الفصل الأول

ما الوعي؟

المشكلة الصعبة للوعي

ما الوعي؟ قد يبدو هذا سؤالًا بسيطًا، لكنه ليس كذلك؛ فالوعي هو أكثر الأشياء التي يمكننا بحْثُها وضوحًا، وأكثرها غموضًا في الوقت نفسه. يبدو أنه يلزمنا إما استخدام الوعي لدراسته هو نفسه! وهي فكرة غريبة نوعًا ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهودًا مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضًا أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة، بل رفضوا أيضًا دراستَها؛ النقطة الإيجابية أن «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءًا من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْمًا؟ وما الوعي على أي حال؟

لا يعني ذلك أن الغموض قد اختفى تمامًا، فالواقع أنه لا يزال متغلغِلًا في هذا الأمر كما كان دائمًا، الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة على نحوٍ مباشِرٍ. كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربية من ملايين الخلايا الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟

إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي، فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك الكثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّا للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى ونظرياتٍ ميكانيكيةً كميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير، لكن أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة أو «الهوَّةَ السحيقة» بين العالمين المادي والعقلي؛ وما دام هؤلاء الأشخاص يتجاهلون تلك المشكلة، فإنهم لن يتعاملوا بفاعلية مع الوعي بأي حالٍ من الأحوال.

fig1
شكل ١-١: لم ينجح أحدٌ بعدُ في سدِّ الهوَّةِ السحيقة أو الفجوةِ الكبيرة بين ما هو داخلي وما هو خارجي، أو بين العقل والدماغ؛ أو بين ما هو ذاتي وما هو غير ذاتي.

تلك المسألة ليسَتْ إلا تجسيدًا معاصرًا لمسألة العقل-الجسد الشهيرة التي حيَّرَتِ الفلاسفةَ على مدى أكثر من ألفَيْ عام. المشكلة أنه فيما يتعلَّق بالتجربة الإنسانية العادية، يبدو أن هناك نوعَيْن من الأشياء مختلفَيْن تمام الاختلاف، دون وجود وسيلة واضحة لربطهما معًا.

من ناحيةٍ، هناك تجاربُنا الذاتية؛ فيمكنني الآن مثلًا أن أرى المنازلَ والأشجار الموجودة على تلٍّ بعيدٍ، وأن أسمع بوقَ السياراتِ على الطريق الرئيسي، وأن أستمتِعَ بدفء غرفتي وحميميتها، وأن أتساءلَ إن كان صوتُ الخدش الذي أسمعه صادرًا من القطة التي تودُّ أن تدخل غرفتي؛ كلُّ تلك الأشياء تجاربُ خاصة، ولديها طابع لا يمكنني نقله إلى أي شخصٍ آخَر. قد أتساءل: هل تجربتُكَ مع اللون الأخضر هي نفس تجربتي معه؟ أو هل تشم للقهوة نفس الرائحة التي أشمها؟ لكن لا يمكنني الجواب عن ذلك أبدًا. تلك التجارب غير القابلة للوصف هي ما يطلِق عليه الفلاسفة اسمَ «التجارب الواعية الذاتية» (وإنْ كان هناك اختلافٌ كبيرٌ حول وجودِ تلك التجارب من الأساس)؛ فحُمْرة ذلك الكوب الأحمر الزاهي هي تجربة واعية ذاتية، وهكذا الحال مع نعومة ملمس فرو قطتي ورائحة القهوة. تبدو تلك التجارب حقيقيةً وواضحةً ولا سبيل إلى إنكارها؛ إنها تشكِّلُ العالمَ الذي أحيا فيه، بل إنها كلُّ ما أملك.

ومن ناحية أخرى، فإني موقِنة كلَّ اليقين بأنَّ هناك عالَمًا ماديًّا خارجيًّا يتسبَّبُ في حدوث تلك التجارب. قد تراودني الشكوكُ بشأن تكوين هذا العالَم أو بشأن طبيعته الأكثر تحديدًا، لكني لا أشكُّ في وجوده؛ فإني إنْ أنكرتُ وجودَه، فلن أتمكَّنَ من تفسير السببِ الذي سيجعل القطةَ تندفع على الأرجح إلى الداخل إذا ذهبتُ إلى الباب وفتحْتُه، والذي سيجعلك تقرُّ بأن آثار الأقدام الموحلة الموجودة على مكتبي — إن أنت أتيتَ إلى هنا — هي للقطة.

المشكلة أن هذين النوعين من الأشياء يبدو أحدهما مختلفًا عن الآخَر تمامًا؛ فهناك أشياءُ مادية حقيقية ذات حجمٍ وشكلٍ ووزنٍ وصفاتٍ أخرى يمكن قياسها والاتفاق عليها، وهناك التجارب الذاتية مثل الشعور بالألم أو إدراك لونِ تلك التفاحة التي أراها أمامي الآن.

على مرِّ التاريخ تبنَّى كثير من الناس قدرًا من فكرة الثنائية؛ بمعنى أنهم آمنوا بوجود عالَمَيْن مختلفين فعلًا، وهذا هو الحال في معظم الثقافات غير الغربية اليوم، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن هذا الأمر ينطبق على معظم المثقَّفين الغربيين أيضًا. وتكاد الأديان السماوية الكبرى تكون ثنائيةً تمامًا؛ فالمسيحيون والمسلمون يؤمنون بوجود روح غير مادية وخالدة. والهندوس يؤمنون بمفهوم الآتمان؛ أي الذات الداخلية المقدسة، البوذية وحدها هي التي ترفض فكرةَ الروح أو النفس الداخلية الدائمة. وحتى بين الأفراد الذي لا يَدينون بأيِّ دين، تسود فكرةُ الثنائية في الثقافات الغربية؛ فنظريات حركة العصر الجديد تتحدث عن قوى العقل والوعي والروح كما لو كانت قوًى مستقِلةً بعضها عن بعض، ويؤكِّد المعالجون بالطب البديل تأثيرَ العقل على الجسد كما لو أنهما كيانان أحدهما منفصل عن الآخَر. تلك الثنائية متغلغلة في لغتنا، حتى إننا قد نقول «عقلي» أو «جسدي»، وكأنَّ «أنا» كيانٌ مستقِلٌّ عن «كلَيْهما».

في القرن السابع عشر، اقترَحَ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠) رسميًّا أشهرَ نظريات الثنائية؛ تُعرَف هذه النظرية باسم الثنائية الديكارتية، وتقوم على فكرة أن العقل والدماغ يتكوَّنان من موادَّ مختلفة. ووفقًا لديكارت، فإن العقل غير ماديٍّ وغير ممتدٍّ (بمعنى أنه لا يحتلُّ حيِّزًا أو مكانًا)، بينما الجسد — وباقي العالم المادي — يتكوَّن من مادة مادية ممتدة. المشكلة في هذه النظرية واضحة؛ كيف يتفاعل الجانبان؟ اقترح ديكارت أنهما يلتقيان في الغدة الصنوبرية الدقيقة في منتصف الدماغ، لكن هذا يحلُّ جزءًا بسيطًا من المشكلة؛ فالغدة الصنوبرية كيانٌ مادي، والثنائية الديكارتية لا تقدِّم تفسيرًا للسبب وراء إمكانية تفاعُلها — وحدها — مع العالم العقلي.

مشكلة التفاعل هذه تفسد أيَّ محاولة لوضع نظريةٍ ثنائيةٍ، ومن المرجَّح أن يكون ذلك هو السببَ وراء رفض كثيرٍ من الفلاسفة والعلماء جميعَ أشكال الثنائية رفضًا تامًّا لصالح فكرة الأحادية. لكن الخيارات المتاحة قليلة وإشكالية في الوقت نفسه؛ فالمثاليون — على سبيل المثال — يجعلون العقلَ عنصرًا أساسيًّا، لكنْ يتعيَّن عليهم حينئذٍ أن يفسِّروا كيف ولماذا يبدو أن هناك عالَمًا ماديًّا متَّسِقًا. أما الأحاديون المعتدلون فيرفضون فكرة الثنائية، ولكنهم يختلفون حول الطبيعة الأساسية للعالَمِ وكيفية توحيده. يوجد خيار ثالث هو المادية، وهو أكثر المذاهب شهرةً بين العلماء اليوم؛ يعتقد الماديون أن المادة هي الأساس، لكنهم حينئذٍ يجدون أنفسهم بصددِ المسألة التي يدور حولها هذا الكتاب؛ كيف يتسنَّى لهم تفسير الوعي؟ كيف يمكن لدماغٍ ماديٍّ — مكوَّن من مواد مادية خالصة — أن يتسبَّبَ في تجارب واعية ذاتية يتعذَّرُ وصفُها؟

يُطلَق على تلك المشكلة اسم «المشكلة الصعبة» للوعي؛ وهي عبارة صاغها عام ١٩٩٤ الفيلسوفُ الأسترالي ديفيد تشالمرز. أراد تشالمرز التمييزَ بين هذه المشكلة الخطيرة الكاسحة وما أسماه «المشكلات السهلة»، ووفقًا لما ذكره، فإن المشكلات السهلة هي تلك التي نعرف كيف نحلها من حيث المبدأ، حتى إن لم نكن قد حلَلْناها بعدُ، وتتضمَّنُ هذه المشكلاتُ الإدراكَ الحسي، أو التعلُّمَ، أو الانتباهَ، أو الذاكرةَ، وكيفيةَ تمييزِ الأشياء أو الاستجابة للمؤثِّرات وكيف يختلف النوم عن اليقظة؛ كل هذه الأمور مشكلات سهلة على حدِّ قوله إذا ما قُورِنت بالمشكلة الصعبة حقًّا الخاصة بالتجربة نفسها.

fig2
شكل ١-٢: فسَّرَ ديكارت الاستجاباتِ الانعكاسيةَ للألم في ضوء الاستجابات الميكانيكية وتدفُّق «أرواحٍ حيوانيةٍ» في أنابيب دقيقة. لكن عند الحديث عن التجارب الواعية، اقترَحَ أنها جزءٌ من عالَمٍ عقليٍّ مختلفٍ تمامًا ومتَّصلٍ بالجسد المادي من خلال الغدة الصنوبرية الموجودة في منتصف الدماغ.

لا يتَّفِق الجميعُ مع تشالمرز؛ فالبعض يزعم أن المشكلةَ الصعبة لا وجودَ لها، وأنها تعتمد على مفهوم خاطئ عن الوعي، أو على التقليل الكبير من أهمية المشكلات «السهلة». تطلِق الفيلسوفة الأمريكية باتريشيا تشيرتشلاند على هذا الأمر اسمَ «مشكلة خداعية»، قائلةً: إننا لا نستطيع أن نقرِّرَ سلفًا أي مشكلة سيتضح أنها الأصعبُ حقًّا، وتقول: إن هذه المشكلة تنبع من الحدْس الخاطئ بأننا إذا فسَّرْنا الإدراكَ الحسي والذاكرة والانتباه وكل التفاصيل الأخرى، فسوف يتبقَّى شيء؛ هو «الوعي نفسه».

تلك اعتراضات مهمة؛ ولذا فإنه علينا قبل أن نستفيض في الحديث، أن نوضِّحَ أولًا ماذا يعني «الوعي نفسه».

تعريف الوعي

كيف يكون الحال لو كنتَ خفَّاشًا؟ احتلَّ ذلك السؤالُ الغريب أهميةً في تاريخ دراسات الوعي، وقد طُرِح لأول مرة في خمسينيات القرن العشرين، ثم نال الشهرةَ على يد الفيلسوف الأمريكي توماس ناجيل عام ١٩٧٤. استخدم ناجيل هذا السؤالَ لتحدِّي مذهب المادية، ولاكتشاف ما نعنيه بكلمة الوعي، وليرى لماذا يجعل الوعي مشكلةَ العقل-الجسد معقَّدةً إلى هذا الحد؛ ما نعنيه هنا هو «الذاتية» على حدِّ قول ناجيل. إذا كان هناك حالٌ معيَّن يكون عليه الكائن إذا أصبَحَ خفَّاشًا — حالٌ يشعر به الخفَّاشُ نفسه — إذن فالخفَّاش كائن واعٍ، وإذا لم يكن هناك حالٌ معيَّن عندما يكون الكائن خفَّاشًا، إذن فالخفاش غير واعٍ.

فكِّرْ على سبيل المثال في كوبٍ أو إناءٍ أو قطعةٍ بلاستيكية على مكتبك، اسأل نفسك الآن: كيف يكون الحال لو كنتَ كوبًا؟ من المرجَّح أنك ستُجِيب بأنه لا يوجد أيُّ حالٍ على الإطلاق؛ لأن الأكواب لا تشعر، ولأن الخزف جماد … وهكذا. على الأرجح لن تواجِهَ مشكلةً في القول إن الأكواب والأواني ليسَتْ واعيةً، لكن انتقِلْ إلى الديدان أو الذباب أو البكتيريا أو الخفافيش، وسوف تجد المشكلة؛ فأنت لا تعرف — أو بالأحرى لا يمكنكَ أن تعرف — كيف يكون الحال لو كنتَ دودةَ أرض. مع ذلك، فإنك — مثلما يقول ناجيل — إذا فكَّرْتَ أن هناك حالًا معيَّنًا تكون عليه لو كنتَ دودةً، فأنت تعتقد أن الدودة كائنٌ واعٍ.

تعريف الوعي

ليس هناك تعريف متَّفَق عليه للوعي بشكل عام، لكن التعريفات التالية تعطينا فكرةً عمَّا تعنيه الكلمة:
  • «كيف يكون الحال لو كنتَ …؟»: إذا كان هناك حال معيَّن تكون عليه لو أنك حيوان (أو جهاز كمبيوتر أو طفل رضيع)، فذلك الشيء كائن واعٍ، وإلَّا فهو ليس كذلك.
  • الذاتية أو الظاهراتية: الوعي يعني تجربة ذاتية أو تجربة ظاهراتية؛ والمقصود: كيف تبدو الأشياء لي، في مقابل ما تبدو عليه على نحوٍ موضوعيٍّ؟
  • التجارب الواعية الذاتية: وهي السمات الذاتية التي يتعذَّر وصْفُها للتجربة، مثل حُمْرة اللون الأحمر، أو الرائحة التي لا يمكن وصْفُها لزيت التربنتين. يزعم بعض الفلاسفة أن تلك التجارب لا وجودَ لها.
  • المشكلة الصعبة: كيف تنشأ تجاربُ ذاتيةٌ من دماغ ماديٍّ موضوعيٍّ؟

ضرب ناجيل بالخفاش مثلًا لأن الخفافيش مختلفةٌ تمامًا عنَّا؛ فهي تطير، وتعيش معظم حياتها في الظلام، وتتدلَّى رأسًا على عقب من الأشجار أو في كهوف رطبة، وتستخدم نظامَ سونار — بدلًا من الإبصار — لرؤية العالم؛ فهي تُطلِق أصواتَ صرير حادة متلاحِقة أثناء طيرانها، ثم تحلِّل الأصداءَ التي تعود إلى آذانها الحساسة، وهكذا تعرف طبيعةَ العالَمِ حولها.

كيف سيكون الحال إن كنتَ تدرك طبيعةَ العالم حولَكَ هكذا؟ لا فائدةَ من تخيُّلِ نفسِكَ خفَّاشًا؛ لأن الخفَّاش الناطق المثقَّف لن يكون خفَّاشًا طبيعيًّا على الإطلاق. وفي المقابل، إذا أصبحتَ خفَّاشًا طبيعيًّا، فليس في مقدورك التفكير أو الكلام، فلن تستطيع الإجابةَ على سؤالِكَ.

أشار ناجيل أننا لن نعرف ذلك أبدًا، وخلَص إلى أن المشكلة لا حلَّ لها؛ ولهذا السبب لُقِّبَ ﺑ «المُلغِز»، ويشاركه اللقبَ أيضًا الفيلسوفُ الأمريكي كولين ماكجين، الذي قال: إننا نحن البشر «منغلِقون معرفيًّا» فيما يتعلَّق بفهم الوعي؛ ومعنى ذلك أنه لا أملَ لدينا في فهم الوعي تمامًا مثلما أنه لا أملَ في أن يقرأ أحدُ الكلابِ الجريدةَ التي يحملها فَرِحًا في طريق العودة من المتجر، ويتَّفِق معه في ذلك عالمُ النفس ستيفن بينكر قائلًا: إننا قد نكون قادرين على فهم معظم التفاصيل الخاصة بكيفية عمل العقل، لكنَّ الوعْيَ نفسه قد يظلُّ بعيدًا عن فهمنا إلى الأبد.

كثير من العلماء لا يشاركون ناجيل نظرته التشاؤمية، لكن سؤاله أفاد في تذكيرنا بنقطةٍ بالغةِ الخطورة عند الحديث عن الوعي؛ فلا جدوى من الحديث عن الإدراك الحسي أو الذاكرة أو الذكاء أو القدرة على حلِّ المشكلات باعتبارها عملياتٍ فيزيائيةً بحتة، ثم نزعم أننا قد فسَّرْنا الوعْيَ. إذا كنتَ تتحدَّث عن الوعي حقًّا، فعليكَ أن تتعامل بطريقة أو بأخرى مع الذاتية؛ فيتعيَّن عليك أن تحلَّ المشكلةَ الصعبة وتفسِّرَ كيف تنبع الذاتية من العالم المادي، أو يتعيَّن عليك — إذا كنتَ تزعم أن الوعي مطابِقٌ لتلك العمليات الفيزيائية، أو أنه وَهْمٌ أو حتى غير موجود على الإطلاق — أن تفسِّرَ لماذا «يبدو» حاضرًا بقوة هكذا؛ وفي كلتا الحالتين، لن تستطيع القولَ بأنك تتعامل مع الوعي إلا إذا كنتَ تطرح السؤال: «كيف يكون الحال لو كنتَ …؟»

يُطلَق على ذلك المعنى الأساسي للوعي أيضًا اسم الظاهراتية أو الوعي الظاهراتي، وهما مصطلحان صاغهما الفيلسوفُ الأمريكي نيد بلوك. يقارن بلوك بين «الوعي الظاهراتي/التلقائي» الذي يتعلَّق بالكيفية التي تكون عليها عندما تكون في حالةٍ معيَّنةٍ، و«وعي الإتاحة أو الوعي التأملي» الذي يشير إلى إتاحة المعلومات الموجودة في عقلنا للتفكير أو توجيه الأفعال والكلام. الوعي الظاهراتي (أو الظاهراتية أو الذاتية) هو الذي تحدَّثَ عنه ناجيل، وهو جوهر مشكلة الوعي.

بعد أن أشرنا إلى ذلك، نكون على استعدادٍ لتناوُلِ واحدةٍ من أهم النقاط الخلافية في الدراسات الخاصة بالوعي، وهذه النقطة تتعلَّق بالسؤال التالي: هل الوعي عنصرٌ خارجي نمتلكه — نحن البشر — إضافةً إلى قدراتنا الخاصة بالإدراك الحسي والتفكير والشعور، أم أنه جزء جوهري لا يتجزَّأ في أي كائنٍ لديه قدراتُ الإدراك الحسي والتفكير والشعور؟ هذا هو السؤال الأهم الذي يعتمد عليه كلُّ شيء آخَر، وربما عليك أن تقرِّرَ الآن أي اختيارٍ ستفكِّر فيه؛ لأن تبعات كِلا الاختيارين مثيرةٌ للدهشة تمامًا.

من ناحية، إن كان الوعيُ عنصرًا خارجيًّا إضافيًّا، فسنودُّ بطبيعة الحال أن نسأل عن سبب امتلاكنا إياه، وأن نسأل عن أهميته والوظيفة التي يؤدِّيها وكيف نمتلكه. ووفقًا لهذا الرأي، من السهل أن نتخيَّلَ أننا ربما قد تطوَّرنا من دونه، وهكذا سنودُّ أن نعرفَ السببَ الذي أدَّى إلى تطوُّرِ الوعي، والمزايا التي حَبَانا بها، وإن كان قد تطوَّرَ في كائناتٍ أخرى أيضًا أم لا. ووفقًا لهذا الرأي، تكون المشكلة الصعبةُ عسيرةً حقًّا، وتكون المهمة التي نحن بصددها هي الإجابة عن تلك الأسئلة الصعبة.

من الناحية الأخرى، إن كان الوعي جزءًا لا يتجزَّأ من العمليات الدماغية المعقَّدة، فمن العبث أن نسأل معظم تلك الأسئلة؛ ووفقًا لهذا الرأي (الذي يُسمَّى في بعض الأحيان الوظيفيةَ)، فلا جدوى من السؤال عن سببِ تطوُّر الوعي؛ لأن أيَّ كائنٍ تطوَّرَ بحيث أصبَحَ لديه ذكاءٌ وإدراكٌ حسي وذاكرةٌ ومشاعرُ، يكون واعيًا أيضًا بالضرورة. أيضًا لا جدوى من الحديث عن «الوعي نفسه» أو «التجارب الذاتية التي يتعذَّر وصفها»؛ لأنه ما من شيء خارجي يوجد بمعزل عن العمليات والقدرات.

فيما يتعلَّق بهذا الرأي، لا يوجد لغز مستعصٍ على الحلِّ ولا مشكلة صعبة؛ لذا تكون المهمة التي نحن بصددها مختلفةً تمامًا؛ أَلَا وهي تفسير لماذا «يبدو» لنا أن هناك مشكلة، ولماذا «يبدو» لنا أن لدينا تجاربَ واعية غير مادية يتعذَّر وصْفُها. هنا تبدو فكرةُ الوعي وَهْمًا؛ لأنه لا الوعي ولا المشكلة الصعبة يكونان كما يبدوان، ولذا يتعيَّن علينا تفسير كيفية ظهور الوهم.

إذا كانَتِ التبعات المترتِّبة على هذين الرأيَيْن صعبةَ الفهم، فربما نكون بحاجةٍ إلى إحدى التجارب الفكرية.

الزومبي

تخيَّلْ شخصًا يُشبِهك تمامًا؛ يتصرَّف مثلك، ويفكِّر مثلك، ويتحدَّث مثلك، لكنه غير واعٍ على الإطلاق. ذلك الشخص الآخَر الذي يشبهك ليست لديه تجارب واعية شخصية، وكل أفعاله تحدث دون أي وعيٍ؛ ذلك الكائن اللاواعي — وليس الجثة نصف الميتة المتداولة في الفلكلور الهاييتي — هو ما يُطلِق عليه الفلاسفةُ اسمَ زومبي.

من المؤكَّدِ أنه من السهل تخيُّل الزومبي، لكن هل هم موجودون حقًّا؟ ذلك السؤال الذي يبدو بسيطًا يقودنا إلى عالَمٍ كامل من التعقيدات الفلسفية.

مَن يجيبون على السؤال ﺑ «نعم» هم مَن يؤمنون بإمكانية وجود نظامين متكافئين وظيفيًّا؛ أحدهما واعٍ والآخَر غير واعٍ، وفي هذا الجانب نجد تشالمرز الذي يقول إن الزومبي ليسوا كائنات متخيَّلة فقط وإنما وجودها وارد؛ في عوالم أخرى إن لم يكن في عالمنا هذا. إنه يتخيَّل توءمه الزومبي الذي يتصرَّف مثله تمامًا لكن بلا تجارب واعية، وبلا عالم داخلي ولا تجارب واعية ذاتية؛ فالظلام يملأ عقلَ الزومبي تشالمرز. فكَّرَ فلاسفةٌ آخَرون في تجارب فكرية تتضمَّن كوكبَ أرضِ زومبي مأهولًا بأفراد من الزومبي، أو فكَّروا في أن بعض الفلاسفة الأحياء هم في الحقيقة زومبي يتظاهرون بالوعي.

أما مَن يجيبون على السؤال ﺑ «لا»، فهم الذين يرون فكرةَ الزومبي برمتها مستحيلةً، ومنهم تشيرتشلاند والفيلسوف الأمريكي دانيال دينيت. إنهم يرون الفكرةَ عبثيةً؛ لأن أيَّ نظامٍ يمشي ويتكلَّم ويفكِّر ويلعب ويختار ما يرتديه ويستمتع بعشاء طيب، ويفعل كافةَ الأشياء الأخرى التي نفعلها؛ يتعيَّن بالضرورة أن يكون واعيًا، المشكلة على حدِّ قولهم أن الناس عندما يتخيَّلون وجودَ الزومبي، فإنهم يتحايلون ولا يأخذون تعريف الزومبي بما يكفي من الجِد. إن كنتَ لا تريد التحايُلَ، تذكَّرْ أنه لا مفرَّ من تعذُّر التمييز خارجيًّا بين الزومبي وبين شخص طبيعي، ومعنى ذلك أنه لا جدوى من سؤال الزومبي عن تجاربه أو اختبار فلسفته؛ إذ لا بد أنه يتصرَّف مثلما يفعل الشخص الواعي تمامًا. يقول منتقدو هذه الفكرة إنك إذا كنتَ تريد اتِّبَاع القواعدِ حقًّا، فستختفي الفكرةُ وسط ما يحيط بها من عبثية.

من المفترض الآن أن يكون مفهومًا أن الزومبي مجرد وسيلةٍ واضحة للتفكير في السؤال الأساسي: هل الوعي سمة خارجية خاصة حالَفَنا الحظُّ — نحن البشرَ — بامتلاكها، أم أنه شيء يأتي بالضرورة مع كلِّ المهارات الأخرى مثل الإدراك الحسي والتفكير والشعور؟ إذا كنتَ تعتقد أنه سمة خارجية، فربما تصدِّق أننا تطوَّرنا جميعًا إلى كائنات زومبي لا أفراد واعين، بل ربما تصدق أن جارك قد يكون واحدًا من الزومبي. لكن إذا كنتَ تعتقد أنه مهارة أساسية لا تنفصل عن المهارات البشرية الأخرى، إذن فلن يكون من المعقول وجود الزومبي، وتصبح الفكرة برمتها عبثيةً.

أظن أن الفكرة برمتها عبثية، وعلى الرغم من ذلك، فإنها تظلُّ جذَّابةً إلى حدٍّ بعيدٍ؛ لأنه من السهل للغاية تخيُّل الزومبي. لكن مدى سهولة تخيُّل شيءٍ ما لا يقودنا بالضرورة إلى التأكُّد من وجوده؛ لذا دَعْنا نفكِّر في جانبٍ مختلفٍ تمامًا من المشكلة نفسها؛ وهو إن كان الوعي يفيد في شيء أم لا.

fig3
شكل ١-٣: فكرة زومبي الفيلسوف لا تؤدِّي إلا إلى الالتباس.

عبارة «قوة الوعي» من العبارات الشائعة في الخطاب المتداوَل، وتتلخَّص الفكرة في أن الوعي هو شكل من أشكال القوَى التي قد تؤثِّر تأثيرًا مباشِرًا في العالم؛ إما بالتأثير في أجسامنا كما يحدث عندما أقرِّر «أنا» بوعيٍ أن أحرِّكَ ذراعي فيتحرك، وإما بالتأثير في أمورٍ مثل العلاج الروحاني أو التخاطر أو مفهوم «العقل فوق المادة»، وهو الأكثر إثارةً للجدل. ومثلما فعلنا مع الزومبي، يسهل تخيُّل تلك «القوة» أيضًا؛ فيمكننا أن نتخيَّلَ عقلنا الواعي وهو يتحرَّك بصورة أو بأخرى ويؤثِّر في الأشياء، لكن هل يوجد أي منطق في هذه الفكرة؟ ما إن تتذكَّر أن الوعيَ يعني الذاتيةَ أو الظاهراتيةَ، حتى تبدو الفكرةُ أقل منطقيةً. كيف يمكن لسؤالٍ مثل: «كيف يكون الحال لو كنتَ …؟» أن يكون قوةً مؤثِّرةً؟ كيف يمكن ﻟ «تجربتي» عن خضرة تلك الشجرة أن تُسفِر عن حدوثِ شيءٍ ما؟

إحدى الوسائل لاكتشاف إن كان الوعي يمكن أن يكون قوةً مؤثرةً أم لا، هي أن نسأل: ماذا سيحدث إذا استبعدناه؟ من المؤكد أنه إذا كان للوعي أيُّ تأثير على الإطلاق، فإن ما سيتبقى لن يكون زومبيًّا؛ لأن الزومبي — بحسب التعريف — لا بد أن يكون غيرَ مميَّز إطلاقًا عن الشخص الواعي، وهكذا سيتبقى لدينا شخص مختلف عن الشخص الواعي؛ لأنه لا يستطيع … ماذا؟

قد تفكِّر أن الوعي ضروري من أجل اتخاذ القرارات، لكننا نعرف الكثيرَ عن كيفية اتخاذ الدماغ للقرارات، ويبدو أنه لا يحتاج قوةً خارجيةً لعمل ذلك. أيضًا يمكننا تصنيعُ أجهزةِ كمبيوتر في مقدورها اتخاذُ القرارات دون وجود وحدة وعي منفصلة داخلها، وينطبق الأمر نفسه على البصر والسمع والحركات المسئولة عن التحكُّم وغير ذلك من القدرات البشرية الأخرى. ربما تظن أن الوعي مطلوبٌ من أجل التذوُّق الجمالي والإبداع والوقوع في الحب؛ فإذا كان الأمر كذلك، فعليك أن تُثبِتَ أن تلك الأشياء تحدث بفضل الوعي، لا بفضل الآليات الداخلية لدماغ بارع.

كل ذلك يقودنا إلى الفكرة الخرقاء التي تقول إن الوعي ربما لا يؤدِّي وظيفةً، وهناك أشياءُ غريبةٌ أخرى تشير إلى النتيجة نفسها؛ فعلى سبيل المثال: فكِّرْ في الأشخاص الذين يلتقطون كراتِ الكريكيت أو يلعبون تنس الطاولة أو يقاطِعون المحادثات التي تسير بوتيرة سريعة؛ يبدو أن جميع هذه الأفعال السريعة تحدث عن وعي، لكن هل الوعي نفسه هو الذي يتسبَّب في حدوثها؟ الحقيقة — كما سنرى لاحقًا — أن هذه الأفعال تحدث بسرعة بالغة، وأنها تُنظَّم بفعل أجزاءٍ من الدماغ يبدو أنها غير مرتبطةٍ بالتجربة الواعية.

هل يمكن إذن أن يكون الوعيُ بلا أيِّ تأثيرٍ؟ يتجسَّد أحدُ أشكال تلك الفكرة في نظريةٍ تُسمَّى «الظاهراتية الثانوية»، التي تقوم على أن الوعي منتَجٌ ثانوي عديم الفائدة أو ظاهرةٌ ثانوية، وهذه فكرة غريبة جدًّا تستتبع الاعتراف بأن الوعي موجود بالفعل، لكن ليس له تأثير على أي شيء؛ وإذا لم يكن للوعي تأثير على الإطلاق، فمن الصعب أن نفهم كيف ينتهي بنا الحال إلى أن نشعر بالقلق حياله فضلًا عن الكلام عنه.

لكن نظرية «الظاهراتية الثانوية» ليسَتِ الطريقةَ الوحيدة للقول إن الوعي بلا تأثيرٍ، هناك طريقة بديلة وهي القول: إن كل الكائنات التي ترى وتشعر وتفكِّر وتحب وتقدِّر المذاقَ الفاخر للطعام مثلنا، لا بد أن تعتقد حتمًا أنها واعيةٌ، وأن تتخيَّل أن وجود الزومبي أمرٌ وارِدٌ، وأن ترى أن الوعي له وظيفة. خلاصة هذه النظرية أننا مخدوعون؛ فنحن نشعر كما لو أن الوعي قوة أو قدرة خارجية، لكننا مخطئون. إذا جازَ لنا أن نطلِق اسمًا على هذه النظرية، فربما يكون «الانخداعية».

أظنُّ أن هذه هي الطريقة الصحيحة للتفكير في الوعي، لكنها توحي بأن افتراضاتنا العادية بشأن الوعي موغلة في الضلال؛ هل يمكن حقًّا أن نكون مخطئين إلى هذا الحد؟ ولِمَ يُفترض أن نكون كذلك؟ ربما يتعيَّن علينا إلقاءُ نظرةٍ عن كثبٍ على بعض تلك الافتراضات، وأن نتساءل عن مدى موثوقيتها.

مسرح العقل

ربما تكون أبسط الطرق للتفكير في الوعي ما يلي: تخيَّلِ العقلَ مسرحًا خاصًّا، ها أنا ذا داخل المسرح في مكانٍ ما داخل رأسي أنظرُ من خلال عينيَّ، لكنَّ هذا المسرح متعدِّدُ الأحاسيس؛ وعليه فإني أشعر باللمسات والروائح والأصوات والمشاعر أيضًا، ويمكنني استخدام خيالي كذلك؛ فأستحضرُ مشاهدَ وأصواتًا أراها وكأنها على شاشة عقلية بواسطة عيني الداخلية، أو تُسمَع بواسطة أذني الداخلية. كل تلك الأشياء هي «محتويات الوعي»، بينما «أنا» جمهور الشخص الذي يختبر تلك التجارب.

تلك الصورة المجازية تتطابَقُ مع صورة مألوفة أخرى للوعي، وهي أنه يسري كنهرٍ أو تيارٍ. في القرن التاسع عشر، صاغ وليام جيمس (١٨٤٢–١٩١٠) «مؤسِّس علم النفس الحديث» عبارةَ «تيَّار الوعي»، ويبدو أنها ملائمة إلى حدٍّ كبيرٍ؛ فحياتنا الواعية تبدو وكأنها تيارٌ دائمُ التدفُّقِ من الصور والأصوات واللمسات والأفكار والعواطف ومشاعر القلق ومشاعر الفرحة؛ كلها تحدث لي الواحدة تلو الأخرى.

fig4
شكل ١-٤: أشعر وكأني في مكانٍ ما داخلَ رأسي أنظر حولي؛ أختبرُ العالَمَ الخارجي من خلال عينيَّ وأذنيَّ، وأتخيَّلُ الأشياءَ بعينِ عقلي، وأوجِّهُ ذراعيَّ وقدميَّ لتسير بي في الشارع، ثم أضعُ الخطابَ في صندوق البريد؛ لكن الدماغَ لا يعمل بهذه الطريقة. هذا هو المسرح الديكارتي التخيُّلي الذي تحدَّثَ عنه دينيت.

التفكير في عقولنا على هذا النحو سهل وبسيط للغاية، لدرجةٍ يبدو معها غيرَ جديرٍ بالحديث عنه، لكن عند التورُّط في حيرةٍ عقليةٍ كما فعلنا مع مشكلة الوعي، يكون من الجدير في بعض الأحيان الطعنُ في أبسط افتراضاتنا؛ وهي في هذه الحالة تلك التشبيهات التي تبدو في ظاهرها بسيطةً.

أقوى تلك الاعتراضات يسوقها الفيلسوفُ دانيال دينيت الذي يقول إنه في الوقت الذي يرفض فيه معظمُ الناس فكرةَ الثنائية الديكارتية، فإنهم لا يزالون يتمسَّكون ببقايا التفكير الثنائي في صورةِ ما أسماه المسرحَ الديكارتيَّ. لا يقتصر الأمرُ على تشبيه العقل بالمسرح، لكن الفكرة أنه في مكانٍ ما داخلَ العقل أو الدماغ لا بد من وجودِ مكانٍ وزمانٍ يلتقي عندهما كلُّ شيء، ومن ثَمَّ «يحدث الوعي»؛ أي إن هناك خطَّ نهايةٍ لما يدور داخلَ العقل من أنشطةٍ، بحيث تصبح الأشياءُ بعد هذا الخطِّ واعيةً أو «تدخل حيزَ الوعي»، وذلك على نحوٍ غامضٍ.

يرى دينيت أن هذه الفكرة خاطئة حتمًا؛ أولًا: لا يوجد داخل الدماغ مركزٌ يتطابَقُ مع هذه الفكرة؛ لأن الدماغ ما هو إلا نظامُ معالجةٍ تفرعيٌّ بلا نقاطٍ مركزيةٍ، ترِدُ المعلوماتُ إلى الحواس، ثم تُوزَّع في كل مكان لأغراض مختلفة. ووسط هذا كله، لا يوجد مكانٌ مركزي أجلس «أنا» فيه وأشاهد العرض بينما تمر الأشياء بالوعي، لا يوجد مكان معيَّن عندما تصل إليه الأفكارُ والمدركاتُ تصبح واعيةً، لا يوجد مكان واحد تخرج منه قراراتي. بدلًا من ذلك، فإن أجزاء الدماغ المختلفة تؤدِّي وظائفَها ويتواصل بعضها مع بعضٍ متى تطلَّبَ الأمرُ ذلك، دون وجودِ تحكُّمٍ مركزيٍّ في تلك العملية؛ فما الذي يمكن أن يضارِعَ مسرحَ الوعي إذن؟

يضيف دينيت أنه من غير المجدي أن نتحوَّلَ من التفكير في المسرح على أنه مكان فعلي إلى التفكير فيه على أنه عملية موزَّعة أو شبكة عصبية ممتدة، سيظل المبدأ واحدًا وهو مبدأ خاطئ؛ فليس هناك مكان أو عملية أو أي شيء آخَر يضارِع الجزءَ الخاص بالوعي من أنشطة الدماغ تاركًا كلَّ ما عداه غير واعٍ. ليس هناك منطقٌ في أن المدخلات تجتمع معًا لتُعرَض «في الوعي» كي يرى شخص أو يسمع، ولا يوجد شخص صغير بالداخل يتصرَّف وفقَ ما يراه؛ فالدماغ ليس منظَّمًا بهذه الطريقة، ولن يعمل لو كان كذلك. علينا أن نفهم كيف لهذا الشعور — أني شخصٌ واعٍ لديه تيار من التجارب — أن يحدث داخلَ دماغ ليس به مسرحٌ داخلي ولا عروضٌ ولا جمهورٌ.

اقترَحَ دينيت مصطلح «الماديين الديكارتيين» لوصف أولئك العلماء الذين يزعمون أنهم يرفضون الثنائية، لكنهم في الوقت نفسه يؤمنون بالمسرح الديكارتي. لاحِظْ أنَّ دينيت — وليس ديكارت — هو مَن صاغ مصطلحَيِ المسرح الديكارتي والمادية الديكارتية. قلَّةٌ من العلماء — إذا وُجِدت — ينطبق عليهم لقبُ الماديين الديكارتيين، لكن كما سنرى لاحقًا، الأغلبيةُ العظمى تؤمن بشيء يشبه تيارَ الوعي أو تعامل العقل على أنه مسرح داخلي. لا شك أنهم قد يكونون مُصِيبين، وإذا كانوا كذلك، فإن المهمة الملقَاة على عاتق علم الوعي هي توضيح ما الذي يضارع المسرح المجازي في الدماغ وكيف يعمل. لكنني أظن أنهم مخطئون، وربما تساعدنا الاستفاضةُ في توضيح كيفية عمل الدماغ في فهم السبب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤