مقـدّمـة

جرت حوادثُ هذه القصة في زمن كان قطعة من ليل الملمات، أخذت الأندلس في جنحها الحالك ثم تركته نظمًا منحلًّا وركنًا مضمحلًّا، وشمسًا من دول الإسلام سقمت فألح عليها السقم فاحتضرت، فكانت لها في الغرب هِدّة وكانت عليها في الشرق ضجة؛ وخلال تلك القطعة من ليل الملمات كان الأندلس تحت ملوك الطوائف، وكان هؤلاء الملوكُ على شرف بيوتِهم وتميز شخصياتهم ونبوغهم في كل علم وأدب أصحابَ بذخ وترف، وأخدانَ صبوةٍ وخلاعة، لا حظَّ لهم من همة الملك ولا نصيب من مراشد السلطان، وإنك لتعجب من انغماسهم في اللذات ونسيانهم لذكر العواقب، وهم أتعب خلق الله وأكثر الملوك ركوبًا للغَرر، واستهدافًا للخطر، ومشيًا على الحبائل والحفر، فأما في داخل دويلاتهم فكيد وائتمار، وفتنة نومها غِرار، وسيفها في الغمد قليل القرار، حتى لا تكاد الشمس تطلع إلا على ملك مخلوع، ولا تغرب إلا على ملك مقتول، وأما في الخارج فكنت ترى هؤلاء الملوك بين نارين تتواعدان، وبين سيلين يتهدران: فملك الأسبان ألفونس يتجنى ويعتدي، ويضرب الجزية ويفرض الإتاوات، ويبعث لأخذ الأموال جباة أهل غِلظة وقحة، وصاحب مراكش يوسف بن تاشفين هو وقُوَّاده ووزراؤه مشغوفون بالأندلس يمطرونه الرسل والرسائل إلى قضاته وفقهائه، مهيئين بذلك لفتحٍ بَنَوْا عليه الرجاء وعلقوا به الآمال، وكان ملوكُ الطوائف يخافون جارهم هذا المسلح المتوثب سلطان المغرب ويرجونه، فكان تملقهم له لا ينقطع، وكانت الأموال تحمل إليه في صورة المعونة، وكانت الرِّشا تقدم لوزرائه ورؤساء دولته في صورة الهدايا والألطاف، وكل هذا المال إنما كان يجمع من المكوس والمغارم! فتخيل كيف كان بؤس الرعية، وتأمل كيف تذهب معالم البلاد بين عبث الفرد وغفلة الجماعة. ولقد كان على قرطبة وهي حاضرة الملك أن تحمل شطر هذا البلاء، فلم تلبث أن انحطت عن ذلك المكان العالي الذي كانت فيه دار الخلافة ومطلع القصرين الدمشق والرصافة١ فصارت كرسي إقليم وقاعدة دويلة وعرشَ ملك صغير يؤدي الجزية ولا يحس لها ذلة ولا هوانًا.
١  قصور الخلفاء الأول من بني أمية في قرطبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤