الفصل الثالث

«بستان أمام دار أبي الحسن. إلى يمينه باب الدار ومن ورائه شاطئ الوادي الكبير، أبو الحسن جالس في هذه الساحة وبين يديه تابع له هو «سعيد» وجماعة بالقرب منه من السماسرة يتهامسون.»

أبو الحسن : ما هذا؟ ما أرى؟ إني لا أعرف هذه الوجوه، فمن الرجال يا سعيد وما يبتغون؟
سعيد : هذه الوجوه تحومُ على الدار منذ حين يا مولاي، وتسأل عن أجزائها وتستفهمُ عن مشتملاتها، وتتحدث عن المكتبةِ خاصة وما عسى تضم من نفائس الأسفار.
أبو الحسن (رافعًا وجهه إلى السماء) : لطفك اللهم! لقد لهج الناس بالنكبة واشتغلوا بالمنكوب، وما أولع الناس بالناس!

(ثم إلى الرجال)

أيها الرجال تعالوا، فإن كنتم ضيوفًا فيا مرحبًا بكم، وإن كانت لكم حاجات تريدون قضاءها فهاتوا اذكروا.
أحدهم : ائذن لي يا سيدي التاجر أن أصارحك القول، فليس مركزك بسر، والدارُ معروضة لا محالة فلتبعها اليوم، فقد تُغْبَن جدًّا في الغد.
أبو الحسن : أتشفق على الدار أن يكسد سوقها في غد؟ أم تشفق على نفسك أن يكون السمسار غيرك؟ بكم قومتم الدارَ أيها الوسيط المجتهد؟ وأي ثمن تعطون؟
أحدهم : عندي المشترى لها بخمسين ألف دينار يا سيدي التاجر، تحمل إليك في الصباح إن قبلت.
أبو الحسن (إلى الثاني) : وأنت فماذا عندك؟
الثاني (من السماسرة) : عندي الراغب الذي يزيد خمسة آلاف دينار.
أبو الحسن (مشيرًا إلى الثالث) : وهذا الثالث ماذا عنده؟
الثالث : عندي أيها السيد صديق لك لا أسميه، يريد أن يشتري مكتبتك بالثمن الربيح، فهل أنت بائع؟
أبو الحسن (في غضب) : والمكتبة أيضًا أخذوا يتحدثون في شرائها! ووسادتي وفرش نومي أما لهما عندك من طالب أيها الرجل؟ اغرب عني، اغرب وخذ صاحبيك معك وانطلقوا، إن النكبة لم تبلغ بعد تمامها ولم تبلغ إلى اليأس.

(يقترب شيخ غريب الثياب ملتفتًا إلى الرجال الثلاثة قائلًا:)

الشيخ المغربي : تلك والله وقاحة!
أحد السماسرة : حجلت فيها يا وجه النحس.

(ينصرف السماسرة)

أبو الحسن (يناجي نفسه) : ظهر فيكِ السمسارُ يا دار، اللهم أنت أعطيت وأنت أخذت وأنت تعلم أني لستُ التاجر اللص ولا المحتال، فالطف بي فيما قضيتَ، وأعن ولدي حسونًا على ما يواجه من فرار النعمة وانتقال الأيام.

(ثم يشعر براحة ويقبل على الشيخ المغربي قائلًا:)

وأنت يا شيخ البربر ما وراءك؟
المغربي : أنا زائر يا سيدي التاجر. وربما كلمتك في شأن يكون فيه ارتياحك ورضاك.
أبو الحسن : مرحبًا بالزائر. تعالَ يا سيدي نتحدث على هذا الفضاء الطلق، وفي ظل هذا الروض الكريم.

(يسيران قليلًا ثم يجلسان)

المغربي : أنا يا سيدي التاجر رجل من أغنياء المغرب، حبب الله إليَّ السياحة في أرضه، أجوب مذ كنت البر وأرفع شراع البحر، إلى أن دفعتني الأسفارُ منذ أيام على مدينتكم هذه إشبيلية الغناء، وكنت سمعت عنها وقرأت الشيء الكثير، فلما نزلتها ودخلت في مواضعها وخرجتُ ملأت نفسي وشغلت خاطري، فاعتزمت أن أجعلها قراري وملقى عصاي في رحلة الأيام.
أبو الحسن : ما أسعد إشبيلية يا سيدي بابنها الجديد البار.
المغربي : مهلًا يا سيدي التاجر وخذ الحديث إلى آخره، لم يبق في نفسي من هوى الأسفار إلا جولة أجولها فيما وراء هذا الأندلس من ممالك للفرنجة وديار، فإذا كتب الله لي السلامة أتيت هذه المدينة فاتخذتها وطنًا وديارًا.
التاجر أبو الحسن : مشيعًا بالسلامة والكرامة.
المغربي : ولكني مزمع سفرًا، وما يدري المسافر ما وراء الغربة من الفجاءات، وما تدري نفس بأي أرض تموت، ومعي يا سيدي من كريم الجوهر ونادره ما أخشى عليه السرقة أو الضياع، وأنا منقطع الوارث لا أهل ينتظرونني ولا ولد، ولقد مررت بدارك هذه مرارًا فكنت كلما زدتها تأملًا زادتني بهجة وروعة، حتى حدثتني النفسُ بشرائها.
أبو الحسن (في غضب) : أأنت أيضًا يا سيدي أتيت تساومني في الدار.
المغربي : دعني أستتمُّ يا أبا الحسن فإني جاد، ما أنا بالمساوم ولا بالرجل الذي يلتمس الفوائدَ لنفسه من مصائب الناس، ولكني جئت أخطب إليك الدار وأجعل مهرها ما أقدر أنا لا ما تقدر أنت ولا الناس.
أبو الحسن : ماذا تريد يا سيدي؟ بين، صرح، إني لا أفهم ما تقول!
الشيخ المغربي (ويخرج عقد لؤلؤ من كمه) : هذا عقد من كبير اللؤلؤ وخالصه قيمته زهاء المائة ألف دينار، فخذه يا سيدي ثمنًا لدارك وابق فيها واحرسها لي حراسة القيم الرفيق، فإن لقيتك سالمًا بعد ثلاثة شهور تمضي من يومنا هذا نزلت في داري، وإن مضت هذه المدة ولم أعد بقيت عليك الدار مباركًا لك فيها ولولدك.
أبو الحسن : ولكن يا سيدي هذا الثمن كثير جدًّا لدار يشتغل بها الآن السمسار والدلال.
المغربي : بربك أيها السيد لا تعرض عن خير ساقه الله إليك، ولا تقف لأهل المروءات في سبيلهم، لا تستنكر على رجل قد زاد ماله حتى ما يدري ما يصنع به، أن يعين بفضيلة منه كريمًا مثلك طالما آسى الجروح وأقال عثرات الكرام، فأجز الصفقة يا سيدي أجزها.
أبو الحسن (ينظر إلى العقد قائلًا) : أمائة ألف دينار!
المغربي : أجل يا سيدي في أقل تقدير.

(أبو الحسن يأخذ العقد ويتأمله ويقلبه، وفي هذه اللحظة يرسو شراع فتنزل منه بثينة متنكرة في ثياب شاب ومعها جوهر ولؤلؤ.)

أبو الحسن : ماذا أرى! ما هذا الشراع؟ من الفتية يا ترى؟ ائذن لي أيها الزائرُ الكريم، وانتظرني فإني عائد إليك من فوري.

(يتجه أبو الحسن نحو القادمين من الشراع. المغربي يزيل تنكره فإذا هو بابن حيون. حسون يلمح ابن حيون من داخل الكشك فيناديه من وراء مجلسه.)

حسون : تعال يا ابن حيون ألاعبك الشطرنج.
ابن حيون : لبيك يا سيدي حسون.

(ويدخل ابن حيون إلى حسون. عند اقتراب أبي الحسن من القادمين يسارع إليه ابن غصين ولؤلؤ وجوهر).

ابن غصين (بثينة) : السلام عليكم يا عم.
أبو الحسن : وعليكم السلام يا بني.
ابن غصين : لمن يا عمُّ هذا القصر المنيف وهذه الربوة الغناء؟
أبو الحسن : هذا الكوخ يا بني لخادمكم أبي الحسن التاجر.
ابن غصين : تسمى غرفة الفردوس كوخًا! هذا منتهى التواضع يا سيدي التاجر.
أبو الحسن : ومن السيد؟
ابن غصين : ولدك ابن غصين. من أبناء أعيان قرطبة، وهذان جوهر ولؤلؤ صاحباي ورفيقا سفري.
أبو الحسن : مرحبًا مرحـبًا بشباب قرطبة النابه. إني أرى الدار قد أعجبتكم يا بني، وإنه ليسرُّني ويشرف قدري أن تدخلوا فتقضُوا ساعة مع ولدي حسون. فإني أرى عليكم الفضل والأدَبَ والمجادة، وحسون لا يصاحب ولا يجالس إلا أهل الفضل والنُّبل، فتفضلوا أيها الأدباء وشرفُوا أخاكم بزورة، وأنتم واجدون عند حسون كل ما يشتهي النشء المثقف، ففي خزانته ما قدم وما حدث من آلات الطرب حتى عود زرياب.
جوهر (يصيح) : عود زرياب!
أبو الحسن : أجل يا بني، ذلك العود الذي على أوتاره كان عواد الأندلس يسمع الخلفاء ما توحي إليه الجن من روائع الألحان، وتجدون كذلك عند حسون مكتبة لم يجمع مثلها في البلاد، قد حوت الذخائر في كل علم وفن.
ابن غصين : وكيف ولع فتاك يا سيدي بعلم الفلك؟
أبو الحسن : أشد الولع يا بني، وقد جمع الكثير من نفائس المخطوطات فيه، وفي أولها رسائل المنجم الضبي.
ابن غصين : المنجم الضبي؟
أبو الحسن : أجل يا بني، وأذكر أنه من شهرين أو أكثر أو أقل، قد انتهت إلى حسون رسالة مما وضع الضبي فدخله من ذلك فرح يشبه الجنون.
ابن غصين (لنفسه) : رسالة للضبي من شهرين أو أكثر أو أقل؟ بشراك يا قلب إنه هو، وبشراك يا عين ستكتحلين به الساعة.

(ثم إلى أبي الحسن)

لقد شقتنا إلى ولدك الفاضل أيها السيد، فأين من يستأذن لنا عليه؟
أبو الحسن : يا مرحبًا! يا مرحبًا! ما أعظم حظ حسون. اتبعوني يا سادة، اتبعوني، فإني دليلكم إلى ناديه، وإني أرجو أن سيعجبكم، إن حسون شاب قد ألقى الله عليه محبة الناس.

(أبو الحسن مع ابن غصين ورفاقه يقفون أمام كشك حسون. ابن غصين يلحظ لعبة الشطرنج.)

أبو الحسن (لابن غصين) : هو ذا حسون يا سيدي يلعب الشطرنج مع صديق لنا قديم كريم، لا تخلو منه الدار ساعة.

(أبو الحسن ينادي ابنه)

أبو الحسن : حسون يا ولدي.
حسون : لبيك.
أبو الحسن : هذا ابن غصين من نبلاء فتيان قرطبة ومعه صاحباه ورفيقا سفره، يريدون أن يجتمعوا بك ساعة.
حسون : يا مرحبًا! يا مرحبًا! أهلًا وسهلًا بالسادة.
أبو الحسن : لقد جمعتك بضيفانك الكرام يا حسون، والآن أترككم في حراسة الله لأعود إلى زائري المغربي فإنه بانتظاري، وأخاف أن يأخذه القلق.

(أبو الحسن يرجع يفتش على المغربي فلا يجده.)

أبو الحسن : يا الله! أين الشيخ؟ أين ذهب؟

(مناديًا)

سعيد
الخادم : لبيك يا مولاي.
أبو الحسن : ما صنع الله بالشيخ المغربي الذي كان هاهنا منذ لحظة؟
سعيد : لا أدري أين ذهب يا مولاي.
أبو الحسن (ينظر في يده وكان قد نسي فيها عقد اللؤلؤ) (لنفسه) : ويحي ماذا أرى! هذا عقد اللؤلؤ في يدي نسيته فيها. يا خجلًا! ماذا يقول الرجل عني؟
ابن حيون (من داخل الكشك) : سيدي أبا الحسن، لقد لمحت زائرك المغربي خارجًا من الدار يُهرول فعبثًا تبحثُ عنه.

(حسون مع ابن غصين ورفاقه وابن حيون.)

ابن غصين (لنفسه) : إلهي، صدقني القلب ما حدّث، وقلما تكذب القلوب، هذا هو شاب قرطبة الذي لم يخل منه القلب دقة.

(ثم إلى حسون)

الآن صدقتني الذاكرة، فنحن يا سيدي قد تعارفنا قبل اليوم.
حسون : وأين كان ذلك؟ وكيف نلتُ هذا الشرف؟
ابن غصين : في سوق الكتب بقرطبة من نحو شهرين أو أقل أو أكثر.
حسون : الله ما أعظم حظي! أنت والله يا سيدي ذلك الفتى الملثم الذي نازعته رسالة الضبي ونازعنيها حتى غلبته عليها. نعم أنت هو، وهذا صوته، وهذه شمائله، فكيف اهتديت إلى كوخي أيها السيد العزيز! يا مرحبًا! يا مرحبًا! جعلها الله بيننا صداقة الدهر.
ابن غصين : ولكن أنت يا سيدي تلاعب صاحبك الشطرنج، وأخشى أن أقطع عليكما لذة اللعب.
حسون : لا يا سيدي، هذه لذة نجدها في كل وقت، وأما لقاؤكم والأنس بكم فلذةُ الدهر وخلسة الأيام، تفضلوا يا سادة.
ابن غصين (لجوهر همسًا) : اجتهد يا جوهر أن تلاعب هذا الشيخ وتشغله، حتى يخلو لي وجه حسون.
ابن غصين (إلى لؤلؤ) : وأنت يا لؤلؤ إذا أخذا في اللعب، فقم عند رأسيهما ولا تدعهما حتى أهم بالانصراف.
جوهر (إلى ابن حيون) : أتأذن يا سيدي أن أحل محل السيد حسون في ملاعبتك؟
ابن حيون : تفضل يا سيدي خذ مكان حسون وأرحني من قدرته العجيبة على الظفر بالملاعبين، ومن حظه الذي هو أعجب من قدرته.
ابن حيون (إلى لؤلؤ) : وأنت يا سيدي أتحب أن تكون من النظارة؟
لؤلؤ : يا حبذا لو أذنت يا سيدي.

(يتأبط ابن غصين ذراع حسون ويبتعدان ناحية.)

ابن غصين : أحق أننا التقينا يا حسون؟
حسون : أجل، وكنا نظن ألا نلتقي!
ابن غصين : عناية ولطف وتوفيق أقدار لأقدار.
حسون : وقديمًا جمع الله الشتيتين، وطوى الأرض للبعيدين.

(يجلسان)

ابن غصين : أتذكر يا حسون قرطبة وسوق الكتب؟
حسون : أجل، وأذكر رسالة الضبي وكيف كنا نتنافس فيها، وكيف غلبتك عليها.
ابن غصين (مبتسمًا) : وأين هي الآن يا أخي؟
حسون : هي هاهنا يا ابن غصين بالقرب منك وفي متناول يدك، إن شئت انتقلنا إلى المكتبة فأخذتها.
ابن غصين : لا يا أخي بل دعها في موضعها من خزانتك، فإنها عندك في الحفظ والصون وكأنها عندي. ويكفيني نظرة ألقيها على الرسالة من حين لحين كلما جئتُ دارك زائرة؟
حسون (في دهش) : زائرة؟
ابن غصين (لنفسه) : ويح لساني قد عثر، وكشف السرَّ القدرُ!
حسون (مبتسمًا) : كيف تأنثت أخي أما أنت الفتى الذكر؟ أما كفاك هذا الصوت الساحر الرنة اللذيذ النبرة، حتى جمعت إليه أنوثة اللفظ ولين الكلام؟
ابن غصين (في تلجلج وغضب) : عثرة لسان يا شاب، فمر عليها مرَّ الكرام.
حسون : وما أثارك يا أخي وليس فيما قلت ما يغضب؟
ابن غصين : لنطو هذا الحديث ولنرجع لما كنا فيه … أما يسرك يا حسون أن أخلق لزيارتك العلل والأسباب، أن أجعل رسالة الضبي سلمًا إلى دارك كلما اشتقت إليك!
حسون : كلَّ السرور يا ابن غصين، أنا واحد أبي لم أعرف عاطفة الأخوَّة، ولم أجد لها حنانًا ولا رقة، ويخيَّل إليَّ منذ عرفتك أن قلبي يفيض منها وأن وجداني بها مترع، فهل ترضاني أخًا لك شقيقًا، برًّا بك شفيقًا؟
ابن غصين (ويتنهد) : يا مرحبًا، وإن كنت حللت من قلبي محل أخي الظافر من أول يوم.
حسون : ويح أذني ما أسمع! وما أنت من الظافر يا ابن غصين! وما الظافر منك؟
ابن غصين (ويتلجلج في الجواب) : عثرة أخرى، ويح لساني اختلَّ عصبه واختلط عضله، اغفر لي هذه أيضًا وانسها يا حسون.

(وكان ابن غصين ينظر إلى رباط بذراع حسون، فوثب في الحديث وقال:)

ابن غصين : وقى الله ذراعك بيمينه يا أخي، ما هذا المنديل؟ ما وراءه؟
حسون : جرح اندمل أكثره وبقي أثره.
ابن غصين : بعد عنك الشرُّ يا أخي، من جرحك؟
حسون : هذا واحد من جراح لم يكن يرجى أن أقوم منها، لو لم تلق عليها العناية يدها الآسية الشافية.
ابن غصين : بالله ألا حدثتني حديثك. أطلع عليك اللصوص يا أخي في مكان خال من الناس فأبليت فيهم وأبلوا فيك؟ أفاجأتكَ عصابة الباز بن الأشهب فجرحتَ رجالها وجرحوك؟
حسون : لا يا سيدي، إن القتال الذي شهدت أعظم شأنًا وأنبل أقرانًا مما ذهبت إليه ظنونك.
ابن غصين : وما خبره، وأين كان وكيف؟
حسون : كان ذلك في قرطبة.
ابن غصين : قبل تلاقينا في سوق الكتب أو بعده؟
حسون : بل بعد ذلك بأسابيع، وكنت نزيلًا على بعض خانات المدينة، فكان من عجائب القدر أني اكتشفت مؤامرة تُدَبَّر في الخان لاغتيال الأمير الظافر وإزالة إمارته عن قرطبة، وكان شيطان الفتنة ورأس أفعاها هو الأمير حريز بطل الأندلس المشهور؛ فما اطلعت على سر المؤامرة وخطط أصحابها حتى ثار ثائري وغضبتُ لوطني ولقومي، فانسللتُ من الخان ليلًا، وركبتُ جوادًا كان معدًّا ليركبه بوق الثورة والفتنة، فعدوتُ حتى أتيت قصر السوسان فنبهت الأمير وحاشيته وحرسه، ولم أكن إلى تلك الساعة رأيتُ الظافر وجهًا لوجه ولا حضرت له مجلسًا، وتأهب الجميع للقتال، وما لبثت الثوار أن طلعوا علينا آتين من نواحي المدينة يقودهم بطل الأندلس حريز، فتلقيناهم بصدور قد رحبتْ بالموت، ونفوس قد هشت إليه، وذكرنا إذ ذاك الوطن وحقه، وإشبيلية ومكانها في الأعناق، فحملنا حملة تحيد عنها الجبال، وكان الظافر طيب الله ثراه …
ابن غصين (منزعجًا) : حدثني يا سيدي عن الظافر، قل لي كيف قاتل، وكيف قتله الغادرون؟
حسون : تسألني عن الظافر كيف قاتل؟ سل حريزًا عنه فهو ينبئك أنه الأسد.
ابن غصين : وأين كنت من الأمير في ساعة البأس يا سيدي؟
حسون : كنتُ حوله أحمي ظهره ويشد سيفي سيفه، إلى أن ناءت به جراحاته فسقط عن جواده، وكنتُ أنا أيضًا قد أثخنتُ بالجروح، فسقطت إلى جنبه، حتى إذا أفقت من غشيتي نظرت حولي فرأيت عند رأس الظافر هذا الصديق الذي تراه يلاعبك الشطرنج الآن.
ابن غصين : وما اسمه يا سيدي؟
حسون : ابن حيون وهو من رجال العلم والأدب.
ابن غصين : وماذا كان من اهتمامه بالقتيل؟
حسون : طبع على جبينه قبلة وبكاه ورحّم، ثم ألقى عليه رداءه.

(ابن غصين يدخل في الإغماء)

حسون : ما هذا؟ ماذا أرى؟ ما أصابك يا أخي؟ ما لعينيك تغمضان! وما بال رأسك يميل؟ ويحي ماذا جنيت على الشاب؟ قد كان عن حديث الظافر لي غنى؛ ربِّ أصاحٍ أنا أم حالم؟

(وعندما يميل ابن غصين في الإغماءة تقع القلنسوة)

حسون : هذه ضفائر فتاة قد هوت عنها القلنسوة فانسدلت كجنح الليل على جبين كغرة الصباح. أيها الملك الكريم، لقد عبثت بي إذ كنت تتنكر وتترجل فاعبث اليوم بقلبي ما بدا لك فقد دبَّ لك الهوى فيه، إن شئتَ فتنكر، وإن شئت فاظهر، فلأكتمن حديثك ولأقدسنَّ سر هواك أن يذاع، ويلاه إن الإغماءة قد طالت. ابن حيون، ابن حيون.
ابن حيون : لبيك يا سيدي.
حسون : أنا في حاجة إليك، تعال وحدك أسرع.

(يحضر ابن حيون)

حسون : ابن حيون انظر ماذا ترى، لقد أُغمي على ابن غصين فإذا الظبي مهاة، وإذا البدر يا ابن حيون شمس.
ابن حيون (بعد تأمل عميق) : يا لغرائب القدر، هذا الوجه عرفته وعشقته قبل عشرين عامًا من هذه الأيام، وقد لقيت بعشقه الدواهي.
حسون (مندهشًا) : قبل عشرين عامًا من هذه الأيام! هازل أنت يا عم؟!
ابن حيون : بل جاد كل الجد يا ابن أخي، اسمع حسون: هذه بنت الرميكية، هذه أخت الظافر، هذه بنت ابن عباد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤