الفصل السادس

(١) جَنَّةُ البَحْرِ

وانْطَلَقَ بِنا الزَّوْرَقُ فِي عُرْضِ البَحْرِ عَلَى غَيْرِ هُدًى، حَتَّى لاحَتْ لَنا تَباشِيرُ الصُّبْحِ، فَحَلَلْنا جَزِيرَةً كَثِيرَةَ الأَنْهارِ، وارِفَةَ الأَشْجارِ، دَانِيَةَ الثِّمارِ، تكادُ غُصُونُها تَمَسُّ الأَرْضَ لِوَفْرَةِ ما تَحْمِلُ مِنْ ناضِج الفَاكِهَةِ. وَكانَتْ تُخَيِّلُ لِمَنْ يَراها أَنَّها جَنَّةٌ مِنْ جَنَّاتِ الأَرْضِ. وَكانَ الجُوعُ والعَطَشُ قَدْ جَهَدانا وبَرَّحَا بِنا، فَأَكلْنا مِنْ لَذائِذِ فاكِهَتِهَا، وارْتَوَيْنا مِنْ عَذْبِ مائِها، وَحَمِدْنا اللهَ الَّذِي أَطْعَمَنا مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَنا مِنْ خَوْفٍ.

وَجَلَسْنا نَعْرِضُ ما مَرَّ بِنا مِنْ أَحْداثٍ وأَهْوالٍ، فَنَضْحَكُ مُتَفَكِّهينَ، بَعْدَ أَنْ نَجَوْنا مِنَ الخَطَرِ وَضَمِنَّا السَّلامَة.

وعَجِبْنا كيْفَ خَلَتْ هذِهِ الجنَّةُ النَّاضِرَةُ مِنَ النَّاسِ، فَقُلتُ لِصاحِبي: «لِأَمْرٍ مَا أَقْفَرَتْ هَذِهِ الجَزِيرَةُ، فَلَمْ يَعْمُرْها أحَدٌ مِنَ النَّاسِ؛ فَما أَظُنُّنا أَوَّلَ مَنْ حَلَّ بِأَرْضِها، وَأُعْجِبَ باعْتِدال جَوِّها وَلَذِيذِ فاكِهَتِها.»

فَقالَ: «الرَّأْيُ ما رَأَيْتَ. وَلَوْلا ذلِكَ، لَما خَلَتْ مِنْ أَهْلِيها، وَأَقْفَرَتْ مِنْ ساكِنِيها.» وَكَأنَّما أَجْرَى القَدَرُ هذهِ الكلِمةَ عَلَى لِسانِ صاحِبي عَلَى غَيْرِ مَعْرِفةٍ مِنْهُ بِما يَخْبَؤُهُ لهُ مِنْ أَحْداثٍ. وَقَضَيْنا نَهارَنا ولَيْلَنا في مَرَحٍ وابْتِهاجِ. وجَلَسْنا نَسْمُرُ في ضَوْءِ البَدْرِ، ثُمَّ نِمْنا عَلَى الحَشائِشِ الخُضْرِ المُحَلَّاةِ بِالأَزْهارِ ذاتِ الأَريجِ الفَوَّاحِ. وغَلَبَنِي التَّعَبُ، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ إلَّا في الضُّحَى. ولَمْ أَجِدْ صاحِبِي مَعِي، فَنادَيْتُهُ مَرَّاتٍ، فَلَمْ أَظْفَرْ بِغَيْرِ رَجْعِ الصَّدَى. وبَحَثْتُ عَنْهُ أُسْبُوعَيْنِ في أَنْحاءِ الجَزِيرَةِ، فَلَمْ أَعثُرْ لَهُ عَلَى أَثَرٍ، فَأَيْقَنْتُ أَنَّ كارِثَةً حَلَّتْ بِهِ، ويَئِسْتُ مِنْ لِقائِهِ.

وكُنْتُ أَتَمَنَّى لَوْ أَسْتَطِيعُ فِداءَهُ مِمَّا لَحِقَ بِهِ مِنَ المَكارِهِ، لَوْ كانَ يُجْدِي الفِداءُ. وا أسفًا عَلَيْهِ! لَقَدْ فَقَدْتُ فيهِ صَدِيقًا وَفِيًّا وأَمِينًا مُخْلِصًا، طالَما شارَكَني هُمُومِي وآلامِي، وأَعانَنِي في حِلِّي وتَرْحالِي، وحَمَلَ عَنِّي ما أَنُوءُ بِهِ مِنْ أَثْقالِ الحَياةِ، فَأَيُّ كارِثَةٍ فَرَّقَتْ بَيْني وبَيْنَهُ، بَعْدَ أَنْ نَجَوْنا مِنْ كُلِّ ما تَعَرَّضْنا لَهُ مِنْ فَوادِحِ الكَوارِثِ؟

ولاحَتْ لِعَيْنَيَّ في — اليَوْمِ الخامِسَ عَشَرَ — غابةٌ كثِيفَةٌ، فَيَمَّمْتُها، ورُحْتُ أَجُوسُ خِلالَ أَشْجارِها، فاعْتَرَضَني قَصْرٌ لَمْ أرَ لَهُ شَبِيهًا بَيْنَ قُصُورِ المُلُوكِ، تُحِيطُ بِهِ خَنادِقُ عَميقَةٌ واسِعَةٌ مَمْلُوءَةٌ ماءً. ورَأَيتُ عَلَى أحَدِها مَعْبَرًا مُتَحَرِّكًا أسْلَمَنِي إلى مَيْدانٍ فَسِيحٍ مُبَلَّطٍ بِالرُّخامِ الأَبْيَضِ، يُواجِهُ بابَ القَصْرِ. وَفي وَسَطِهِ فَتاةٌ بَهِيَّةُ الطَّلْعَةِ نائِمَة عَلَى سَرِيرٍ فاخِرٍ، تَرْتَدِي ثَوْبًا حَرِيرِيًّا مُطَرَّزًا بِنَفِيسِ اللَّآلِئِ، وعَلَى رَأْسِها تاجٌ مِنَ الذَّهَبِ مُرَصَّعٌ بِاليَواقِيتِ والزُّمُرُّدِ والْماسِ، وَفي رَقَبَتِها عِقْدٌ منَ الياقُوتِ النَّادِرِ، وفي وَسَطِهِ دُرَّةٌ كَبيرَةٌ لا تُقَوَّمُ بِمالٍ. ولُؤْلُؤَتانِ يَشِعُّ مِنْهُما نُورٌ باهِرٌ.

وقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ — حِينَ رَأَيْتُها — أنَّها تَتَأمَّلُني وتُنْعِمُ نَظَرَها فِيَّ. ولَمْ يَدُرْ بِخَلَدِي أنَّها تِمْثالٌ صامِتٌ لا حَراكَ بِهِ، ولا حَياةَ فِيهِ، كَيْفَ! وجَمالُها مُشْرِقٌ، وحُسْنُها زاهِرٌ، وخَدَّاها مُوَرَّدانِ يُؤَكدانِ لِمَنْ يَراهُما أنَّ دَمَ الحَياةِ يَجْرِي في عُرُوقِ الفتاةِ مُتَدَفِّقًا.

وكانَ بَرِيقُ عَيْنَيْها يُخَيِّلُ لِمَنْ يَراهُ كأَنَّما يُحَرِّكُهما الهُدْبُ، فَتَرْمِشُ بِهِما، فَلا يَتَمالَكُ أنْ يَبْدَأها بِالتَّحِيَّةِ.

يا لَلْعَجَبِ! أهذا تِمْثالٌ فاقدُ الحَياةِ؟ تُرَى أيُّ مَثَّالٍ أبْدَعَهُ؟ أمَّا السَّرِيرُ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ الفَتاةُ فَلَهُ دَرَجٌ، وعَلَى الدَّرَجِ خادِمانِ: أبْيَضُ وَأَسْوَدُ، وَبِيَدِ أَحَدِهِما رُمْحٌ مِنَ الفُولاذِ، وَبِيَدِ الآخَرِ سَيْفٌ ماضٍ يَكادُ سَناهُ يَخْطَفُ الأَبْصارَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِما لَوْحٌ مُعَلَّقٌ فِيهِ مِفْتاحٌ ذَهَبِي.

وَدَنَوْتُ مِنَ اللَّوْحِ، فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ نَقْشًا بَدِيعًا مَكْتُوبًا فِي وَسَطِهِ: «مَنْ قَدِمَ عَلَى هذِهِ الجَزيرَةِ، وَيَسَّرَ اللهُ لهُ دُخُولَ هذِهِ الغابَةِ، وَكَتَبَ لَهُ الوُصُولَ إلَى هذا المَكانِ، وَأَرادَ أنْ يَظْفَرَ بالقَصْرِ السَّعيدِ، فَلْيَأْخُذْ هذا المِفْتاحَ دُونَ أَنْ يَمَسَّنِي أَوْ يَمَسَّ مِنْ حالِيَتِي وَلآلِئِي شَيْئًا، فَإذا وَسْوَس لَهُ الشَّيْطانُ أنْ يُخالِفَ هذا النُّصْحَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّهْلُكَةِ، وَخَسِرَ سَعادَتَهُ وَحَياتَهُ جَميعًا.»

(٢) قَنَاعَةُ الأَمِيرِ

وَكان مِنْ حُسْنِ حَظِّي أَنِّي تَعَوَّدْتُ — مُنْذُ نَشأَتِيَ — الطَّاعَةَ، وَرُضْت نَفْسِي عَلَى القَناعَةِ، فاتَّبَعْتُ النُّصْحَ الَّذِي قَرَأْتُهُ، وَصَعِدْتُ الدَّرَجَ، وَأخَذْتُ مِفْتاحَ القَصْرِ مِنْ عُنُق الفَتاةِ، دُونَ أنْ يُساوِرَنِي الطَّمَعُ في أخْذِ ما عَداهُ. ثُمَّ تَقدَّمْتُ إلَى بابِ القَصْرِ، وَهُوَ مَصْنُوعٌ مِنْ خَشَبِ السَّرْوِ، وبِهِ نَقْشٌ بارِزٌ يُمَثِّلُ طائِفَةً مُخْتَلِفَةً مِنَ الطَّيْرِ، وَعَلَيْهِ قُفْلٌ كبِيرٌ مِنَ الذَّهَبِ عَلَى هَيْئةِ أَسَدٍ، فَما إِنْ وضَعْتُ المِفْتاحَ في القُفْلِ حَتَّى انْفَتَحَ قَبْلَ أنْ أُدِيرَ فِيهِ المِفْتاحَ، فَتَعَجَّبْتُ مِمَّا رَأَيْتُ. ولاحَتْ مِنِّي التِفاتةٌ، فأبْصَرْتُ سُلَّمًا مِنَ الرُّخامِ الأَسْوَدِ، فَصَعِدْتُهُ وَدَخَلْتُ بَهْوًا كبِيرًا مُزَيَّنًا بِالثُّرَيَّاتِ البَللُّورِيَّةِ والطَّنافِسِ الحَرِيرِيَّةِ المُذَهَّبَةِ، وبِهِ أرائِكُ مِنَ الدِّيباجِ المُذَهَّبِ، فَأَسْلَمَنِي إلى حُجْرَةٍ أُخْرَى ثَمِينَةِ الأَثاثِ. ونَظَرْتُ فَإذا سَيَّدَةٌ في مُقْتَبلِ شَبابِها، نائِمَةٌ عَلَى إحْدَى الأَرائِكِ، مُسْنِدَةٌ رَأْسَها إِلَى وِسادَةٍ حَرِيرِيَّةٍ، وقَدِ ارْتَدَتْ أَنْفَسَ الثِّيابِ، وإلَى جانِبِها نَضَدٌ مِنَ المَرْمَرِ.

واقْتَرَبْتُ مِنْها، فَرَأَيتُها مُغْمَضَةَ العَيْنَيْنِ. واسْتَمَعْتُ إلى أنْفاسِها الخافِتَةِ، فَتَبَيَّنَ لِي أنَّها لا تَزالُ عَلَى قَيْدِ الحَياةِ. وعَجِبْتُ لِوجُودِها وحْدَها في هذا القَصْرِ المُنْفَرِدِ في تِلْكَ الجَزِيرَةِ المُقْفِرَةِ. وخَطَرَ لِي أنْ أُوقِظَها مِنْ نَوْمِها، ولكِنَّنِي أحْجَمْتُ حَتَّى لا أُنَغِّصَ عَلَيْها صَفْوَ راحَتِها، وأُكَدِّرَ عَلَيْها هَناءَ رَقْدَتِها، فَغادَرْتُ القَصْرَ، مُعْتَزِمًا عَوْدَتي إلَيْهِ بَعْدَ ساعاتٍ.

(٣) عَجائِبُ الجَزِيرَةِ

ثُمَّ اسْتَأْنَفْتُ تَجْوالِي في الجَزِيرَةِ، فَرَأَيْتُ عَجائِبَ مِنْ طَيْرِها وَحَيَوانِها وَحَشَراتِها لم أَرَ لَها مَثِيلًا في غَيْرِها، فَقَدْ شَهِدْتُ مِنْ غَرائِبها مَخْلُوقاتٍ لا أَدْرِي كَيْفَ أُسَمِّيها، فَهِي تَبْدُو في هَيْئَةِ النَّمْلِ وَحَجْمِ النَّمِرَةِ. وَقَد حَسِبْتُها — أَوَّلَ ما رأَيتُها — مُفْتَرِسَةً، فَتَأَهَّبْتُ لَصِراعها. وَلكِنَّها أَسْرَعَتْ بِالفِرارِ حِينَ رَأَتْنِي. وَلَقِيتُ أَنْواعًا أُخْرَى مِنْ مُخْتَلِفِ الحَيَوانِ، تَبْعَثُ هَيْئَتُها عَلَى الرُّعْبِ وَالفَزَعِ. وَلكِنَّها سُرْعانَ ما نَفَرَتْ مِنَّي، وَحادَتْ عَنْ طَرِيقِي، دُونَ أَنْ تَمَسَّنِي بِأَذًى. وَعُدْتُ إلَى القَصْر بَعْدَ ساعَةٍ، فَرَأَيْتُ الفَتاةَ لا تَزالُ غارِقَةً في نَوْمِها.

(٤) انْتِباهُ الأَمِيرَةِ

واشْتَدَّتْ رَغْبَتَي في مُحادَثَتِها، لأَتَعرَّفَ طَرَفًا مِنْ قِصَّتِها؛ فَأَثَرْتُ شَيْئًا مِنَ الضَّجِيجِ، وَسَعَلْتُ مَرَّاتٍ، فَلَمْ تَسْتَيْقِظْ، فَدَنَوْتُ مِنْها وَحَرَّكْتُها بِيَدِي، فَلَمْ تَشْعُرْ وَلَمْ تَتَحَرَّكْ، فَاشْتَدَّ عَجَبِي وَساوَرَنِي الشَّكُّ فِي أَمْرِها، وقَلُتُ في نَفْسِي: «لَعَلَّها مَسْحُورَةٌ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى إيقاظِها مِنْ سُباتِها؟»

وانْتابَنِي اليَأْسُ مِنْ تَحْقِيقِ هذِهِ الغايَةِ، فَهَمَمْتُ بِالعَوْدَةِ. وَحانَتْ مِنِّي التِفاتَةٌ فرَأَيْتُ — عَلَى المائِدَةِ المَرْمَرِيَّةِ — الكَلِماتِ التَّالِيَةَ:

مَرْحَبًا بِكَ أَيُّها الأَمِينُ. لَقَدْ بَرَّأَكَ اللهُ مِنَ الطَّمَعِ، فَظَفِرْتَ بِالقَصْرِ السَّعِيدِ فاهْمِسْ فِي أُذُن الفَتاةِ باسْمِكَ واسِم أَبِيكَ وَجَدِّكَ، تَسْتيْقِظْ عَلَى الفَوْرِ مِنْ نَوْمِها العَمِيقِ.

فَأَذْعَنْتُ لِمَا أُمِرْتُ. وما إنْ نَطَقْتُ باسْمِي واسْمَيْ أَبِي وَجَدِّي حَتَّى تَنَفَّسَتِ الفَتاةُ الصُّعَداءَ، ثُمَّ فَتَحَتْ عَيْنَيْها وانْتَبَهَتْ. وَلَمْ تَكْنُ دَهْشَتُها لِرُؤْيَتِي بِأَقَلَّ مِنْ دَهْشَتِي لِرُؤْيَتِها، فَابْتَدَرَتْني قائِلَةً: «يا لَكَ مِنْ مِقْدامٍ شُجاعِ القَلْبِ، كَرِيمِ النَّفْسِ. وَلَوْلا ذلِك لَما تَخَطَّيْتَ العَوائِقَ والمُغْرِياتِ الَّتِي أهْلَكَتْ غَيْرَكَ مِمَّنْ حاوَلُوا دُخولَ القَصرِ. وَهِي — بِلا ريْبٍ — فَوْقَ مَقْدُورِ الأَناسِيِّ! تُرَى مَنْ تَكُونُ؟ أَجِنِّيٌّ أَنْتَ أَمْ مَلَكٌ؟»

فَقُلْتُ لَها: «كَلَّا يا سَيِّدَتِي، ما أَنا بِجِنِّي وَلا مَلَكٍ، بَلْ أَنا إنْسانٌ عادِيٌّ، قَدِمَ عَلَى هذِهِ الجَزِيرَةِ مُصادَفةً، وَساقَتْهُ قَدَماهُ — عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ — إلَى هذا القَصْرِ الَّذِي تَسْكُنِينَ، وَأَظْفَرَهُ الحَظُّ السَّعِيدُ بِمِفْتاحِهِ في غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلا عَناءٍ.»

فَقالَتِ الفَتاةُ: «لَنْ يَتِمَّ هذا إلَّا لِأَمِيرٍ فاضِلٍ كَرِيمٍ لا يُخامِرُ نَفْسَهُ الطَّمَعُ، وَلا تَفْتِنُهُ المُغْرِياتُ، فَمَنْ تَكُونُ؟»

فَرَوَيْتُ لَها ما لَقِيتُ في رِحْلَتِي مِنْ غَرائِبِ الأحْداثِ، وَكاشَفْتُها بِما شَعَرْتُ بِهِ مِنْ حُزْنٍ عَمِيقٍ لِفقْدانِ صَدِيقِي «كاشِفٍ» بَعْدَ أنْ نَجا كِلانا ممَّا تَعَرَّضَ لَهُ مِنْ مُهْلِكاتٍ.

(٥) حَدِيثُ البَبَّغاءِ

وَهُنا سَمِعْتُ صَوْتًا يَهْتِفُ قائِلًا: «لا تَأْسَفْ عَلَى صاحِبِكَ وَلا تَحْزَنْ، فَقَدْ أَهْلَكَهُ الطَّمَعُ. وَلَوْ خَلَصَتْ نَفْسُهُ مِنَ الجَشَعِ، كَما خَلَصَتْ مِنَ الخَوْفِ؛ لَكانَ جَدِيرًا مِثْلَكَ بِدُخُولِ هذا القَصْرِ السَّعيدِ.»

وَنَظَرْتُ فَرأَيْتُ بَبَّغاءَ فَصِيحَةَ اللِّسانِ تَنْطِقُ بِهذا الكَلام، فَسَأَلْتُها مُتَعَجِّبًا: «خَبِّرِينِي — بِاللهِ — كَيْفَ أَهْلَكَ الطَّمَعُ صَديقِي «كاشِفًا»؟»

فَقَالتِ البَبَّغاءُ: «كُنْ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ الطَّمَعَ وَمُخالَفَةَ النُّصْحِ هُما اللَّذانِ انْتَهَيا بِصاحِبِكَ إلَى الهَلاكِ؛ فَقَدْ رَأَى تِمْثالَ الفَتاةِ كَما رَأَيْتَهَ، وَأَغْراهُ الطَّمَعُ بِانْتِزاعِ العِقْدِ اللُّؤْلُئِي مِنْ جِيدِ الفَتاةِ، وَما كادَ يَلْمسُهُ حَتَّى ضَرَبَهُ أَحَدُ الحَارِسَيْنِ بِسَيْفِهِ، وَطَعَنَهُ الآخَرُ بِرُمْحِهِ، فَقُتِلَ مِنْ فَوْرِهِ، ثُمَّ جاءَتْ حَشَرَاتُ الجَزِيرَةِ وَحَيَوانُها فَأَكَلَتْهُ، وَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا، كَما أَكَلَتْ غَيْرَهُ مِنْ رُوَّادِ هذِهِ الجَزِيرَةِ الطَّامِعِينَ. وَلَوْ طَمِعْتَ مِثْلَهُ وَفَعَلْتَ فِعْلَهُ لَلَقِيتَ مِثْلَ مَصْرَعِهِ، فَقَدْ عُنِي مُبْدِعُ هذا التِّمْثالِ بِاخْتِبارِ مَنْ يَفِدُ عَلَى هذا القَصْرِ، فَنَثَرَ اللَّآلِئَ وَالأحْجارَ الكَرِيمَةَ حَوْلَ التِّمْثالِ لِيتَعَرَّفَ الطِّباعَ، بَعْدَ أَنْ نَقَشَ عَلَى اللَّوْحِ الَّذِي رَأَيْتَهُ إلَى جانِبِ التِّمْثالِ تَحْذِيرَهُ لِلطَّامِعِينَ وَإنْذارَهُ لِلْمُغامِرِينَ، فَإذا شَغَلَتِ النَّفائِسُ أحَدَ الرُّوَّادِ عَنْ مِفْتاحِ القَصْرِ كانَ غَيْرَ جَديرٍ بِالسَّعادَةِ، فَاحْمَدِ اللهَ عَلَى خُلُوصِ نَفْسِكَ مِنَ الطَّمَعِ فِيما لَيْسَ لَكَ، وَصَفاءِ قَلْبِكَ مِمَّا تَعَرَّضَ لَهُ صاحِبُكَ مِنَ الهَلاكِ، فَقَدْ وَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطانُ، فَاسْتَجابَ لَهُ، وَقالَ في نَفْسِهِ: «أَمِنْ أَجْلِ هذا التَّحْذيرِ السَّخِيفِ أَتْرُكُ هذِهِ النَّفائِسَ؟ وَلِمَنْ أَتْرُكُها؟ وَمَنْ ذا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أنْ يَحْرِمَنِي إيَّاها؟ وَهَلْ يَقْدِرُ تِمْثالٌ عاجِزٌ عَنِ الحرَكَةِ أَنْ يُعاقِبَ أَحَدًا؟»

(٦) في أَجْوازِ الفَضاءِ

فَلَمَّا انْتَهَتِ البَبَّغاءُ مِنْ كَلامِها تَمَلَّكَنِي العَجَبُ مِمَّا سَمِعْتُ، وَاشْتَدَّ بِي الأَسَفُ لِمَصْرَعِ صاحِبِي «كاشِفٍ» الَّذِي أَوْرَدَهُ الحِرْصُ مَوْرِدَ الهَلاكِ.

وَسَأَلتُ الفَتاةَ أنْ تُحَدِّثَنِي بِقِصَّتِها، وَكَيفَ حَلَّتْ بِهذا القَصْرِ، فَقالَتِ الفَتاةُ: «لِذلِكَ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ، إِنَّها مُفاجأَةٌ لَمْ تَكُنْ لِي في الحِسْبانِ وَلَمْ تَخْطُرْ لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِي عَلَى بالٍ، فَقَدْ …»

وَهُنا شَعَرْتُ أَنَّ يَدًا رَفِيقَةً تَرْفَعُنِي إلَى السَّمَاءِ، وَتَحْمِلُنِي مُحَلِّقَةً بِي في أَجْوَازِ الفَضاءِ. وَسُرْعَانَ مَا اسْتَخْفَى القَصْرُ والفَتَاةُ عَنْ نَاظِرَيَّ، وَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى رَأَيْتُنِي هَابِطًا إِلَى الأَرْضِ أَمَامَ بابِ المَدِينَةِ، دُونَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لِي: أَيُّ قُوَّةٍ خَفِيَّةٍ نَقَلَتْنِي مِنَ القَصْرِ السَّعِيدِ إلَى أَرْضِ الوَطَنِ في مِثْلِ لَمْحِ البَصَرِ؟

وَرَأَيْتُ جَيْشَ ضَيْفِنا العَزِيزِ مُرَابِطًا حَوْلَ المَدِينَةِ، فَسَأَلْتُهُمْ عَمَّا جاءَ بِهِمْ، فَلمْ يُخْفُوا عَنِّي شَيْئًا.»

(٧) مفاجَأةٌ جَدِيدَةٌ

وَأَرَادَ الأَمِيرُ أَنْ يُواصِلَ حَدِيثَهُ، لَوْلا أَنَّ مُفاجَأةً جَدِيدَةً عَقَدَتْ لِسانَهُ عَن الكَلام.

يَالَلْعَجَبِ! ها هِي ذِي فَتاةُ القَصْرِ السَّعِيدِ تَبْدُو ماثِلَةً أَمامَهُ! فَما إِنْ يَراهَا الأَمِيرُ «إقْبالٌ» حَتَّى يَخِفَّ إلَى لِقَائِها في لَهْفَةٍ وَشَوْقٍ، وَلا يَتَمَالَكَ أَنْ تَنِدَّ مِنْهُ صَرْخَةٌ مُتَحَيِّرَةٌ: «رَبَّاهُ! مَرْحَبًا بِكِ يا «وَادِعَةُ» وَا فَرْحَتَاهُ! مِنْ أَيْنَ قَدِمْتِ يَا أُخْتَاهُ؟ وَكَيْفَ كُتَبِتْ لَكِ النَّجاةُ؟»

فَقَالَ الأَميرُ «فاضِلٌ»: «مَا أَعْجَبَ مَا أَرَى وَأَسْمَعُ! أَلا مَا أَسْعَدَنِي بِلِقاءِ الأَخَوَيْنِ وَاجْتَماعِ الشَّتِيتَيْنِ.»

وَأَسْرَعَتْ «رَائَعةُ» إلَى ضَيْفِها «وَادِعَةَ» تُعانِقُها، وَتُرَحِّبُ بِها، وتُهَنِّئها بِسَلامَتِها وَاجْتماع شَمْلِها بِأخِيها.

(٨) قِصَّةُ الأَمِيرَةِ

وَاشْتَدَّ الشَّوْقُ إلَى تَعَرُّفِ قِصَّتِهَا، فَابْتَدَرَها أَخُوها قَائِلًا: «لَقَدِ انْقَطَعَتْ أَخْبارُكِ يَا «وادِعَةُ» حَتَّى كَادَ يَدِبُّ اليأْسُ إلَيْنَا مِنْ عَوْدَتِكِ بَعْدَ أَنْ أعْيَانَا البحْثُ عَنْكِ في كُلِّ مَكَانٍ، وَلا تَسْأَلِي عمَّا انْتَابَ أَبَاكِ المَلِكَ «عاصِمًا» مِنَ الأَلَمِ، فَقَدْ بَرَّحَ بِهِ الحُزْنُ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ الأَسَى؛ فَأسْلَمَاهُ إلى المَرَضِ.

ثُمَّ زَارَنِي في نَوْمِي شَيْخٌ مَهِيبُ الطَّلْعَةِ، رَائِعُ السَّمْتِ، فابْتَدَرَنِي بِالتَّحِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أُسْرِعَ بِالرَّحِيلِ مَعَ نُخْبَةٍ منْ جَيْشِي، لِأَنَّ مُفَاجَأةً سَعِيدَةً تَنْتَظِرُنِي بَعْدَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا قُمْتُ مِنْ نَوْمي حَسِبْتُ مَا رَأَيْتُهُ في المَنَامِ أَضْغَاثَ أَحْلامٍ، ثُمَّ تَكَرَّرَتِ الرُّؤْيَا في اليَوْمَيْنِ التَّالِيَيْنِ، فَلَمَّا قَصَصْتُها عَلَى أَبي أَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى مِثْلَ هذِهِ الرُّؤْيَا في ثَلاثِ اللَّيالِي الماضِيَة: أَمْسِ وَأَوَّلَ أَمْسِ وَأَوَّلَ مِنْ أمْسِ، وَسَمِعَ الشَّيْخَ يَأمُرُه أنْ يُعِدَّ السَّفَائِنَ لِتَرْحِيلِ وَلَدِهِ، في أقْرَبِ وَقْتٍ مُسْتَطَاعٍ، وَيُبَشِّرُهُ بِمُفَاجَأةٍ سعِيدَةٍ تَنْتَظِرُهُما في نِهَايَةِ هذِهِ الرِّحْلَةِ.

فَاطْمَأنَّتْ نَفْسِي، وَارْتَاحَ بَالِي لِمَا سَمِعْتُهُ مِنْ أبي، وَأبْحَرْتُ في صَباحِ اليَوْمِ التَّالِي مَعَ نُخْبَةٍ مِنْ أصْفِيائِي، وانْتَهَتِ الرِّحْلَةُ العَاصِفَةُ بِهذهِ الخَاتمَةِ السَّعِيدَةِ، فَخَبِّرِيني يَا أُخْتَاهُ، مَاذَا حَجَبَكِ عنَّا طُولَ هذا الوَقْتِ؟»

فَقالَتْ: «كُنْتُ نائِمَةً في مَخْدَعِي بِحَدِيقَةِ قَصْر الرَّبيعِ المُطِلَّةِ عَلَى البَحْر، وكانتِ اللَّيْلَةُ قَمْراءَ، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ مِنْ نَوْمِي إلا في أصِيلِ اليَوْمِ التَّالِي. ولا تَسَلْ عَنْ دَهْشَتي حِينَ رَأيتُ جَماعَةً مِنَ الغُرَباءِ يُحِيطُونَ بِي، وَيتَلَطَّفُونَ في تَسْكِينِ ثائِرَتي، ولا يأْلُونَ جُهْدًا في جَلْبِ الطُّمَأنِينَةِ إلَى نَفْسِي. ثُمَّ يَقُولُ لي كَبِيرُهُمْ مُتَوّدِّدًا: «لا تَخْشَيْ أيَّتُها الأَمِيرَةُ، ولا تَيئَسِي، فَلَنْ يَنالَكِ أذًى ولا سُوءٌ. إنَّ السَّعادَةَ لَتَنْتَظِرُكِ، فَقَدِ اخْتارَكِ مَوْلانا «مَرْمُوشٌ» مَلِيكُ الهِنْدِ الأَعْظَمُ، لِتَكُونِي عَرُوسَهُ، فَلَمَّا ضَنَّ عَلَيْهِ أبُوكِ بِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ عَرَضَ الأَمْرَ عَلَى وَزِيرِهِ «أُنْبُوشٍ» فأشارَ عَلَيْهِ بِاخْتِطافِكِ. ولَنْ تَلْقَيْ عِنْدَ مَليكِنا غَيْرَ السَّعادَةِ والهَناءِ.»

فَتَوَسَّلْتُ إلَيْهِمْ أنْ يُعِيدُوني إلَى أبي، فَلَمْ يُصْغِ إلى رَجائِي أحَدٌ، فَأَعْمَلْتُ الحِيلَةَ لِلتَّخَلُّصِ مِنْهُمْ، وسَأَلْتُ اللهَ أنْ يُلْهِمَني وجْهَ الصَّوابِ، ويُنْجِيَنِي مِنْ أسْرِ هؤُلاءِ الغاصِبِينَ.

وسارَتْ بِنا السَّفِينَةُ في البَحْرِ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ حَلَّتْ في صَباحِ اليَوْمِ التَّالِي بِشاطِئِ جَزيرَةٍ نائيَةٍ، فاقْتَرَح أحَدُهُمْ أنْ نَسْتَرِيحَ فِيها قَلِيلًا، ثُمَّ نَسْتَأنِفَ سَيْرَنا في صَباحِ اليَوْمِ التَّالِي. وقَضَيْنا ساعَةً مِنَ النَّهارِ تَفَرَّقَ فِيها أُولَئِكَ الرِّجالُ يَجُوبُونَ أنْحاءَ الجَزِيرَةِ، وَبقِيتُ مُنْفَرِدَةً إلَى المَساءِ دُونَ أنْ يَعُودَ مِنْهُمْ أحَدٌ، فَصَعِدْتُ إلَى شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ، ونِمْتُ بَيْنَ أغْصانِها إلَى الصَّباحِ وأنا أُفَكِّرُ فِي وسِيلَةٍ لِلْهَرَبِ مِنْها. ولَبِثْتُ في الجَزِيرَةِ أيَّامًا آكُلُ مِنْ ثِمارِها، وأشْرَبُ مِنْ مائِها، وأنامُ فَوْقَ أشْجارِها، وأجُوسُ في أنْحائِها، حَتَّى ساقَتْنِي قَدَمايَ — ذاتَ يَوْمٍ — إلَى غابةٍ كبِيرَةٍ انْتَهَى بِيَ السَّيْرُ فِيها إلَى القَصْرِ السَّعِيدِ.»

(٩) تَرْحِيبُ البَبَّغاءِ

وَهُنا حَدَّثَتْهُمُ الأَمِيرَةُ عنْ تِمْثالِ الفَتاةِ حَديثًا يَكادُ لا يَخْتَلِفُ عَمَّا حَدَّثَهُمْ بِه الأَمِيرُ «فاضِلٌ»، وَقَصَّتْ عَلَيْهِمْ كَيْفَ أَخَذَتْ مِفْتاحَ القَصْرِ السَّعِيدِ، دُونَ أَنْ يُغْرِيَها الطَّمَعُ بِاغْتِصابِ حُلِيِّها وَانْتِهابِ لآلِئِها، وَكَيْفَ فُتِحَ لَها بابُ القَصْرِ السَّعِيدِ عَلَى مِصْراعَيْهِ، وَكَيْفَ اسْتَقْبَلَتْها البَبَّغاءُ «صَبِيحَةُ» حارِسَةُ القَصْرِ، فَرْحانَةً بِمَقْدَمِها، وَكَيْفَ أَفْضَتْ إِليْها بِما لَقِيَهُ خاطِفُوها مِنْ جَزاءٍ عادِلٍ.

قالَت البَبَّغاءُ: «كانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّكِ أَنْ يُعَرِّجَ أَعْوانُ «مَرْمُوش» عَلَى هذِهِ الجَزِيرَةِ، بَعْدَ أَنْ نَثَرُوا في حُجْرَةِ نَوْمِكِ عِطْرًا مُرْقِدًا (مُنَوِّمًا) ثُمَّ خَطفُوكِ مِنْ قَصْرِ الرَّبِيعِ، دُونَ أَنْ يَفْطُنَ إلَى خَدِيعَتِهِمْ أَحَدٌ، لِيُقَدِّمُوكِ هَدِيةً لِلْمَلِكِ «مَرْمُوشٍ» فَسَأَلْتُ البَبَّغاءَ: «وَماذا كانَ مَصِيرُ الخاطِفِينَ؟»

فَقالَتْ «صَبيحَةُ»: «تَفَرَّقُوا يَتَنَزَّهُونَ في أَرْجاءِ الجَزِيرَةِ، وَشَغَلَهُمْ طِيبُ جَوِّها، وَجَمالُ هَوائِها، وَلَذِيذُ ثِمارِهَا، عَنِ العَوْدَةِ إلى بِلادِهِمْ. وَساقَهُمْ سُوءُ حَظِّهِمْ — واحِدًا بَعْدَ الآخَرِ — إلَى تِمْثالِ الفَتاةِ، فَشَغَلَتْهُمْ حُلِيُّها وَنَفائِسُها عَنْ مِفْتاحِ القَصْرِ، وَأَنْسَتْهُمْ ما قَرَءُوا مِنْ نَذِيرٍ وَتَحْذِيرٍ، فَقَتَلَهُمُ الحارِسانِ، وَأسْرَعَتْ إِلَيْهِمُ الضَّوارِي (الوُحُوشُ المُفْتَرِسَةُ) وَالحَشَراتُ، فَالْتَهَمَتْهُمْ في لَحَظاتٍ. وَهكَذا هَلَكُوا مُتَفَرِّقِينَ، دُونَ أنْ يَفْطُنَ أَحَدُهُمْ لِمَصْرَعِ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ الطَّامِعِينَ.»

وَسَأَلْتُ البَبَّغاءَ: «كَيْفَ يُتاحُ لِي الخُرُوجُ مِنْ هذِهِ الجَزِيرَةِ؟» فَقالَتْ: «لِكُلِّ شَيْءٍ أَوانٌ، وَلِكُلِّ زَرْعٍ إبَّانٌ (وَقْتٌ). وَسَيَتِمُّ خَلاصُكِ مِنْ كُرْبَتِكِ، وَإيقاظُكِ مِنْ نَوْمَتِكِ، عَلَى يَدِ أَمِيرٍ فاضِلٍ شُجاعٍ، سَيِّدٍ مُطاعٍ، كرِيمِ الأصْلِ، راجِحِ العَقْلِ، فَاصْبِرِي يا فَتاةُ، وَما صَبْرُكِ إلَّا باللهِ.»

(١٠) نَوْمٌ وَيَقَظَةٌ

وَهُنا شَعَرْتُ بِحاجَة إلَى النَّوْمِ، فَأَلقَيْتُ بِجِسْمِي المَجْهُودِ عَلَى سَرِيرٍ قَرِيبٍ. وَأَسْلَمْتُ جَفْنَيَّ لِلرُّقادِ، وَما زِلتُ نائِمَةً حَتَّى أَيْقَظَنِي هذا الأَمِيرُ الفَاضِلُ مِنْ سُباتِيَ العَمِيق.»

ثُمَّ قَصَّتِ الفَتاةُ ما دَارَ بَيْنَها وَبيْنَ الأَمِيرِ«فاضِلٍ» مِنْ حِوارٍ، وَكَيْفَ اسْتَخْفَى عَنْ عَيْنَيْها، وَغابَ عَنْ ناظِرَيْها، ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْها النَّوْمُ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا انْتَبَهَتْ مِنْ رُقادِها، رَأتِ القَصْرَ السَّعِيدَ قَدِ انْتَقَلَ إلَى هذِه المَدِينَةِ بِجِوارِ القَصْرِ المَلَكِّيِّ، وَسَمِعَتِ البَبَّغاءَ «صَبيحَةَ» تُنادِيها، وَتَرْجُوها أَنْ تُسْرعَ إلى لِقاءِ أخِيها وَتَدْعُوَهُ — مَعَ جُنْدِهِ وَأَصْحابِهِ — لِزِيارَةِ القَصْرِ السَّعِيدِ، لِيَتِمَّ عَلَى أيْدِيهِمْ ما بَدَءُوهُ مِنْ صَنِيعٍ مَجِيدٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤