كتاب الساقي

١

نعم في الحانة
نعم، في الحانة جلستُ أنا أيضًا،
وقُدِّر لي ما قُدِّر لغيري،
راحوا يثرثرون، ويتصايحون، ويتشاجرون،
ويأخذون نصيبَ يومهم من الفرح والحزن،
أمَّا أنا فجلستُ سعيدًا من صميم قلبي،
وفكرتُ في حبيبتي — كيف تحب؟
هذا شيء، لا أعلمه، لكن الشيء الذي يعكر صفوي
هو أنني أحبها كما يأمر به القلب
الذي وهبها نفسه في إخلاص وتعلَّق بها كالعبد.
أين كان الرقُّ، وأين القلمُ، أين
اللذان سجَّلا كل شيء؟ ومع هذا فقد جرت الأمور هكذا!
نعم هكذا!

٢

لو جلست وحيدًا
لو جلستُ وحيدًا
أكون في حالٍ أفضل؟
خمري
أشربها وحدي،
لا أحدَ يفرض عليَّ قيودًا،
وبهذا أستقل بأفكاري.

٣

لقد وصل الحال
لقد وصل الحال بمولاي اللص،
أنه كتب حروفًا جميلة وهو سكران.

٤

هل القرآن قديم؟
هل القرآنُ قديم؟
شيءٌ لا أسألُ عنه!
هل هو مخلوق؟
شيءٌ لا أدريه.
أمَّا كَون القرآن كتاب الكتب
فهذا ما أعتقد ويفرضه واجبي كمسلم.
أمَّا أن الخمر قديم قِدَم الأزل
فذلك شيءٌ لا أتشكك فيه.
ولعل القول بأن الخمرة خُلقت قبل ملائكة الله،
ليس خيالًا وحديث خرافة؛
فالشارب، مهما يكن الحال،
يعاين وجه الله بعين أكثر نضرة.

٥

حقَّ علينا أجمعين
حقَّ علينا أجمعين السُّكْر!
إن الصِّبا سُكرٌ بغير خمر،
إن جدَّد الشيخ صباه بالشراب،
فإن ذا فضيلة وغاية الصواب،
حياتنا تكفَّلت بالغم والهموم،
والهم لا تطرده، إلا يد الكروم!

٦

الآن لا شك هناك
الآن لا شك هناك، لا سؤال،
حُرِّمت الخمر علينا لا جدال.
فإن قضى بشربها المقدور،
فاشرب إذن من أجودِ الخمور!
ستسحقُّ اللعن كالزِّنديق مرتين
إذا شربتَ ثم كان السُّكر بَيْن بَيْن!

٧

ما دام المرءُ في حالة الصحو
كلما كان المرءُ في حالة الصحو،
أعجبه الشر،
فإذا شَرِب،
عرف الخير،
لكنَّ الإفراط
أمرٌ وارد،
أي حافظ، علِّمني
كيف تصرفت في الزمر.
ذلك أن رأيي
لا مبالغة فيه،
إذا عجز المرء عن الشرب
فينبغي عليه ألا يحب
لكن عليكم أيها الشاربون
ألا تحسبوا أنكم في حالٍ أفضل،
إذا عجز المرء عن الحب،
فينبغي عليه ألا يشرب.

٨

زليخا :
ما الذي يجعلك فظًّا سمجًا في أكثر الأحيان؟
حاتم :
تعلمين أن الجسدَ سجن،
والنفس قد خُدعت لتدخل فيه،
فهي لا تملك حرية تحريك مرفقيها.
وإذا نشدت خلاصها هنا وهناك،
أحكموا إغلاق السجن نفسه بالسلاسل والأغلال،
هكذا تتعرض النفس الحبيبة لخطر مضاعف،
ولهذا السبب تتصرف في الغالب تصرفات غريبة.

٩

إذا كان الجسد سجنًا
إذا كان الجسد سجنًا،
فلماذا يعاني السجن من العطش الشديد؟
إن النفس تنعم فيه بالراحة
وتود لو بقيت مسرورة ومتزنة العقل راضية،
لكن ها هي ذي زجاجة خمرٍ تتوقُ للدخول إليه،
تتبعها زجاجة في إثر أخرى.
والنفس لا تقوى على التحمل والصبر،
ولهذا تريد أن تحطمها على الباب وتحولها إلى شظايا.

١٠

الشاعر يقول للنادل:

لا تضع الإبريق أيها الجلْف،
بهذه الفظاظة أمام أنفي!
من يقدِّم لي الخمر عليه أن يطالعني بوجهٍ صبيح،
وإلا تعكر صفو «الألفر» في كأسي.

ويقول للساقي:

أنت أيها الصبي المتأنِّق، تعادل ادخل،
ما الذي يجعلك تقف هناك على عتبة الباب؟
عليك من الآن أن تكون ساقي،
فتصبح الخمر (من يدك) حلوة صافية.

١١

الساقي يقول:

أنت بغدائر شعرك السمراء،
أغربي عن وجهي، أيتها البنت ذات البسمة الخبيثة!
إنني كلما سقيتُ سيدي أداءً لحق العرفان والوفاء،
(تفضَّل) فطبع قُبلة على جبيني.
أمَّا أنت فأراهن
أنك لهذا السبب غير راضية عني،
إن خديك ونهديك،
سيصيبان سيدي بالملل والسأم.

•••

أتظنين أنك قادرة على أن تخدعيني،
حين تبتعدينَ الآن في خجل؟
سوف أنام على عتبة الباب،
ثم أستيقظ عندما تَتسللين.

١٢

طالما لامونا
طالما لامونا
على السُّكر،
(لكنهم) لم يقولوا بعدُ كلَّ شيءٍ
عن سُكْرنا.
عادةً ما يسقطُ الإنسان
ضحية السكر حتى يطلع النهار،
غير أن نشوة سُكري
جعلتني أهيم (على وجهي) في الليل.
إنها هي سَكْرة الحب
التي تعذبني وتجعلني أستحقُّ الرثاء،
ومن النهار إلى الليل، ومن الليل إلى (طلوع) النهار،
تشيع في قلبي الخوفَ والاضطراب،
القلب الذي تستبدُّ به نشوة السُّكر
بالأغنيات فيجيش ويشمخ،
حتى ليتهيَّب أي سكر معتدل،
أن يشب فيه ويشْرئب.
إنها سَكْرة الحب والغناء والخمر،
سواءٌ في الليل أو في النهار،
وهي أسمى سَكرة إلهية،
تسحرني و(في نفس الوقت) تسقيني.

١٣

أنت أيها الوغد الصغير
أنت أيها الوغدُ الصغير أنت!
أن أظلَّ صاحيًا وفي وعيي،
هذا هو أهم شيء
بهذا أسعد أيضًا
حتى بحضورك،
أنت يا أحب الناس
وإن كنت تترنح من السُّكر.

١٤

يا للضوضاء في الحانة
يا للضوضاء التي ثارت
فجر اليوم في الحانة!
صاحبُ الحانة والفتيات، والمشاعلُ والناس!
وكم من مشاجراتٍ وشتائم!
كان الناي يرنُّ، والطبلة تدوي!
وشاعَ الاضطراب وعمَّ
مع ذلك كنت بنفسي هناك
ممتلئًا بالبهجة والحب.

•••

إني لن أتعلم شيئًا عن الأخلاق،
هذا ما يلومني عليه كل إنسان،
غير أني حريصٌ على البعد بحكمة وتدبُّر.
عن الخلاف بين المدارس والمنابر.

١٥

أي وضع هذا يا سيدي
الساقي :
أيُّ وضعٍ هذا يا سيدي! وكيف تتسلل اليوم
من غرفتك في هذا الوقت المتأخر،
إن الفرس يسمون هذا «بي دماغ بودن»١
والألمان يدعونه «بلاء القطط».٢
الشاعر :
دعني الآن، أيها الصبي العزيز،
فالعالم لا يروقُ لي،
لا منظر الوردة ولا أريجها،
ولا غناء البلابل.
الساقي :
وهذا هو الذي أريد معالجته،
وأحسب أني سأنجح فيه،
هاك! تذوق هذا اللوز الطازج،
وسوف تلذُّ لك الخمر من جديد.

•••

ثم أريد (أن أصحبَك) إلى الشرفة
وأرويك بالأنسام المنعشة،
وكما أضعُك في عيني
ستهب الساقي قُبلة.

•••

انظر! ليس العالم كهفًا،
فهو يزدخر دائمًا بالأشرار والأوكار،
(كما يزْخر) بعطر وزيت الورد،
والبلبل يشدو أيضًا كالأمس.

١٦

تلك العجوز القبيحة
تلك العجوز القبيحة!
تلك اللَّعوب،
يسمونها الدنيا
وقد خدعتني
كما خدعتني سائر النساء،
أخذت مني الإيمان،
ثم الأمل،
وها هي قد حاولت
أن تسلبني الحب،
فلُذتُ بالفرار.
ولكي أحافظَ للأبد
على الكنز الذي أنقذته،
قسمته بحكمة
بين زليخا والساقي.
وكلُّ واحدٍ منهما
ينافس الآخر
في تسديدُ فوائد أكبر.
وأنا الآن أغنى من أيِّ وقت مضى،
فقد استرددت الإيمان!
الإيمان بحبها.
وهو مع الكأس
يضمن لي الإحساس الرائع بالحاضر!
وبماذا ينفع الأمل هنا!

١٧

اليوم أكلت بشهية
الساقي :
اليوم أكلت بشهية،
لكنك أفرطت في الشراب،
والذي نسيته أثناء الطعام
سقط في هذا الإناء.

•••

انظر! إننا نسميه «البجعة الصغيرة»
التي تلذُّ للضيف الشبعان،
وهو ما سأحمله لبجعتي
التي تتبختر على الأمواج.

•••

ومع ذلك يزعم الناس على البجع المغرِّد،
أنه ينعى نفسه وهو (على حافة) القبر،
(ليتك) تُوفر عليَّ سماع أي أغنية
يمكن أن تشير إلى نهايتك.

١٨

إنهم يسمونك الشاعر العظيم
الساقي :
إنهم يسمونك الشاعر العظيم،
عندما تظهر (لهم) في السوق،
وأنا يطيب لي أن أسمعك حين تغني،
وأن أنصت، حين تصمت!

•••

بَيْدَ أنني أزداد حُبًّا لك،
عندما تمنح قُبلة للذكرى،
ذلك أن الكلمات تزول،
أمَّا القُبلة فتبقى في الأعماق.

•••

إن (نظم) القافية في إثر القافية لا يخلو من معنى،
لكن الأفضل هو الإمعان في التفكير،
فغنِّ أنت لسائر الناس
والزم الصمت مع الساقي.

١٩

تعال أيها الساقي
الشاعر :
تعال أيها الساقي! هاتِ كأسًا أخرى!
الساقي :
سيدي، لقد شربتَ بما فيه الكفاية،
وهم يسمونك الشريب المتوحش!
الشاعر :
هل رأيتني مرة واحدة أسقط من السكر؟
الساقي :
إن مُحَمَّدًا يحرِّمها.
الشاعر :
يا صغيري العزيز!
لن يسمع أحدًا ما سأقوله لك.
الساقي :
عندما تتكلم على راحتك،
لا أجد في نفسي حاجة للسؤال.
الشاعر :
أنصت إليَّ! إننا نحن المسلمين
ينبغي علينا أن نبقى في حالة الصحو واعين،
أمَّا الشاعر فيودُّ في حماسه المقدس،
أن يبقى وحده في حالة الجنون.

٢٠

تذكَّر يا سيدي
الساقي :
تذكَّر يا سيدي! أنك حين تشرب،
يفور من حولك اللهب!
وتئزُّ ألف شرارةٍ وتومض،
وأنك لا تدري أين ستستقر.

•••

أرى الرهبان في الزوايا والأركان،
عندما تضربُ (بيدك) على المائدة،
وهم يتخفون في رياء ونفاق،
بينما تفتح قلبك على اتساعه.

•••

لكن قل لي، لماذا كان الشباب،
وهو بعدُ غير بريء من الأخطاء
وتعوزه كل الفضائل،
أحكم بكثير من الشيخوخة؟
إنك تعرف كل ما تطويه السماء،
وكل ما تحمله الأرض،
وأنت لا تُخفي الاضطراب
الذي يجيش به صدرك.
حاتم :
لهذا السبب بعينه، يا فتاي العزيز،
عليك أن تبقى شابًّا وأن تظل حكيمًا،
صحيح أن الشعر هبةٌ من السماء.
لكنه في الحياة الأرضية غِشٌّ وخداع.
على المرء أن يشبَّ أوَّلًا (في حضن) الأسرار،
ثم يأخذ في الثرثرة في الصباح والمساء!
عبثًا يلجأ الشاعر للكتمان،
فقول الشعر نفسه خيانة.

٢١

ليلة صيف
الشاعر :
انحدرت الشمس للمغيب،
لكن (أشعَّتها) مازالت تلمعُ في الغرب،
وأود أن أعرف إلى متى
سيستمرُّ هذا البريقُ اللامع كالذهب.
الساقي :
إن شئت، يا سيدي، بقيت
منتظرًا خارج هذه الخيام،
فإذا تمكن الليل من البريق،
جئت على الفور وأخبرتك.

•••

فأنا أعلم أنك تحبُّ التطلع
(للأفق) البعيد اللامتناهي،
عندما تتبادل المديح والثناء
تلك النيران المتوقدة في الزرقة.

•••

وأنصعها ضوءًا يريد وحسب أن يقول:
وأنا ألمع الآن في مكاني،
ولو شاء الله أن يمدَّ في عمرك
لمعتَ أيضًا مثل لمعاني.

•••

لأن كل شيء في نظر الله رائع عظيم.
وعلَّة ذلك أنه هو الأعظم،
وهكذا تنام الآن جميع الطيور
كلُّ في عُشه الكبير والصغير.

•••

ويتربع أحدُها عاليًا هناك
فوق أغصان السَّرو،
حيث تهدهده الريحُ الفاترة
حتى تُرطب الهواء أنداء الفجر.

•••

أنت الذي علَّمتني هذا
أو شيئًا آخر يشبهه،
وكل ما سمعته في حياتي منك،
لن يُفلت أبدًا من القلب.
لأجلك أريد أن أكون بومة
تجثم هنا على الشرفة،
حتى أستطيع أن ألاحظ
الانقلاب الثاني للنجم القطبي.

•••

عندها يحلُّ منتصف الليل،
حيث تصحو مبكرًا في أكثر الأحيان،
وعندها سيكون من أروع الأمور
أن تتأملَ معي الكونَ في إعجاب.
الشاعر :
صحيحٌ أن البلبلَ يشدو طول الليل
في هذا العطر وهذا البستان،
لكنك قد تضطر للانتظار طويلًا
قبل أن يتمكن الليلُ (من تحقيق) ما تقول.

•••

ففي هذا الوقت من أوقات «فلورا»
كان يسميها شَعب الإغريق،
تهيم الأرملة «أورورا»
متيمةً بحب «هسبيروس».

•••

تلفت حولك! إنها آتية! يا للسرعة!
وخُطاها تخطُر فوقَ حقول الزَّهر!
وتسطع الأضواء هنا وهناك،
حتى تضيق على الليل الخناق.

•••

وعلى أقدامها الوردية الخفيفة
تسرع كالمجنونة للحاق
بذلك الذي لاذ بالفرار مع الشمس،
ألا تشعر بلفحة الغرام؟

•••

اذهب الآن، يا أعزَّ الأبناء،
وتوارَ داخلَ البيت وأغلقِ الأبواب،
لأنها تريدُ أن تخطفَ جمالك
معتقدةً أنك أنت هسبيروس.

٢٢

الساقي (وهو نعسان)
الساقي :
هكذا تعلمتُ منك مع الصبر الطويل:
حضور الله في جميع العناصر.
كم كنتَ حنونًا وحبيبًا وأنت تمنحني هذا!
لكن أحبَّ الأشياء جميعًا أنك تحب.
حاتم :
إنه ينام بعذوبة ومن حقِّه أن ينام.
أنت أيها الصبي الطَّيب! لقد سقيتني،
(ومن كأس) الصديق والمعلم، بغير قهر ولا عقاب،
تعلمتَ وأنت في ميعة الشباب كيف يفكِّر العجوز
والآن ينسكبُ فيضُ الصحة والعافية
في أعضائك فتتجددُ قُواك.
إنني ما زلتُ أواصلُ الشُّرب، لكنني ساكنٌ أتمَّ سكون،
حتى لا تُضطرَّ أن تصحو من نومك كي تُسعدني برؤيتك.
١  فارسية معناها: «يصير بلا دماغ»، أي يذهب عقله من السُّكر والخمر (عن بدوي، ص٢٢٧).
٢  أي التدويخ الناجم عن شدة السُّكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤