كتاب حافظ

فلتُسمِّ الكلمة عروسًا
وليُطلَق على الروح اسمُ العريس،
ولقد عرف هذا الزفاف
كلُّ من مَجَّد حافظًا وأثنى عليه.

١

لقب
الشاعر :
قل لي يا محمد شمس الدين،
لِمَ أطلقَ عليك شعبك المجيد
لقب «حافظ»؟
حافظ :
أحمدُ لك سؤالك،
وأجيبك عنه.
فلأنِّي أحفظُ في ذاكرتي الواعية
إرثَ القرآن الكريم
وأحافظ عليه
— كما ينبغي على كل مؤمنٍ أمين —
حتى لا تمسَّني بسوءٍ عوادي السنين
أو تمسَّ كل من يرعى ويصون
كنز التنزيل الحكيم،
لهذا خلعوا عليَّ هذا اللقب (العظيم).
الشاعر :
ولهذا أودُّ يا حافظُ، كما يبدو لي،
ألا أقلَّ عنك (في هذا السبيل)،
فنحن حين نفكر كما يفكر الآخرون
نصبحُ معهم متشابهين.
هكذا أُشبهُك تمام الشبه،
أنا الذي طبعت نفسي
بالصورة الرائعة لكتبنا المقدسة.
كما انطبعت صورة السيد «المسيح»
على قماش ذلك الثوب «المشهور» بثوب الثياب،
وملأتُ صدري رضًا وسكينةً
بصورة الإيمان الخالصة
رغم (ما لقيتُ) من جحودٍ، وتعطيلٍ، واستهزاء.

•••

٢

اتهام
أتدرون مَن الذين تتربَّص بهم الشياطينُ
في الصحراء بين الصخور والأسوار؟
وكيف يتحيَّنُون الفرصةَ (السانحة)
لكي يسوقوهم إلى الجحيم؟
إنهم الكذابون والأوغاد.

•••

ولكن لماذا يُقبلُ الشاعرُ غير هيَّابٍ،
على الاختلاط بهؤلاء الأشرار!

•••

وهل يعرف من يتصرف دائمًا تصرَّف المجانين
من الذي يسيرُ أو يرافقه التجوال؟
إن حبه العنيد الذي يجعله يتخطَّى الحدود
يدفعه إلى القِفَار (يهيم فيها كالشَّريد)،
وقوافي شكاواه التي يسطِّرها على الرمال
تذروها على الفور الرياح،
إنه لا يفهم أو يعي ما يقول،
وما يقوله لا يتمسَّك به (ولا يحافظ عليه).
ومع ذلك فإنهم يتركون أغنيته تسيطر على القلوب
رغم أنها قد تكون متعارضة (مع أحكام) القرآن.
أمَّا أنتم يا فقهاء الشرع (الحكيم)،
أيها الراسخون في العلم والحكمة والإيمان،
فعلِّموا المسلمين الصالحين فروضَ الدين،
إن حافظًا على وجه الخصوص يسبِّبُ المتاعب والمضايقات،
وميرزا يشتِّتُ العقلَ (في متاهة) الظنون،
فقولوا لنا ماذا نأخذ وماذا ندع
(أيها الفقهاءُ العالمون)؟

٣

فتوى
إن أذواق حافظ (في قصائده وأغانيه)
تعبر عن الحق الراسخ المتين،
ولكنه يقع هنا وهناك في هَنَّات
تحيد به عن حدود الشرع (المبين).
لا بُدَّ أن تعرف، إن أردتَ السيرَ المأمون،
كيف تميزُ سُمَّ الأفاعي منَ الترياقِ
بَيْدَ أنك لو وهبت نفسك بوجدانٍ مرحٍ طَرُوب
للاستمتاع الخالص بالفعل النبيل،
وحميت نفسك عن طريق التدبُّر الحكيم
من تلك المُتَع التي لا تُعقِبُ غير الألم الدائم (الوبيل)
فسيكون ذلك هو أفضل سبيل لتوقِّي الزلل الوخيم.
هذا ما كتبه أبو السعود الفقير،
غفر الله ذنوبه أجمعين.

٤

الألماني يقدم الشكر
أصبت (كبدَ) الحقيقة، أيها الوليُّ الصالح أبو السعود!
والشاعر يتمنى (وجود) أمثالك من الأولياء؛
لأن تلك الهنَّات (الهيِّنات)
التي تحيدُ عن حدود الشرع
هي بعينها التراثُ الذي ينطلقُ فيه أيما انطلاق
وهو يشعرُ بالبهجة حتى في غمرة الأحزان.
ولا بُدَّ أن يبدو له السمُّ شبيهًا بالترياق
والترياق شبيهًا بسُمِّ الأفاعي
فلا هذا يقتله، ولا ذاك يداويه من الآلام،
لأن الحياة الحقَّةَ هي البراءة الخالدة للفعل
وهي تقدمُ الدليلَ على وجودها
بألا تصيب أحد سوى نفسها بالضرر والإيذاء.
وهكذا يأمل الشاعر الكهل،
أن تُحسِنَ الحورُ استقباله في جنة النعيم،
حين يبدو (لهنَّ في صورة) شابٌّ طاهرٍ وسيم.
يا وليَّ الله الصالح أبا السعود، لقد أصبت (كبدَ) الحقيقة!

٥

فتوى
قرأ المفتي قصائد «مصري»
واحدةً بعد واحدة، قرأها أجمعين،
ثُمَّ ألقاها في النار وقد بدا عليه التدبر والتفكير،
فاستحال الكتاب المُدوَّن بخط جميل إلى رماد.
فليُحرقْ كلُّ من يتكلَّم أو يعتقد مثل مصري،
هكذا قال القاضي الجليل — وأمَّا هو وحده،
فيُستثنى من عذاب النار؛
لأن الله منح الموهبةَ لكل شاعر،
فإن أساء استخدامها في غمرةِ ذنوبِه وخطاياه
فلينظرْ كيف يسوِّي أموره مع الله.

٦

بغير حدود
إنك لا تستطيع أن تنتهي، هذا ما يجعلك عظيمًا،
وكونُك لا تبدأ أبدًا، هذا هو قدرك.
أغنيتكم تدورُ دورة النجوم في السماء،
البدءُ فيها دائمًا والمنتهى سواء،
وما يأتي به الوسط، من الواضح للعيان
أنه هو الذي يبقى في النهاية، وهو الذي في البداية كان.

•••

أنت النبعُ الشعريُّ الأصيل للأفراح،
تتدفَّق منه بلا حصرٍ، موجةٌ بعد موجة.
فَمٌ متأهِّبٌ على الدوام للتقبيل،
وغناءٌ منبعثٌ تستثيره الرغبة في الشراب،
وقلبٌ حَنونٌ يفيض بما فيه.

•••

ولو يسقط العالم كله في الهاوية
فأنت يا حافظ، أنت وحدك الذي يلذُّ لي أن أنافسه!
فلنشترك معًا، نحن التوءمين،
في الفرح والألم!
وليكن سبيلُك في الحب كما في الشراب
هو موضع فخري ومناط حياتي.
ألا فلتُنغِّم أغنيتك بلهيبك المستعر!
فأنت (الشيخ) الأقدمُ (والشابُّ) المتجدِّدُ (العمر).

٧

محاكاة
أطمع أن أجد نفسي في (صنعة) قوافيك،
ولا بأس أيضًا في أن يعجبني التكرار،
وسأجد المعنى أوَّلًا، ثُمَّ أعثر كذلك على الألفاظ،
ولن أسمح لنغمةٍ أن تردَ في سمعي للمرة الثانية
إلا أن تردد معها معنًى جديد،
كما تفعل أنت أيها المُقدَّمُ على الجميع.

•••

فكما تقدرُ الشرارةُ على إحراق مدينة القيصر،
عندما تضطرمُ ألسنةُ اللهب الفظيع،
فتولِّد (من باطنها) الرياح، وتتوهَّجُ بهذه الرياح
حتى إذا انطفأت تلاشت في محيط النجوم:
كذلك راح يشتعلُ بنارك ويتوقَّدُ بالوهَج الخالد
قلبٌ ألمانيٌّ بُعثَت (فيه الحياة) من جديد.

•••

ألا إن في الإيقاعات الموزونة لسحرًا،
والموهبة لتفرحُ بها غاية الفرح،
لكن ما أسرعَ ما تتقزَّزُ منها النفس
(وتراها) أقنعة جوفاءَ بلا معنًى أو دم.
حتى الروح لا تظهرُ عليها السعادة،
حتى تضع حدًّا لذلك الشكل الميت
وتفكِّرُ في شكلٍ جديد.

٨

سر مكشوف
لقد سَمَّوكَ، يا حافظ المقدس،
باللسان الصوفي،
ولم يفهم فقهاء الألفاظ (هؤلاء)
قيمة كلماتك.

•••

إنهم ينعتونك بالصوفي.
لأنهم يتصورون (ألوان) الحمق في شعرك
ويتساقون خمرك العكرة
وهم يلهجون باسمك.

•••

لكنك صوفيٌّ خالص،
لمجرد أنهم لا يفهمونك،
أنت أيها (المؤمن) المبارك، بغير أن تكون (ورِعًا) تقيًّا!
وذلك ما لا يريدون الاعتراف به لك.

٩

تلميح
ومع ذلك فَهُم على حقٍّ، أولئك الذين أوجِّه إليهم اللوم،
فكون الكلمة لا تدل ببساطة على معناها الظاهر،
شيء لا بُدَّ أن يكون واضحًا بذاته.
إن الكلمة مروحة! ومن خلال العصي
ترنو عينان فاتنتان
ما المروحة إلا نسيج بديع،
أجل إنه يحجبُ الوجه عني،
ولكنه لا يُخفي الحسناء،
لأن أجمل ما تملكه، وهو عينها،
تبرق بريقًا ناصعًا في عيني.

١٠

إلى حافظ
إنك لتعلم ما يريده العباد،
وقد فهمته كل الفهم،
فالحنين يقيِّدنا أجمعين،
منَ التراب إلى العرش بقيوده الشِّداد.

•••

إنه ليؤلم أشد الألم، ثُمَّ لا يلبث أن يَسر،
ومن ذا الذي استطاع أن يتحداه؟
وإذا كان البعض قد كُسرت رقبته،
فالبعض الآخر باقٍ على (طبعه) المتهوِّر.

•••

اعذرني، يا مُعلِّم، فأنا كما عهدتني
كثيرًا ما أجاوز الحدود،
كلما أسرتني عيناها (وشدتني)
(شجرة) السرو المتقلِّبة المزاج،
إن قدمها لتخطر كشُعيرات الجذور
على الأرض وتخطبُ ودَّها!
وكالغيوم الخفيفة تذوب تحيتها
وأنفاسُها كنجوى العاشقين الشرقيين.

•••

كلٌّ هذا يدفعنا، في غمرة الهواجس والأحاسيس،
إلى حيث تشتبك الخصلة مع الخصلة،
وتنتفخُ في حلقات موفورة السُّمرة
ثُمَّ يُسمَعُ لها في الريح حفيف.

•••

عندها يتفتحُ الجبينُ ويُشْرِقُ
بالنور الذي يضيء قلبك،
تسمع أغنيةً عامرةً بالبهجة والصدق
تطوي فؤادك فيها وتغرق.

•••

وعندما تنفرجُ وتتحركُ الشِّفاه
بأعذب وأرقِّ غناء،
فإنها تحررك على الفور
فتضعُ نفسك (من جديد) في الأغلال.

•••

عندئذٍ يودُّ النَّفَس ألا يرجع،
وقد لاذت الروح بالروح،
وتموج الروائح العبقة بالسعادة (والمُجون)
وهي تسري كالسُّحُب لا تراها العيون.

•••

فإذا احترقَ (الجوفُ) واشتعلت فيه النار،
مددتَ يدكَ لقدح الخمرة
والساقي يذهب والساقي يجيء
يسقيك المَرة بعد المَرة.

•••

تبرق عيناه وتخفق نبضاتُ قلبه،
ويُمنِّي النفسَ بسماع حديثك
عندما ترتفع روحُك (على أجنحة) السُّكْر
فيفيضُ بأسمى المعاني.

•••

وينفتح أمامه فضاءُ العالم الرحيب
ويغمرُ أعماقه النور والنظام،
ينتفخ الصدر، ويبزغ على جلده الشَّعْر
ويتحول حقًّا إلى غلام.
وحين لا يخفى عليك سِرٌّ دفين
يطويه القلبُ والعالم،
تشيرُ بحبٍّ وإخلاصٍ للحكيم
ليُفضي بما عنده من معنًى مكنون.
كذلك لا تغيبُ عنكَ حاشية الأمير
حتى لا تفقد رضاهم
فتقول للشاه كلمةً طيبة
ولا تضنُّ بها على الوزير.

•••

كلُّ هذا تعرفه اليوم وتغنيه
كما ستغنيه غدًا وبعد غد،
بهذا تأخذنا صحبتُك بالمحبة والود
في أرجاء الحياة الخشنةِ والحياةِ التي تنعمُ بالهناء والرَّغَد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤