كتاب زليخا

حلمت في الليل أني
أرى القمر في المنام،
فلما صحوت من نومي
طلعت الشمس فجأة (على غير انتظار).

١

دعوة
عليك ألا تهرب من اليوم؛
لأن اليوم الذي تتعجله،
ليس أفضل من اليوم (الحاضر)،
لكنك لو أقمت في سرور،
حيث أتفادى العالمَ
لأجذب العالم إليَّ،
فسوف تشعر معي بالأمان:
اليوم هو اليوم، وغدًا هو الغد،
وما سوف يأتي وما قد مضى،
لا يأسر اللبَّ ولا يدوم على حاله.
لتبقَ أنت، يا أعز حبيب،
فأنت الذي تأتي به، وأنت الذي تعطيه.

٢

إن زليخا فُتنت بجمال يوسف
إن زليخا فُتنت بجمال يوسف،
فذلك شيء ليس عجيبًا،
كان شابًّا، وللشباب حُظوة،
كان جميلًا، ويُقال إلى حدِّ الفتنة،
وكانت جميلة، فاستطاع كلٌّ منهما أن يُسعد الآخر.
أمَّا أنك، يا من قُسمتَ لي من زمن طويل،
ترسلين إليَّ نظرات، شابة مشبوبة،
وتحبينني الآن، وستسعدينني فيما بعد،
فذلك ما يجدر بأغانيَّ أن تشدو بالثناء عليه،
ويجعلك عندي جديرة بأن تُسَمَّي إلى الأبد زليخا.

٣

لما كنت الآن تُسمَّين زليخا
لما كنت الآن تُسَمَّين زليخا،
فعليَّ كذلك أن أحمل اسمًا.
وعندما تتغنين بحبيبك،
فليكن حاتمُ هو اسمه،
كي يعرفني الناس به،
وليس في ذلك أي ادعاء،
فمن يدعو نفسه فارس القديس جرجس،
لا يتبادر إلى ذهنه أنه هو هذا القديس.
وأنا في فقري لا أملك أن أكون
حاتم الطائي أكرمَ الكرماء،
لا، ولا أتمنَّى أن أكون حاتم الطغرائي،
أغنى الشعراء الأحياء في زمانه،
لكن وضع الاثنين نُصب عيني
لن يكون بالأمر المعيب:
فأخْذُ هدايا السعادة وإعطاؤها
سيبقى على الدهر متعةً عظيمةً
وإسعاد حبيب لحبيبه،
سيكون نعيم الفردوس.

٤

حاتم
ليست الفرصة١ هي التي تخلق اللصوص،
فهي نفسها أكبر لص،
إذ سرقَت ما تبقى
من الحبِّ في قلبي.
لقد أسلمته إليك،
وهو أعظم ما فُزت به من حياتي،
فصرتُ، بعد أن أخنى عليَّ الفقر،
لا أتوقع الحياة إلا منك.

•••

غير أني أشعر بالإشفاق
في ياقوت نظرتك،
كما أسعد بين ذراعيك
بقَدَري الجديد.

٥

زليخا
في قمة الفرح بحبِّك،
لا أريد أن أذمَّ الفرصة،
حتى لو كانت هي اللص الذي سرقك،
فكم تسعدُني هذه السرقة!

•••

ولماذا تتكلم عن سرقة؟
هبني نفسك باختيارك الحر!
كم يطيب لي أن أتصور،
أنني أنا التي سرقتك.

•••

إن ما أعطيته عن طيب خاطر،
يعود عليك بكسب رائع،
طمأنينتي، حياتي الخصبة،
أهبها في فرح، فخذهما!

•••

لا تمزح! لا تتحدث عن فقرك!
ألا يجعلنا الحب أغنياء؟
حين أضمُّك بين ذراعيَّ،
لا تعدلُ سعادتي أي سعادة.

٦

ما خاب لصَبٍّ مسعاه
ما خاب لصبٍّ مسعاه،
مهما يشتد من الكرب،
لو تُبعث ليلى والمجنون
هديتهما درب الحب.

٧

أمن الممكن
أمن الممكن، يا حبيبي الصغير، أن ألاطفك،
وأستمع إلى رنين الصوت الإلهي؟
إن الوردة تبدو دائمًا مستحيلة
والبلبل يبدو عصيًّا على الفهم.٢

٨

زليخا :
عندما أبحَرَت بي السفينة في الفرات
انزلق من إصبعي الخاتم الذهبي
الذي تلقيته منك أخيرًا
في أغوار الماء.
هذا هو الحلم الذي رأيته.
وأومض الفجر في عيني خلال الشجرة،
قل يا شاعر، قُل يا نبي
ما هو تفسيرُ الحلم؟
حاتم :
أنا رهن إشارتك لتفسير الحلم!
ألم أحكِ لكِ أكثرَ من مرة،
كيف تزوَّجَ دوق البندقية
من البحر؟

•••

هكذا سقط الخاتم من أناملك
في مياه الفرات.
آه! كم تبعث فيَّ الشوق أيها الحلم العذب
للشدو بألف أغنية سماوية!

•••

أنا الذي جُبْتُ أرجاء البلاد
من هندوستان إلى دمشق،
لأرحل مع القوافل الجديدة
حتى البحر الأحمر.

•••

تُزوِّجينني من نهرك،
من الشرفةِ، ومن هذه الرابية،
لتبقى روحي حتى القبلة الأخيرة
منذورةً لك.

٩

أعرفُ نظرات الرجال
أعرف نظرات الرجال معرفةً وثيقة،
يقول الواحد منهم: «إنني أحب وأتعذَّب!
أشتهي وأعاني اليأس.»
وغير ذلك ما تعرف (أي) فتاة.
كلُّ هذا لن يجديني نفعًا،
كل هذا لن يؤثر عليَّ،
أمَّا نظراتك، يا حاتم،
فهي التي تمنح النهار ضياءه؛
لأنها تقول: هذه هي التي تعجبني،
أكثر من أي شيء آخر،
(وعندما أراها) أشاهد الورود والزنابق،
وكل ما تزدان به الحدائق،
من سَروٍ وريحان وبنَفسج
احتشدَت لتُزيِّن الأرض،
وعندما تتزينُ تكون معجزة،
تحوطُنا بالدهشة،
تُنعشُنا وتشفينا وتُباركنا،
فنشعرُ أنَّنا أصحَّاء
ثم نعود فنتمنى أن نمرضَ،
هنالك لمحت زليخا،
فأحسست بالعافية وأنت مريض
وبالمرض وأنت مُعافًى،
وابتسمت وتطلَّعت نحوها،
كما لم تبتسم للعالم من قبل.
وتشعر زليخا بحديثِ النظرة الأبديِّ:
«وهذه هي التي تعجبني
أكثر من أي شيء آخر.»

١٠

جنجوبيلوبا
ورقة هذه الشجرة التي جاءت من الشرق
وأودعت في حديقتي،
تُوحي للنفس بمعنى غامض
يشرح صدر العارف.

•••

أهي كائنٌ حيٌّ واحد،
انشقَّ على نفسه؟
أم اثنان اختار كلٌّ منهما الآخر
ليعرف الناس أنهما كائن واحد؟

•••

للإجابة عن هذا السؤال،
توصلت للمعنى الصحيح،
ألا تشعرين من أغنياتي
أنني واحدٌ واثنان؟

١١

زليخا :
قُل لي، لقد نظمت قصائد كثيرة
وأرسلت أغانيك هنا وهناك،
وكتبت بخط يدك الجميل،
كُتُبًا ساحرة الزينة،
فاخرة التجليد، مُذهبة الحوافي،
لم يُنقَص منها النقطة والشرطة،
ألم تكن حيثما وجَّهتها
رهن غرامٍ لا يحتمل الشك؟
حاتم :
أجل (كتبتها) عن النظراتِ الساحرة القوية،
والفتنةِ المبتسمة الآسرة،
عن الأسنان المبهرة الصفاء،
وسهام الأهدابِ، وثعابين الغدائر،
والجيد والصدرِ تُجللهما هالة سحرية
وعن آلاف الأخطار!
انظري الآن كيف كانت زليخا
منذورة لي منذ عهد بعيد.

١٢

زليخا :
طلعت الشمس! يا له من منظر بديع!
والهلال يعانقها.
من الذي استطاع أن يوحِّد هذين الزوجين؟
وكيف يُفسَّرُ هذا اللغز، كيف؟
حاتم :
السلطان هو الذي استطاع ذلك،
حينما زوَّج أعظمَ كوكبين في العالم،
ليُكرم المصطَفينَ (من رجاله)
وأشجع الشجعان — في ركابه الأمين.
لتكن هذه أيضًا صورة لسعادتنا!
فها أنا ذا أراني وأراك من جديد،
أنت أيتها الحبيبة تُسمِّينني شمسك،
فتعالَي يا قمري الحُلو، وعانقيني!

١٣

تعال أيها الحبيب تعال
«تعال! تعال أيها الحبيب، طوِّق رأسي بالعمامة،
فمن يدك وحدها تكون جميلة،
إن «عباس» على عرش إيران الأسمى،
لم يشهد رأسه أفخم منها زينة!»

•••

كانت عمامة تلك التي تدلَّت من رأس الإسكندر
على شكل شريط بأنشوطات بديعة،
وقد حازت إعجاب جميع خلفائه
بوصفها زينة تليق بالملوك.

•••

والعمامةُ هي التي تزيِّن (رأس) قيصرنا،
يسمونها التاج، ولا مُشاحةَ في الأسماء!
لتكن اللآلئ والجواهر للعيون فتنة!
فسيبقى الموصلين هو أجمل زينة.

•••

وهذا (الشال) الموصلين الوضَّاء المفوفُ بالفضة،
لُفَّه، يا حبيبُ، حولَ جبيني.
ثم ما هو السمُو وما هي العظمة؟ كلاهما ليس غريبًا عني!
يكفي أن تنظري إليَّ فأصبح عظيمًا مثله.

١٤

قليلٌ ما أطلبه
قليلٌ ما أطلبه،
لأن كل شيء يعجبني،
وهذه القليل يعطينيه العالم،
عن طيب خاطر من عهد بعيد.

•••

كثيرًا ما أجلس مسرورًا في الحانة
وصافي البال في بيتي الصغير،
لكن ما إن تخطري على بالي،
حتى تطمح روحي للغزو (والاقتحام).

•••

كان ينبغي أن تدين لك ممالك تيمور،
ويخضع جيشه المهيبُ لأوامرك،
وتدفع لك بدخشان الجزيةَ من الياقوت،
ويؤدِّيها بحر هُدقان منَ الفيروز.

•••

(وترسل لك) الفواكه المجففة حلوة كالشهد
من بُخَارَى، بلد الشمس،
وألف قصيدة شجيَّة اللحن،
على ورق الحرير من سمرقند.

•••

وكان حريًّا بكِ أن تقرئي بسرور،
كلَّ ما أوصيت لك به من هرمز،
وكيف كانت حركة التجارة كلها
لا تنشط إلا حُبًّا فيك.

•••

وكيف اجتهدت آلاف الأصابع
في بلاد البرهمانيين،
لتنقش بذَخَ هندوستان
بأزهى صورة على الصوف والحرير.

•••

أجل، وكيف فتَّش (العمال) إكرامًا للعشاق،
في جداول سملبور المتدفقة،
ليستخلصوا من الطين والفحم والحصى والرواسب،
جواهر الماس من أجلك.

•••

وكيف انتزع الغوَّاصون الجسورون
من الخليج كنوز اللؤلؤ،
ثم اجتهد ديوان المهرة العارفين
لينظموها لك.

•••

وكيف ستساهم البصرة في النهاية
بما عندها من توابل وبَخور،
وتأتي لك القافلة
بكل ما يبهج ويسر.

•••

لكن كل هذه الخيرات السَّنيَّة
قد تُزيغ البصر في النهاية،
والقلوبُ التي تعشق بحق،
لا يُسعدها سوى قربها بعضها من بعض.

١٥

هل كان من الممكن أن أتردد
هل كان من الممكن أن أترددَ،
يا حبيبتي الحُلوة في أن أهديَك،
بلخَ وبُخَارى وسَمرْقند،
وبذَخ هذه المدن وفتنتها؟

•••

لكن اسألي القيصرَ مرة،
هل يرضى أن يعطيَك هذه المدن؟
إنه (أعظم) مني وأحْكَم،
غير أنه لا يعرفُ الحب.

•••

أنت أيها الحاكمُ لن تَقدرَ
أن تهبَ مثلَ هذه الهدايا!
فلا بُدَّ أن تكونَ لك مثل هذه الفتاة
وأن تكون شحَّاذًا مثلي.

١٦

الصحائف المكتوبة بخط جميل
الصحائف المتباهية،
بالخط الجميل،
المذهَّبة بشكل رائع
دَعتْك للابتسام،
وصفحت عن تفاخري
بحبِّك ونجاحي
الذي كنتَ السبب فيه،
وغفرتْ مَدحي لذاتي.

•••

مدح الذات! إن رائحته لا يتقزز منها إلا الحُسَّاد،
لكنه ذكيُّ العطر عند الأصدقاء
وفي ذوقي أنا الخاص!

•••

الفرح بالوجود (شيءٌ) عظيم،
وأعظم منه أن تفرحَ بوجودك،
فعندما تسعدينني يا زليخا،
وتجودين بسخاء،
وتلقين إليَّ بحبِّكِ المشبوب
وكأنه كُرة
أتلقَّفها منك،
ثم أرد إليك
ذاتي الموهوبةَ لكِ،
فيا لها من لحظة!
ثم يأتي بعد ذلك الفرنجي،
وأحيانًا يأتي الأرمني فينتزعني منك.

•••

لكن الأيامَ تمر
وأستغرقُ الأعوامَ حتى أُبدعَ من جديد
فيضَ سخائكِ في آلاف الأشكال،
وأفكَّ خيطَ سعادتي الملوَّن،
الذي عقدته يا زليخا
في ألفِ عُقدة.

•••

لكن ها هي ذي الآن
لآلئُ شعرية،
ألقاها سيلُ عواطفك العارم
على شاطئ حياتي الموحش
التقطتها بأناقة
أناملُ نحيلة
ونظمتها في حليةٍ ذهبيةٍ مطعَّمةٍ باللؤلؤ،
فخُذِيها على جيدِك،
وضعيها على صدرِك!
إنها قطرات من مطرٍ إلهي
نضخك في محارٍ متواضع.

١٧

حبٌّ بحبٍّ
حبٌّ بحبٍّ، ساعةٌ بساعةٍ،
كلمةٌ بكلمةٍ، ونظرةٌ بنظرةٍ،
قبلةٌ بقبلةٍ، مِن أوفى ثغر،
ونفسٌ بنفسٍ، وسعادةٌ بسعادةٍ.
هكذا في المساءِ، هكذا في الصباح!
لكنك تحسين دائمًا من أغانيَّ
بهمومي الدفينة،
وبودي لو استعرتُ مفاتن يوسف
حتى أستجيبَ لحُسنك (وجمالك).

١٨

زليخا
الشعبُ والخادمُ والحُكَّام
يعترفون دائمًا وكل حين
بأن أسمى بهجة ينالها الإنسان
شخصية واحدة (واضحة الجبين).

•••

وتستوي أي حياة تُعاش،
إن أنتَ فيها النفس ما ضيَّعت،
فكلُّ شيءٍ ضائعٍ يهون
إذا بقيتَ دائمًا مَن أنت.

١٩

حاتم
ربما صحَّ ما تقولين! وهذا هو رأي الناس،
لكني أتبع أثرًا آخر:
فكل ما في الأرض من سعادة،
لا ألقاه إلا عند زليخا.
كلما أعطتني فأجْزلَت في العطاء،
علت قيمةُ ذاتي في عيني،
ولو أشاحت بوجهها عني،
لفقدتُ في نفس اللحظة ذاتي.

•••

وعندها يكونُ حاتم قد انتهى،
لكنني سأكونُ قد قررت تبديلَ نصيبي:
فأتقمَّص على وجه السرعة
ذلك الحبيب الذي تلاطفه.

•••

وأحاولُ، لا أقول أن أكونَ فقيقًا،
فذلكَ شيءٌ لا يناسبني
بل أكون الفردوسي أو المتنبي،
أو — إذا اقتضت الضرورةُ — القيصر.

٢٠

حاتم :
كما يزدان بازارُ الصائغِ بالجواهر
ذات الألوان العديدة والأضواء الصقيلة،
كذلك تحيطُ الفتيات الجميلات
بالشاعر الذي كادَ المشيبُ أن يعلوَ رأسه.
الفتيات :
أتُغنِّي لزليخا من جديد!
إننا لا نُطيقها،
لا بسببك أنت — بل بسبب أغانيك
التي نودُّ، بل لا بُدَّ أن نحسدها عليها.

•••

فحتى لو كانت بشعةً قبيحة،
فإنَّكَ تجعلها أجمل الكائنات
وهكذا قرأنا كثيرًا
عن جميل وبثينة.

•••

لكن لأننا في الحقيقة جميلات،
إننا نحبُّ أيضًا أن تصوِّرَنا،
وإذا نجحت في هذا وأحسنت البلاء،
فسوف نجزيك كذلك أجملَ الجزاء.
حاتم :
تعالَي يا سمراء! ستسير الأمورُ على ما يُرام.
فالغدائرُ، والأمشاطُ كبيرُها وصغيرُها
تزيِّن رأسَك الصغير الوضَّاء
كما تزِّين القبابُ المساجد.

•••

وأنت أيتها الشقراء الصغيرة، زينتُك بديعة،
لطيفةٌ ورقيقةٌ بكل المقاييس،
ولا يُلام المرءُ حين يراك،
إذا فكَّر على الفور في المئذنة.

•••

وأنتِ في الخلف لك عينان
يمكنكِ أن تنظري بكلٍّ منهما
على حِدة كما تشائين،
ومع ذلك عليَّ أن أتفاداك.

•••

والجفون المغمضة إغماضة خفيفة
التي تحجب الحدَقة وتغطِّيها،
نظرة أحدهما باللؤم والخديعة،
بينما الآخر نظرته طيِّبة بريئة.

•••

وإذا ألقى ذلك بصفارته الجارحة،
أومأ هذا بالوصل والنجاة
وليس في وسعي أن أعده سعيدًا،
من تُعْوِزه النظرةُ المزدوجة.

•••

وهكذا يمكنني أن أمدحكُنَّ جميعًا،
ويمكنني أن أحبُّكنَّ على السواء:
لأني كما صورتكنَّ في أسمى صورة
فقد صورت سيدتي معكن.
البنات :
يودُّ الشاعر أن يصبحَ عبدًا،
لأن ذلك يمكِّنه من السيطرة
ومع هذا سيرضيه قبلَ كل شيء
أن تغنِّيَ حبيبته بنفسها.

•••

فهل تستطيع إذن أن تغني،
كما يتحكم الغناء في شفاهنا؟
لأن تستُّرها في الخفاء
يثير حولها الريَب (والظنون).
حاتم :
ومَن ذا يعرفُ ما يملأ وجدانها!
وهل تعرفون قرارَ هذا العمق؟
إن الأغنية التي استشعرتها بنفسها تنبع من القلب،
والأغنية التي نظمتها بنفسها تنبعثُ من الفم.
لكن ليس فيكن جميعًا أيتها الشاعرات،
من تشبهها:
لأنها تغنِّي لكي تحوز إعجابي،
وأنتن تغنين ولا تحبين إلا أنفسكن.
البنات :
إننا نلاحظ أنكَ اختلقتَ أمامنا
صورة إحدى تلك الحوريَّات،
فليكن لك هذا! ما دامت لا تزعم
واحدةٌ على الأرض أنها منهن.
حاتم :
أيتها الغدائر: ائسريني
في دائرةِ الوجه!
فأنا لا أملكُ شيئًا أتقيكنَّ به
أيتها الحيَّات المحبوبة السمراء

•••

سوى هذا القلب، القلب الصامد،
الذي يفيضُ بازدهار الشباب،
وتحتَ الثلج وغَبش الضباب
يفور أمامكَ بركان يشبه (بركان) «آتنا».

•••

إنك تُخجِلين كما يفعلُ الفجر
الجدار المتجهِّم لتلك القمم،
ومرة أخرى يشعر حاتم
بأنفاسِ الربيع ولهيب الصيف.

•••

إليَّ أيها الساقي بزجاجةٍ أخرى.
فهذه الكأس سأحملها إليها.
وإن وجدَت فيها حفنة من رماد،
فسوف تقول: «لقد احترق في سبيلي.»
زليخا :
لا أريد أن أفقدكَ أبدًا!
فالحبُّ يهبُ الحب القوة.
ألا فلتزيِّن شبابي
بعاطفتك القوية الجارفة.

•••

آه! كم يتملق أحاسيسي
أن يمدحَ أحدٌ شاعري:
لأن الحياةَ هي الحب،
والروح هي حياة الحياة.

٢٢

لا تدعي فمك
لا تدعي فمك الياقوتيَّ العذب،
يلعن التطَفل والفُضول،
أهناكَ مبررٌ لألم الحب،
إلا أن يلتمسَ لنفسه الشفاء؟

٢٣

إن قدَّر الدهر يومًا
إن قدَّر الدهرُ يومًا
بالنأي عمَّن تحب،
وصار بُعدُك عنه
كبُعدِ شرقٍ وغرب،
يهيمُ عبر الفيافي
فؤادُك المُشتاق،
ما من رفيقٍ سواه
إن عَزَّ فيها الرفاق،
بغدادُ ليستْ بمنأى
عن أعينِ العُشَّاق.

٢٤

ألا ليت عالمكم
ألا ليتَ عالمَكم المكسور
يجْبُر نفسه دائمًا بنفسه!
إن لمَعانَ هذه العيون الصافية
وخَفقَ هذا القلب من أجلي!

٢٥

آه من كثرة الحواس
آه من كثرة عدد الحواس!
إنها تسبب للسعادة الارتباك.
أود حين أراك لو كنت أصم،
وحين أسمعك لو كنت أعمى.

٢٦

وحين أكون بعيدًا عنك
وحين أكونُ بعيدًا عنك فما أقربني منك!
يَعرُوني الهمُّ، يداهِمُني فيضُ عذاب
عندئذٍ أسمعُ صوتَك يترددُ بعد غِياب
فأراك وقد عُدت إليَّ (وعدت إليك).

٢٧

من أين لي صفاءُ البال
من أين لي صفاءُ البال،
وأنا بعيد عن النهار والنور؟
ها أنا ذا أريد أن أكتب،
وليس بي رغبةٌ في الشراب.

•••

عندما أسرَتني وجذبَتني إليها،
لم يكن من عادتنا الكلام،
وكما تعثَّر اللسان،
كذلك تعثَّر القلم.

•••

صُب أيها الساقي الحبيب!
املأ الكأس في صمت!
يكفي أن أقول: تذكَّر!
لكي تعرف ما أريد.

٢٨

عندما أتفكر فيك
عندما أتفكر فيك،
يسألني الساقي على الفور:
سيدي، لماذا تلزم الصمت؟
ألا تشعر بأن الساقي
يودُّ عن طيبِ خاطر
أن يستمع لدروسك باستمرار؟

•••

حين أنسى نفسي
تحت شجرة السَّرْو
لا يعبأ بذلكَ (ولا يهتم)،
وحين أجلسُ في الحلقة الهادئة،
أكون في منتهى الحِكمَة
والفِطنة مثل سليمان.

٢٩

كتاب زليخا
وددتُ لو جعلتُ هذا الكتابَ موجزًا
ليكونَ مُركَّزًا كسائر الكتب.
ولكن كيف يمكنُك اختصار الكلمات والصفحات،
عندما يذهب بك جنونُ الحبِّ كل مذهب؟

٣٠

إلى الأغصان المتشابكة الكثيفة
إلى الأغصان المتشابكةِ الكثيفة،
ألقي نظرةً أيتها الحبيبة!
وشاهدي الثمارَ التي تحوطها،
قشورٌ شوكيةٌ خضراء.

•••

إنها تتدلَّى متكورةً من وقتٍ طويل،
ساكنةً، ذاهلةً عن نفسها،
والغصنُ الذي يتأرجح ويهتز،
يهدهدها في صبر.

•••

ولا تفتأُ النواةُ السمراء
أن تتضحَ داخلها وتنتفخ،
تودُّ أن تستنشقَ الهواء،
وتحنُّ لرؤية الشمس.

•••

وتنفجرُ القِشرةُ فتهوى
إلى الأرض في حُبُور،
وكذلك تَسَّاقَط أغنياتي
متراكمةً في حجرك.

٣١

زليخا :
على حافة النبعِ المرِح،
تتلاعبُ خُيوط مياهه،
لم أدرِ ما الذي أوقفني،
لكن كانت منقوشة هناك
شفرتي السرية بخط يدك،
فنظرت في أعماقه مشتاقًا إليك.
هنا، عند نهاية القَناة
والميدان الرئيسي الذي تحفُّه الأشجار،
أرنو من جديد إلى أعلى،
وهناك ألمحُ مرة أخرى،
حروفيَ المرسومةَ بخطٍّ بديع:
ابقَ! ابقَ على عهدك لي.
حاتم :
ليتَ الماء الذي يتقافزُ ويتموَّج
وأشجار السرو تبوحُ لك
بأن غُدُوِّي ورواحي،
من زليخا إلى زليخا.

٣٢

زليخا :
ما إن ألقاكَ من جديد،
وأنعشكَ بقُبَلي وأغنياتي،
حتى تنطوي على نفسك في سكون،
ما الذي يضايقك ويُثقل عليك ويُضنيك؟
حاتم :
آه يا زليخا، أيحق لي أن أتكلم؟
وأنا بدلًا من أن أمدحَ، أتمنَّى أن أشكو!
كان دأبك من قبل أن تنشدي أغنياتي
فتكرِّرينها على الدوام وتُجدِّدي فيها.

•••

أينبغي عليَّ أن أمتدح هذه أيضًا
مع أنها ليست سوى أغانٍ دخيلة،
فلا هي من حافظ ولا نظامي،
ولا سعدي ولا جامي؟

•••

إنني لأعرف الكثير من أغاني الآباء،
مقْطعًا بعد مقْطع، ونَغَمةً بعد نغمة
وأحفظها وأعيها في ذاكرتي،
أمَّا هذه الأغاني فحديثةُ الولادة.
لقد نُظمت بالأمس
قولي! هل ارتبطت بحبٍّ جديد؟
وهل تنفثين بفرحٍ وجسارة
في وجهي نفَسًا غريبًا،
يبعثُ كذلك فيك الحياة،
ويسبحُ بك (في سماء) الحب،
ويجذبك إليه ويدعوك للاتحاد
في انسجامٍ كما فعلت أنفاسي؟
زليخا :
أمعَنَ حاتم في البعاد وأطال،
وتعلَّمت الفتاةُ شيئًا (جديدًا)،
كان قد تغنَّى بها أجملَ غناء،
وجرَّبَت الفراق فنجحت في الاختبار،
عسى ألا تبدو لك (هذه الأغاني) غريبة،
فهي أغاني زليخا، هي أغانيك.

٣٣

بهرامجور، فيما يُقال
بهرامجور، فيما يُقال، هو الذي اخترع القافية،
وعبَّرَ مسحورًا عن أعماق نفسه الصافية،
فأسرع ديلارام، رفيقة ساعاته،
وردت عليه بنفس الكلمة والنغمة.

•••

وهكذا يا حبيبتي، جعلك القدرُ مِن نصيبي،
ليتيحَ لي اكتشاف الطريقة الحلوة الرقيقةَ لاستخدام القافية،
فلم يَعد من حقي أن أحسد بهرامجور الساساني،
لأني توصَّلت لما توصَّل إليه.

•••

أنت التي أيقظت هذا الديوانَ في قلبي، أنت التي منحته،
لأن ما نطقتُ به في فرح من صميم الفؤاد،
كان صدى حياتك الحُلوةِ الصافية،
كاستجابة النظرةِ للنظرة، والقافيةِ للقافية.

•••

فلتتردَّد أنغامي ساعيةً إليك، ولو من بعيد،
فالكلمةُ تبلغ الهدفَ، ولا تمحو النغَمَ والصوت.
أليست هي الكلَّ المتجلِّي السامي للحب؟

٣٤

كانت سعادتي بنظرتك
كانت سعادتي بنظرتك،
بفمك، وصدْرك،
وسعادتي بسماعِ صوتك
هي لذَّتي الأولى والأخيرة.

•••

بالأمس، آه ذقت آخر لذَّة،
ثم انطفأ سِراجي وخَبَت ناري،
وكلُّ مزاح سرَّني وأمْتَعني،
صار باهظ الثمن، ثقيل الذنب.

•••

وقبل أن يشاء الله،
أن يُوحد بيننا مِن جديد،
لن تمنحني الشمسُ، والقمرُ والعالمُ،
إلا فرصةَ البكاء.

٣٥

زليخا
ما معنى هذه الحركة؟
هل تأتيني الريحُ الشرقيةُ بنبأٍ مُفْرح؟
إن رفيفَ جناحَيها المنعش
ليُرطِّب القلبَ العميق.

•••

إنها تلعبُ مع الغبار وتداعبه،
وتذروه إلى أعلى في غيوم خفيفة،
وتدفع نحو الكرمة الراسخة
بالأسراب المرحة للحشرات.

•••

وتُلطِّف بحنوٍّ وهَج الشمس،
كما ترطِّب وجنتيَّ الساخنتين،
وتقبِّل أثناءَ هروبها العناب،
المزهوَّة فوق الحقل والتل.

•••

ويأتيني همسُها الناعمُ
بألف تحيةٍ منَ الحبيب،
وقبل أن يلفَّ الظلامُ هذه الروابي
تُحيِّيني ألفُ قبلة.

•••

وهكذا يمكنك أن تواصلي السير!
وتعيني الأصدقاء والمحزونين،
وهناك حيث تتوهج الأسوار العالية
لن ألبثَ أن أجد أعزَّ الأحباب.

•••

آه. إن النبأ الصادقَ من (صميم القلب)،
ونسمة الحب، والحياة النَّضِرة
لن تأتيني إلا من فمه،
لن يمنحني إيَّاها إلا نَفَسه.

٣٦

صورة سامية
هليوس الإغريق، وهو الشمس،
يَعبُر في روعه طريقَ السماء،
ولثقته منَ السيطرة على الكون،
يتطلعُ حولَه، وتحتَه، وفوقه.

•••

يرى أجملَ الإلهاتِ باكية،
ابنة السحب، طفلةَ السماء،
ويبدو لها أنه لا يشرقُ إلا لأجلها،
ويَعمَى عن كل الفضاءات الصافية.
ويغوصُ في الألمِ والمطَر،
ويزدادُ انهمار دموعها،
ويرسلُ الفرح لأحزانها
وقُبلةً بعدَ قُبلةٍ لكلِّ لؤلؤة.

•••

وتستشعرُ بعمقٍ قوةَ نظرته،
وتتطلعُ إليه بغيرِ توقُّف،
وتريد اللآلئُ أن تتشكَّل،
إذ اتَّخذت كلٌّ منها صورته.

•••

وهكذا يشرقُ وجهها في صفاء
وقد كلَّله اللونُ والقوس،
ويتقدَّم نحوَها ليلتقيَ بها،
لكنَّه، وا أسفاه، لا يصل إليها.

•••

هكذا تتَخلِين عنِّي يا أعزَّ حبيبة،
بعدَ ما قرَّر القدَر قَراره القاسي،
ولو أني كنت هليوس العظيم،
فهل كان يُجْديني العرشُ المنصوب فوقَ العربة؟

٣٧

صدًى
ما أروعَ الرَّنين حين يُشبِّه الشاعرُ نفسه
مرةً بالشمس ومرةً أخرى بالقيصر،
إلا أنه يُخفي قَسمات وجهه الحزينة،
عندما يتسلَّل في الليالي المُعتِمة.

•••

غاصت زرقةُ السماء الناصعة في (ظلام) الليل،
بعد أن دثَّرتها السحب بسيورها،
وخدودي ضامرة كَساها الشحُوب
ودموع القلب كابية.

•••

لا تدعني هكذا لليل وحدي للألمْ،
يا أحبَّ الناس عندي أنت يا وجهَ القمرْ
أنت يا حاملةَ الضوء إليَّا
شمعتي أنتِ وشمسي
آه يا نورَ البصر!٣

٣٨

زليخا
آه أيتها الريح الغربية،
كم أحسدك على أجنحتك الرطبة النَّدية،
لأنك تستطيعين أن تنقلي إليه
ما أعانيه في بعدي عنه.

•••

إن رفيف أجنحتك
يوقظُ في مهجتي الحنين،
والزهور، والعيون، والغابات، والتلال
تهبُّ عليها أنفاسُك فتذرفُ الدموع.

•••

لكنَّ نسيمَك الرقيق الرحيم
يرطِّب الجفونَ الجريحة،
آه! سيقضي عليَّ الحزنُ بغيرِ إبطاء،
إذا فقدتُ الأملَ في لقائه من جديد.

•••

أسرعي إذن إلى حبيبي
واهمسي في قلبه بحنان،
ولكن حاذِري أن تُكدِّريه
وأخفي عنه آلامي.

•••

لكن قولي له، قولي بتواضع:
إن حبَّه هو حياتي،
والشعور البهيجَ بكليهما،
هو الذي سيمنحني القرب منه.

٣٩

لقاء من جديد
أمن الممكن يا نجمَ النجوم،
أن أضمَّكَ إلى قلبي من جديد؟
أوَّاه! يا لليلةَ البُعاد
من هاويةٍ، من ألمٍ (حاد).
أجل، هو أنت! شريكي العذب المحبوب
في أفراحي،
وكلما تفكرت في أحزان الماضي
ارتجفت خوفًا من الحاضر.

•••

لما كان العالم في أعمق أعماقه
يرقد على الصدر الأبدي لله،
أمر (سبحانه أن توجدَ) الساعة الأولى
بفرحة الخَلق الجليلةِ السامية،
ثم نطقَ بالكلمَة: «ليكُن عالم!»
هنالكَ رنَّت آهة أليمة.
عندما نفَذ الكونُ بقوة هائلة
في حنايا الواقع.
فجأة انبثق النور!
فانفصلَ عنه الظلامُ في خجَل،
وفرَّت العناصرُ في الحال
وهي تتفرَّق عن بعضها.
وفي أحلام وحشية مُجدِبة
اندفع كلٌّ منها بعيدًا،
وتجمد في الفضاءات الشاسعة،
بغير شوقٍ ولا نغَم.

•••

لفَّ الصمتُ والسكونُ والخواء كلَّ شيء،
وكان اللهُ وحيدًا لأول مرة!
عندئذٍ خلقَ الفَجر
الذي أخذته الشفقةُ على هذا العذاب،
فصنع من (العَماء) العَكر
لُعبة ألوانٍ رنَّانة،
وعندها استطاع أن يحبَّ مِن جديد،
كل ما تفرَّق عن بعضه.

•••

وبسعيٍ جادٍّ حثيث،
أخذ كلٌّ يبحث عن قرينه،
واتجه الشعورُ والنظر
نحو الحياة غير المحدودة.
يستوي الاستيلاءُ بالقوة أو الاختطافُ عُنوة،
فالمهمُّ أن يتماسكَ ويحافظ على وجوده،
لم يعد اللهُ بحاجةٍ لخلْقِ المزيد،
فنحنُ الذي نخلق عالَمه (من جديد).

•••

هكذا انجذبتُ بأجنحةٍ فجرية،
إلى ثَغرك (الحبيب)،
والليلُ بأختامه الألف،
وثَّق (عُرَى) اتحادنا على ضوء النجوم.
كلانا على هذه الأرض،
أنموذج للفرح والعذاب،
ولن تستطيع كلمة ثانية: ليكن عالم!
أن تُفرق بيننا للمرة الثانية.

٤٠

ليلة البدر
سيدتي، قولي لي، ما معنى (هذا) الهَمس؟
ما الذي يُحرِّك شفتيك في هدوء؟
إنك تنبسين لنفسك
بأعذبَ من رَشف الخَمر!
أتفكِّرين في إضافة شفتين
إلى شفتيك التوءمين؟
أريد أن أُقبِّل! أُقبِّل! قلت لك هذا.

•••

انظري! في الظلمة المريبة
تتوهَّج مُزدهرة كل الأغصان،
ويلعب نجمٌ يهوي في إثر نجم،
وتومض الأضواء الزمردية
آلاف الومضات خلال الأيك،
لكن روحك غائبةٌ عن كل شيء.

«أريد أن أُقبِّل! أُقبِّل! قلت لك هذا.»

إن حبيبك، وهو بعيد،
ممتحنٌ مثلك بالحُلو المر،
ويُحسُّ سعادته التعسة.
لقد تعاهدتما عهدًا مُقدَّسًا
على أن يحييك في ليلة البدر،
وهذه هي اللحظة (الموعودة).

«أريد أن أُقبِّل! أُقبِّل! قلت لك هذا.»

٤١

كتابة سرية
يا خبراء الوثائق٤
أعدوا العدة لكل الأمور،
وأشيروا على حُكَّامكم
فأحسنوا المشورة!
ولتنشغل الدنيا كلُّها
برسائل الشفرة السرية،
حتى تتَّخذ كل مسألة
وضعها الصحيح.

•••

ها هي ذي الشفرة الحلوة
من سيدتي بين يديَّ،
أستمتع بقراءتها.
لأنها هي التي ابتدعت هذا الفن،
إنه فيض الحب
في أحب مكانٍ إليَّ،
والنية الطاهرة الوفية
التي تؤلف بينها وبيني.

•••

إنها باقة بهيجة الألوان
من ألف زهرة وزهرة،
وبيت مأهول
بالمشاعر الملائكية،
وسماءٌ مُزيَّنة
بالريش من كل الألوان،
وبحٌ زاخرُ بأنغام الأغاني،
تهبُّ منه النسائم العطرة.

•••

هي كتابةٌ سريةٌ مزدوجة
تعبر عن طموح مطلق،
وتنفذ في عصب الحياة
كسهمٍ بعد سهم.
إنَّ هذا الذي كشفت لكم عنه
ظلَّ عادةً مرعيَّة،
وإذا فهمتم معناه،
فاسكتوا واستخدموه.

٤٢

انعكاس
لقد حصلتُ على مرآة،
أنظرُ فيها بشغف شديد،
كأنما عُلِّقَ على صدري وسامٌ
من القيصر لامع الوجهين،
لا لأني أحبُّ ذاتي،
وأبحث عنها في كلِّ مكان،
فأنا أحبُّ عشرة الناس،
وهو ما يَصْدق الآن على هذه الحالة.

•••

عندما أقفُ أمام المرآة
في بيت الأرمل الذي يلفُّه السكون،
تظهر حبيبتي على الفور
وتنظر فيَّ دون أن أشعر
وإذا أدرت ظهري بسرعة،
اختفت مَن كنتُ أراها،
عندئذٍ أنظرُ في أغانيَّ،
وسرعان ما تظهر من جديد.

•••

وأنا حريصٌ على تجويدها
وأنظِمُها دائمًا على هواي،
رغم حثالة النُّقاد والمستهزئين
ولمتعتي اليومية.
إن صورتها في القوالب الفخمة
تزيدها حسنًا وروعة،
بين الزخارف الوردية المذهَّبة
والأُطر اللازوردية الرشيقة.

٤٣

بأي ارتياح عميق
بأي ارتياحٍ عميقٍ عميق،
أحسُّ معناك أيتها الأغنية!
كأنك تقولين بحبٍّ صادقٍ،
إنني أعيش بجانبه.
وأنه سيفكر فيَّ للأبد،
ويهدي دائمًا نعيم حبه
للبعيدة النائية
التي نذرتْ حياتها له.

•••

أجل، إن قلبي هو المرآة،
التي ترى نفسَك فيها يا صديق،
وهذا الصدرُ هو الذي طبعت عليه
أختامك قُبلة فقبلة.
الشِّعر العذبُ، والحقيقةُ الطاهرة
تكبِّلانني (في أسر) التعاطف معك!
وتجسِّدان صفاءَ الحب
في ثوب الشعر.

٤٤

دع مرآة العالم للإسكندر
دع مرآة العالم للإسكندر
وماذا تبديه؟ هنا وهناك
شعوبًا وديعة يريد بالقهر والإرهاب
أن يُخضعها لسطوته مع غيرها من الشعوب.

•••

أمَّا أنت فكفَّ عن السعي إلى الغرباء!
وغنِّني أنا التي آثرتها بالغناء.
تذكر أنني أحب، وأنني أحيا الحياة،
وتذكر أنك غلبتني على أمري.

٤٥

العالم بأسره يخلب الأبصار
العالم بأسره يخلبُ بجماله الأبصار،
ولكن عالم الشُّعراء فائقُ الجمال،
ففي أجوائه الملوَّنة، مشرقة كانت أو فضية كابية،
تسطع الأضواء ليل نهار.
اليوم يبدو كلُّ شيءٍ رائعًا في عيني، ألا ليته يدوم!
فأنا أنظر اليوم بمنظار الحب.

٤٦

في وسعك أن تتخفى في آلاف الأشكال
في وُسعِك أن تتخفَّى في آلاف الأشكال،
لكن يا أغلى الناس سأعرفك على الفور،
قد تُخفين مُحيَّاك وراء الأقنعة السحرية،
يا حاضرةً في الكلِّ، سأعرفك على الفور.

•••

في شجرةِ سرو رائعةٍ ناضرة القدِّ،
يا فاتنةَ العود سأعرِفُكَ على الفور،
في وشوشة قناة صافية الموج،
أيتها العابثة سأعرفك على الفور.
وإذا ارتفعت نافورةُ ماء تتلوَّى،
يا مَنْ تهوين اللعبَ سأعرفُك على الفور،
وإذا لمحت عيناي سحابًا يتشكل.
يا من تتعدد أشكالك، أعرفك على الفور.

•••

في سَجَّاد المرج الأخضر تحت قناع الزهر،
أعرف حسنك، يا من زينتُك ضياء الأنجم والبدر
وإذا اللبلابةُ مَدَّت ألف ذراع نحو الأرض،
يا من عانقت الكُل سأعرفك على الفور.
وإذا اشتعل الجبل بنيران الفجر،
يا من أسعدت الكل أحييك على الفور،
ولو الأفق ترامت قُبَّته فوقي،
لتنفَّستُك يا مَن أنت سماءَ القلب.

•••

إن كنتُ عرفتُ بحسِّي الظاهر شيئًا أو باللُّب،
يا نبعَ العلم، فعلْمي منك.
أو سبَّحتُ بمائة من أسماء الله الحسنى،
سيردد كلُّ دعاء اسمًا لك.
١  يمكن أيضًا ترجمة الكلمة الأصلية بالظروف.
٢  نظمتها في البداية على هذه الصورة: «أمن الممكن أن ترضى بقُبلة، يا حبيبي وإلى الصدر أضمك، وإذا الهمس سرى في أذنيَّا، فهو لحن ساحر من شفتيك، وصدى الصوت الإلهي الذي، ترجف الروح له بين يديك، إنما الوردة تبدو مستحيلة، وكذا البلبل لغز لا يُحل.» ولكنني استبعدتها من المتن بسبب التصرف الشديد فيها.
٣  حرفيًّا أنت يا فسفوري وشمعتي، أنت يا شمسي ونوري.
٤  الكلمة الأصلية تعني الدبلوماسيين كما تعني الخبراء، وقد فضَّلت الأخيرة بحكم السياق، وإن كان المعنى الأوَّل محتملًا بسبب انعقاد مؤتمر فيينا في تلك الفترة في أعقاب الهزيمة التي ألحقتها الجيوش الأوروبية المتحالفة بنابليون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤