقت ممكن باستخدام هذه الأشياء.» شرع الفريق في العمل وفعلوا أفضلَ ما يجيدون فعله؛ فمضَوْا يخترعون، ويخترعون، ويخترعون، إلى أنْ وُجِد الحل؛ إنه نموذج لعملية توليدٍ للأفكار على طريقة ناسا، عملية ناجحة، ولكن بشكل غير منهجي على الإطلاق في هذه الحال. تُرَى ماذا كان سيحدث لو لم تُسْفِر جهودهم عن حلٍّ بنَّاء؟

figure
ماكينة أفكار برين ستور تتألَّف من توليد الأفكار، وتكثيفها، واختيارها وتنفيذها. ولكي تعمل الماكينة، تحتاج عملية توليد الأفكار إلى إدارة مبتكرة ذكية.

مشهد آخَر يأتي من فيلم «ذيل الكلب» لداستن هوفمان وروبرت دي نيرو، وهو محاكاة ساخرة لأوضاعِ أمريكا بشكل عام، وللسياسة الأمريكية بشكل خاص: قُبَيْل الانتخابات مباشَرةً، يحتاج الرئيس إلى التغطية على علاقةٍ أقامها مع فتاة مراهِقة، ومن ثَمَّ يستدعي مديرَ أزماته (دي نيرو)، وبالتعاون مع منتجٍ هوليوودي (هوفمان) ومستشارةِ الرئيس للسياسة المحلية (آن هاش)، يقوم مدير الأزمات بإنتاجِ حربٍ افتراضية في ألبانيا. عند تجسيد الحرب الافتراضية، يقوم الفريق بالتنقيب في صندوقِ هوليوود المليء بالحيل والخدع وإعداد حساء أفكار؛ إعمالًا لمبدأ «خلق شيء جديد من آخَرَ قديم»؛ فتُؤلَّف أغنية للحرب، يشدو بها مطربون عظماء في المجال الموسيقي، على غرار أغنية «نحن العالم» المناهِضة للجوع التي ظهرت قبل سنوات عدة، إلى جانبِ مقالاتٍ ترويجية للحرب، وأحداثٍ للحرب وأبطالٍ يُزعَم عودتهم إلى الوطن قادمين من الحرب. يتوصَّل فريق الرئيس إلى أفضل أفكاره عن طريق قضاءِ مزيدٍ من المناوبات الليلية، وتعاطي حبوب الفيتامين والكحوليات في فيلا المنتج الهوليودي، في عملية توليد للأفكار على طريقة هوليوود.

على مدى السنوات القليلة الماضية، كنا نسأل دائمًا عملاءنا وشركاءنا عن كيفية توليد الأفكار في شركاتهم، علمًا بأن معظم الأشخاص الذين سألناهم من صُنَّاع القرار، وقد جمعنا ما يزيد عن مائتَيْ إجابة مختلفة، كان من بينها إجابات توقَّعناها، على سبيل المثال: «أقوم بأبحاث عن السوق»، أو «المهندسون لديَّ مسئولون عن الأفكار في شركتي»، أو «أسافر إلى الخارج لأجد الإلهام»، أو «أقوم بعصف ذهني مع الفريق الإداري»، ولكننا أيضًا حصلنا على إجابات أدهشَتْنا، مثل: «أدخلُ أحدَ الأديرة»، «أتوصَّل إلى أفضل أفكاري أثناء القيادة»، «زوجتي دائمًا ما تأتيني بأفكار جيدة»، أو «حين أنظر في مرآة الحلاقة في الصباح …»

غير أنهم في المجمل يجمعهم شيء مشترك، أَلَا وهو: أنَّ أي صانعِ قرارٍ لا يعتمد بالكاد على أي عملية منهجية؛ فجميعهم تقريبًا يعتمدون على قوى الإلهام الخاصة بهم، أو قوى الإلهام لدى الآخَرين؛ فهُمْ جميعًا يؤمنون بأنهم لا بد أن يتوصَّلوا بمفردهم وتلقائيًّا إلى أفكار جيدة، سيكون من شأنها دَفْع شركاتهم إلى الأمام. لو لم يكن صُنَّاع القرار هؤلاء تحت ضغط الوقت والحاجة للتجديد والابتكار؛ لَأدَّتْ هذه الأساليب المتنوعة لتوليد الأفكار بكل تأكيد إلى نتائج مقبولة، كما في: «سوف أذهب للركض لبضع ساعات، فهذا هو الوقت الذي دائمًا ما تأتيني فيه أفضل الأفكار.» ولكنْ ماذا لو كان — وهذا سيناريو واقعي — ضغطُ الوقت والابتكار حاضرًا؟ حينئذٍ قد لا يجلب مصدرُ الأفكار الذي ينجح في الظروف الأخرى أيَّ نتيجة مُجدِية.

ثمة عيبٌ آخَر لأساليب توليد الأفكار الفردية، يتمثَّل في كونها غير مدعومة بقاعدة عريضة؛ فلم يشارك أيٌّ من المستخدِمين النهائيين للفكرة في تطوير الفكرة، ولا يستطيع أي خبير أن يضيف رأيه إلى عملية توليد الأفكار، ولم يتم دمج أي موظف في العملية، ومثل هذه الفكرة يمكن أن يستقر بها المقام في سلة القمامة الإلكترونية أو الحقيقية بشكل سريع للغاية؛ نظرًا لعدم ارتباطها بحاجة واقعية. والعيب الحاسم هو أن هذا الأسلوب في توليد الأفكار لا ينتج عنه الكثير من الأفكار المختلفة بشكل عام، بل فكرة واحدة أو اثنتان على الأكثر. ماذا يحدث إنْ لم يكن بالإمكان تنفيذ أيٍّ من هذه الأفكار؟ هل ترغب في قضاء أيام أخرى عديدة في الركض وحدك؟

يوجد بالطبع أشخاص يمكنهم خلق أفكار رائعة بمفردهم وتنفيذها، والتاريخ زاخر بأمثلة عديدة لومضاتِ عبقريةِ الأفراد. ويقدِّم الفن والموسيقى والبحث الأساسي في العديد من المجالات والفروع العلمية أمثلةً لأفكارٍ تحتاج حقًّا إلى تطويرها؛ دون وجودِ عمليةٍ منهجية لتوليد الأفكار؛ فلم يكن فان جوخ، وجوته، وموتسارت، وأينشتاين بحاجةٍ إلى ماكينة أفكار (ولكنهم كانوا عباقرة استثنائيين يتمتعون بقدرٍ هائلٍ من الإلهام). يوجد أيضًا في المستويات الأقل من الحياة اليومية أمثلة لأشخاص أو فِرَق، يولِّدون كلَّ يوم أفكارًا غير منهجية، ولكنها بالرغم من ذلك ناجحة.

ثَمَّة مثالٌ لفريق من هذه النوعية يوجد بجوار مصنعنا للأفكار مباشَرةً في بيال: متجر صغير يُسمَّى «إسور» essor (وهي المرادف لكلمة «طفرة» في اللغة الفرنسية)، مملوك لثلاثة أصدقاء لي، يقومون بإنتاج حُلِيِّهم الخاصة، ويبيعون أيضًا مجموعةً صغيرة وحصرية من الملابس والحقائب والإكسسوارات من ابتكار كبار المصمِّمين. يواجِه الثلاثة كلَّ شهر مشكلةَ كيفيةِ تجهيزِ واجِهةِ المتجر من أجل مجموعة الحُلِيِّ القادمة المُزْمَع عَرْضها، ودائمًا ما يختارون فكرة رئيسية، ثم يبحثون عن أفكار عن كيفية تنفيذ هذه الفكرة في واجهة المتجر. وأحيانًا حين يتصادف وجودي، يتم إشراكي في العصف الذهني، من خلال عبارات مثل: «مهلًا، أنتِ تعملين في مصنع للأفكار، ماذا يخطر ببالك عن فكرتنا «المهرجون وملوكهم»؟» دائمًا ما أستمتع بهذه المناقشات الصغيرة لِمَا تحويه من إثارة وتشويق، وأعرف الكثير عن كيفيةِ خلْقِ هذا الفريق الثلاثي أفكارَه؛ إنهم يطوِّرون الأفكار بنفس طريقة أكثر الأشخاص موهبةً على المستوى الفني؛ فهم يتناقشون، ويطرحون جانبًا ما يطرحون، ويدمجون ما يدمجون، ويتجادلون، ويحتسون الجعة، وفي النهاية يتَّفِقون على مسار مقبول. وإذا لزم الأمر، يستعينون برأْيِ أو أفكارِ بعض الأطراف الخارجية. وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب يفتقر إلى المنهجية إلى حدٍّ كبير، فإنه يؤدي إلى النجاح؛ فدائمًا ما تكون واجِهاتُ المتجر مدهشةً، ومثيرةً، وتعرض الحُلِيَّ بشكل يثير بداخلك الفضولَ والرغبة في دخول المتجر.

هناك آخَرون، ممَّن لا يملكون نفس الإمكانيات الفنية كأصدقائي الثلاثة، ليسوا محظوظين بما يكفي للتوصُّل إلى أفكارٍ بمثل هذا الأسلوب غير المنهجي وغير الفعَّال في الواقع؛ فليس كل شخص ليوناردو دافنشي أو ماري كوري، بحيث يمكنه خلْقُ أشياءَ عظيمةٍ من داخل نفسه، هذا فضلًا عن حقيقةِ أن الأشياء العظيمة عادةً ما تستغرق وقتًا؛ وكم شركة لديها الوقت؟ لذلك توجد حاجة إلى وجود نظامِ إنتاجِ أفكارٍ بأسلوب موجَّه، والنبأ السارُّ هو أنَّ من السهل نسبيًّا بالفعل أنْ تنتج أفكارًا بشكل منهجي. لماذا إذًا تستمر في التفكير والاختراع وانتظارِ إلهامٍ عبقري، في حين أنه توجد بالفعل عملية منهجية يمكنها أن تَضْمَن لك تطويرَ فكرةٍ جيدة قابلة للتنفيذ في الوقت المطلوب؟

(١) تنظيمُ عملية توليد الأفكار منهجيًّا أمرٌ فعَّال

من الناحية العملية، يتم أي إجراء في أية شركة وَفْقًا لمنهجية معينة: من شراءِ المواد الخام، وعملياتِ الإنتاج وتسليم البضائع، وتأسيسِ مكانِ عمل، وطَلَبِ المعدات وتقييم الموظفين، إلى إنتاج السلع ومعايير التسويق. لِمَ يلزم هذا؟ لأنه أمرٌ فعَّال، وأيضًا لأن هذه الفاعلية تحرِّر الطاقةَ بداخلك من أجل الأشياء المهمة حقًّا، كالتواصُل مع العميل على سبيل المثال. لكن البحث عن الأفكار هو الشيء الوحيد الذي يُنفَّذ بلا منهجية في المعتاد، بل إنه في الواقع الجزء الوحيد من سلسلة القيمة الذي لا يزال يُنفَّذ بنفس الأسلوب المتَّبَع منذ عدة مئات من السنين؛ تحديدًا، بأسلوب التجربة والخطأ.

يظن معظم الناس أن العباقرة، أو الفنانين، أو المتخصصين ذوي الأجور المرتفعة في إدارةٍ للبحث والتطوير، هم فقط مَن يستطيعون تطوير الأفكار، لكن الموقف ليس كذلك؛ فالأفكارُ الجيدة يمكن تطويرها في فترة زمنية قصيرة، إذا أُشرِكَ الأشخاصُ المناسبون، وإذا التُزِم بعملية منظمة ومنهجية. بالإضافة إلى ذلك، يوفر البحث المنهجي عن الأفكار مسارًا مضمونًا نحو بلوغ المستوى المثالي، لا يمكن لشخصٍ بمفرده أن يسلكه مطلقًا؛ فالأفضلُ استغلالُ الوقتِ القصير المتاح للعمل مع مجموعة متنوعة من الأشخاص من أجل استغلالِ كاملِ إمكانيات الموضوع، وتقييمُ كلِّ الرؤى المحتمَلة بخصوص الأمر، ثم التوصُّلُ إلى نتيجة مقبولة وقابلة للتنفيذ؛ عن أن تخوض مخاطَرةَ الاعتقاد بأن عبقريًّا ما سيجد حلًّا بنفسه، أو ربما لا.

(٢) ماذا يعني «الإنتاج الصناعي للأفكار»؟

يقوم مبدأ الإنتاج الصناعي للأفكار على مفهومِ أن الأفكار الجيدة — أيًّا كان الغرض منها — يمكن تطويرها بواسطةِ عمليةٍ منهجية منظمة، شأنها شأن السلع الأخرى التي تُنْتَج وَفْقًا لعمليةٍ محدَّدة سلفًا وباستخدام أدوات محدَّدة. هذا لا يعني أن الأشكال «القديمة» لتوليد الأفكار لم تَعُدْ صالحةً أو لم تَعُدْ منطقية، فسيظل الفنان يصنع فنًّا بمفرده ومن داخله، دون الاضطرار لاستخدام عملية لتوليد الأفكار. ويمكنك أيضًا انتظار الإلهام حين لا تكون تحت ضغط الوقت أو النجاح. وفي كل المواقف التي لا يكون فيها الحال هكذا، تُعتبَر ماكينة الأفكار الخاصة بنا واحدةً من عدد من الوسائل الممكنة لخلق الأفكار بشكل منهجي. والمبادئُ التي يستند إليها الإنتاج الصناعي للأفكار مستقلةٌ عن أيِّ عمليةٍ بعينها، وقائمةٌ ببساطة على المنطق السليم وسنوات عديدة من الخبرة في مجال إنتاج الأفكار.

تلخِّص صورة الماكينة المبادئَ الأساسية للإنتاج الصناعي للأفكار؛ إذ تُطوَّر الأفكار في إطارِ عمليةٍ واضحة محددة لا تحدث بمحض المصادفة. فالماكينة دائمًا ما تفعل الشيء نفسه، وَفْقَ خطوات معينة محددة سلفًا، ومع ذلك يمكن ضبط الماكينة للقيام بمهامَّ متعددةٍ وتنتج أكثرَ من شكل، ودائمًا ما تكون النتيجة أفكارًا متنوعة تلبِّي جميع الشروط المطلوبة.

ولا تتوقَّف هذه الحقيقة أبدًا عن إبهار المهندسين ذوي الخبرة بالذات، في شركات مثل بوش/سيمينز، أو لوجيتك، أو دوبونت، أو إمبراير (المصنِّعة للطائرات)، والذين أنتجوا أفكارًا باستخدام ماكينة أفكارنا. فالمهندس يعتاد العمل وفقًا لسيناريو معين، ويظل «يجرب» حلًّا تلو آخَر إلى أن يتمكَّن من تصنيف المشروع كمشروع ناجح أو فاشل. أما ماكينة الأفكار، فتعمل بشكل مختلف تمامًا: ففي المرحلة الأولية، تقوم بصنْعِ مزيجٍ منهجي من جميع القِطَع الممكنة لأحجية حلٍّ ما، ثم تكثيفها في مرحلة ثانية إلى سيناريوهات محتملة، ثم العمل على خمسة إلى عشرين سيناريو بالتوازي، ممَّا يثمر مشروعاتٍ عديدةً دائمًا ما يمكن تصنيفها كمشروعات ناجحة؛ لأنها مُجدِية. ثمة ميزة أخرى لهذا الإجراء تَكْمن في الإشراك المتواصِل ﻟ «المستهدفين من الأفكار» (مثل: العملاء، والمستخدمين النهائيين، والمساهمين، والموظفين، والتجار، والمطوِّرين) في عمليةِ توليد الأفكار؛ وبهذه الطريقة لا تُطوَّر ابتكاراتٌ ليست لها علاقة بالسوق؛ ومن ثَمَّ تتعرَّض للرفض. ففي في العديد من الشركات التي تُدَار بالتكنولوجيا، لا يكمن السبب الحقيقي لفشل الابتكارات في غياب قوة الابتكار، وإنما في تطوير أفكارٍ تمرُّ على العملاء مرورَ الكرام دون تجربتها، أو تُطلَق إلى السوق قبل الأوان. لنأخُذْ بروتوكول التطبيقات اللاسلكية (WAP) على سبيل المثال: إن تكنولوجيا الهاتف المحمول هذه، التي سبقَتْ تكنولوجيا النظام العالمي للاتصالات المتنقلة (UMTS)، واجَهَتْ صعوباتٍ ضخمةً في بداياتها. ماذا كان سيحدث لو أُشْرِكَ العملاء المحتملون في تطوير هذه التقنية منذ البداية؟ من الوارد للغاية أن بروتوكول التطبيقات اللاسلكية وتطبيقاته كانا سيلقيان قبولًا أكبرَ اليوم.

(٣) توليد الأفكار، وتكثيفها، واختيارها

هناك مبدأ بسيط للغاية لنجاحِ أي مشروع لتوليد الأفكار، ويصف أيضًا المكونات الثلاثة الأهم لماكينة الأفكار: توليد الأفكار، وتكثيف الأفكار، واختيار الأفكار. إن هذه المراحل الثلاث ينبغي أن تصبح شعارك الشخصي؛ أيْ جملة تردِّدها دائمًا حين تشرع في البحث عن أفكار: ولِّدْ، كثِّف، اختَرْ. ومن المهم أن يقوم أي شخص يرغب في تطوير أفكار بفصل هذه العبارات الثلاث بعضها عن بعض؛ فعليك أولًا أن تقوم بتجميع الأفكار، ثم دمجها وتنقيحها، وحينئذٍ فقط يمكنك أن تقرِّر وتختار. يبدو هذا معقولًا، أليس كذلك؟ نحن أيضًا نعتقد ذلك. ومع ذلك فهذا هو حجر العثرة الأكثر شيوعًا وخطورةً على الطريق نحوَ أيةِ فكرة.

أتذكَّر جلسةَ عصفٍ ذهني في واحدة من كبرى وكالات الإعلان بسويسرا؛ كنتُ قد دُعِيت كطرف خارجي للبحث عن اسمٍ لسيارة مع موظَّفِي الوكالة. كان لديَّ فضولٌ لمعرفةِ كيف لأمرٍ كهذا أن يحدث في وكالة معروفة ولها احترامها كهذه، فوافَقْتُ على الفور. حضر حوالي ثمانية موظفين من الوكالة، يعملون بوظائف متنوعة، من مستشارة العميل ومُصمِّم الجرافيك إلى مسئول الإنتاج؛ ولم يوجد أي شخص من طرف العميل. لم تكن هناك مقدمة ولا شرح؛ كلُّ ما قُدِّمَ لي هو صورة للسيارة الجديدة، وكانت سيارة عائلية، لا بد من إيجاد اسم لها. فكَّرْتُ في نفسي: حسنًا، من المفترض أن الآخَرين يعرفون الكثير عن هذه السيارة، ولا يحتاجون إلى معلومات تفصيلية أخرى. فلننتظِرْ ونَرَ.

افتتحَتْ مستشارة العميل جلسةَ العصف الذهني قائلةً: «حسنًا، هل من اقتراحاتٍ لاسم هذه السيارة؟» لم يَنْبِس أحدٌ بكلمة لحوالي عشرين ثانية. بعد ذلك، وببطء، توالَتِ المقترحات مبدوءةً بأول اسم، وقد قامت مستشارة العميل بكتابةِ ملحوظةٍ به على اللوح الورقي. وبمجرد طرح المقترح الأول، بدأت مناقَشة بشأنِ مدلولِ ذلك الاسم، أو غيابه، وانجرفَتْ جلسةُ العصف الذهني إلى مناقَشة جوهرية حول جودة الأسماء، وأسماء السيارات الأخرى التي ينتجها العميل. وبعد خمس دقائق كان هناك أربعة أسماء على اللوح الورقي، ولم يكن أيٌّ منها جيدًا. أنهَتْ مستشارة العميل الاجتماع بعد عشر دقائق أخرى، وبعد أن سجَّلَتْ ثلاثةَ أسماء أخرى على اللوح الورقي، وقالت إنها ستفكِّر أكثر بشأن الأسماء مع العميل.

فيما يلي تحليل مقتضب لهذا الإجراء التقليدي من وجهة نظر مَصنَع الأفكار: ما الخطأ الذي وقع؟

  • (١)

    معلومات غير واضحة: لم يكن المشارِكون على علمٍ بموضوع الجلسة، ولم يكونوا جميعًا بنفس مستوى المعرفة. لم تكن المعايير والمهمة واضحتين.

  • (٢)

    تألَّفَ الفريق من مجموعة متشابهة من أشخاص يشتركون جميعًا في نفس أسلوب التفكير (جميع الأشخاص كانوا من وكالة الإعلان): لم يُشْرَك العميل، في حين ضُمَّ عضو خارجي، ولكن فقط لوظيفة صورية؛ لأنه لم يكن لديه سبيل للاطلاع على بيان المعلومات.

  • (٣)

    غياب الكمِّ: من المستحيل إلى حدٍّ ما أن تختار اسمًا مفضَّلًا، يحقِّق نجاحًا في السوق، من قائمةٍ من ثمانية أسماء مقترحة؛ فأنت بحاجةٍ إلى ألف مقترح على الأقل لإيجاد اسم جيد.

  • (٤)

    بدلًا من تقسيم عملية البحث عن الفكرة إلى مراحل التوليد والتكثيف والقرار، خُلِطت جميع المراحل معًا من البداية: فقد نُوقِشت الفكرة الأولى، وعلى الفور دُمِّرَتْ بقرار هدَّام، بينما كانت المجموعة لا تزال في مرحلة التجميع؛ فلم تُعْطَ الأفكارُ الجديدة فرصةً بشكل حقيقي.

«ولِّدْ»، «كثِّفْ»، «قَرِّر». اكتبْ ذلك على شاشةِ جهاز الكمبيوتر المؤقتة!

في صورة ماكينة الأفكار الواردة في بداية الفصل، يمكنك أن ترى بوضوح أن المراحل مترابطة، ولكنها تظل منفصلة إحداها عن الأخرى بشكل واضح. وبمجرد أن تتقبَّل هذا القانون، يمكنك حينئذٍ أن تُثْرِي المراحل بالأفكار:
  • «توليد الأفكار» باستخدام أساليب متنوعة؛ على سبيل المثال: البحث عن بذورٍ للأفكار مع أعضاء داخليين وخارجيين، وجمع الرغبات والاحتياجات، ومعرفة أفكارِ واحتياجاتِ المستخدم من خلال مقابَلات الأفكار، ومقابَلات الخبراء، والبحث عن الإلهام في دولٍ أخرى أو قطاعاتٍ صناعية أخرى أو على الإنترنت (استكشاف الاتجاهات أو استكشاف الإنترنت).

  • «تكثيف الأفكار» عن طريق إعادة دمج شظايا الأفكار التي تُولَّد في مرحلة التوليد بشكل متواصل، وترشيح الأفكار التي جُمِعتْ خلال عملية تدقيق عاطفية، وتقييم الأفكار وفقًا للمعايير المُدرَجة في بيان المعلومات، وتطوير مفاهيم نهائية قابلة للمقارنة بمجرد النظر.

  • «الاستقرار» على الأفكار في شكل منظَّم بالتعاون مع «مالك المشروع» وصُنَّاع القرار في الشركة.

إن ما يبدو سهلًا هنا، من واقع خبرتنا، هو عملية لا بد أن تمارسها بشكلٍ نَشِط، وتأخذها مأخذَ الجد. وحتى نحن، العامِلين بمصنع الأفكار، غالبًا ما نقع في نفس الفخِّ الذي يقع فيه عملاؤنا غالبًا، حين نضطر إلى تطويرِ أفكارٍ لأهدافنا الخاصة، ربما لأننا نعتقد أن شيئًا سوف يخطر لنا بطريقة غير منظَّمة؛ لأننا نعرف أنفسنا جيدًا بشكل مبالَغ فيه، وهو ما لا يحدث بالطبع؛ فكلُّ ما نتوصَّل إليه ما هو إلا أفكار قديمة بثوب جديد. ولكن هناك ما يُغْرِيك دائمًا لتجربة الأسلوب غير المنهجي؛ ببساطة لأن لديك شعورًا بأنه أسهلُ من اتِّباع أسلوب منهجي. إلا أن هذه مُغالَطة؛ فبمجرد أن تصبح لديك معرفة بطُرُق منهجية ناجحة، تستحسِن موثوقيةَ النتائج، وسهولة العمل، وإمكانية دمج أطراف داخلية وخارجية في المشروع.

(٤) صدام الأطراف الداخلية والخارجية

من أهم قوانين الإنتاج الصناعي للأفكار؛ ضرورة وجود منظور جديد محايد. وبالتأكيد لن تحقِّق ذلك إذا تعامَلْتَ مع توليد الأفكار وحدك أو مع فريقك الأساسي في الشركة. بدلًا من ذلك، أنت بحاجةٍ إلى إشراك أشخاصٍ بخلفياتٍ ورؤًى مختلفة في عملية توليد الأفكار، وينبغي أيضًا إشراك المستخدِمين المحتمَلين (المستهدَفين من الأفكار) في عملية التطوير في مرحلة مبكرة. في الفصل الخاص ﺑ «المجتمع الخلَّاق»، سوف تتعلَّم كيف تنشئ فرقًا على النحو الأفضل، وما تحتاج إلى وضعه في اعتبارك عند إشراك أطراف خارجية، وأي أطراف خارجية نقوم نحن — كمصنع للأفكار — بإشراكها في مشروعاتِ عملائنا.

إذا أشركتَ الأشخاص المناسبين في المشروع، تكون بالفعل قد حقَّقتَ الكثير. انْسَ فكرةَ أن الأشخاص ذوي المعرفة المتخصِّصة عن الموضوع الذي بين يديك هم فقط مَن يُجْدُون نَفْعًا في مشروعاتك لتوليد الأفكار، فكلَّما تنوَّعَتْ مجالاتُ المعرفة، والتخصصات والاهتمامات داخل فريق المشروع في مرحلة توليد الأفكار، كان ذلك أفضل. اجعلِ الأشخاصَ المثيرين للاهتمام جزءًا من شبكة أفكارك الشخصية، وسوف تجد أن كل هذه الرؤى ستكون يومًا ما ذات نفع، فضلًا عن الإثراء الذي سوف تشعر به على المستوى الشخصي؛ إذا عرفتَ أشخاصًا مختلفين كلَّ يوم وقدَّرت وجودهم.

(٥) توليد الأفكار

إليك معادلة بسيطة: كلَّما كان الوقت المتاح لتوليد الأفكار بشكل عام أقل، ازداد عدد مصادر الإلهام التي ستحتاج إلى جمعها لتطوير الفكرة، وكلما كان لديك مزيد من الوقت، قلَّ عدد الأفكار المبدئية التي ستحتاج إليها؛ نظرًا لزيادة حجم الوقت الذي يمكنك أن تمضيه في تشكيلها، كما يمكنك أيضًا تحمُّل انتظار الوميض الحاسم للإلهام. ولكنْ: مَن ذا الذي يملك بالفعل الوقتَ لانتظار الإلهام لفترة طويلة هذه الأيام، بينما تحتاج السوق إلى شيء جديد والمنافسون يسبقونك بخطوة دائمًا؟ إذًا نحن بحاجةٍ إلى إيجادِ فكرةٍ ممتازة وزيادةِ الفرص المبدئية، خلال الفترة الزمنية القصيرة المتاحة لنا.

جَهِّزْ نفسك للتعامل مع مزيج ضخم من المادة الأولية. سوف تطرح جانبًا الكثيرَ من المادة الأولية، ولكن فرصة العثور على فكرة مثيرة تكون أكبر كثيرًا في وجودِ كمٍّ كبيرٍ من «المادة الأولية» منها في حالة وجود بعض الشظايا القليلة. ولكن ماذا يعني هذا؟ إن لدينا قاعدة عامة في برين ستور: الفكرة الجيدة تحتاج إلى ما لا يقل عن ٥٠٠ شظيةِ أفكار. وبما أنك بحاجة إلى ما لا يقل عن ستِّ أفكار، لتبقى لديك في النهاية فكرة واحدة يمكنك اختيارها وتنفيذها؛ إذًا فأنت بحاجةٍ إلى ما لا يقل عن ٣٠٠٠ فكرةٍ خام أو شظيةِ أفكار، يمكنك فَلْتَرَتها، ودمجها، وتشكيلها في صورة أفكار جاهزة.

ومن أجل إيجاد هذا الكم الكبير من الإلهام، أنت بحاجةٍ ليس فقط إلى الفريق المناسب (انظر فصل «المجتمع الخلَّاق»)، ولكنك أيضًا بحاجةٍ إلى الأدوات المناسبة. بشكلٍ عام، لديك أربعة مصادر أساسية لجمع الإلهام، ويوجد فصل مستقل في هذا الكتاب عن كل واحد من هذه المصادر:
  • «الفِرَق الإبداعية»: هي ورشُ عملٍ تتراوح مدتها بين ساعة وست ساعات، تقوم خلالها بجمع المواد الخام بالتعاون مع الأطراف الداخلية والخارجية.

  • «استكشاف الاتجاهات واستكشاف الإنترنت»: هو البحث عن مدخلات غريبة وشاذة وغير مألوفة من قطاعاتٍ صناعية ودولٍ مختلفة، يمكنك تضمينها في المشروع في وقت لاحق.

  • «مقابلات الخبراء»: هي مناقشات مع الخبراء الذين يمكنهم إعطاؤك بذورًا لأفكار معينة.

  • «مقابلات الأفكار»: هي استطلاعات للموظفين، أو غير العملاء، أو الإدارة، أو آخَرين، ممَّن يستطيعون المساهَمة بشيء في الفكرة.

(٦) التكثيف: من الكم إلى الكيف

بينما ينصبُّ التركيزُ في المرحلة الأولى لإنتاج الفكرة على الكمِّ وتنوُّعِ الرؤى وإشراكِ مختلِف الأشخاص، تُعنى المرحلة الثانية — التكثيف — باستخلاص الاستنتاجات المناسبة من الأفكار الخام التي تم توليدها في السابق. ويمكن تحقيق هذا بأقصى سرعة إذا قام فريق مناسب من المتخصِّصين في المنهجية والمحتوى بفَرْز ودمج الأفكار الخام التي وُجِدت، بحيث تصل إلى عدد عملي قابل للتطبيق من الأفكار.

مرة أخرى يحدث هذا في العديد من النماذج. يُسمَّى الجزء الأول من الماكينة «مدينة الأفكار»، ووظيفته هي النظر إلى شظايا الأفكار التي أُوجِدت في مرحلةِ توليد الأفكار، وخَلْقِ توليفاتٍ وأفكارٍ جديدة من منطلق هذه الرؤية.

بعد ذلك تحدث عملية «الفحص الأول»، وفيها تُقيَّم الأفكار التي صُنِعت في «مدينة الأفكار» بأسلوب عاطفي، ويتم تحديد إنْ كان من الممكن أن تظل فكرةٌ ما ضمن المجموعة المختارة، أو ينبغي رفضها أو تغييرها بشكلٍ ما.

الخطوة التالية هي «فحص المعايير»، وتُقيَّم خلالها الأفكار المتبقية بناءً على معايير المشروع.

تُقَدَّم الأفكار المتبقية الآن في بوتقة الأفكار إلى «فريق البحث»؛ حيث يقوم فريق صغير ومحنَّك من المتخصِّصين في منهجية توليد الأفكار، وغيرهم من المتخصِّصين في مجالات أخرى، بإخضاعِ الأفكار لاختبار شامل في مرحلة «مصباح الحمم». وقد سُمِّيت هذه التقنية باسمها هذا نظرًا لأن الأفكار ترتفع وتهبط، وتنفصل وتترابط، كما في مصابيح الحمم الشهيرة التي ترجع إلى الستينيات، والتي تشهد الآن عودة للرواج مرةً أخرى.

في نهاية هذه المناقشات (التي تكون أحيانًا ساخنة ومطولة للغاية)، يجري فحص تلك الأفكار التي تنجح في الإفلات من اختبار قوة التحمُّل؛ هذا من أجل التحقُّق من جدواها وقابلية تنفيذها. بعد ذلك، تُصاغ الأفكار بلغة بسيطة (يمكن لطفلٍ في المرحلة الابتدائية أن يفهمها) وتُوضَع في شكل مرئيٍّ يرتبط بالمحتوى وقابلٍ للمقارَنة في مرحلةِ تصميمِ الأفكار. وفي فصول لاحقة، سوف تعلم تفصيلًا كيف تعمل كل هذه الأجزاء من الماكينة، وما ينبغي أن تنتبه إليه إذا أردتَ تطويرَ أفكار وفقًا لهذه المبادئ بنفسك.

(٧) تحرِّي الشفافية في عملية اتخاذ القرار

إن الأفكار التي تُولَّد في ماكينة الأفكار جيدة، يمكنك الاعتماد على ذلك، غير أنه لا يمكنك دائمًا الاعتماد على حقيقةِ أنَّ كلَّ مَن تُعرَض عليه هذه الأفكار سوف يتفاعل معها بشكل موضوعي وبنَّاء. فالأفكار، قبل كل شيء، مسألةُ ذوق؛ ولذلك تجد عنصرًا عاطفيًّا قويًّا حاضرًا. والعواطف، بالطبع شيء جيد من حيث المبدأ؛ فالأفكار تعيش على العواطف. ولكنْ من المهم ألَّا تتسبَّب الملاحظات العاطفية الفردية — التي ربما لا تكون لها صلة بالأمر — في وَأْدِ فكرةٍ في مهدها.

لذا من المهم أن تُصمَّم عملية اتخاذ القرار التي تؤدي إلى اختيار فكرةٍ ما على نحوٍ شفاف. ويمكن تحقيق هذا على مستويَيْن؛ أولًا بإشراك «مالك المشروع» (أي الشخص الذي طلَبَ إعدادَ الفكرة) في المشروع؛ فهذا من شأنه أن يضمن تلبيةَ الأفكار لاحتياجات الشركة بشكلٍ فعلي؛ فأصحابُ المشروعات يُوجِّهون المشروعَ ويقومون بتصحيح المسار، حال انحرَفَ المشروع عن الهدف المنشود بشكل بالغ، كذلك يكون أصحاب المشروعات بمنزلة ضامنٍ للجودة لصُنَّاع القرار الآخَرين في الشركة. تتحقَّق الشفافية أيضًا بعرض الفكرة في صورتها النهائية على مجموعةٍ كبيرة من الأفراد داخل الشركة، ومُطالَبتهم بتقييمها منهجيًّا.

تبيِّن مرحلة «اختيار الأفكار» أيُّ الأفكار ستلقى قبولًا كبيرًا في الشركة، وأيها لن تحظَى بالموافقة، وأيها سيكون لها تأثير استقطابي قوي. والأفكار ذات التأثير الاستقطابي بشكل عام تكون مشوِّقة ومثيرة، شأنها شأن تلك التي يظن الجميع أنها جيدة. وتلك الأفكار ذات التأثير الاستقطابي داخل الشركة عادةً ما تكون هي تلك التي تصبح أيضًا الموضوع رقم واحد في السوق. ويمكنك أن تجد مزيدًا من المعلومات عن هذا الموضوع في الفصل الخاص ﺑ «اختيار الأفكار».

ينبغي إتْباع مرحلةِ اختيار الأفكار بمرحلةِ إثبات الفاعلية في السوق؛ أيْ عرضها على أولئك الأشخاص الذين سوف يستخدمون الفكرة فعليًّا. غير أنه لا ينبغي أبدًا مواجَهة السوق بأكثر من ثلاث صور مختلفة للفكرة، وينبغي أن تكون هذه التنويعات قد حَظيت بالفعل بموافَقة واسعة من داخل الشركة.

(٨) إدارة الأفكار

يحظى الإنتاج الصناعي للأفكار بجاذبية شديدة؛ نظرًا لأنه في كل مشروع يمكن إشراك هؤلاء الذين يمثِّلون الأشخاصَ الأنسب في كل حالة، ويمكن الاستفادة من مهاراتهم ومعرفتهم الواسعة في المشروع. غير أن هذا يعني أن إدارة المشروع والرقابة عليه أمر ضاغط، ويعني أيضًا أن إدارة الأفكار تضطلع بدور، وهو قبل كل شيء دور تنسيقي، وليس بالضرورة أن ينتج الفكرةَ في حدِّ ذاتها. كذلك تُعَدُّ إدارةُ الأفكار، بالطبع، مسئولةً عن الجودة المرتبطة بالمحتوى، إلَّا أنها تضمن هذا بالأساس من خلال التأكُّد من أن الإطار الموضوع لإنتاج الفكرة يؤدي مهمته، وأن الأشخاص المناسبين تتاح لهم الأدوات المناسبة في الوقت المناسب؛ لكي يكونوا قادرين على تطوير أفكار، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى فاعلية بالغة.

لذلك يصاب الكثير من الموظفين، المحتمل انضمامهم لمصنع الأفكار الخاص بنا، بخيبة الأمل في البداية حين يعلمون أن دورهم في مصنع الأفكار سوف يتضمَّن الكثيرَ من التنسيق والتخطيط أكثر ممَّا يتضمن العمل الإبداعي على الأفكار. إن مَن يعتقدون أن بإمكانك حقًّا أن تعبِّر عن نفسك، وتضع أفكارك موضعَ تنفيذٍ في مصنعٍ للأفكار، لديهم صورة خاطئة عن إدارة الأفكار. ولكن لا يمكن تطوير أفكار جيدة من دون وجودِ وظيفةٍ تنسيقيةٍ وشخصٍ لديه معرفة منهجية ونظرة عامة لمشروع الأفكار؛ فإدارة الأفكار تتضمَّن وضْعَ شرحٍ واضح للمشروع بالتعاون مع مالك المشروع (انظر فصل «بيان المعلومات والبدء»)، ومراقبة جودة المشروع، والاهتمام بمالك المشروع، وفحص العمليات والأفكار والمفاهيم بأسلوب ناقد، وعرض مشروع الفكرة وتوجيهه. يمكن مُطالَعة المزيد عن هذا الموضوع في فصل «إدارة الأفكار».

(٩) التنفيذ

التنفيذ هو النتيجة المنطقية لأية فكرة جيدة، ومع ذلك فالكثير من الأفكار الجيدة تقضي فترة كبيرة للغاية حبيسةَ الأدراج؛ ومِن ثَمَّ تصبح قديمةً مع حلولِ وقتِ تنفيذها. إن توقيت التنفيذ أمرٌ غاية في الأهمية لنجاح أية فكرة، ولا بدَّ أن يُؤخَذ في الاعتبار أثناء التعريف بالمشروع.

ومن الأمور ذات الأهمية القاطعة، إشراك أولئك الذين يحتمل اشتراكهم في تنفيذ المشروع إشراكًا مبكرًا، لكن ليس مبكرًا للغاية؛ فأسسُ أعمال التنفيذ ينبغي بالفعل أن تُرسى مبكرًا خلال مرحلة التكثيف من عملية توليد الأفكار، من خلال التفكير في جدوى الأفكار، والموارد المطلوبة لتنفيذها، وأسئلةِ «ماذا يحدث لو»، والسيناريوهات المختلفة. وسوف يتنوَّع حجم الأهمية الذي يُولَى لهذه المسائل اعتمادًا على مدى إلحاح التنفيذ.

إذا كنتَ تبحث، على سبيل المثال، عن رؤًى لمنتجات سلعية ممكنة خلال عشرة أعوام، فلن يكون التنفيذ هو المسألة الأكثر إلحاحًا. أما إذا كنتَ تخطِّط لحدثٍ من المُزْمَع عقده خلال ثلاثة أسابيع، فحينها تكون المسائل المتعلِّقة بالتنفيذ ذات أهميةٍ محورية، ويمكنك أن تجد مزيدًا من الملاحظات عن هذا الموضوع في فصل «التنفيذ».

(١٠) الإنتاج الصناعي للأفكار: قطاع ذو أهمية متزايدة

منذ ١٥ عامًا قمنا نحن، طالبَيْن وفتاةً بالمدرسة، بتأسيس شركتنا. كانت فكرتنا البسيطة هي جمع الشباب الذين يملكون أفكارًا مع الشركات التي تحتاج إلى أفكار. في ذلك الوقت، لم تكن لدينا فكرة عن أن عملية الإنتاج الصناعي للأفكار سوف تنبثق منها، غير أننا كنا نعلم أننا قد وجدنا آليةً أساسية لإنتاج الأفكار، بسيطة بشكل مثير للذهول؛ فالجمع المنهجي بين أطراف داخلية وخارجية، أطلَقَ طاقةً وديناميكيات لأفكار جديدة لم نتخيَّلها قطُّ. وكفريق في مهد الشباب، كانت باكورةُ مشروعاتنا في مجال الشباب؛ فكنا نطوِّر أفكارًا، على سبيل المثال، لحَمْلةٍ جديدة لشركة كوكاكولا، أو منتجٍ جديد من الوجبات الخفيفة، أو أفكارًا عن كيفية توعية الشباب بموضوع الامتناع عن التدخين. كانت منهجيتنا منزليةَ الصنع نوعًا ما، ولم تكن شديدةَ التطور، إلَّا أننا وقعنا في غرامِ استراتيجيةِ تجميعِ أطراف داخلية وخارجية معًا من النظرة الأولى. في المشروع الخاص بهيئة الصحة السويسرية، والذي كان يهدف لتحفيز الشباب على التطعيم طواعيةً ضد التهاب الكبد الوبائي ب، جاء الشباب من جميع أنحاء سويسرا مع أطباء على مستوًى عالٍ من التخصُّص لتطويرِ أفكارٍ ومناقشتها. ولاحظنا مدى التقارب الذي حدث بين الطرفين بشكل عفوي وسريع، فكان لدى الشباب الكثيرُ من التساؤلات بخصوص التهاب الكبد الوبائي ب، وكان لدى الأطباء الكثيرُ من التساؤلات للشباب. ومن خلال وسطية بارعة، حقَّقْنا حالةً أثرى فيها كلُّ طرفٍ الآخَرَ، ووُضِعت فكرة جيدة لحَمْلة أقنعت الشباب، وكانت ذات قيمة لهيئة الصحة على حد سواء.

أوضحَتْ لنا هذه التجربة وعددٌ من التجارب الأخرى في الأيام الأولى لبرين ستور أن هذه المعادلة من جمع أطراف داخلية من الشركة مع أطراف خارجية شابَّة؛ معادلةٌ ناجحة. إنها أشبه بحساءٍ جيدِ المذاق؛ إذا اجتمعَتِ المكونات الصحيحة معًا، تكتسب مذاقًا أفضل ببساطة. وكل محاولة بذلناها للانحراف عن هذا المبدأ الأساسي لم تُجْدِ نفعًا؛ على سبيل المثال: حين كنا نقوم بتوظيفِ طلابٍ يدرسون في مجالِ عملِ العميل بدلًا من المراهقين، أو الاكتفاء بالعمل مع الأطراف الداخلية لأسبابٍ تتعلَّق بالميزانية؛ فهذه التجارب لم تحقِّق نفس المستوى من الأفكار الجيدة مثل مزيجنا للأطراف الداخلية/الخارجية.

ومن رَحِم هذه الآلية البسيطة، طُوِّرت أدواتٌ وتقنياتٌ أخرى على مر السنين، من أجل تطوير الأفكار على نحوٍ سريع وموثوق فيه، وبقبولٍ مضمونٍ من قِبَل صُنَّاع القرار المشاركين في المشروع. ولم نفعل شيئًا سوى إضافةِ علامةِ «الإنتاج الصناعي للأفكار»، بعد أن أدركنا أننا قد وجدنا مفتاحًا لإنتاج الأفكار بنفس الطريقة التي تُنتَج بها المنتجات الأخرى: بواسطة ماكينة. أُضِيفت أجزاء جديدة لهذه الماكينة بمرور الوقت، وخضعَتِ الواجهات — ولا تزال — للفحص والتدقيق بشكل دائم، وتحسَّنَ أداؤها وصار أكثر موثوقيةً.

والكثير من أجزاء الماكينة — التي نعتبر وجودها بديهيًّا الآن — لم يوجد إلا من أجل مشروعات خاصة للعملاء؛ فمع كل مشروعِ اختراعٍ كانت تُضاف تقنيات وأدوات وتحسينات جديدة كنا نقوم بتجربتها من أجلِ عميلٍ ما — وهذا أمر ليس مستغرَبًا بالنسبة إلى مصنع أفكار — فكلُّ عملية جديدة تُعَدُّ بمنزلة أرض جديدة تَطَؤُها أقدامنا لأول مرة ونستفيد منها بطريقةٍ ما. لقد اعتدنا أن ننظر إلى كل مهمة بنظرةِ ابتهاجٍ وفضولٍ خليقة بطفل، ونترك أنفسَنا لتفاجِئنا المهمةُ بالاتجاه الذي ستقودنا إليه.

لذا كانت منطقة جديدة لنا، على سبيل المثال، حين عهدَتْ إلينا شركة جونسون آند جونسون بتطوير أفكار جديدة مع فتيات شابات في سويسرا، للترويج لنوعٍ من الفوط النسائية. لم نكن نعلم أيَّ شيء عن أبحاث السوق، مثلما لا نعرف شيئًا عن معظم الموضوعات التي يطلب منا العملاء التعامُل معها، وهذا يُرغِمنا على التفكيرِ في الموضوع والإلمامِ به بشكلٍ أسرع، وأكثر شموليةً وواقعيةً. وقد طُوِّر جزء مهم للغاية من ماكينة أفكارنا من هذا المشروع الأول لأبحاث السوق، تحديدًا المكونات الخاصة بفكرة موجهة للغاية ومقابلات الخبراء، والتي يمكن تقييمها في إطار مشروع الأفكار.

وقد عَوَّض القدرُ الضخم من الوقت والجهد الذي بذلناه لبناء وحدة لأبحاث السوق لأول مرة لعميلنا جونسون آند جونسون؛ تكاليفَه مائةَ مرة منذ ذلك الحين؛ لأننا الآن نستطيع أن نقدِّم لعملائنا أداةً أفضلَ لدعم مشروعاتهم الابتكارية. وكلُّ أداة وكل جزء بالماكينة نستخدمه بشكلٍ مستديم من أجل عملائنا تمَّ فحصه وتعديله عدة مرات؛ فماكينةُ الأفكار ليست شيئًا ثابتًا، بل هي في حالةٍ من التطوير المستمر، فتُزوَّد بأجزاء جديدة، أو مجموعات أدوات، ويتم تعديلها أو يُستعاض عنها بنُسَخ أحدث. وكلُّ تقنية نجرِّبها ونجدها جيدة تمر بعدة محطاتِ اختبارٍ خلال عملية تطويرنا قبل دمجها في ماكينة الأفكار؛ لذلك يمكن أن تثق بأن المبادئ والأدوات والمفاهيم التي أُشِيرَ إليها في هذا الكتاب ليست مجرد أفكار لطيفة، أو تجارب مشكوك فيها، أو أفكار مجرَّدة لا صلةَ لها بالتطبيق. وقد أثبتَتْ ماكينة الأفكار جودتها وفاعليتها في مئات المشروعات «الخطيرة».

حين عرضنا ماكينة الأفكار الخاصة بنا بشكلها الحالي على الشركات لأول مرة في عام ١٩٩٧، لم نكن نَعِي كَمْ كانت الفكرة ثوريةً؛ فقد كانت بالنسبة إلينا ببساطة التطورَ الطبيعي المنطقي من استخدام أدواتٍ غير مترابطة تتعلَّق بموضوع التجديد والابتكار، إلى استخدام عملية صناعية منهجية، يستطيع العملاء في جميع القطاعات الصناعية الاستفادة منها على نحوٍ متساوٍ. وقد كتبَتْ صحيفة نيو جورنال أوف زيورخ عن برين ستور في عام ١٩٩٩، وكأنها شركة من القرن الحادي والعشرين.

في هذه المرحلة من الزمن، كان الابتكار وتوليد الأفكار مُهمَلين إلى حدٍّ كبيرٍ في غالبية الشركات؛ فلم يكن هناك أيُّ أثرٍ لوجود «مسئول ابتكار» مثلما يمكن أن نجد اليومَ من حين لآخَر؛ فقد كان الابتكار مقتصرًا على تطوير المنتجات والخدمات، وكان هذا التطوير إما مدفوعًا بالتسويق وحده أو كان مسئولية إدارة للبحث والتطوير.

ولكن الابتكار موضوعٌ لا يتوقَّف في أجزاء الشركة الأخرى؛ فالشركات المبتكِرة بحقٍّ ليس لديها منتجات مبتكَرة وصورة مبتكَرة فحسب، ولكنها أيضًا تنظر إلى الابتكار بوصفه المحرك للشركة بأكملها، وهي مدفوعة بفكرةِ «كيف يمكننا أن نفعلها بشكلٍ أفضل؟» وهذا يسري على جميع المجالات، من البحث عن موظفين جدد أو خدمة عملاء، إلى الطعام المُقدَّم في المَقْصِف. والشركات المبتكِرة تنظر إلى أنشطتها كمغامرات، كبعثة استكشافية في أرض مجهولة، وليس باعتبارها الإنجازَ الخطِّي للمهامِّ الواجبة في قطاع صناعي معين تكون فيه أفضل الممارسات محدَّدة سلفًا. وتهوى الشركات المبتكِرة صنْعَ القرارات، ولديها تسلسلات هرمية مسطَّحة قدر الإمكان، ودائمًا ما تُشرِك موظفيها في التطوير الدائم للشركة. ومثل هذه النوعية من الشركات تتبع المبادئ الأساسية للإنتاج الصناعي للأفكار، مثل إشراك فِرَق متعددة التخصصات، والاستعانة ببِنًى تنظيمية وعمليات واضحة لتوليد الأفكار وتنفيذها، إلى جانب تمتُّعها بتوجُّه شامل نحو الابتكار على مستوى الشركة.

ولكن ما تفتقده هذه الشركات هو الماكينة، التي تمكِّنها من إيجاد الأفكار التي تحتاج إليها بسرعة وبشكل موثوق فيه؛ فمع مثل هذه الماكينة، ستكون هذه الشركات في موضعٍ يؤهِّلها لتطوير أفكارها بسرعة هائلة. ولكن حتى تلك الشركات التي لا تتميَّز بالابتكار حتى النخاع، تحتاج إلى أفكارٍ جديدة كلَّ يوم، ونجاحُها يعتمد بشكل قاطع على قدرتها أو عدم قدرتها على تمييز نفسها عن منتجات وخدمات منافسيها. وهذا التمييز يزداد صعوبةً؛ فلا يوجد سوى عددٍ محدود من احتمالات التمييز على مستوى التسعير، وعلى مستوى المنتجات تميل الأفكار الجديدة للاستنساخ، أما على مستوى التسويق، فإن معظم الشركات تستخدم نفس الأفكار الأساسية البسيطة. هذا يعني أن الشركات بحاجةٍ إلى بذل كل الجهد بغيةَ تحقيقِ التميُّز على المستويات كافة، وهي بحاجةٍ إلى هذا على أساس يومي. وأي شخص يرغب في تطوير هذه الأفكار دون الاستعانة بمجموعة ضخمة من الموظفين وموارد الوقت يحتاج إلى منظومة، أو إلى عملية، أو ببساطةٍ: إلى ماكينة أفكار.

مفاهيم جوهرية: «الإنتاج الصناعي للأفكار»

• يُعَد الإنتاج الصناعي للأفكار مفهومًا حديثًا نسبيًّا. لا يزال توليد الأفكار يتم بأسلوب غير منهجي ويدوي في العديد من الشركات، ولكن من الممكن إنتاج أفكار بأسلوب منهجي شأن أي منتجات أخرى.

• يوجد العديد من التقنيات والإجراءات للتوصُّل إلى أفكار، ولكن معظمها يكون مناسبًا فقط حين يتاح الوقت والإلهام الكافيان. أما في جميع الحالات الأخرى فتخفق؛ لأنها تعتمد على إلهام الأفراد.

• يزداد الضغط على الشركات من أجل الابتكار، والتميُّز لا يكون ممكنًا إلا في وجود أفكارٍ جيدة على جميع مستويات الشركة.

• يضم الإنتاج الصناعي للأفكار أشخاصًا من داخل المؤسسة، وأطرافًا خارجية، والمستخدِمين المحتمَلين للفكرة — أي السوق — داخل العملية.

• يتَّسِم الإنتاج الصناعي للأفكار بالفاعلية والكفاءة، ويساعد على تطوير فكرة جيدة داخل إطار زمني محدَّد بوضوح، وبتكاليف محددة بوضوح، شاملًا جميعَ ما له صلة بالأمر من الرؤى وصُنَّاع القرار.

• تشتمل ماكينةُ الأفكار المخصَّصة لإنتاج الأفكار العديدَ من الأجزاء: توليد الأفكار، وتكثيفها، والاختيار من بينها، وتنفيذها. ولا بد من فصل هذه المراحل بشكل واضح بعضها عن بعض، حتى في مشروعات الأفكار الصغيرة البسيطة. ولتشغيل الماكينة، ينبغي التحكُّم في العملية وتوجيهها (إدارة الأفكار).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤