تمهيد
وهكذا آمنت بريادة صنوع للمسرح المصري إيمانًا ثابتًا لا يتزعزع، منذ عام ١٩٨٥ وحتى عام ١٩٩٧! ذلك الإيمان الذي ورثته عن السابقين، ممن كتبوا عن نشاط صنوع المسرحي في مصر! والحق يُقال: إنني لم أضف كلمة واحدة عن صنوع في جميع كتاباتي السابقة! وكل ما فعلته أنني نقلت فقرات قليلة عن مسرح صنوع من ذلك الإرث التاريخي!
وعدم إضافتي لأي كلمة عن صنوع كان مبعثها يقيني بعدم استطاعة أي باحث أن يسهم بأي مجهود نحو هذا الرائد، بعد أن كُتبت عنه عدة كُتبٍ ضخمة وعشرات الدراسات والمقالات، ناهيك عن الرسائل الجامعية! كل هذا العدد الضخم من الكتابات عن مسرح صنوع يُصيب الباحث بإحباط شديد، ويمنعه من مجرد التفكير في محاولة القيام بتكرار ما قيل عن صنوع وإعادة صياغته في دراسة جديدة! والسبب في ذلك راجع إلى أن يعقوب صنوع ودوره في المسرح المصري أصبح ميراثًا ثابتًا ومستقرًّا للجميع، وأي إنسان يريد أن يتحدث عن صنوع كمسرحي، فما عليه إلا أن يمدَّ يده وينهل من الدراسات السابقة ما يريده من معلومات مُيسرة ووفيرة!
وفي منتصف عام ١٩٩٧ بدأت العمل في كتابة كتاب عن المسرح المصري في القرن التاسع عشر! والتزمت فيه بأسلوب صارم، تمثل في الاعتماد على ما كُتب بالفعل عن هذا المسرح في الدوريات التي صدرت في هذا القرن! أي إنني لم أعتمد على المراجع الحديثة التي تعرضت إلى هذا الموضوع إلا في القليل النادر. وبعد الانتهاء من صياغة الكتاب والشروع في مراجعته بصورة نهائية، تمهيدًا لنشره … كانت المفاجأة!
فقد وجدت أن محتويات الكتاب خالية تمامًا من أي ذكر عن مسرح يعقوب صنوع! كيف هذا والكتاب به كل شيء عن النشاط المسرحي في مصر في القرن التاسع عشر؟! لدرجة أنني اكتشفت أشياء لم يسبقني فيها أحد! وأكملت تاريخ أشياء كانت ناقصة في الدراسات الحديثة! وأثبت أشياء كانت مُبهمة عند الآخرين! فكيف أكتشف وأُكمل وأُثبت … وفي الوقت نفسه لم أستطع أن أتحدث عن مسرح صنوع، ذلك المسرح المعلوم والمُتعارف عليه والمُتوارث منذ أكثر من قرن مضى؟!
كانت دهشتي كبيرة أمام هذه المفاجأة، وأيقنت أنني قصرت في واجبي، فقمت بمراجعة الكتاب مرة أخرى، وعدت إلى الدوريات أكثر من مرة، وللأسف لم تُسفر المراجعة أو العودة إلى الدوريات عن ظهور مسرح صنوع، رغم أن الدوريات والوثائق المُستخدمة كانت تغطي فترة وجود صنوع في مصر! وأمام هذه النتيجة تأكدت أنني لم أقصر في عملي.
وظهرت مشكلة أخرى؛ كيف أنشر كتابًا عن المسرح المصري في القرن التاسع عشر دون أن أذكر فيه مسرح يعقوب صنوع؟! وما هو المبرر لعدم ذكر هذا المسرح؟! فأي مبرر غير مُقنع سأقوله سيكون ضربًا من الجنون، ولن يقبله القارئ بأي حال من الأحوال. ولحُسن الحظ أن المبرر — شبه المُقنع — جاء من بين صفحات الكتاب نفسه، عندما أثبت فيه بالوثائق أن محمد عثمان جلال، هو الرائد المسرحي المصري الأول في الكتابة المسرحية، لا يعقوب صنوع!
بهذه الكلمات استطعت أن أنشر كتاب «تاريخ المسرح في مصر في القرن التاسع عشر» عام ١٩٩٨، دون أن أذكر مسرح صنوع، ولعل هذه الكلمات كانت غير كافية لإقناع الآخرين بتجاهل الحديث عن مسرح صنوع، خصوصًا الأستاذ أحمد حسين الطماوي، الذي كتب مقدمة هذا الكتاب، قائلًا فيها:
وبالفعل قمت بمحاولات مُضنية كي أُنهي صراعي مع صنوع، وذلك بقراءة معظم — إن لم يكن كل — ما كُتب عنه، وتجميع كافة الأدلة والبراهين التي تثبت وجهة نظري. وقبل أن أشرع في الكتابة، جاءتني إعارة إلى الكويت، للعمل في المعهد العالي للفنون المسرحية. وسافرت إلى الكويت بعد أن أخذت معي كل ما يتعلق بموضوع صنوع. لأبدأ في الكويت رحلتي الحقيقية مع مسرح صنوع! وقد بدأتها بتدريس كتاب «تاريخ المسرح في مصر في القرن التاسع عشر» على طلاب المعهد.
ومن الغريب أن بعض الصحف العربية لم تهتم بأي جزء في هذا الكتاب بقدر اهتمامها بشكوكي حول ريادة صنوع المسرحية؛ فمثلًا وجدت صحيفة «بيان الكتب» الإماراتية تفرد صفحة كاملة عن الكتاب، قائلة فيها تحت عنوان «مفاجآت تاريخية في كتاب عن الرواد»:
«هذا كتاب لا يغرنك عنوانه بالقراءة «تاريخ المسرح في مصر في القرن التاسع عشر»؛ فقد صدرت من قبل العديد من الكتب والدراسات في هذا الجانب، وقُتلت بحثًا بين المسرحيين والنقاد والمؤرخين، وباتت حقائق معروفة ومستقرة. غير أن د. سيد على إسماعيل في كتابه الذي بين أيدينا — صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب — ذهب إلى مصادر أخرى؛ الوثائق الرسمية في القلعة ودار المحفوظات، وكذلك وثائق دار الوثائق، بالإضافة إلى الدوريات التي كانت تصدر في القاهرة والإسكندرية طوال القرن الماضي.
وخرج إلينا بالكثير من المعلومات والوقائع التي أغفلها الكثير من المؤرخين. المفاجأة الأخرى التي يقدمها هذا الكتاب أن محمد عثمان جلال هو رائد الكتابة المسرحية العربية وليس يعقوب صنوع … والسائد بيننا الآن أن يعقوب صنوع هو الرائد المسرحي، ومصدرنا في ذلك يعقوب صنوع في مذكراته؛ حيث أكد أنه بدأ نشاطه المسرحي سنة ١٨٧٠، أما محمد عثمان جلال فقد عرَّب مسرحية موليير التي جعل لها عنوانًا «الشيخ متلوف» سنة ١٨٧٣؛ ومن ثم فإنه يكون قد بدأ متأخرًا ثلاث سنوات عن يعقوب صنوع، ويقلب لنا الكتاب هذه الحقيقة رأسًا على عقب … كيف؟! تذكر مجلة «وادي النيل» في نوفمبر ١٨٧٠ أن محمد عثمان جلال قام بتعريب مسرحيتين هما «لابادوسيت» و«مزين شاويلة».
وحاولت بكل وسيلة ممكنة أن أحصل على صورة من تقرير المُحكم، أو أن أعرف اسمه، دون جدوى! ولكنني استطعت أخيرًا أن أعرف فحوى هذا التقرير وأسباب عدم صلاحية البحث للنشر، وهذه الأسباب تمثلت في عدة نقاط؛ منها: أن فكرة البحث جاءت عن طريق المصادفة! كما يهدف البحث إلى تغيير ما هو ثابت في الأذهان من أحكام تاريخية وأدبية راسخة! وأيضًا يقوم الباحث بمعارضة ومهاجمة أسماء كبيرة تُعد رموزًا في الدراسات الأدبية؛ أمثال د. إبراهيم عبده، د. محمد يوسف نجم، د. لويس عوض!
- (١) يوجد احتمال بأن يعقوب صنوع عميل للصهيونية كما توحي الدراسة، وأن الخلية الصهيونية هي التي أدخلت اسمه في مجتمع المسرح العربي … فلماذا لا يكون هناك تعاون مُسبق بينكم وبين الحكومة المصرية بحيث تثبتوا للعالم بأن رائد المسرح المصري هو مسلم مصري؟١٤
- (٢)
الشيء الغريب في الأمر هو كمية الأدلة الضخمة التي استطاع د. سيد علي الحصول عليها؛ [لذلك] ذكرت بأن الحكومة المصرية لها دخل في الموضوع، و[إلا] كيف استطاع الحصول على تلك المعلومات المهمة بهذه السرعة القياسية؟ وكيف استطاع كتابة هذا الجزء من الكتاب بتلك الطريقة الدقيقة في الأداء وذلك التسلسل الزمني؟ وكيف استطاع كتابة كل الأدلة بطريقة تُرضي فضول كل من يتبادر لديه سؤال؟ ألم يكن مع د. سيد علي مجموعة أو خلية كاملة تُدعمه بتلك المعلومات؟
- (٣)
هل يُعقل بعد مضي أكثر من ١٢٠ عامًا لا يوجد شخص قد استطاع اكتشاف تلك الحقيقة وخصوصًا أن تلك الفترة مرَّت بمشاهير العالم من مثقفين ومُبدعين وأدباء ونُقاد؟
- (٤)
هل يُعقل بأن أي أحد من هؤلاء لم يستطع اكتشاف تلك الحقيقة؟ هل يُعقل بأنهم كانوا كلهم أصدقاء صنوع؟ ألم يكن له أعداء؟
والله ولي التوفيق …
سيد علي إسماعيل
الكويت في: ٦ / ٦ / ٢٠٠٠