الفصل الحادي عشر

أهدي هذا الفصل لمتجر كتب يونيفرستي بوكستور في جامعة واشنطن، والذي ينافس قسم الخيال العلمي الخاص به العديد من المتاجر المتخصصة في كتب الخيال العلمي. يرجع الفضل في ذلك لمسئول المشتريات المخلص حاد البصيرة، دواين ويلكينز. دواين عاشق للخيال العلمي بمعنى الكلمة؛ التقيت به للمرة الأولى في مؤتمر الخيال العلمي الدولي في تورونتو عام ٢٠٠٣. ويتضح هذا العشق في الاختيارات الانتقائية المستنيرة المعروضة في المتجر. وأحد المؤشرات المهمة لعظمة أي متجر كتب هو جودة الملاحظات النقدية الملصقة على الأرفف؛ وهي قطع صغيرة من الورق المقوَّى مكتوب عليها ملاحظات العاملين في المتجر (بخط اليد غالبًا) تُعدِّد مزايا الكتب التي قد تفوت عليك. استفاد العاملون بالمتجر من توجيهات دواين؛ إذ تُعَد هذه الملاحظات هي الأفضل على الإطلاق.

***

نهض خولو، وقال:

«من هنا البداية يا شباب! هكذا نعرف إلى أي فريق تنتمي. قد لا ترغب في الخروج إلى الشوارع، والقبض عليك لما تعتنقه من معتقدات، لكن إذا كانت لديك معتقدات بالفعل، فسيسمح لنا ذلك الإجراء بمعرفتها. سنكوِّن بذلك شبكة ثقة توضح لنا من معنا ومن علينا. إذا أردنا استرجاع بلادنا، ينبغي لنا فعل ذلك … ينبغي لنا فعل شيء مثل ذلك.»

رفع أحد الحضور يده ممسكًا بزجاجة جعة، كانت آنج.

«لتنعتني بالغباء، لكنني لا أفهم أيًّا مما تقوله. لماذا تريدنا أن نفعل ذلك؟»

نظرت أنا وخولو كلٌّ منا للآخر. بدا كل شيء واضحًا للغاية عند تنظيمنا له. «شبكة «إكس نت» ليست وسيلة فقط لممارسة الألعاب المجانية، وإنما هي شبكة الاتصال الحرة الأخيرة في أمريكا. إنها الوسيلة الأخيرة للتواصل دون تطفل من وزارة الأمن الوطني. ولكي تنجح، علينا التأكد من أن من نتحدث معه ليس متطفلًا؛ أي أن نتأكد من هوية من نرسل إليه الرسائل.

ومن هنا، يأتي دوركم. لقد دعوناكم إلى هنا لأننا نثق فيكم، وأعني هنا ثقة حقيقية؛ أي إننا نأتمنكم على حياتنا.»

همهم البعض مستنكرًا؛ إذ بدا الحديث دراميًّا وغبيًّا.

نهضتُ مرة أخرى، وقلت:

«عند وقوع التفجيرات» — شعرت بانقباض وألم في صدري عند قولي ذلك — «قُبِض عليَّ وعلى أصدقائي في شارع ماركت، ولسبب ما، قررت وزارة الأمن الوطني أن وجودنا في ذلك المكان جعلنا موضع شبهة. غطوا رءوسنا بأكياس، ووضعونا على ظهر سفينة، وظلوا يستجوبوننا لأيام. أهانونا، وتلاعبوا بعقولنا، ثم أطلقوا سراحنا.

أطلقوا سراحنا جميعًا ما عدا شخصًا واحدًا، وهو أعز أصدقائي. كان معنا عند القبض علينا، وقد تعرض لإصابة، وكان بحاجة لرعاية طبية، ولم يظهر ثانيةً قط. أما هم، فنفوا رؤيتهم له مطلقًا، وقالوا إننا إذا أخبرنا أي أحد بما حدث، فسيقبضون علينا ونختفي للأبد.»

ارتعد جسدي من الخزي … ذلك الخزي اللعين. سلط خولو الضوء عليَّ.

قلت: «يا إلهي! أنتم أول من أخبرهم بذلك. إذا ذاع الخبر، فتأكدوا أنهم سيعلمون من سرَّبه وسيصلون إلي.» أخذت المزيد من الأنفاس العميقة، واستطردت حديثي: «لذلك، تطوعت على شبكة «إكس نت»، وصار محور حياتي من الآن فصاعدًا هو محاربة وزارة الأمن الوطني … كل نفس … وكل يوم في حياتي مُكرَّس لهذا الهدف حتى نتحرر من جديد. يمكن لأيٍّ منكم الزج بي في السجن الآن إن أراد.»

رفعت آنج يدها ثانيةً، وقالت: «لن نشي بك، هذا مستحيل. أعرف الجميع هنا حق المعرفة ويمكنني أن أعدك بذلك. لا أعلم كيف أعرف من يمكنني الوثوق به، لكنني أعرف من لا يمكنني الوثوق به؛ وهم كبار السن … آباؤنا … البالغون. التجسس لديهم يتعلق دومًا بشخص آخر، شخص سيئ. وعندما يفكرون في شخص قُبِض عليه وأُرسِل إلى سجن سري، يكون ذلك دائمًا شخصًا آخر … شخصًا ذا بشرة داكنة، شابًّا، أجنبيًّا.»

واستطردت: «إنهم ينسون ما كان عليه الحال عندما كانوا في نفس سننا، وكانوا محل شك دومًا! كم مرة ركبتم فيها حافلة ورمقكم الجميع بنظرة ارتياب على أنكم دائمًا مصدر المشكلات؟

«والأسوأ من ذلك أنهم يتحولون إلى بالغين في سن أصغر كل يوم، فكان يُقال في الماضي: «إياك والوثوق في أحد يبلغ من السن أكثر من ٣٠ عامًا». وأنا أقول: «إياكم والوثوق في أي وغد يزيد عمره عن ٢٥ عامًا».»

أثار هذا التعليق ضحك الحضور، وضحكت هي أيضًا معهم. كانت جميلة على نحو غريب تظهر في ملامحها مشابهة للخيول بوجهها وفكها الطويلين. «إنني لا أمزح حقًّا. فلنتأمل الموضوع معًا: من انتخب هؤلاء المهرجين؟ من سمح لهم باحتلال مدينتنا؟ من صوَّت لوضع الكاميرات في الفصول المدرسية وتتبعنا باستخدام شرائح التجسس الكريهة في السيارات وبطاقات المرور الخاصة بنا؟ لم يفعل ذلك شخص يبلغ من العمر ١٦ عامًا. قد نكون أغبياء أو صغار السن، لكننا لسنا حثالة.»

حينئذٍ قلت: «أريد طباعة هذه الكلمات على تي شيرت.»

فقالت الفتاة: «فكرة جيدة!» وابتسم كلٌّ منا للآخر.

ثم سألت، وهي تخرج هاتفها: «أين أذهب للحصول على مفتاحيَّ؟»

«سنقوم بذلك هناك في البقعة المنعزلة الموجودة عند الكهوف. سأصحبك إلى هناك، وأعد لكِ الكمبيوتر، ثم تفعلين ما يتوجب عليك فعله، وتأخذين الكمبيوتر إلى أصدقائك لالتقاط الصور لمفتاحك العام حتى يتمكنوا من توقيعه عند العودة لمنازلهم.»

ثم رفعت صوتي قائلًا: «يا إلهي! ثمة شيء آخر! لا أصدق أنني كنت سأنسى ذلك! «عليكم بمسح هذه الصور بمجرد أن تسجلوا المفاتيح!» آخر ما نبغيه هو سلسلة من الصور لنا جميعًا أثناء الاتفاق على خطتنا على موقع فليكر.»

سمعت بعض الضحكات الخافتة العصبية سليمة النية، ثم أطفأ خولو النور، وحال الظلام المفاجئ دون رؤيتي لأي شيء. تكيفت عيناي تدريجيًّا، وبدأت في التوجه ناحية الكهف. كان هناك شخص يتحدث خلفي … إنها آنج. استدرت وابتسمت لها، فبادلتني الابتسام ولمعت أسنانها في الظلام.

قلت لها: «شكرًا على ما قلتِه. كان ذلك رائعًا.»

«هل عنيت حقًّا ما قلته بشأن الكيس الذي وضِع على رأسك وما إلى ذلك؟»

فأجبتها: «نعم، لقد حدث ذلك بالفعل. لم أخبر أحدًا به من قبل، لكنه حدث.» فكرت لحظة، ثم تابعت الحديث: «أتعلمين، مع مرور الوقت دون الإفصاح عما حدث، بدأ يبدو ككابوس. كانت تجربة عصيبة حقًّا.» توقفت، وصعدت إلى الكهف. «يسعدني البوح بذلك أخيرًا. لو ظل حبيسًا بداخلي أكثر من ذلك، لكنت قد بدأت أشك في صحتي العقلية.»

وضعت الكمبيوتر المحمول على صخرة جافة، وبدأت تشغيله باستخدام قرص الفيديو الرقمي وهي تراقبني. «سأعيد التشغيل مع كل شخص. هذا قرص نظام «بارانويد لينكس» قياسي، لكن أظن أنكم ستثقون بكلمتي هنا.»

قالت الفتاة: «الأمر كله يتعلق بالثقة، أليس كذلك؟»

فأجبتها: «بلى … إنها الثقة.»

تراجعتُ بضع خطوات أثناء تشغيلها لبرنامج إنتاج المفاتيح، مستمعًا لصوت كتابتها على لوحة المفاتيح واستخدامها للفأرة لإحداث نوع من العشوائية، ولصوت الأمواج المتكسرة على الشاطئ، ولضوضاء الاحتفال حيث توجد الجعة.

خرجت الفتاة من الكهف حاملةً الكمبيوتر المحمول الذي ظهر على شاشته بحروف مضيئة بيضاء مفتاحُها العام، وبصمتها، وعنوان بريدها الإلكتروني. رفعت الشاشة بجوار وجهها، وانتظرت حتى أخرجت هاتفي.

ابتسمتْ، فالتقطتُ صورة لها ثم وضعت الهاتف في جيبي ثانيةً. توجهت إلى المعربدين بالحفل، وجعلت كلًّا منهم يلتقط صورة لها وللشاشة. اتسم الأمر بالبهجة والمرح. تمتعت تلك الفتاة بشخصية فاتنة حقًّا … تجعلك لا ترغب في الضحك عليها، وإنما معها. يا إلهي، كان الأمر مرحًا حقًّا! لقد أعلنا حربًا سرية على الشرطة السرية. من كنا نظن أنفسنا؟

وعلى مدار الساعة التالية أو نحوها، أخذ الجميع يلتقطون الصور ويصممون المفاتيح. كان عليَّ الالتقاء بكل شخص في الحفل. كنت على معرفة بالكثير منهم — فبعضهم دعوته بنفسي — والآخرون أصدقاء أصدقائي أو مقربون لهم. لزم علينا أن نكون جميعًا أصدقاء مقربين. وهكذا كان الحال بالفعل في نهاية الليلة؛ كانوا جميعًا أفرادًا صالحين.

ما إن انتهى الجميع حتى ذهب خولو لتصميم مفتاحه، ثم استدار مبتعدًا ومبتسمًا في وجهي ابتسامة خجولة، لكنني كنت قد تجاوزت غضبي منه؛ فكان يفعل ما ينبغي له فعله. كنت أعلم أنه مهما قال، فسيظل دائمًا موجودًا لمؤازرتي. لقد دخلنا سجن وزارة الأمن الوطني معًا، وكذلك فان. ومهما حدث، فسيظل ذلك الحدث يربط بيننا للأبد.

صممت مفتاحي، ودرت على الحضور ليلتقط لي كلٌّ منهم صورة. وبعد ذلك، صعدت إلى البقعة العالية التي تحدثت من فوقها قبل قليل، وطلبت من الجميع الانتباه.

«أظن أن كثيرين منكم قد لاحظوا وجود خلل خطير في هذا الإجراء، ألا وهو: ماذا إذا كان هذا الكمبيوتر المحمول لا يمكن الوثوق فيه؟ ماذا إذا كان يسجل سرًّا توجيهاتنا؟ ماذا إذا كان يتجسس علينا؟ ماذا إذا كنت أنا وخوسيه لويس غير جديرين بالثقة؟»

سمعت المزيد من الضحكات الخافتة سليمة النية التي عكست قدرًا أكبر من الألفة وتأثير الجعة.

«أعني ما أقوله حقًّا. إذا لم نسر على الطريق السليم، يمكن أن يوقعنا ذلك جميعًا — يوقعكم جميعًا — في مشكلات لا حصر لها قد يكون من بينها السجن.»

صارت الضحكات الخافتة أكثر عصبية.

واصلت حديثي: «ولذلك، سأفعل هذا»، رفعت مطرقة كنت قد جلبتها من صندوق أدوات والدي. وضعت الكمبيوتر المحمول بجانبي على الصخرة، ولوَّحت بالمطرقة في حين سلط خولو ضوء سلسلة مفاتيحه عليَّ أثناء التلويح. هشمت الجهاز … لطالما حلمت بتحطيم كمبيوتر محمول بالمطرقة، وها أنا ذا أفعل ذلك. غمرني شعور رائع … وسيئ في الوقت نفسه.

طرااخ! تنهار الشاشة إلى ملايين القطع الصغيرة لتكشف عن لوحة المفاتيح. واصلت الضرب إلى أن تحطمت لوحة المفاتيح لتكشف عن اللوحة الأم ومحرك الأقراص الصلبة. طرااخ! صوبت هذه المرة مباشرة على محرك الأقراص الصلبة، ضاربًا إياه بكل ما أوتيت من قوة. ضربته ثلاث مرات قبل أن ينفلق الصندوق ليكشف عن الوسائط الدقيقة داخله. واصلت الضرب إلى أن لم يتبق به شيء أكبر من قداحة السجائر، ثم وضعت كل هذا الحطام في كيس قمامة. أخذ الجمع يهتف بقوة، وعلا الصوت لدرجة أقلقتني من أن أحدًا في مكان ما بأعلى قد يسمع صوتنا الذي علا على صوت الأمواج، فيطلب الشرطة.

هتفت فيهم: «حسنًا! والآن، إذا أردتم مصاحبتي، فسآخذ هذا الكيس للشاطئ، وأتركه في الماء المالح لعشر دقائق.»

لم يستجب أحد لدعوتي في البداية، ثم تقدمت آنج وأمسكت بذراعي في يدها الدافئة، وهمست في أذني: «كان ذلك جميلًا»، ثم سرنا معًا تجاه البحر.

كان الظلام دامسًا عند البحر، ويوحي بالخطر حتى مع أضواء سلاسل المفاتيح التي كانت معنا. الصخور حادة وزلقة يصعب السير عليها، ناهيك عن محاولة التوازن بكيس بلاستيكي مملوء بستة أرطال من الإلكترونيات المحطمة. زلَّت قدمي مرة، وظننت أنني سأجرح نفسي، لكنها أمسكت بي بقبضة قوية على نحو مدهش، وساعدتني في الحفاظ على اتزاني. قرَّبني ذلك منها لحد سمح لي بأن أشم رائحة عطرها الذي شابه رائحة السيارات الجديدة. أحببت تلك الرائحة.

قلت لها: «شكرًا»، وأنا أنظر في عينيها الكبيرتين اللتين بدتا أكبر عبر نظارتها ذات الإطار الأسود والطابع الرجالي. لم أستطع تحديد لونهما في الظلام، لكنني خمنت أنهما داكنتان بناءً على شعرها الداكن وبشرتها الخمرية. بدت من المنطقة المتوسطية، ربما يونانية أو إسبانية أو إيطالية.

جثمتُ وأنزلت الكيس في البحر تاركًا الماء المالح يغمره. أنزلت قدمي قليلًا وغمرت حذائي في الماء. سببتُ، فضحكتْ. لم ننطق تقريبًا بأية كلمة منذ بدأنا السير نحو البحر. كان ثمة شيء ساحر في صمتنا ذلك.

لم أكن آنذاك قد قبَّلت في حياتي سوى ثلاث فتيات فقط، هذا فضلًا عن الفتيات التي قبلتني لحظة عودتي للمدرسة واستقبالي استقبال الأبطال. ليس ذلك برقم هائل، لكنه ليس بالصغير أيضًا. كانت لدي قدرة معقولة على استشعار ما تريده الفتيات، وأظن أنه كان بوسعي تقبيلها. لم تكن مثيرة بالمعنى التقليدي، لكنْ ثمة شيء يوحي به اجتماع فتاة وشاطئ وليل. هذا بالإضافة إلى أنها كانت ذكية، وعاطفية، ومخلصة.

لكنني لم أقبِّلها أو أمسك يدها. أمضينا — بدلًا من ذلك — لحظات لا أجد لها وصفًا سوى أنها روحانية. الأمواج المتكسرة، والليل، والبحر، والصخور، وأنفاسنا. طالت اللحظات، وتنهدتُ. يا لها من رحلة شاقة! كان لا يزال أمامي الكثير لأفعله من كتابة في تلك الليلة، ووضع كل هذه المفاتيح في سلسلة مفاتيحي، وتوقعيها ثم نشرها، لتبدأ بذلك شبكة الثقة.

تنهدت الفتاة أيضًا.

قلت لها: «هيا لنذهب!»

فقالت: «نعم، هيا!»

عدنا للحفل. كم كانت جميلة تلك الليلة!

•••

بعد انقضاء الحفل، انتظر خولو صديق أخيه ليأتي ويأخذ صناديق البيرة. سرت مع باقي الحضور على الطريق وصولًا لأقرب محطة حافلات، وصعدت على متن إحداها. لم يستخدم أيٌّ منا، بالطبع، تذكرة رسمية. كان مستخدمو «إكس نت» قد اعتادوا نسخ تذاكر حافلات أشخاص آخرين ثلاثًا أو أربع مرات يوميًّا، وانتحال هوية جديدة في كل مرة يركبون فيها الحافلات.

كان من الصعب البقاء هادئين في الحافلة. كنا جميعًا سكارى بعض الشيء، والنظر في وجوهنا في أضواء الحافلة البراقة كان مدعاة للضحك. علا صوتنا كثيرًا، واستخدم السائق نظام الاتصال الداخلي ليطلب منا خفض أصواتنا مرتين، ثم أخبرنا في النهاية بأن نخرس وإلا فسيتصل بالشرطة.

أثار ذلك ضحكنا مرة أخرى، ونزلنا من الحافلة وسط مجموعة من الأفراد الآخرين قبل أن يتصل بالشرطة بالفعل. وصلنا آنذاك لحي نورث بيتش؛ حيث كان الكثير من الحافلات وسيارات الأجرة ومحطة بارت في شارع ماركت والمقاهي والنوادي ذات اللافتات المضاءة بمصابيح النيون؛ ما فرَّق جمعنا، وذهب كلٌّ منا في طريق.

وصلت إلى المنزل، وقمت بتشغيل «إكس بوكس» الخاص بي. بدأت تسجيل المفاتيح من شاشة هاتفي. كان عملًا مملًّا ويبعث على النوم. كنت شبه سكران، وأصابني ذلك بالنعاس.

كان رأسي قد أوشك على السقوط عندما ظهرت نافذة رسالة فورية جديدة على الشاشة.

«أيها البطل!»

لم أتعرف على الاسم المستعار — سبيكسجريل — لكنني خمنت من يكون المتحدث. كتبت بحذر:

«مرحبًا!»

«هذه أنا، من حفل الليلة.»

ثم لصقت مجموعة تشفير في نافذة المحادثة. كنت قد أدخلت بالفعل مفتاحها العام في سلسلة مفاتيحي؛ لذلك طلبت من عميل المراسلة الفورية أن يحاول فك تشفير الكود باستخدام هذا المفتاح.

«هذه أنا، من حفل الليلة.»

لقد كانت هي!

«من الغريب لقاؤك هنا.»

كتبتْ، ثم شفرت ما كتبته بمفتاحي العام، وأرسلته.

«سعدت للغاية بلقائك.»

«وأنا كذلك، فقلما ألتقِي شابات ذكيات يتمتعن في الوقت نفسه بالجاذبية والوعي الاجتماعي. يا إلهي! إنك لا تعطين الفتيات فرصًا كثيرة.»

دقَّ قلبي بقوة بين أضلعي.

«مرحبًا، هل من أحد هنا؟ إنني أهرم هنا. لا تنسَ إعطاء النادلات بقشيشًا؛ فهن يجتهدن في عملهن. سأظل هنا طوال الأسبوع.»

ضحكت بصوت مرتفع، وأجبتها:

«أنا هنا … أنا هنا! لم أتمكن من الكتابة فقط بسبب الضحك الشديد.»

«على الأقل، حس الدعابة في المراسلات الفورية لدي لا يزال قويًّا.»

امممم.

«سعدت بلقائك أيضًا للغاية.»

«نعم، أعلم ذلك. إلى أين ستصحبني؟»

«أصحبك؟»

«في مغامرتنا التالية؟»

«ليست لدي أية خطط في الحقيقة.»

«حسنًا، سأصحبك أنا إذن. يوم السبت … متنزه دولوريس … حفل موسيقي غير قانوني في الهواء الطلق. إن لم تذهب، فأنت مُعقَّد.»

«انتظري! ماذا؟»

«ألم تطَّلع على شبكة «إكس نت»؟ الموضوع منتشر للغاية. هل سمعت من قبل عن فرقة «سبيدهورز»؟»

كدت أختنق؛ فقد كانت هذه فرقة ترودي دو، وترودي دو هي المرأة التي دفعت لي ولخولو المال لتحديث كود الشبكة المستقلة.

«نعم، سمعت عنها.»

«ستقيم هذه الفرقة حفلًا ضخمًا، وقد تمكنت من التعاقد مع نحو خمسين فرقة لإحياء الحفل. سيقيمونه على ملاعب التنس، ويجلبون شاحناتهم المحملة بمكبرات الصوت ليشعلوا الليلة حماسًا.»

شعرت أنني مغيَّب عما يدور حولي. كيف فاتني ذلك؟ كان هناك متجر كتب يتسم بالفوضوية في شارع فالينسيا اعتدت المرور عليه أحيانًا في طريقي إلى المدرسة. علَّق ذلك المتجر ملصقًا لصورة إحدى الثائرات تُدعَى «إيما جولدمان» وتحتها تعليق: «إن لم يمكنِّي الرقص، فلا أريد أن أكون جزءًا من ثورتكم.» بذلت كل طاقاتي في البحث عن كيفية لاستخدام شبكة «إكس نت» في تنظيم مناضلين مخلصين يتمكنون من التشويش على جهود وزارة الأمن الوطني، لكن ذلك كان أكثر تميزًا. حفل موسيقي ضخم … لم تكن لدي أدنى فكرة عن كيفية إقامة حفل كهذا، لكنني سعدت بأن أحدًا ما تمكن من ذلك.

الآن، وبعد أن فكرت في الأمر، شعرت بفخر شديد لاستخدامهم شبكة «إكس نت» في فعل ذلك.

•••

كنت مرهقًا للغاية في اليوم التالي. فقد استمرت محادثتي مع آنج — بالأحرى مغازلتي لها — حتى الرابعة صباحًا. ولحسن حظي، كان يوم السبت وتمكنت من النوم حتى وقت متأخر. لكن نظرًا لتأثير الخمر وعدم النوم الجيد، كنت بالكاد أستطيع ترتيب أفكاري.

بحلول وقت الغداء، نهضت من السرير، ونزلت إلى الشارع. تهاديت وصولًا إلى مقهى التركي لشراء قهوتي. اعتدت في تلك الأيام شراء قهوتي من هناك عندما أكون وحدي، كما لو كنت أنا والتركي قد صرنا عضوين في تنظيم سري.

في طريقي إلى المقهى، مررت بالكثير من رسوم الجرافيتي حديثة الإنشاء. أحببت الجرافيتي في حي ميشن؛ إذ كان يتمثل عادةً في جداريات ضخمة مزخرفة أو رسوم تهكمية يطبعها طلاب الفنون بالإستنسل. ما أعجبني هو استمرار الرسامين الجداريين في حي ميشن فيما يفعلونه رغم مراقبة رجال وزارة الأمن الوطني، وهو ما أظنه صورة أخرى من صور استخدام شبكة «إكس نت»؛ فلا بد أنهم امتلكوا كافة السبل لمعرفة ما كان يحدث، ومن أين يأتون بالطلاء، وما الكاميرات التي كانت تعمل. وقد لاحظت أيضًا أن بعض الكاميرات قد رُشَّت بالطلاء.

لعلهم استخدموا شبكة «إكس نت»!

على جانب سور إحدى ساحات السيارات، طُبِعت عبارة: «لا تثق في أحد أكبر من ٢٥ عامًا» بحروف تقطر بالطلاء ويبلغ ارتفاعها عشر أقدام.

توقفت، وأخذت أفكر: هل غادر أحد «حفلتي» الليلة الماضية، وجاء إلى هنا بعلبة طلاء؟ فقد كان الكثير من الحضور يقطنون ذلك الحي.

حصلت على قهوتي، وتجولت بأنحاء المدينة. أخذت أفكر فيما إذا كان عليَّ الاتصال بأحد ومعرفة ما إذا كانوا يريدون الحصول على فيلم أو أي شيء آخر. هكذا كان الحال في أيام السبت المليئة بالكسل. لكن بمن سأتصل؟ فان لا تتحدث معي، ولا أظن أنني كنت على استعداد للتحدث مع خولو، وداريل …

حسنًا، لا يمكنني الاتصال بداريل.

أخذت قهوتي، وعدت للمنزل، وبحثت قليلًا على مدونات «إكس نت». تلك المدونات مجهولة المؤلِّف لا يمكن تتبع كُتَّابها، إلا إذا كان المؤلف على قدر من الغباء ليضع اسمه عليها. ويوجد عدد كبير منها، وأغلبها لا علاقة له بالسياسة، لكن الكثير منها لم يكن كذلك حقًّا؛ فتناولت موضوعات عن المدارس وما تشهده من ظلم، ورجال الشرطة، والرسم على الجدران.

اكتشفت أن خطط الحفل في المتنزه قد انتشرت على الشبكة منذ أسابيع؛ إذ تناقلتها المدونات لتتحول إلى حركة متكاملة دون أن ألاحظها. وحمل الحفل اسم: «لا تثق في أحد أكبر من ٢٥ عامًا.»

وهذا يفسر من أين أتت آنج بتلك العبارة. كانت شعارًا جيدًا.

•••

صبيحة يوم الإثنين قررت التحقق من متجر الكتب الفوضوي مجددًا، وأرى ما إذا كان بإمكاني الحصول على أحد ملصقات إيما جولدمان. كنت بحاجة لذلك التذكير.

مررت بشارع ١٦ وحي ميشن في طريقي للمدرسة، ثم شارع فالينسيا وعبرته. وجدت المتجر مغلقًا، لكنني عرفت مواعيده؛ إذ كانت مكتوبة على الباب وتأكدت من أن الملصق لا يزال معلقًا به.

اندهشت أثناء سيري في شارع فالينسيا من كمِّ المرات التي رأيت فيها شعار «لا تثق في أحد أكبر من ٢٥ عامًا»؛ فقد عرض نصف المتاجر بضائع عليها الشعار؛ من علب غذاء، وتي شيرتات، ومقالم أقلام رصاص، وقبعات. أما متاجر الهيبيز، فكانت أسرع بالتأكيد في هذا الشأن. وبانتشار الأفكار الجديدة على الإنترنت في غضون يوم أو اثنين، صارت المتاجر أفضل في عرض بضائعها في واجهات العرض لتتماشى مع هذه الأفكار، فربما يهبط مقطع فيديو طريف على موقع يوتيوب لرجل ينطلق بمركبات نفاثة من ماء الصودا ليهبط في صندوق بريدك يوم الإثنين، وبحلول يوم الثلاثاء، تتمكن من شراء تي شيرتات عليها مشاهد من هذا الفيديو.

لكنه من المذهل أن ترى شيئًا ينتقل من شبكة «إكس نت» إلى متاجر بيع الأدوات التي تهم مستخدمي المخدرات. وتوجد سراويل جينز مستعملة مكتوب عليها بعناية الشعار بقلم الحبر الجاف المستخدَم في المدارس الثانوية بعناية، فضلًا عن البادجات التي يتم وضعها على الملابس.

تنتشر الأخبار السعيدة سريعًا.

كان ذلك مكتوبًا على السبورة عند دخولي حصة الدراسات الاجتماعية للسيدة جالفيس. جلسنا جميعًا على مقاعدنا، وابتسمنا لِما كان مكتوبًا، وشعرت كما لو كانت الكلمات تبادلنا الابتسام. كان هناك شيء مبهج للغاية في فكرة أنه بإمكاننا جميعًا الوثوق في بعضنا البعض، وأن العدو يمكن تحديده. كنت أعلم أن ذلك لم يكن صحيحًا تمامًا، لكنه لم يكن خاطئًا تمامًا أيضًا.

دخلت السيدة جالفيس، ملَّسَت على شعرها، ووضعت الكمبيوتر المحمول المدرسي الخاص بها على مكتبها، وقامت بتشغيله. التقطت الطبشورة، واستدارت لتواجه السبورة؛ فضحكنا جميعًا … بسلامة نية، لكننا ضحكنا.

استدارت لنا، وكانت تضحك هي أيضًا. قالت: «يبدو أن الغرور قد أصاب كاتبي الشعارات في هذه البلاد. كم منكم يعلم من أين أتت هذه العبارة؟»

نظر كلٌّ منا للآخر، وقال أحدنا: «الهيبيز؟» فضحكنا. ينتشر هؤلاء الهيبيز في جميع أنحاء سان فرانسيسكو، سواء النوع القديم منهم من متعاطي المخدرات ذوي الذقون القذرة والتي شيرتات المصبوغة، أو النوع الجديد الأكثر تأنقًا، والذين يهتمون بممارسة ألعاب تافهة أكثر من احتجاجهم على أي شيء على أرض الواقع.

«حسنًا، إنهم الهيبيز. لكننا عندما نفكر في الهيبيز الآن، لا نفكر إلا في الملابس والموسيقى. والملابس والموسيقى من الأمور الثانوية التي منحت لحقبة الستينيات أهميتها.

لقد سمعتم عن حركة الحقوق المدنية التي هدفت للقضاء على التمييز العنصري. شباب أمثالكم من البيض والسود استقلوا حافلات إلى الجنوب لدعم حق السود في الانتخاب، والاحتجاج على التمييز العرقي الرسمي للدولة. كانت كاليفورنيا إحدى المناطق الرئيسية التي ظهر فيها قادة الحقوق المدنية. كنا دومًا أكثر اهتمامًا بالسياسة من باقي الدولة. هذا فضلًا عن أننا أيضًا الجزء الذي تمكن فيه السود من الحصول على وظائف بالمصانع التابعة للنقابات العمالية مثل البيض؛ ومن ثم كانوا أفضل حالًا بعض الشيء من السود في الجنوب.

كان الطلاب في بيركلي يرسلون باستمرار أعدادًا كبيرة من الرُّكاب الأحرار إلى الجنوب، وكان اختيارهم يتم من طاولات استعلامات خاصة في الحرم الجامعي عند تقاطع شارعي بانكروفت وتيليجراف. ولعلكم لاحظتم وجود هذه الطاولات حتى يومنا هذا.

حاولت الجامعة إيقافهم، ومنع رئيس الجامعة العمل السياسي في الحرم، لكن شباب الحقوق المدنية ما كانوا ليتوقفوا. حاولت الشرطة إلقاء القبض على طالب سابق بالجامعة كان يوزع منشورات من إحدى هذه الطاولات، ووضعوه في عربة الشرطة، لكن ٣٠٠٠ طالب حاصروا الشاحنة ورفضوا أن تتزحزح من مكانها. لم يدعوهم يأخذون الشاب إلى السجن. وقفوا على سقف العربة، وأخذوا يلقون الخُطَب عن «التعديل الأول للدستور» و«حرية التعبير».

أثار ذلك «حركة حرية التعبير»، وكانت تلك بداية الهيبيز، لكنها كانت أيضًا مصدر ظهور المزيد من الحركات الطلابية المتطرفة، مثل جماعات القوة السوداء من قبيل «بلاك بانثرز» (الفهود السود)، وما ظهر بعد ذلك من الجماعات الحقوقية للشواذ جنسيًّا مثل «بينك بانثرز» أيضًا، وكذلك الجماعات النسائية المتطرفة، مثل «المنشقات السحاقيات» اللاتي أردن القضاء على الرجال تمامًا! والييبيز … هل سمع أيٌّ منكم من قبل عن الييبيز؟»

فقلت: «أليس هم من رفعوا البنتاجون؟» شاهدت فيلمًا وثائقيًّا ذات مرة عن ذلك.

فضحكت السيدة جالفيس، وقالت: «كنت قد نسيت ذلك، لكن نعم إنهم هؤلاء! كان الييبيز أشبه بهيبيز شديدي الاهتمام بالسياسة، لكنهم لم يكونوا جادين بشأن السياسة مثلما نفكر فيها حاليًّا. فكانوا مرحين للغاية ومبتكرين للمزح. ألقوا بالمال في بورصة نيويورك، وأحاطوا بالبنتاجون بآلاف المتظاهرين، ونطقوا بتعويذة سحرية كان من المفترض أن ترفعه وتحلق به في الهواء. اخترعوا نوعًا تخيليًّا من عقار هلوسة يمكن رشه على الناس باستخدام مسدسات الرش، وأخذوا يصوبونه تجاه بعضهم البعض، ويتظاهرون بأنهم تحت تأثير المخدرات. كانوا مضحكين، ومادة تليفزيونية رائعة؛ قام أحدهم، ويُدعَى «وايفي جرافي»، بجعل المئات من المتظاهرين يرتدون زي سانتا كلوز لتُظهِر الكاميرات إلقاء ضباط الشرطة القبض على سانتا كلوز وجرَّهم له في الأخبار، وقد حشدوا الكثير من الناس.

وكانت أهم اللحظات في تاريخهم المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في عام ١٩٦٨؛ حيث دعوا لمظاهرات للتنديد بالحرب على فيتنام؛ فتوافد على شيكاجو كل يوم الآلاف من المتظاهرين الذين ناموا في المتنزهات، ورابطوا أمام مقر المؤتمر. نفذوا العديد من الأعمال المثيرة الغريبة ذلك العام، مثل ترشيح خنزير يدعَى بيجسس للانتخابات الرئاسية. وقعت مصادمات بين الشرطة والمتظاهرين في الشوارع، وكان ذلك قد حدث عدة مرات من قبل، لكن شرطة شيكاجو لم تكن بالذكاء الكافي بحيث لا تتعرض للمراسلين الصحفيين، فأوسعوا المراسلين ضربًا، وانتقم المراسلون منهم بأن أظهروا ما حدث حقًّا في تلك المظاهرات؛ ومن ثم شاهد المواطنون في جميع أنحاء البلاد أبناءهم وهم يتعرضون لاعتداء ضارٍ من شرطة شيكاجو، وأطلقوا على ذلك «شغب الشرطة».

كانت عبارة «لا تثق في أحد أكبر من ٣٠ عامًا» من المقولات المفضلة لدى الييبيز، وقصدوا بها أن من ولِدوا قبل وقت معين — وهو عندما كانت أمريكا تحارب أعداء مثل النازيين — ما كانوا ليفهموا أبدًا ما يعنيه حبك لبلادك بقدر يجعلك ترفض محاربة الفيتناميين. وكانوا يرون أنه ببلوغ سن الثلاثين، تتبلد مواقفك ويصير من الصعب عليك فهم سبب نزول الشباب إلى الشوارع، وتركهم العمل، وقيامهم بأعمال جنونية.

كانت سان فرانسيسكو نقطة الانطلاق لتلك الأحداث. تأسست الجيوش الثورية هنا، وفجَّر بعضها مباني أو نهب بنوكًا دفاعًا عن قضاياهم. صار الكثير من أولئك الشباب بعد ذلك أكثر أو أقل نضجًا، في حين انتهى المآل بآخرين منهم في السجن، وحقق بعض من لم يكملوا تعليمهم الجامعي منهم إنجازات مدهشة، مثل ستيف جوبز وستيف وازنياك اللذين أسسا شركة أبل لأجهزة الكمبيوتر واخترعا الكمبيوتر الشخصي.»

أثار ذلك انتباهي حقًّا. كنت على علم ببعض منه، لكنني لم أستمع لأحد يتحدث عن الأمر كذلك من قبل، أو لعله لم يهمني من قبل مثلما هو الآن. وفجأة، بدا أن مظاهرات الشوارع البسيطة غير المثيرة أو المجدية التي أقامها البالغون ليست غير مجدية مثلما ظننت، ولعل لها مكانًا في حركة «إكس نت».

رفعت يدي، وسألت: «هل نجحوا؟ هل نجح الييبيز؟»

نظرت إليَّ طويلًا، كما لو كانت تفكر في الإجابة. لم ينطق أحد، وترقبنا جميعًا سماع ما ستقوله.

قالت: «إنهم لم يفشلوا، لكنهم انهاروا داخليًّا بعض الشيء؛ فدخل بعضهم السجن بتهمة المخدرات أو أمور أخرى، وبعضهم غيَّر موقفه، وصاروا مواليين للنظام، ويذهبون للمحاضرات ليخبروا الجميع كم كانوا أغبياء فيما فعلوا، ويتحدثون عن مدى جشعهم وغبائهم.

لكنهم غيَّروا العالم بالفعل؛ فوضعت حرب فيتنام أوزارها، وفقدت الطاعة العمياء والامتثال — التي أسماها الناس وطنية — بريقها إلى حد كبير، وشهدت حقوق السود والمرأة والمثليين تقدمًا كبيرًا، هذا فضلًا عن حقوق الأمريكيين ذوي الأصول المكسيكية، وحقوق المعاقين، والمفهوم الشامل للحريات المدنية الذي نشأ أو تعزز على يد هؤلاء الأفراد. وحركة الاحتجاجات الحالية هي نِتاج مباشر لهذه الصور من النضال.»

قال تشارلز: «لا أصدق أنكِ تتحدثين عنهم بهذا الشكل.» كان يستند على كرسيه حتى صار شبه واقف، ووجهه النحيل الحاد الملامح قد تحول للَّون الأحمر. كانت له عينان كبيرتان لامعتان، وشفتان كبيرتان، وعند إثارة مشاعره، كان يشبه السمكة بعض الشيء.

تسمرت السيدة جالفيس قليلًا، ثم قالت: «واصلْ حديثك يا تشارلز.»

«إن من وصفتِهم لتوِّك إرهابيين … إرهابيون حقيقيون؛ لقد فجروا منشآت، وفقًا لقولك. حاولوا تدمير البورصة. ضربوا رجال الشرطة، ومنعوهم من القبض على من كانوا يخرقون القانون. لقد هاجمونا!»

أومأت السيدة جالفيس برأسها ببطء. كان بوسعي أن أرى أنها تفكر في الكيفية التي ستتعامل بها مع تشارلز الذي بدا وكأنه على وشك الانفجار. قالت: «يطرح تشارلز نقطة مهمة؛ لم يكن الييبيز عملاء أجانب، بل مواطنين أمريكيين. عندما تقول «لقد هاجمونا»، عليك أن تحدد من «هم» ومن «نحن». عندما يكون من يفعل ذلك هم شركاؤك في الوطن …»

صاح فيها مقاطعًا، وقد نهض من على مقعده: «هراء! كانت البلاد في حالة حرب آنذاك، وهؤلاء الناس قدموا يد العون والدعم للعدو. من اليسير تحديد من «هم» ومن «نحن»: إذا كان المرء يدعم أمريكا، فهو «منا»، وإن كان يدعم من يطلقون النار على الأمريكيين، فهو «منهم».»

«هل من أحد آخر يريد التعليق على هذا؟»

ارتفع العديد من الأيدي، وطلبت السيدة جالفيس منهم التحدث. أشار البعض إلى أن السبب وراء إطلاق الفيتناميين النار على الأمريكيين هو أن الأمريكيين قد ذهبوا إلى فيتنام، وأخذوا يحاربون على أراضيها. على الجانب الآخر، رأى البعض أن تشارلز كان على حق في أنه يجب عدم السماح للناس بارتكاب ما يخالف القانون.

تبادل الجميع نقاشًا مثمرًا فيما عدا تشارلز الذي لم يفعل شيئًا سوى الصياح في الآخرين، ومقاطعتهم عند محاولتهم التعبير عن آرائهم. حاولت السيدة جالفيس جعله ينتظر دوره في التحدث عدة مرات، لكنه لم يستجب لأيٍّ منها.

كنت أبحث عن شيء بالكمبيوتر المدرسي المحمول الخاص بي، شيء عرفت أنني كنت قد قرأته من قبل.

وجدته، فنهضت واقفًا. نظرت إليَّ السيدة جالفيس مترقبة ما كنت سأفعله. تابع الآخرون في الفصل نظرتها المحدِّقة، وهدَءُوا. تشارلز نفسه نظر إليَّ بعد فترة قصيرة، وعيناه الكبيرتان اللامعتان تقدحان كراهية نحوي.

قلت: «أريد قراءة شيء ما عليكم، إنها فقرة قصيرة: «تنشأ الحكومات بين الناس مستمِدَّة سلطاتها العادلة من موافقة المحكومين، وإنه عندما يصبح أي شكل من أشكال الحكم في أي وقت من الأوقات هادمًا ومدمرًا لهذه الغايات، يصبح من حق الشعب أن يغيِّره أو يطيح به ويشكِّل حكومة جديدة مقيمًا أساسها على المبادئ، ومنظمًا سلطاتها وفق الكيفية التي تبدو له أفضل ملاءمة لتحقيق سلامته ورفاهيته».»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤