كتاب البارسي أو المجوسي

يرجع الشاعر في هذا الكتاب إلى موضوع الدين، وإن بقي في حدود العالم الدنيوي، على العكس من الكتاب التالي وهو كتاب الفردوس الذي يرسم فيه للآخرة والجنة صورةً مرِحة صافية تتفق — في ظنه — مع تصوُّر الإسلام والمسلمين. وقد جمع مادة الكتاب مما وجده عند أولياريوس وشاردان وغيرهما عن ديانة البارسيين أو المجوس القدماء من عبَدة النار في إيران، ثم ربط تلك المادة بتديُّنه «الطبيعي»، كما نظر إلى عبادة النار نظرةً تقرِّبها من رمزية النور الذي شغله طوال حياته، ورأى فيه أسمى تجلٍّ للقدرة الخالقة الفاعلة في كل الموجودات. ويقتصر هذا الكتاب — مثل كتاب تيمور — على قصيدتَين اثنتَين؛ إحداهما في شكل غنائي يكاد أن يكون ملحميًّا في طول نفسه واتساع رقعته، والأخرى قصيرة ولا تخلو أيضًا من التغني بالنور والشمس، التي تنضج الكَرمة بفضل نارها التي تتوهج من جديد في نار النشوة بالخمر.

قال عنه جوته في الإعلان عن ديوانه الشرقي في صحيفة الصباح لسنة ١٨١٦م: «هنا نجد عرضًا لديانة عبَدة النار، وهو أمرٌ حتَّمته الضرورة؛ إذ بغير فكرة واضحة عن هذه الديانة المُمعِنة في القِدم، ستظل التحولات التي طرأت على الشرق غامضة.»

ثم يقول عنه كذلك في عرضه لمضمون كتب الديوان في «التعليقات والأبحاث»: «إن المشاغل العديدة هي وحدها التي حالت بين الشاعر وبين عرض عبادة الشمس والنار — التي تبدو مجردة في ظاهرها وإن كانت مؤثِّرة من ناحية نتائجها العملية — عرضًا شعريًّا وافيًا تقتضيه المادة الرائعة. ونرجو أن يُقيَّض للشاعر التوفيق في تدارُك هذا النقص» (بتصرف عن بدوي، ص٣٠٣، ص٤٦٤، وطبعة هامبورج، ص٢٦٩، ص٢٠٦).

(١) وصية الديانة الفارسية القديمة

هذه القصيدة ترنيمة طقسية وليست عرَضًا وصفيًّا للأساطير المُرتبِطة بعبادة النار المقدَّسة في الديانة الإيرانية القديمة، سواءٌ قبل زرادشت أو بعده، وهي تقوم على موقف إنساني مؤثِّر ابتدعه خيال الشاعر، وهو وداع رجل بارسي أو ومجوسي — لعله كان أحد الكهنة المساكين المُتواضِعين في تلك الديانة — لإخوته وأبنائه الذين رعاهم ورعَوه أثناء حياته، وهي كما يدل عنوانها وصية هذا الكاهن المُخلِص المغمور التي تعبِّر عن قانون الطُّهر والقداسة المُرتبِطة بالنار والنور، وهو القانون الذي يُحاوِل الكاهن أن ينقش أوامره ونواهيه على صدورهم ساعةَ احتضاره وتوديعه لهم وللأرض والطبيعة والشمس التي تُعَد أعظم وأسمى رموزه. ويبدو أن جوته يجعل من هذه الوصية «إنجيل» تديُّنه الطبيعي، ويضمِّنها عقيدته الراسخة عن ضرورة التزام الإنسان بتقديس الحياة واحترامها، عن طريق فعله الدءوب المُنتِج والمُبدِع في كل لحظة من لحظات حياته المؤقَّتة على الأرض؛ والسبب في ذلك ببساطة هو أن الوجود في صميمه فعلٌ دائم، وأن كل الموجودات من أعظمها إلى أصغرها تعبِّر عن تجلي الفعَّال الأبدي في هذا الفعل الشامل الذي ينسج منه الخالق «ثوب الألوهية الحي على نول الزمان العاصف» (كما يعبِّر البيتان المشهوران (٥٠٨-٥٠٩) اللذان تقولهما الروح لفاوست في المنظر الأول من القسم الأول من فاوست). والحق أن هذه الرسالة الروحية التي يوجِّهها جوته على لسان الراعي المُحتضَر تصدر عن موقف فريد في الديوان الشرقي كله، وهو موقف الإطلال على الأرض والبشر قبل الموت، من خلال إنسان يقف على الجسر المُوصِل للأبدية، ويستطيع أن يغوص بنظرته في الكل، وأن يحلِّق صاعدًا إلى أعلى مستوياته ويهبط إلى أدناها بعاطفة الراحل الذي أحب كل شيء وبارك كل مخلوق، وحاوَل أن يعلِّم «رعيته» كيف يطهِّرون أرواحهم وأجسادهم. ومعلومٌ أن موقف الاحتضار هو أنسب موقف للتعبير عن مِثل هذا الكشف أو التجلي الذي يتوحَّد فيه النور الجزئي مع الإنسان مع النور الكلي، أو الذي يرجع إليه رجوع الشعاع إلى شمسه وقطرة الماء إلى بحرها. ومما يُذكَر أن جوته كتب هذه العبارة في مذكراته اليومية «الاعتراف الديني للبارسي»، وكان ذلك في نفس اليوم الذي كتب فيه هذه القصيدة المطوَّلة، وهو اليوم الثالث عشر من شهر مارس سنة ١٨١٥م. والجدير بالذِّكر أيضًا أن جوته قد صوَّر بقلمه الخلفية الحضارية والتاريخية للديانة الإيرانية القديمة بشكل مفصَّل ومُفعَم بالحب والتعاطف، يُمكِن أن يُغنِي القارئ عن المزيد من الشرح والتفسير، وذلك في تعليقاته وأبحاثه التي ذكرناها مرارًا في فقرة بعنوان «قدماء الفُرس»، ويكفي أن نُورِد منها هذه السطور التي يُمكِن أن تُلقي الضوء على حقيقة تلك الديانة الطبيعية والعملية القديمة، التي عُني جوته ببحثها ومعرفة آثارها الفكرية والأدبية الشحيحة؛ حتى يتعرف على بعض أصول الأدب والشعر الفارسي الحديث الذي كان له التأثير الأكبر على ديوانه الشرقي: «قامت عبادة الله عند البارسيين القدماء على تأمُّل الطبيعة؛ فقد كانوا يتوجَّهون أثناء تعبُّدهم للخالق إلى الشمس المُشرِقة، بوصفها أروع تجلياته وأكثرها لفتًا للانتباه، هنالك كانوا يعتقدون أنهم يرَون فيها عرش الله الذي تحفُّ به ملائكته تشع بالأنوار المتألِّقة، وكان كلُّ واحد منهم، حتى أقلهم شأنًا، يستطيع أن يُشارِك يوميًّا في مجد هذه العبادة التي تسمو بالقلب، وكان الفقير يخرج من كوخه، والمُحارِب يُغادِر خيمته، فيُتمُّ أكثر الأعمال تديُّنًا، وكان الطفل المولود يُعمَّد ببرَكة الأشعة الصادرة من تلك النار، كما كان البارسي يشعر، طوال اليوم كله وطوال العمر، بأنه مصحوب في كل أعماله بالكوكب الأصلي العظيم. والقمر والنجوم كانت تُضيء الليل، وكانت هي أيضًا بعيدة عن متناول يده وتنتمي إلى اللامحدود. أما النار فكانت موجودة إلى جوارهم تُضيء وتُدفئ على قدر قوتها. وكان أداء الصلوات في حضرة هذا الممثِّل للألوهية، والركوع أمام ذلك الذي شعروا بلا نهائيته، كان واجبًا دينيًّا مُمتِعًا لهم، ولا يوجد شيءٌ أطهر من شروق الشمس الصافي؛ ولذلك يجب على الإنسان إشعال النار والمحافظة عليها، إذا أراد أن يبقى مقدَّسًا وشبيهًا بالشمس. والظاهر أن زرادشت كان أول من حوَّل هذه الديانة النبيلة الطاهرة إلى عبادات ذات طقوس معقَّدة. والمهم مع ذلك هو ملاحظة أن قدماء البارسيين لم يقتصروا على عبادة النار؛ فديانتهم تقوم في الحقيقة على إضفاء الكرامة على جميع العناصر، وذلك بقدرِ ما تُعلِن عن وجود الله وقدرته؛ ومن هنا جاء تورُّعهم المقدَّس عن تدنيس الماء والهواء والتراب. وهذا التوقير لكل الأشياء الطبيعية التي تُحيط بالإنسان يقود إلى جميع الفضائل المدنية؛ فالانتباه والطهارة والاجتهاد يتم الحث عليها وتنميتها، وعلى أساسه أيضًا قامت فلاحة الأرض، فكما أنهم لا يدنِّسون أي نهر، كذلك كانت القنوات تُحفَر — مع الاعتناء الشديد بالادِّخار في الماء — ويُحافَظ على نظافتها، ومن جريان تلك القنوات كانت توفَّر الخصوبة للبلاد، حتى إن الزراعة في المملكة كانت تبلغ آنذاك في اتساعها عشرة أضعاف مساحتها اليوم. فكل «الأعمال» التي كانت الشمس تبتسم لها، كانت تؤدَّى بكل اجتهاد ونشاط، وكانت زراعة الكروم — وهي أعز بنات الشمس — تحظى قبل غيرها بعناية فائقة» (بتصرف عن ترجمة بدوي، من ص٣٨٢–ص٣٨٦، وكذلك طبعة هامبورج، المجلد الأول، من ص٣٣٥–ص٣٣٨). ولا شك عندي أن الشاعر قد كتب العبارة الأخيرة من النص الذي اخترناه من تعليقه الطويل وفي ذهنه القصيدة التالية لوصاية الديانة الفارسية القديمة؛ إذ يذكر في هذه القصيدة القصيرة (رقم ٢ من هذا الكتاب) مدى توقير الإنسان للأرض التي تُشرِق عليها الشمس، ويخصُّ بالتقدير الكَرمة «التي تبكي تحت السكين الحادة»؛ لأنها تشعر أن عصيرها سيُنعِش الدنيا. والفضل كله في نمو الكرمة وتوهُّج النشوة إنما يرجع للنار المقدَّسة والشمس المقدَّسة، وكلتاهما تمثِّل بصورة مجانية أسمى رمز للألوهية المتجلِّية في كل شيء «تبتسم له الشمس المُشرِقة». وقد استمد جوته التفصيلات والمعلومات الواردة في القصيدة من تقريرٍ وضعه الجغرافي الفرنسي نيكولا سانسون (١٦٠٠–١٦٦٧م)، وفيه وصفٌ لمقرِّ الكاهن البارسي في ضاحية جاورآباد — بالقرب من مدينة أصفهان — التي سمح الشاه عباس الأكبر بالإقامة فيها لأتباع تلك الديانة القديمة الذين تحمَّلوا الاضطهاد والمطارَدة زمنًا طويلًا. ودرناوند، وصحتها ديماوند، هي الاسم الذي كان يُطلِقه الرحَّالة في القرنَين السابع عشر والثامن عشر على الجبال الواقعة جنوبيَّ أصفهان. أما سندرود فهو اسم النهر الذي ينبع منها ويشق مجراه المدينة. وأما «الحي» الذي يُوصي الكاهن المُحتضَر في المقطوعة التاسعة بأن يسلِّموا الأموات إليه، فهو التعبير المهذَّب عن الطيور الجارحة التي تعيش على نهش الجثث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤