الفصل الرابع

(١) في القَصْرِ المَلَكِيِّ

وَما زالَ الأَمِيرُ يَتَنَقَّلُ مِنْ مَكانٍ إلَى مِكانٍ حَتَّى انْتَهى بِهِ السَّيْرُ إلَى قَصرٍ عالِي الْبُنْيانِ، رائِعِ التَّصاوِيرِ، فَلَمَّا دَخَلهُ رَأَى جَماعَةً مِنَ الجُنْدِ وَالحَرَسِ يَقِفُونَ عَلَى الأَبْوَابِ، وَخَلْفَهُمْ جَماعَةٌ أُخْرَى جَالِسِينَ عَلَى أَرَائكَ فاخِرَةٍ، صُفَّتْ عَلَيْهَا الوَسائدُ الحَرِيرِيَّةُ، مُوَشَّاةً بِأَجْمَلِ النُّقُوشِ، وَقَدِ ارْتَدَوْا أبْهَى الثِّيابِ؛ يُخَيِّلُونَ إلَيْكَ أَنَّ دَمَ الحَياةِ يَجْرِي فِي عُرُوقِهمْ، فَإِذَا دَانْيتَهُمْ وَجَدْتَهُمْ تَماثيلَ جامِدَةً.

وَمَشَى فِي جَنَباتِ القَصْرِ، فَرَأَى قاعَةً فَسِيحةً يَجْلِسُ عَلَيْهَا وُزَرَاءُ الدَّوْلَةِ وَأُمَراؤُها. وَحانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ فَأبْصَرِ فِي صَدْرِ المَجْلِسِ كُرْسِيًّا مِنَ الذَّهَبِ الإبْرِيزِ مُرَصَّعًا بِأَنْفَسِ الحِجارَةِ الكَرِيمَةِ، وَقَدْ جَلَسَ فِيهِ المْلِكُ فِي أَفخَمِ حُلَلِهِ، وَرَأَى عَلَى مَفْرِقِهِ تاجًا مُكَلَّلًا بِنَفِيس الدُّرِّ وَثَمِينِ اللَّآلِئِ، تَشُعُّ مِنْها الأَضْوَاءُ، فَتُحِيلُ الظَّلامَ نُورًا.

ثُمَّ ذَهَبَ إلَى قاعَةٍ أُخْرَى، فَرَأَى طائِفَةً مِنَ الجَوارِي وَالوَصائِفِ، حَوْلَ مَلْيكَتِهِنَّ، لِتَلَقِّي إشارَتِها، مُتَأَهِّباتٍ لِتَنْفِيذِ رَغْبَتِها.

وَعَجِبَ الأَمِيرُ مِنْ بَراعَةِ المُهَنْدِسِينَ، وَافْتِنانِهِمْ فِي هَنْدَسَةِ القَصْرِ وَنَقْشِهِ، وَتَنْسِيقِ أَثاثِهِ وَفَرْشِهِ، وَرَوْعةِ تَصَاوِيرِه، وَسَنا مَصابِيحِهِ البَللُّورِيَّةِ، وَثُرَيَّاتِهِ المُتأَلِّقَةِ بِنَفائِسَ مِنَ الدُّرِّ اليَتِيمِ (النَّادِرِ).

(٢) حِوارُ الأميرَيْنِ

وَاسْتَأْنَفَ سَيْرَهُ مُتنَقِّلًا مِنْ عَجَبٍ إلى عَجَبٍ، حَتَّى انْتَهَى إلَى قاعَةٍ فاخِرَةٍ، فَرَأَى فَتاةً جَمِيلَةَ المُحَيَّا، مُشْرِقَة الطَّلْعَةِ تَقْرَأُ فِي كِتابٍ، وَما إنْ لَمَحَتْهُ حَتَّى خَفَّتْ إلَيْهِ تسْتَقْبِلهُ، وَتَبْتَدِرُهُ بِالتَّحِيَّةِ فِي أَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ، وَتُنادِيه بِاسْمِهِ مُرَحِّبَةً بِهِ، فَرْحانَةً بِمَقْدَمِهِ، فاشْتَدَّ عَجَبُ الأَمِيرِ مِمَّا رَأَى وَسَمِعَ، فَقالَ لَهَا مَدْهُوشًا: «كَيْفَ عَرَفْتِنِي، وَنَادَيْتِنِي بِاسْمِي؟»

فَقَالَتْ لَهُ مُبْتَسِمَةً: «لا تعْجَبْ مِمَّا تَرَى وَتَسْمَعُ؛ فَأَنا أَتَرقَّبُ قُدُومَكَ مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ.»

فَقَالَ لَها مُتَحَيِّرًا: «تَتَرقَّبينَ قُدُومِي؟ كَيْفَ! وَمَنْ أَنْبَأَكِ عَنِّي؟ وَما بالُ هذِهِ المَدِينَةِ قَدْ مُسِخَ ساكنُوها، وَتَحَوَّلَ قَاطِنُوها تَماثيلَ مِنَ النُّحاسِ، وَبَقِيتِ أَنْتِ وَحْدَكِ سالِمَةً بِنَجْوَةٍ مِمَّا لَحِقَ أَهْلِيها مِنَ المَسْخِ!؟ أَيَّ أَلْغازٍ أَرى وَأَحاجِيَّ!؟»

فَقالَتْ لَهُ الفَتاةُ مُتَلَطِّفَةً: «ها أَنَا ذِي أُفْضِي إلَيْكَ بِما تُرِيدُ مِنْ أَنْباءٍ إذا تَفَضَّلْتَ بِالْجُلُوسِ، وَأَعَرْتَنِي سَمْعَكَ وَانْتِباهَكَ.»

فَقالَ لَها: «ما أَشْوَقَنِي إلَى تَعَرُّفِ أَسْرَارِ ما رَأَيْتُ مِنْ أَلْغَازٍ وَمُعَمَّياتٍ!»

(٣) حَدِيثُ «رائعَة»

فَأَنْشَأَتِ الفَتاةُ تَقُولُ: «تَسْأَلُنِي مَنْ أكُونُ؟ وَكَيْفَ عَرَفْتُ اسْمَكَ، وَتَرقَّبْتُ قُدُومَكَ؟ وَما سِرُّ هذِهِ المَدِينَةِ؟ وَلمِاذا مُسِخَ أَهْلُوها وَبَقِيتُ وَحْدِي ناجِيةً مِنَ السِّحْرِ؟ فَاعْلَمْ — يا سِّيدِي الأَمِيرَ الجَلِيلَ — أنَّنِي «رائعَةُ» بِنْتُ مَلِكِ هذِهِ المَدِينَةِ. وَلَعَلَّكَ رَأَيْتَ أَبِي وهُوَ جالِسٌ فِي صَدْرِ دِيوانِهِ، وَأَنْتَ سائِرٌ فِي طَرِيقكَ إلَيَّ. وَقَدْ كانَ ذائعَ الصِّيتِ بَيْنَ مُلُوكِ «الهِنْدِ»، وكانَ لَنا جارٌ اسْمُهُ «مَرْمُوشٌ» يَعْبُدُ الأَصْنامَ، فَمَرَّ بِحَاضِرَةِ مُلْكِهِ — ذاتَ يَوْمٍ — ناسِكٌ مِنْ كِبارِ النُّسَّاكِ المَعْرُوفينَ بِالقَناعَةِ والزُّهْدِ، وَرَجَاحَةِ العَقْلِ وَسَعَةِ العِلْمِ، فَلَمْ يُقَصِّرْ فِي إرْشادِ النَّاسِ وتَنْوِيرِ بَصَائِرهِمْ، وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى عِبادَةِ خالِق الكائِناتِ، وَتَنْفِيرِهِمْ مِنْ عِبادَةِ الأَصْنامِ، الَّتِي لا تَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا وَلا ضُرًّا، فَالْتَفَّ حَوْلَهُ النَّاسُ، وَأقْبَلَ عَلَيْهِ المُريدُونَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ عُرِفَ أمْرُهُ، وَذاعَ صِيتُهُ، حَتى وَصَلَ إلى سَمْعِ المَلِكِ، فَأَمَرَ بِاسْتِدْعائِهِ إلَيْهِ، فَلَمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَأَلَهُ عَمَّا نَمَى إلَيْهِ، فَلَمْ يَكْتُمْهُ النَّاسِكُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ، وَأقْبَلَ عَلَيْهِ يَتَلطَّفُ فِي دَعْوَتِهِ إلَى عِبادَة اللهِ، وَالإقْلاعِ عَنْ عِبادَةِ الأَصْنامِ.

فَغَضِبَ المَلِكُ مِمَّا سَمِعَ، وَتَعَجَّبَ مِنْ جُرْأَةِ النَّاسِكِ، وَتَوَعَّدَهُ بِالعِقابِ إذا لَمْ يَكُفَّ عَنْ هَذَيانِه، وَيُقْلِعْ عَنْ عِنادِهِ، فَلَمْ يَسْتَجِبِ النَّاسِكُ لِوَعِيدِهِ، وَلَمْ يُبالِ بِتَهْديدِهِ.

فاشْتَدَّ غَضَبُ «مَرْمُوشٍ» عَلَيْهِ، وَأمَرَ بِسِجْنِهِ، وَإِعْدادِ العُدَّةِ لإحْراقِهِ حَيًّا. وَهَيَّأَ لَهُ نارًا جاحِمَةً وَسْطَ المَيْدَانِ الكَبيرِ، لِيَشْهَدَ النَّاسُ جَزاءَهُ عَلى ما أَبْداهُ مِنْ صِدْقِهِ وَإِخْلاصِهِ في دَعْوَتِه. وذاعَتْ قِصَّةُ النَّاسِكِ في أَنْحاءِ المَدِينَةِ، فاجْتَمعَ النَّاسُ لِيَرَوْا مَصْرَعَهُ، فَلَمَّا سُعِّرَتِ النَّارُ وتَهيَّأَ الجُنْدُ، وَاسْتَعَدُّوا لِإلْقاءِ النَّاسِكِ في أَتُّونِها المُلْتَهِبِ، غامَتِ السَّماءُ فَجْأةً، وَبَرَقَ البَرْقُ، وَجَلْجَلَ الرَّعْدُ، ثُمَّ هَمَتِ الأَمْطارُ سيولًا، فَأَطْفأتِ النَّارَ، وَسادَ الهَرْجُ وَالمَرْجُ، وَتَدافَعَ النَّاسُ إلى بُيُوتِهِمْ حتَّى لا تُغْرِقَهُمُ السُّيُولُ المُتَدَفِّقةُ. وَهكَذا أُتِيحَتِ الفُرْصَةُ لِلنَّاسِكِ الصَّالحِ فأَمْكَنَتْهُ مِنَ الفِرَارِ.

وَبَعْدَ ساعاتٍ صَحا الجَوُّ وانْقَشَعَ المَطَرُ، وَبَحَثَ الجُنُودُ عَنِ النَّاسِكِ، فَلَمْ يَعْثرُوا لَهُ عَلَى أَثَرٍ. وَمَشَى النَّاسِكُ في طَرِيقِهِ إلى بِلادِ «التُّبَّتِ» يُواصِلُ السَّيْرَ لَيْلَ نَهارَ حتَّى بَلَغَ مَدِينَتَنا. وَكانَ أَبِي يَسْمَعُ بِصَلاحِهِ، وَيُعْجَبُ بِتَقْوَاهُ، فَلَمَّا أَفْضَى إلى أبي بِقِصَّتِهِ اسْتقْبَلَهُ أَحْسَنَ اسْتقْبالٍ، وَرَحَّبَ بِهِ وَأَكْرَمَ مَثْواهُ. فَلَبِثَ النَّاسِكُ عِنْدَنا أَيَّامًا قَلائِلَ، ثُمَّ اسْتأذَنَ أَبي في استِئْنافِ السَّفَرِ عائِدًا إلى بَلدِهِ.

فَتَشَبَّثَ بِهِ أَبي، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ في البَقاءِ عِنْدَهُ، فَتَلَطَّفَ النَّاسِكُ في الاعْتِذَارِ إِلَيْهِ، وَما زالَ يُلْحِفُ في الرَّجاءِ، حتَّى أَذِنَ لَهُ أبي في السَّفَرِ، عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ. وكأَنَّما خَشِيَ النَّاسِكُ أَنْ تَهْتَدِيَ إلى مكانِهِ عُيُونُ المَلِكِ «مَرْمُوشٍ» فَيَشْتَبِك كِلاهُما في حَرْبٍ طاحِنَةٍ مِنْ جَرَّائِه، وَقَدْ تَحَقَّقَ ما خَشِيَهُ النَّاسِكُ، فَلَمْ يَنْقَضِ عَلَى سَفَرِهِ زَمَنٌ قَلِيلٌ حتَّى وَفَدَ عَلَى أَبي رَسُولٌ منْ «مَرْمُوشٍ» عابِدِ الأَصْنامِ، يَتَوَعَّدُهُ فِيهِ بِالحَرْبِ إذا لَمْ يُسَلِّمْ إِلَيْهِ النَّاسِكَ الَّذِي حَلَّ بِمدِينَتِه ضَيْفًا. وَغَضِبَ أبي منْ جُرْأَةِ جارِه، وَطَرَدَ رَسُولَهُ شَرَّ طَرْدَةٍ، بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ أنْ يُخْبِرَ مَلِيكَهُ أَنَّ النَّاسِكَ قَدْ سافَرَ مُنْذُ أَيَّامٍ، وَأَنَّهُ لوْ بَقِيَ عِنْدَهُ لَما قَبِلَ أَنْ يُسلِّمَهُ إَلَيْهِ.

وكانَ أَبي يَعْرِفُ قُوَّةَ «مَرْمُوشٍ» وَشِدَّةَ بأسِهِ، فَأعَدَّ لِلِقائِهِ عُدَّتَهُ، وَحَصَّنَ مَدِينَتَهُ، وَغَلَّقَ أَبْوابَها العاليَةَ، وَأَعَدَّ العُدَّةَ لِرَدِّ عُدْوَانِ الغُزاةِ.

وَذَا صَباحِ سَمِعْتُ صَوْتَ بُوقٍ عاليًا يُدَوِّي في الفَضاءِ، فَيكادُ يُصِمُّ الآذانَ.

•••

فخُيِّلَ إلَيَّ — لِهَوْلِ ما سَمِعْتُ — أَنَّ آخِرَةَ العالَمِ قَدْ حانَتْ. وَخَرَجْتُ أَمْشِي في أَنْحاءِ القَصْرِ هائِمةً، فَوَجَدْتُ كلَّ مَنْ رَأَيْتُ — مِنْ وَصائِفَ وَوَصِيفاتٍ، وَنِساءٍ وَفَتياتٍ — تَماثيلَ صُمًّا مِنَ النُّحاسِ. فَأسْرَعْتُ إلى دِيوانِ أَبي أَسْتَجْلِي الخَبَرَ، فَرَأيتُهُ جالِسًا مَعَ حاشِيَتِهِ وَسَراةِ مَمْلكَتهِ، وَكُلُّهُمْ تَماثيلُ نُحاسِيَّةٌ. وَانْدَفَعْتُ في طُرُقاتِ المَدِينَةِ وَأَسْواقِها، فَلَمْ تَقَعْ عَيْنايَ إلَّا عَلَى تَماثيلَ نُحاسِيَّةٍ. وَلَعَلَّكَ رَأَيْتَ مِصْدَاقَ ما أقُولُ، وَشَهِدْتَ بِعَيْنِكَ وَأَبْصَرْتَ بِناظِرِك: كَيْفَ تَحَوَّلَتِ الكِلابُ وِالقِطَطَةُ وَالجِرْذانُ وَالطُّيُورُ، تَماثيلَ صُمًّا لا تَسْمَعُ وَلا تَتَحَرَّكُ!

•••

وَقَضَيْتُ يَوْمًا راعِبًا، وَلَيْلةً ساهِرَةً، لِهَوْلِ ما رَأيْتُ. ثُمّ غَلَبَنِي النَّوْمُ لِطُولِ ما كابَدْتُ مِنَ الضَّنَى وَالسَّهَرِ، فَرَأيْتُ النَّاسِكَ يَزُورُني في عالَمِ الأَحْلامِ، وَيُرَبِّتُ كَتِفِي مُتَلَطِّفًا، وَيَقُولُ لِي مُبْتَسِمًا: «لا تَخافي يا «رائِعةُ» ولا تَحْزَني، فَلَنْ يُصِيبَكِ سُوءٌ إِنْ شاءَ اللهُ. وَسَيكُونُ خَلاصُكِ وَخَلاصُ كلِّ مَنْ في المَدِينَةِ عَلَى يَدِ رَجُلٍ صالحٍ شُجاعٍ، اسْمُهُ الأَمِيرُ«إِقْبالٌ»، وَسَيَشْتَرِكُ مَعَهُ أَخُوكِ الأَمِيرُ «فاضِلٌ»، في كَشْفِ الغُمَّةِ وَزَوَال السِّحْرِ عَن المَدِينَةِ وساكِنِيها، فاصْبِرِي عَلَى قَضاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَلا تَخْشَيْ أنْ تَهْلِكِي جُوعًا؛ فَقَدْ بَقِيَتْ لَكِ مِنْ بَيْنَ أَشْجارِ الحَدِيقَةِ شَجَرَتا تِينٍ وَتُفَّاحٍ، لَمْ تُمَسَّا بِسُوءٍ، فَكُلِي مِنْهُما كُلَّما جُعْتِ، وَاشْرَبي مِنَ النَّبْعِ الصَّافِي الَّذِي يَسْقِيهما، واشْكُرِي اللهَ عَلَى ما هَيَّأَ لَكِ مِنْ سَلامَةٍ وفَوْزٍ بِالسَّعادَةِ، واتَّجِهي إلَيْهِ، وَأَخْلِصِي في عِبادَتِهِ.»

وَكانَ في قَصْرِنا مَكْتَبَةٌ حافِلَةٌ بِنَفائِسِ المَخْطٌوطاتِ، فَأَسْرَعْتُ إلَيْها — وَأَنا أَخْشَى أنْ تَكُونَ المِحْنَةُ قَدْ أَصابتْها — فوَجَدْتُها كَما هِيَ، وَالحَمْدُ للهِ، فَكانَ لِي في القِراءَةِ خَيْرُ عَزاءٍ.»

فَلَمَّا سَمِعَ الأَمِيرُ «إقْبالٌ» حَديثَ الأمِيرَةِ اشْتَدَّ بِهِ العَجَبُ، وَسَأَلَها مُتَحَيِّرًا: «وَكَيْفَ نَجَوْتِ وَحْدَكِ مِنْ سِحْرِ السَّاحرِ، فَلَمْ تَتَحَوَّلِي تِمْثالًا مِنَ النُّحاسِ، كَما تَحَوَّلَ مَنْ في المَدِينَةِ مِنْ طَيْرٍ وَحَيَوانٍ وَناسٍ؟»

(٤) فَتاةُ الجِنِّ

فَقالَتِ الفَتاةُ: «لِذلِكَ نَبَأٌ عَجِيبٌ، أَنا أَقُصُّهُ عَلَى سَيِّدِي: بَيْنما كانَتْ أُمِّي تَسِيرُ ذاتَ يَوْمٍ في أحَدِ المُرُوجِ المُحِيطَةِ بِقَصْرِنا الرِّيفِيِّ إذْ رَأَتْ عَلَى مَسافَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْها حَيَّةً بَيْضاءَ، تَجِدُّ مُسْرِعَةً في الهَرَبِ، وَخَلْفَها ثُعْبانٌ أسْوَدُ يَجْرِي في أَثَرِها مُسْرِعًا في الطَّلَبِ، ثُمَّ لا يَلْبَثُ أنْ يُدْرِكَها وَيُمْسِكَ بِرَأسِها، وَيَلُفَّ ذَيْلَهُ عَلَى ذَيْلِها، وَيُوشِكَ أَنْ يَفْتِكَ بِها.

فَأَسْرَعَتْ أُمِّي إلَى نَجْدَةِ الحَيَّةِ البَيْضاءِ، وَقَذَفَتِ الثُّعْبانَ بِحَجَرٍ كَبيرٍ فَحَطَّمَتْ رَأْسَهُ وَقَتَلَتْهُ عَلَى الفَوْرِ. وَما كانَ أشَدَّ دَهْشَتَها حِينَ رَأَتِ الثُّعْبانَ الأَسْودَ يَتَحَوَّلُ بَعْدَ مَوْتِهِ في مِثْلِ لَمْحِ البَصَرِ كومَةً مِنْ رَمادٍ، وَتَنْتَفِضُ الحَيَّةُ البَيْضاءُ، فَإِذا هِيَ فَتاةٌ رائِعَةُ الجَمالِ، في رَيْعانِ صِباها، وَمُقْتَبَل شَبابِها، ثُمَّ تَقُولُ لِأُمِّي شاكِرَةً: «هَيْهاتَ أنْ يَضِيعَ عِنْدِي يا مَلِيكَةَ الإِنْسِ، ما أسْدَيْتِ إلَيَّ مِنْ مَعْرُوفٍ! وَما أنْسَ لا أنْسَ أنَّكِ أنْقَذْتِنِي مِنْ عَدُوِّيَ اللَّدُودِ بَعْدَ أنْ أوْشَكَ أنْ يُهْلِكَنِي. وَلَعَلَّ اللهَ يُقْدِرُنِي عَلَى رَدِّ الجَمِيل إلَيْكِ في يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ.»

ثمَّ أَشارَتْ فَتاةُ الجِنِّ بِيَدِها، فَانْشَقَّتِ الأرْضُ، وَسُرْعانَ ما غاصَتْ فِيها وَاسْتخْفتْ عَنِ الأَنْظارِ، وَعادتِ الأرْضُ كَما كانَتْ.

(٥) هَدِيَّةُ الجِنِّيَّةِ

وَمَرَّتْ عَلَى ذلِكَ الحادِثِ أعْوامٌ، ثُمَّ حَضَرَتْ فَتاةُ الجِنِّ إلَى أُمِّي يَوْمَ وَلَدَتْ أخِي «فاضِلًا»، وَأَهْدَتْ إلَى أُمِّي قارُورَةً صغِيرَةً مَلأَتْها مِنْ نَهْرِ «عَبْقَرَ»، وَأوْصَتْها أنْ تَمْزُجَ بِلَبَنِها قَطَراتٍ مِنْ مائِها، ثُمَّ تَسْقِيَ وَلِيدَها هذا المِزاجَ، فَلَنْ تَفْرُغَ الزُّجاجَةُ حَتَّى يُصْبِحَ الوَلِيدُ آمنًا مِنْ سِحْرِ كُلِّ ساحِرٍ، وَكَيْدِ كُلِّ كائِدٍ.

فَشَكَرَتْ لَها أُمِّي هَدِيَّتها، وَاتَّبَعَتْ نَصِيحَتها.

ثُمَّ جاءَتْ فَتاةُ الجِنِّ يَوْمَ وَلَدَتْنِي أُمِّي، فَأَحْضَرَتْ لَها مِثْلَ القارُورَةِ الصَّغِيرَةِ التي أحْضَرَتْها يَوْمَ وُلِدَ أخِي، وَأوْصَتْها أنْ تَسقِيَنِي مِنْها، كَما سَقَتْ أخِي مِنْ قَبْلُ.

وَقَدْ صَدَقَتْ فَتاة الجِنِّ فِيما قالَتْ؛ فَقَدْ مُسِخَ كُلُّ مَنْ في المَدِينَةِ مِنْ إنْسانٍ، وَطَيْرٍ وَحَيَوانٍ، وَنَجَوْتُ وَحْدِي مِنَ المَسْخِ؛ بِفَضْلِ ما شَرِبْتُ مِنْ ماءِ «عَبْقَرَ».»

وَما إِنْ أَتَمَّتِ الأَميرَةُ حَدِيثَها حَتَّى أَقْبَلَ شابٌّ بادي القُوَّةِ، لمْ يَشُكَّ الأَمِيرُ حِيَن رَآهُ، أنَّهُ شَقِيقُ الفَتاةِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤