سماؤه

استيقظْتُ فجأة — أو قل كما هي عادتي — في آخر الليل، دفعني قلق لئيم إلى أن أتمشى قليلًا في الطرقات الفارغة، طالما كان هناك قمر وأنْجُم قليلة، وجو معتدل ورغبة في المشي، مررْتُ ببيته عند أول منحنى الطريق، لا شيء غريب، فصوته ما زال بذات العمق وذات الدفء، يُحَلِّق حول المكان كسحابة من النشوة والحب والورع مترنمًا:

يا قريب …
يا بعيد …
يا مافي …
يا قريب، يا بعيد، يا مافي … ويسرع النداء حتى لا يكاد يُسْمَع منه سوى:
ييب … ييد … في.

خمسون عامًا سَمِعَ فيها كُلُّ من في الحي الصوت، النداء، اعتادوا عليه حتى ما عاد أحد ينتبه له، بل لم يَعُد يُسْمَع، منذ أنْ كُنْتُ طفلًا يافعًا ربما كان أول تنغيم متكرِّر إلى ما لا نهاية أسمعه.

قلت لنفسي: حسنًا، لأجلسن وأستمع إليه عن قرب ودون عجلة وعن قصد، وهذا يتطلب أن أمحو عن ذهني صورته النهارية، حيث إنه يعمل بائعًا للعطور وألعاب الأطفال، على الأرض قُرْب سوق العيش، أكثر أهل المدينة صناعة للنكتة، وأعرفهم في الضحك، وأَجْهَلهم في كل شيء آخر، ولم يكن جادًّا في أمر أبدًا، إلَّا ربما في ندائه المُرَتَّب المُنْتَظِم المكرَّر في ساعته ووقته دون انقطاع: يا بعيد، يا قريب، يا مافي … يا بعيد، يا قريب، يا مافي، يا بعيد، يا قريب، يا مافي …

قلت: لأبحثن لنظري عن نفاج أشهد به كيف يبدو وهو ينادي، لكن كان الظلام في الداخل دامسًا، والصوت الجميل الشجي المُنَغَّم الحلو يدفعني على ألَّا أُصْدِر ما يُعَكِّر أو يفسد متعتي، أحسست بأن أحدهم يقف خلفي، بل شممته أولًا، كان يغلق شفتيه في ورع وخوف عظيمين، وهو يستمع معي إلى صوته الآتي من داخل قطيته المظلمة: يا بعيد، يا قريب، يا مافي …

خشم القربة
٢٢ / ١٢ / ٢٠٠٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤