الفصل الثامن والثلاثون

شم النسيم

نحتفل كل عام بعيد الربيع «شم النسيم» فنخرج إلى الحقول ونرى بشائر الزهر والثمر في العشب والشجر.

وقد تعوَّدنا أن نزرع نباتات المحاصيل كالقطن والقمح والذرة فأفسدت هذه الزراعة تصورنا للطبيعة، وجعلت الأرض والشجر وخضرة الحقل وألوان الزهر مقدرة في اعتبارنا بحساب القرش والمليم والمكسب والخسارة، وانقطعت بذلك تلك اللذة التي كانت تربطنا بالطبيعة، وكدنا ننسى أن بيننا وبين الزهرة والشجرة من المعاني الفنية، كدت أقول الجنسية، ما يجب أن نثيره ونطرب به.

وإنها لنفس كامدة جامدة تلك التي لا ترى الأشعار في الأشجار، ولا تتعمق المعنى الجنسي في الزهرة والثمرة قد كان الإغريق يجعلون في النخلة رمزًا لجمال الطبيعة، وهم على حق في هذا، وإني لأرى في شجرة البرتقال — وهي محملة بالثمر قد انحنت غصونها من ثقله — رمزًا للأمومة، وهي تثير في نفسي الحنان والرقة حتى لأتورع من قطف ثمرة منها لأني أحس كأني بذلك أضرب امرأة حبلى.

وكثيرًا ما أتأمل ثمرة المنجة أو التفاح، في ألوانهما الزاهية وعطرهما الفائح، وأتعجب من هذه الجرأة الوحشية حين نقدم عليها بالتمزيق والالتهام؛ لأن مثل هذه الجريمة لا تختلف من قتل فراشات الربيع أو ذبح الكنار.

إن الزراعة على ما فيها من نفع، قد أبعدت ما بيننا وبين الطبيعة؛ لأنها — كما قلت — قد جعلت من الثمر والشجر قروشًا وجنيهات، فلم نعد نجري في الحقل ونمرح، ولم نعد نضاحك الفراش وهو يبوس الزهر ويشرب منه الرحيق، ولم نعد نقف أمام الشجرة الباسقة ونصلي لجلالتها ولم نعد نعرف قيمة هذا السحر حين نقعد متأملين اليمامة وهي تطير فتكتب بجناحيها بيتًا من الشعر في الفضاء، أو حين تجثم على الغصن وتتهامس مع أليفها بكلمات الحب وتنظم بذلك قصيدة رائعة من الغزل.

حبَّذا هذا اليوم يوم شم النسيم، فإنه مهرجان العيد لديانة الطبيعة، هذه الديانة التي نؤمن بها جميعًا ونجد في معبدها هذا المؤلف العظيم من الحقول والسحب والآفاق والأنهار والطيور والأشجار، نجد فيها المعاني الحميمة والطرب المسكر في الجمال.

•••

ولكن وزارة الصحة احتاجت إلى أن تنذر الجمهور، بمناسبة «شم النسيم»، للأخطار التي يتعرض لها أفراده إذا أكلوا الفسيخ الحلو الذي يقل مقدار الملح فيه إلى درجة تتيح لبعض الطفيليات بأن تبقى حية في لحمه.

وهنا مجال فسيح للتأمل؛ فإن شعبًا يحتاج إلى إنذار من الدولة حتى ينقص من سهمه ولا يقبل على أكل الفسيخ بحماسة مؤذية لهو شعب قاصر، إذا لم نقل أحمق، ذلك أن الصحة كما قال برنارد شو دليل الحكمة؛ لأن الرجل الحكيم يختار من الطعام ما يوحيه إليه عقله وليس ما يوحيه إليه لسانه وأضراسه، فهو يحب الطعام الذي يبني صحته كي يبقى سليمًا نحو سبعين أو ثمانين سنة، والرجل الأحمق هو الذي ينشد لذة عابرة فيشره إلى طعام ما حتى يكتظ منه، ثم يعتاد هذه الكظة حتى تعود داء يثمر كثيرًا من الأدواء.

إن المثل القديم يقول: يجب أن نأكل لنعيش. ولكن يجب علينا نحن أن نزيد عليه فنقول: يجب أن ناكل لنعيش مئة سنة.

لقد زرت قبل أيام فارس نمر باشا، وهو الآن في السابعة والتسعين، وقد عاش هذا القرن من العمر وهو لا يعرف التدخين أو الخمور، وتحدثت إليه ساعتين فلم أجد في تفكيره ما يدل أقل الدلالة على ذلك النقص الذي تعزوه إلى الشيخوخة، بل وجدت العكس: تفكيرًا ناضجًا ناصعًا وإحاطة شاملة يقظة.

وهي حالة الكثيرين الذين لم يحتاجوا قط إلى نصيحة ناصح بأن يعتدلوا في الطعام؛ لأنهم عرفوا بذكائهم وحكمتهم قبل قرن من الزمان أن الطعام يجب أن يكون وسيلة صحة وليس وسيلة المرض.

حبَّذا الشاب يأكل بعقله ويقنع بالشبع دون النهم؛ لأنه بذلك يعيش عمرين ويتمتع باختبارات هذه الدنيا قرنًا من الزمان، ويكسب بذلك صحة وحكمة بل صحة من الحكمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤