الفصل الثاني عشر

أهدي هذا الفصل إلى فوربيدن بلانِت، سلسلة متاجر كتب الفانتازيا والخيال العلمي والألعاب والمجلات الهزلية وأفلام الفيديو. تنتشر هذه السلسلة في جميع أنحاء المملكة المتحدة، هذا فضلًا عن منافذها بالقرب من الساحات الرياضية في مانهاتن ودبلين بأيرلندا. ودخول هذه المتاجر أمر خطير؛ إذ نادرًا ما أخرج منها دون المساس بمحفظتي. ولا ريب أن هذه السلسلة تتمتع بالريادة حقًّا فيما يتعلق بتحقيق التواصل بين الجمهور العريض للخيال العلمي المعروض في الأفلام والمواد التليفزيونية من ناحية وكتب الخيال العلمي من الناحية الأخرى، ما له أهمية بلا شك لمستقبل هذا المجال.

***

ارتسمت على وجه السيدة جالفيس ابتسامة عريضة، وسألت:

«هل يعلم أحد مصدر هذه الفقرة؟»

نطق مجموعة من الطلاب في آنٍ واحد: «إعلان الاستقلال الأمريكي.»

فأومأت برأسي.

«لماذا قرأت علينا ذلك يا ماركوس؟»

«لأنه بدا لي أن مؤسسي هذه البلاد قد قالوا إن الحكومات يجب ألا تستمر إلا إذا رأينا أنها تعمل لصالحنا، وإذا لم نعد نراها كذلك، فعلينا إسقاطها. هذا ما ينص عليه الإعلان، أليس كذلك؟»

هز تشارلز رأسه، وقال: «كان ذلك منذ مئات السنين! وقد تغير الحال الآن!»

«ما الذي تغير؟»

«حسنًا، لم يعد لدينا ملك مثلًا. إنهم يتحدثون عن حكومة تأسست لأن الجد الأكبر لأحد الحمقى آمن بأن الرب قد كلفه بالمسئولية، وقتل جميع معارضيه. أما الآن، فلدينا حكومة منتخَبة ديمقراطيًّا …»

قلت له: «أنا لم أنتخب هذه الحكومة.»

«وهذا يمنحك الحق إذن بتفجير المنشآت؟»

«ماذا؟ من تحدث عن تفجير أية منشآت؟ إن الييبيز والهيبيز وكل هؤلاء الناس رأوا أن الحكومة لم تعد تصغي إليهم … انظر إلى الطريقة التي عومِل بها من حاولوا دعم حق الناخبين في الإدلاء بأصواتهم في الجنوب! لقد تعرضوا للضرب والاعتقال …»

قالت السيدة جالفيس: «والقتل في بعض الأحيان»، ثم رفعت يديها، وانتظرت مني أنا وتشارلز أن نجلس، وقالت: «كاد وقتنا ينتهي لهذا اليوم، لكنني أريد أن أثني عليكم جميعًا لواحدة من أفضل الحصص التي درَّستها. كانت هذه مناقشة رائعة، وتعلمت منكم جميعًا الكثير فيها، وآمل أن تكونوا قد تعلمتم من بعضكم البعض أيضًا. شكرًا لكم جميعًا على مشاركاتكم.

وأريد أن أعطي واجبًا بدرجات إضافية لمن يرغب منكم في بعض التحدي، أريد منكم كتابة بحث يقارن بين رد الفعل السياسي تجاه حركات الحقوق المدنية والحركات المناهضة للحرب في منطقة الخليج من ناحية، وردود الأفعال السياسية الحالية لجهات الحقوق المدنية تجاه الحرب على الإرهاب من ناحية أخرى. البحث لا يقل عن ثلاث صفحات، لكن يمكن أن يزيد عن ذلك كما تشاءون. أتطلع من الآن لرؤية ما ستتوصلون إليه.»

دقَّ الجرس بعد لحظات، وغادر الجميع الفصل، لكنني تخلفت عنهم، وانتظرت أن تلاحظني السيدة جالفيس.

«نعم يا ماركوس؟»

«كان ذلك رائعًا. لم تكن لدي كل هذه المعلومات عن حقبة الستينيات.»

«والسبعينيات أيضًا. كان هذا المكان دومًا مكانًا مثيرًا للعيش فيه وذلك في أوقات مفعمة بالأحداث السياسية. لقد أعجبني كثيرًا اقتباسك من إعلان الاستقلال؛ كان ذلك في منتهى الذكاء.»

«شكرًا لكِ. وردت الفكرة على ذهني فجأة، فلم أقدِّر قط المعنى الحقيقي لهذه الكلمات قبل اليوم.»

قالت وهي تصافحني: «حسنًا يا ماركوس، هذا كلام يحب أي معلم أن يسمعه. لا يسعني الانتظار حتى أقرأ بحثك.»

•••

اشتريت ملصق «إيما جولدمان» في طريقي إلى المنزل، وألصقته فوق مكتبي وثبَّته على ملصق أسود أنيق. اشتريت كذلك تي شيرت مطبوعةً عليه عبارة «لا تثق في أحد أكبر من ٢٥ عامًا»، وصورة لشخصيتَي «شارع سمسم»؛ جروفر وإيلمو، وهما يطردان البالغَين جوردن وسوزان. أضحكني ذلك، واكتشفت فيما بعد أنه كان هناك نحو ست مسابقات للرسوم ببرنامج «فوتوشوب» لتصميم شعار على الإنترنت على مواقع مثل فارك، وورث ١٠٠٠، وبيتا. وانتشرت المئات من الصور الجاهزة والتي يمكن وضعها على كافة السلع.

رفعت أمي حاجبها عند رؤيتها التي شيرت، في حين هزَّ أبي رأسه، وطلب مني ألا أقحم نفسي في أية مشكلات، وأشعرني رد فعله بأن ما أفعله مبرَّر بعض الشيء.

وجدتني آنج متاحًا على الإنترنت ثانية، وأخذنا نتغازل عبر الرسائل الفورية حتى وقت متأخر من الليل مرة أخرى. عادت الشاحنة البيضاء ذات أجهزة الهوائي، فأغلقت جهاز «إكس بوكس» إلى أن رحلت الشاحنة. اعتدنا جميعًا فعل ذلك.

تحمست آنج بشدة لهذا الحفل الذي من المتوقع أن يكون مذهلًا، وقد اشترك فيه عدد كبير للغاية من الفِرق، حتى إنه قيل إنهم سيقيمون مسرحًا ثانيًا للعروض الثانوية.

«كيف سيحصلون على تصريح لما سيحدثونه من صخب طوال الليل في ذلك المتنزه؟ المنازل تحيط به من كل جانب.»

«تصريح؟ أي تصريح؟ لتحدثني عن تصريحك في أن تكون إنسانًا.»

«في هذا مخالفة للقانون؟»

«ماذا؟! هل أنت قلق حقًّا بشأن مخالفة القانون؟»

«معكِ حق.»

«ههههههههه.»

لكنني شعرت بشيء من العصبية، فأنا أصطحب تلك الفتاة الرائعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى في موعد غرامي في عطلة نهاية الأسبوع — أو بمعنى أدق، هي من كان يصطحبني — إلى حفل صاخب غير قانوني مقام وسط حي مزدحم.

وكان من المفترض أن يكون الأمر ممتعًا على الأقل.

•••

ممتع.

بدأ الناس يتدفقون على متنزه دولوريس طوال فترة ما بعد الظهيرة الطويلة ليوم السبت، وقد برزوا من بين لاعبي الأطباق الطائرة، ومن يتجولون بكلابهم، وبعضهم لعب بالأطباق الطائرة أو تجول بالكلاب. لم يكن من الواضح حقًّا كيف سيسير الحفل، لكن كان هناك الكثير من رجال الشرطة والعملاء السريين في المكان. كان من الممكن تحديد العملاء السريين؛ لأنهم مثل الضابطين اللذين أمسكا بي منذ أيام؛ فاتسموا بقصة شعر كاسترو وبنية جسم قوية: رجال قصار القامة بدناء ذوو شعر قصير وشوارب غير مهذبة. تجولوا في المكان بمظهر أخرق غير مريح في بناطيلهم القصيرة الكبيرة وقمصانهم الفضفاضة، التي أخفت خلفها — بلا شك — ترسانة من الأسلحة المعلقة فيما بين صدورهم وخصورهم.

كان متنزه دولوريس جميلًا مشمسًا يضم نخيلًا، وملاعب تنس، والعديد من التلال والأشجار المنتظمة التي يمكن الركض فيها أو الاسترخاء عندها. ينام المشردون هناك ليلًا، لكن هكذا كان الحال أيضًا في أي مكان آخر في سان فرانسيسكو.

قابلت آنج في الشارع عند متجر الكتب الفوضوي، كان ذلك اقتراحي. أدركت فيما بعد أنني ظهرت بمظهر من يحاول أن يبدو شابًّا معاصرًا أمام تلك الفتاة، لكنني كنت لأُقسم حينها أنني قد اخترت ذلك المكان لأنه مناسب للمقابلة. عند وصولي إلى هناك، وجدتها تقرأ في كتاب اسمه «ارفع يديك على الحائط أيها السافل».

قلت لها: «عنوان لطيف! هل هذه لغة تحدثك مع والدتك؟»

فأجابت: «ولغتك أنت أيضًا. في الحقيقة، هذا كتاب يتحدث عن تاريخ إحدى الجماعات المشابهة للييبيز، لكنها من نيويورك. استخدم جميع أفراد تلك الجماعة كلمة «السافل» كاسم أخير لهم، مثل: «بِن السافل». قامت الفكرة على تكوين جماعة تصنع الأحداث، لكن باسم لا يمكن نشره في الصحافة على الإطلاق، وذلك للتلاعب بوسائل الإعلام الإخبارية. أمر مضحك حقًّا.» أعادت الكتاب لمكانه على الرف، وأخذت أفكر هل من المفترض أن أعانقها أم لا؛ فالناس في كاليفورنيا يعانقون بعضهم البعض دومًا عند التلاقي أو الوداع، ويقبِّلون بعضهم البعض أيضًا أحيانًا على الوجنتين. كنت متحيرًا للغاية بشأن ذلك.

فحسمتْ هي المسألة بأن جذبتني نحوها لتعانقني، وشدَّت رأسي لأسفل لأصل إليها، وقبَّلتني بقوة على وجنتي، ثم دغدغت عنقي بشفتيها. ضحكت ودفعتها بعيدًا.

سألتها: «هل ترغبين في تناول البوريتو؟»

«هل هذا سؤال أو إعلام بما سنفعله؟»

«لا هذا ولا ذاك، إنما أمر.»

اشتريت بعض الملصقات اللطيفة التي تحمل عبارة «هذا الهاتف مُراقَب»، والتي هي مصمَّمة بحجم يتناسب مع وضعها على سماعات الهواتف العمومية التي لا تزال تصطف في شوارع «ميشن»، وهو الحي الذي يمكن أن تصادف فيه أناسًا غير قادرين على تحمل تكلفة شراء هاتف محمول.

سرنا معًا، ونسيم الليل يحفنا. أخبرت آنج بما رأيته في المتنزه عند رحيلي.

قالت: «أراهن على أن هناك المئات من الشاحنات التابعة لهم متوقفة بجميع أرجاء الحي. أفضل الشاحنات للقبض عليك.»

نظرت حولنا، وقلت: «تمنيت أن تقولي شيئًا من قبيل: «حسنًا، لا يمكنهم فعل أي شيء».»

«لا أظن أن هذه هي الفكرة حقًّا، وإنما الفكرة هي وضع الكثير من المدنيين في وضع يكون على رجال الشرطة فيه اتخاذ القرار فيما إذا كانوا سيتعاملون مع هؤلاء الأفراد العاديين على أنهم إرهابيون أم لا. الأمر أشبه قليلًا بالتشويش، لكن باستخدام الموسيقى بدلًا من الأدوات الإلكترونية. تمارس التشويش، أليس كذلك؟»

أنسى أحيانًا أن جميع أصدقائي لا يعلمون أن ماركوس ومايكي شخص واحد. أجبتها: «بلى، قليلًا.»

«يشبه ذلك التشويش باستخدام مجموعة من الفرق الموسيقية الرائعة.»

«فهمت ما تعنيه.»

البوريتو في حي ميشن تقليد؛ فهو يتسم بثمنه الرخيص، وكِبر حجمه، ومذاقه الشهي. تخيل لفائف بحجم البازوكا محشوَّة بلحم مشويٍّ حار، وجواكامولي، وصلصة مكسيكية حارة، وطماطم، وفاصوليا مقلية بعد طهيها، وأرز، وبصل، وكزبرة. إن العلاقة بين البوريتو ومطاعم «تاكو بيل» مثل العلاقة بين سيارات اللعبة «هوت ويلز» وشركة سيارات «لامبورجيني».

يوجد نحو مائتي مطعم للبوريتو في حي ميشن، جميعها كريه للغاية، والمقاعد فيها غير مريحة، وتكاد تخلو من الديكور — خلا بعضَ الملصقات السياحية المكسيكية الكئيبة والصور الثلاثية الأبعاد المضاءة المؤطرة ليسوع وأمه — وتُعزَف فيها الموسيقى المكسيكية الصاخبة. لعل أهم ما يميزها هو نوع اللحم الغريب الذي يملئون به اللفائف. والمطاعم الجيدة حقًّا تقدم المخ واللسان، وهما طلبان لا أطلبهما أبدًا، لكن من الجيد أن تعرف أنهما موجودان.

المكان الذي ذهبنا إليه كان يقدم المخ واللسان؛ ولكننا لم نطلب أيًّا منهما. طلبت شرائح لحم بقري، في حين طلبت هي شرائح دجاج، وحصل كلانا على كوب كبير من الأورتشاتا.

ما إن جلسنا حتى فتحتْ لفافة البوريتو، وأخرجت من حقيبتها زجاجة صغيرة، كانت علبة من الفولاذ الذي لا يصدأ، بدت أشبه ببخاخ للفلفل للدفاع عن النفس. وجهت الزجاجة ناحية محتويات الملفوف، ورشته بمادة زيتية حمراء صافية، وصل بعض منها إلي، فانسد حلقي ودمعت عيناي.

«بالله عليكِ، ماذا تفعلين في هذا الملفوف المسكين؟»

نظرت إليَّ بابتسامة شريرة، وقالت: «أنا مدمنة للطعام الحار، وهذا زيت كابسيسين في بخاخ.»

«كابسيسين …»

«نعم، المادة الموجودة في بخاخ الفلفل. يشبه ذلك ما تحتويه هذه العلبة، لكنه مخفف قليلًا، ومذاقه أفضل بكثير، لتفكر به كقطرة حارة كاجونية للعين.»

شعرت بالتهاب في عيني لمجرد التفكير في ذلك.

قلت لها: «أنت تمزحين بالتأكيد. لن تأكلي ذلك.»

رفعت حاجبيها، وقالت: «أتتحداني يا بني؟ فلتشاهدني فحسب.»

أعادت لف خبز البوريتو بعناية مثل متعاطي المخدرات الذي يلف سيجارة، مع ثني الطرفين إلى الداخل، ثم إعادة لفِّها في ورق الفويل. أزالت الورق من أحد الطرفين، ورفعته إلى فمها مع موازنته على شفتيها.

وإلى أن قضمته، لم أكن أصدق أنها ستفعلها؛ فما وضعته على طعامها هو في الواقع سلاح للدفاع عن النفس.

قضمت، مضغت، بلعت، وعبرت بكل ما لديها عن تناولها عشاء شهيًّا.

قالت في براءة: «أترغب في قضمة؟»

فأجبتها: «نعم»، فأنا أحب الطعام الحار، وأطلب دومًا مع الطعام بنكهة الكاري أربع ثمرات فلفل حار في المطاعم الباكستانية.

أعدت الورق على الملفوف، وتناولت قضمة كبيرة.

وكان ذلك خطأ كبيرًا.

أتعرف ما تشعر به عندما تتناول قضمة كبيرة من الفجل الحار أو الفجل الياباني أو أي شيء من هذا القبيل، وتشعر بانسداد في جيوبك الأنفية وقصبتك الهوائية، وامتلاء رأسك بهواء شديد السخونة يحاول الخروج عبر أنفك المرتشحة وعينيك المبللتين بالدموع؟ والشعور كما لو أن بخارًا على وشك الخروج من أذنيك مثل الشخصيات الكرتونية؟

كان ذلك أسوأ بكثير.

فهو أشبه بوضع يدك على موقد ساخن، لكن الفارق هنا هو أنك لا تضع يدك، وإنما الجزء الداخلي بالكامل من رأسك والمريء وصولًا إلى معدتك. تبلل جسمي بالكامل بالعرق، وبدأت أختنق.

دون أن تنطق آنج بكلمة، مررت لي مشروب الأورتشاتا، وتمكنت من وضع الشفاطة في فمي، وأخذت أمص بقوة، متجرعًا نصف المشروب مرة واحدة.

«هناك مقياس يُسمَّى مقياس سكوفيل نستخدمه نحن عشاق الطعام الحار لتعيين مدى المذاق الحار للفلفل. الكابسيسين الصافي يبلغ نحو ١٥ مليون وحدة سكوفيل، والتاباسكو حوالي ٥٠٠٠٠. أما رذاذ الفلفل، فهو صحي ويبلغ ثلاثة ملايين. وهذه المادة لا تتعدى ٢٠٠٠٠٠؛ أي مثل فلفل «سكوتش بونيت» لطيف، عملت على إعدادها لمدة عام تقريبًا. وبعض المواد القوية قد تصل إلى مليون أو نحو ذلك؛ أي أقوى عشرين مرة من التاباسكو، وذلك حار للغاية. ومع هذه الدرجات من الطعام الحار، يغمر مخك الإندورفين تمامًا، وهو أفضل في تخدير الجسم من الحشيش، ويعود عليك بالنفع.»

بدأ الشعور يعود إلى جيوبي الأنفية مجددًا، وتمكنت من التنفس دون لهاث.

قالت لي وهي تغمز بعينها: «تشعر بمثل هذه النار، بالطبع، عند دخولك دورة المياه.»

يا إلهي!

قلت لها: «أنت مجنونة.»

«حديث جيد من رجل هوايته تركيب أجهزة الكمبيوتر المحمول، وتحطيمها.»

قلت لها: «أصبتِ»، ولمست جبهتي.

أخرجت البخاخ، وقالت: «أترغب في القليل؟»

قلت سريعًا لدرجة جعلت كلينا يضحك: «مرريه!»

عند مغادرتنا للمطعم، وتوجُّهنا إلى متنزه دولوريس، طوقت خصري بذراعها، واكتشفت أن طولها يتناسب مع وضع ذراعي حول كتفيها. وهذا شيء جديد؛ فلم أكن بالشاب الطويل قط، وجميع من واعدتهن كن في نفس طولي؛ الفتيات المراهقات يكبرن أسرع من الشباب، ما يعد قسوة من الطبيعة. كان ذلك لطيفًا، ومَنَحني شعورًا جيدًا.

انعطفنا إلى شارع ٢٠، وسرنا نحو متنزه دولوريس، وقبل أن نتقدم خطوة واحدة، شعرنا بالطنين، كان أشبه بطنين مليون نحلة. تدفق الكثير من الناس إلى المتنزه، وعندما نظرت إليه، رأيت أن ازدحامه قد زاد مئات المرات عما كان عليه أثناء توجهي للقاء آنج.

أثارني ذلك المشهد. كانت ليلة جميلة، وكنا على وشك الاحتفال، الاحتفال بحق بالأكل والشرب والابتهاج كما لو أنه لن يكون هناك غد.

هرولنا سريعًا دون أن ينطق أحدنا بكلمة. امتلأ المكان برجال الشرطة ذوي الوجوه المتوترة، لكن ما كان بإمكانهم فعل أي شيء؛ فأعداد الناس في المتنزه كبيرة. لست جيدًا في حصر أعداد الحشود، لكن الصحف أشارت فيما بعد إلى أن المنظمين قالوا إن عدد الحضور بلغ ٢٠٠٠٠، في حين قال رجال الشرطة إنه كان ٥٠٠٠، ولعل ذلك يعني أنهم كانوا ١٢٥٠٠.

وأيًّا كان العدد، فقد كان أكبر عدد من الناس وقفت بينه في إطار حدث غير قانوني، وغير محدد موعده، وغير حاصل على تصريح بإقامته.

كنا بينهم في لحظة. لا أعتقد أن ذلك الجمع قد ضم أي أحد أكبر من ٢٥ عامًا، وإن كنت لا أستطيع الجزم بذلك. كان الجميع يبتسم. وقد ضم أيضًا بعض صغار السن ممن لا تتجاوز أعمارهم ١٠ أو ١٢ عامًا؛ ما زاد شعوري بالارتياح، فما كان أحد ليفعل أي شيء أحمق وهناك أطفال في هذه السن في المكان. لا أحد يرغب في أذى أطفال صغار. وكان من المتوقع فقط أن يكون حفلًا ربيعيًّا عظيمًا.

اكتشفت أن ما يجب فعله هو التوجه إلى ملاعب التنس. شققنا طريقنا بحذر وسط الجمع، ولكي نبقى معًا أمسك كلٌّ منا بيد الآخر. لم يتطلب بقاؤنا معًا تشابك أصابعنا. كان ذلك للمتعة فقط، وقد كان ممتعًا للغاية.

كانت الفِرق الموسيقية كلها داخل ملاعب التنس، ومعها الآلات من الجيتار وأجهزة مزج الصوت والأورج والطبول. اكتشفت فيما بعد على شبكة «إكس نت» مجموعة من الصور على موقع فليكر توضح تهريب هذه المعدات إلى داخل المتنزه، قطعة تلو الأخرى، في حقائب الملابس الرياضية، وتحت المعاطف. هذا بالإضافة إلى مكبرات الصوت الضخمة، مثل التي تراها في أماكن إمدادات السيارات، وبينها كومة من بطاريات السيارات. ضحكت، فيا لها من براعة! هكذا كانوا سيزودون معداتهم بالطاقة. من حيث وقفت، رأيت أنها بطاريات سيارة هجينة طراز «بريس». أخرج أحدهم محتويات سيارة صديقة للبيئة لتوفير الطاقة اللازمة للحفل. امتدت البطاريات إلى خارج الملاعب، وتكومت قبالة السور، وقُيِّدت بالكومة الأساسية بأسلاك مع ربطها بحلقة السلسلة. أحصيتها … مائتا بطارية! يا للهول! بلغ وزن هذه الأشياء طنًّا.

لا يمكن أن يكونوا قد نظموا ذلك دون بريد إلكتروني، ومواقع ويكي، وقوائم بريدية، ولا يمكن لأفراد بمثل هذا الذكاء فعل ذلك على شبكة الإنترنت العامة. لقد تم كل ذلك على شبكة «إكس نت»، أراهن بعمري على ذلك.

أخذنا نتنقل بين الجموع لفترة من الوقت أثناء استعداد الفِرق الموسيقية وتشاورها مع بعضها البعض. رأيت ترودي دو على بُعد في ملاعب التنس. بدت وكأنها في قفص، مثل مصارع محترف. كانت ترتدي فانلة مقطعة بدون أكمام، وشعرها عبارة عن ضفائر طويلة ذات لون وردي براق تصل إلى خصرها، وترتدي سروالًا عسكريًّا مموَّهًا، وحذاء ضخمًا عالي الرقبة بجزء معدني فوق الأصابع. وبينما كنت أشاهدها، أمسكتْ بسترة درجات بخارية ثقيلة ارتدتها كدرع، ولعلها كانت درعًا بالفعل، كما فهمت بعد ذلك.

حاولت التلويح لها، ربما لأترك انطباعًا لدى آنج، لكنها لم ترني، وبدوت كالأحمق بعض الشيء، فتوقفت. كانت الطاقة التي سرت في الحشد مذهلة. نسمع عادةً عن «الذبذبات» و«الطاقة» التي تسري في المجموعات الكبيرة من الناس، لكنك ستظن على الأرجح أن ذلك صورة بلاغية إلى أن تجربه بنفسك.

لكنه ليس صورة بلاغية؛ فالابتسامات على كل وجه كبيرة وتستشري كالعدوى. الأجسام جميعها تتحرك قليلًا مع إيقاع غير مسموع، والأكتاف تهتز. الناس يتمايلون في سيرهم، يتمازحون ويضحكون. الأصوات كلها يشوبها التوتر والحماس، كما لو كانت ألعابًا نارية على وشك الانطلاق. ولا يسعك فعل أي شيء سوى أن تكون جزءًا مما يحدث … لأنك كذلك بالفعل.

عندما بدأت الفرق الموسيقية في العزف، غلب عليَّ تأثير الحشد المتزاحم. العرض الأول كان نوعًا من الموسيقى الشعبية الصربية لم أعرف كيفية الرقص على إيقاعها. أعلم كيف أرقص على نوعين بالضبط من الموسيقى: الترانس (أجر قدميَّ في المكان، وأدع الموسيقى تحركني)، والبانك (أرقص وأضرب الأرض بقوة حتى تؤلمني قدماي أو أشعر بالإرهاق أو يحدث كلاهما). والعرض التالي كان لمجموعة من فناني «الهيب هوب» من أوكلاند، يدعمهم فرقة ثراش ميتال. وصعدت بعدها فرقة موسيقى بابل جم بوب، ثم فرقة سبيدهورز، وأمسكت ترودي دو بالميكروفون.

«اسمي ترودي دو، ومن يثق بي، فهو أحمق. أبلغ من العمر اثنين وثلاثين عامًا، وبذلك أكون قد تجاوزت سن الأهلية للثقة. لقد ضعت، وأنا محاصرة بالطريقة القديمة للتفكير؛ فلا أزال أرى حريتي أمرًا مفروغًا منه، وأسمح للآخرين في الوقت نفسه بسلبي إياها. أنتم أول جيل يشبُّ في أمريكا وقد تحولتْ إلى ما هو أشبه بمعسكرات عمل قسري أو سجون، وتعلمون قيمة حريتكم تمامًا!»

هتفت الجماهير بقوة، وأخذت ترودي تعزف بسرعة وعصبية على أوتار الجيتار، في حين كانت عازفة الباس المصاحبة لها — وهي فتاة بدينة ضخمة البنيان تقص شعرها كالمثليَّات، وترتدي حذاء بوت أضخم من حذاء ترودي، وعلى وجهها ابتسامة كبيرة للغاية — تعزف معها بسرعة وقوة. أردت أن أقفز في مكاني، فقفزت، وكذلك فعلت آنج. أخذنا نتصبب عرقًا طيلة المساء، وقد امتلأ الأفق برائحة عرق أجسامنا ودخان الماريجوانا؛ فالأجسام الدافئة كانت تتدافع من جميع الأنحاء حولنا، وأخذت تثب لأعلى أيضًا.

صاحت ترودي: «لا تثق في أحد أكبر من ٢٥ عامًا!»

فأخذنا نردد وراءها أكثر من مرة في صوت أشبه بصوت حيوان ضخم يزأر.

عزفت ترودي بعنف على أوتار الجيتار الذي كانت تمسك به، في حين انضمت إليها عازفة الجيتار الأخرى، وهي فتاة ضئيلة الحجم يمتلئ وجهها بثقوب الأقراط، وعلت بصوت موسيقاها إلى أعلى طبقة.

«هذه مدينتنا! وهذه بلادنا، لا يمكن لإرهابي أن يسلبنا إياها ما دمنا أحرارًا. وإذا فقدنا هذه الحرية، يكون النصر للإرهابيين. لنستعِدْ حريتنا! لنستعِدْ حريتنا! فأنتم على درجة كافية من صغر السن والتهور لتعرفوا أنه بإمكانكم الانتصار، وحدكم يمكنكم قيادتنا للنصر! لنستعِدْ حريتنا!»

هتفنا بقوة: «لنستعِدْ حريتنا!» وهي تعزف بقوة على الجيتار. رددنا وراءها، وعلا الصوت ليهزَّ أرجاء المكان.

•••

رقصتُ إلى أن بلغت من الإرهاق درجة عجزت معها عن الرقص لأية خطوة أخرى، ورقصت آنج بجواري. كنا، في حقيقة الأمر، نحك جسدينا المبللين بالعرق أحدنا بالآخر لعدة ساعات، لكن ذلك لم يثرني على الإطلاق، ولك أن تصدق ذلك أو لا تصدقه. واصلنا الرقص، وضِعنا وسط الإيقاع الرائع، والموسيقى، والصياح … «لنستعِدْ حريتنا! لنستعِدْ حريتنا!»

عندما لم أعد قادرًا على الرقص، سحبتها من يدها وأحكمت هي قبضتها على يدي كما لو كنت أنقذها من السقوط من سطح أحد المباني. سحبتني إلى خارج الحشد حيث كان الهواء أكثر برودة وانتعاشًا. وهناك، على أطراف متنزه دولوريس، وقفنا في الهواء البارد والعرق على جسدينا صار باردًا كالثلج في الحال. سرت القشعريرة في جسدينا، فألقت بذراعيها حول خصري، وقالت آمرة: «لتدفِّئني!» لم أكن بحاجة لتلميح. عانقتها، دوت ضربات قلبها بإيقاع النغمات المتسارعة على المسرح، والتي سارت الآن سريعة عنيفة لا تصاحبها أية كلمات.

فاحت منها رائحة العرق، رائحة نفاذة قوية رائعة. كنت أعلم أن الرائحة نفسها فاحت مني. كان أنفي عند قمة رأسها، ووجهها أمام الترقوة لدي بالضبط. حرَّكتْ يديها إلى عنقي وجذبتْه نحوها.

قالت: «انزل إلى هنا، فلم أحضر معي سلمًا»، حاولت الابتسام، لكن من الصعب فعل ذلك أثناء التقبيل.

كما قلت من قبل، لم أقبِّل في حياتي سوى ثلاث فتيات، منهن اثنتان لم تُقبِّلا أحدًا من قبل، والثالثة اعتادت المواعدة منذ كانت في الثانية عشرة من عمرها، وكانت تعاني من مشكلات نفسية.

لم تشبه قبلة آنج قبلة أيٍّ منهن؛ فقد جعلت فمها كله ناعمًا، مثل القلب الناضج لأية ثمرة، ولم تقحم لسانها في فمي، بل دسَّته برقة، ومصت شفتيَّ إلى داخل فمها في الوقت ذاته، فشعرت كما لو أن فمي وفمها قد صارا كيانًا واحدًا. سمعت نفسي أتأوه، جذبتها نحوي واحتضنتها بقوة أكبر.

بهدوء ورقة، نزلنا على الحشائش. رقدنا على جانبينا، تعلق كلٌّ منَّا بالآخر ونحن نتبادل القُبل. اختفى العالم من حولنا، ولم يبقَ سوى القبل.

وصلت يداي إلى مؤخرتها، خصرها، ثم طرف قميصها … بطنها الدافئة وسرتها الناعمة، ثم ارتفعت يداي لأعلى ببطء. تأوهت هي الأخرى.

قالت: «ليس هنا، لننتقل إلى هناك.» وأشارت إلى الجانب الآخر من الشارع؛ حيث كنيسة كبيرة بيضاء هي التي منحت متنزه «ميشن دولوريس» وحي ميشن اسمهما. أمسك كلٌّ منا بيد الآخر، وتحركنا سريعًا عابرين الطريق إلى الكنيسة. اصطفت أمامها أعمدة ضخمة. دفعتني لأستند بظهري على أحد هذه الأعمدة، وسحبت وجهي إليها ثانيةً. امتدت يداي في سرعة وجرأة إلى قميصها، ورفعته لأخلعه عنها.

همست في فمي: «تُخلَع من الخلف.» أثارني ذلك بشدة. مددت يدي إلى ظهرها القوي العريض، وعثرت أصابعي المرتعشة على الإبزيم. تحسسته قليلًا في ارتباك، متذكرًا كل النكات حول مدى سوء الرجال في فك صدرية النساء. وقد كنت سيئًا بالفعل، لكنها فُكَّت فجأة، فلهثَتْ في فمي. مررت يديَّ على جسمها متحسسًا نداوة إبطيها — ما كان مثيرًا وليس مثيرًا للاشمئزاز لسبب ما — ثم جانبَي نهديها.

حينئذٍ، انطلقت صفارات الإنذار.

كان صوتها أعلى من أي شيء سمعته من قبل، صوت أشبه باهتياج بدني، كما لو أن شيئًا يخلعك من مكانك … أعلى صوت يمكن لأذنيك أن تتعامل معه، بل وأعلى.

علا صوت مدوٍّ: «تفرقوا في الحال!»

«هذا تجمع غير قانوني. تفرقوا في الحال!»

توقفت الفرقة الموسيقية عن العزف، وتغير ضجيج الحشد في الاتجاه المقابل من الشارع. شعروا بالذعر والغضب.

سمعت صوت طقطقة عند تشغيل مكبرات الصوت في السيارات، وبطاريات السيارات في ملاعب التنس.

«لنستعِدْ حريتنا!»

كان هتافًا متحديًا يشبه صوت الصياح عند ركوب الأمواج أو السقوط من أعلى جرف.

«لنستعِدْ حريتنا!»

هدر الجمع بصوت اقشعرَّ له بدني، وأخذوا يرددونه مرارًا وتكرارًا.

تحركت قوات الشرطة في صفوف حاملين دروعًا بلاستيكية، ومرتدين خوذات كخوذة دارث فيدر في فيلم حرب النجوم التي تغطي الوجه بالكامل، وحمل كلٌّ منهم هراوة سوداء ونظارة للأشعة تحت الحمراء. بدَوْا كجنود في فيلم حربي تدور أحداثه في المستقبل. تقدموا خطوة للأمام معًا، وضرب كلٌّ منهم بهراوته على الدرع التي كانت معه ليطلق صوت طقطقة كانشقاق الأرض. ومع كل خطوة، طقطقة أخرى. وصاروا بذلك يحاصرون المتنزه من كل جانب، وأخذوا يقتربون.

علا الصوت المدوي ثانيةً: «تفرقوا في الحال!» حينذاك حلقت مروحيات فوق المكان، لكن دون أضواء غامرة. لم يكن ارتداء قوات الشرطة لنظارات الأشعة تحت الحمراء دون داعٍ، فقد كانت هناك أجهزة منظار بالأشعة تحت الحمراء في السماء أيضًا. سحبتُ آنج قبالة بوابة الكنيسة لنختفي عن نظر رجال الشرطة والمروحيات.

دوى صوت في مكبرات الصوت قائلًا: «لنستعِدْ حريتنا!» كان صوت صياح ترودي دو الثوري، وسمعت صوت أوتار جيتارها، ثم عَزْف الطبول، ومن بعده صوت باس عميقًا.

ردد الحشد: «لنستعِدْ حريتنا!» وخرجوا من المتنزه ليصلوا إلى صفوف الشرطة.

لم أشهد حربًا من قبل، لكنني علمت في تلك اللحظات ما تكون عليه بالتأكيد. علمت ما يكون عليه الحال عندما ينطلق شباب خائف في هجوم عبر ميدان القتال تجاه قوة معادية، وهم يعلمون ما سيحدث لهم، لكنهم يركضون في وجه العدو رغم ذلك ويصيحون في حماس.

علا الصوت المدوي: «تفرقوا في الحال!» كان صادرًا من الشاحنات المتوقفة حول المتنزه، وهي الشاحنات التي دخلت إلى المكان خلال الثواني القليلة الماضية.

كان ذلك عندما غشي المكان ما يشبه الضباب الرقيق والذي صدر عن المروحيات، وكنا على حافته. تسبب هذا الشيء في شعوري بأن أعلى رأسي على وشك الانفجار، وبوخز في الجيوب الأنفية، وتورم ودموع في عينيَّ، وانسداد في حلقي.

كان كرذاذ الفلفل، وقوته لا تبلغ ٢٠٠ ألف وحدة سكوفيل، وإنما مليونًا ونصفًا. لقد استخدمته الشرطة ضد الحشد.

لم أر ما حدث بعد ذلك، لكنني سمعت ما طغى على صوت اختناقي أنا وآنج، وتعلق كلٌّ منا بالآخر. أولًا صوت اختناق ومحاولة تقيؤ، ثم توقُّف صوت الجيتار والطبول والباس، ثم سعال.

تلا ذلك صوت صراخ.

استمر الصراخ طويلًا، وعندما تمكنت من النظر ثانيةً، وجدت الشرطة قد سلطت أجهزة المنظار على جباه الشباب، والمروحيات قد غمرت متنزه دولوريس بالأنوار حتى صار الوقت أشبه بالصباح. توجهت الأنظار كلها إلى المتنزه، ما كان أمرًا جيدًا؛ لأنه مع كل هذه الأضواء، صرت أنا وآنج مرئيين تمامًا.

قالت آنج: «ماذا سنفعل؟» كان صوتها مكتومًا خائفًا. لم أثق في قدرتي على التحدث للحظة، وأخذت أبتلع ريقي عدة مرات.

أجبتها: «نبتعد، هذا كل ما يمكننا فعله: الابتعاد عن هنا، كما لو كنا نمر بالمكان فحسب. ونتوجه إلى المتنزه، ثم نستدير يسارًا حتى نصل إلى شارع ١٦، كما لو كنا مارين فقط، ولا علاقة لنا بما يحدث.»

«لن ينجح ذلك أبدًا.»

«هذا كل ما يمكنني التفكير فيه.»

«ألا تعتقد أنه يجدر بنا الركض؟»

«كلا، إذا ركضنا فسيطاردوننا، لكننا إذا سرنا فربما سيعتقدون أننا لم نرتكب أي جرم، ويدعوننا وشأننا. هناك الكثير ممن عليهم اعتقالهم. سيشغلهم ذلك طويلًا.»

امتلأ المتنزه بالأفراد الذين أخذوا يلهثون وينبشون بأظافرهم وجوه رجال الشرطة. سحبتهم القوات من آباطهم، ثم وضعت الأغلال البلاستيكية في معاصمهم، ودفعتهم إلى داخل الشاحنات كما لو كانوا دُمًى.

سألتها: «حسنًا؟»

فأجابت: «حسنًا.»

وهذا ما فعلناه بالضبط. أمسك كلٌّ منا بيد الآخر، وسرنا سريعًا على نحو يظهر أننا في عجلة من أمرنا، كما لو كنا اثنين يرغبان في تجنب مشكلات يحدثها آخرون. وهي الطريقة نفسها التي تتبعها عندما تحاول التظاهر بأنك لم تر متسولًا ما، أو لا ترغب في التورط بأحد الشجارات في الشارع.

ونجحنا.

وصلنا إلى ناصية الشارع، وتابعنا المسير. لم يجرؤ أيٌّ منَّا على التحدث حتى تجاوزنا مربعين سكنيين. وأخيرًا، أخرجت نفسًا لم أكن أعلم أنني كنت أحبسه.

بلغنا شارع ١٦، وانعطفنا نحو شارع ميشن. كان ذلك الحي، في المعتاد، مخيفًا للغاية في الثانية صباحًا يوم السبت، لكنه في تلك الليلة، بعث على الراحة بمن يملئونه من مدمني المخدرات وتجارها، والعاهرات، والسكارى. لم يكن به رجال شرطة بهراوات أو قنابل غاز.

سألتها، ونحن نستنشق هواء الليل: «أترغبين في بعض القهوة؟»

فأجابت: «المنزل. ما أرغب فيه الآن هو العودة للمنزل، والقهوة فيما بعد.»

وافقتها الرأي. كانت تعيش في شارع هايز فالي. وقعت عيني على سيارة أجرة كانت تمر أمامنا، فصحت محاولًا إيقافها. كانت هذه معجزة إلى حد ما؛ فمن الصعب العثور على سيارة أجرة عند الحاجة إليها في سان فرانسيسكو.

«هل معكِ ما يكفي من المال لدفع الأجرة؟»

فردَّت بالإيجاب. نظر قائد السيارة إلينا من النافذة. فتحت الباب الخلفي للسيارة حتى لا يرحل.

قلت لها: «تصبحين على خير.»

وضعت يديها خلف رأسي، وجذبت وجهي نحوها. قبَّلتني بقوة في فمي، لم تكن قبلة مثيرة جنسيًّا، لكنها حميمية.

همست في أذني: «تصبح على خير»، ودخلت السيارة سريعًا.

توجهت إلى المنزل، وقد أصابني الدوار، وكانت عيناي تدمعان، ومزقني الشعور بالخزي؛ لتركي كل أولئك المستخدمين لشبكة «إكس نت» تحت رحمة رجال وزارة الأمن الوطني وشرطة سان فرانسيسكو.

•••

صبيحة يوم الإثنين، كان فريد بينسان يقف خلف مكتب السيدة جالفيس.

وما إن جلسنا على مقاعدنا حتى قال: «السيدة جالفيس لن تدرس لكم هذه المادة من الآن فصاعدًا.» تمتع بينسان بنبرة صوت تنم عن الثقة بالنفس، وهي ما لاحظته على الفور. انحنيت للأمام لأتحقق مما يفعله تشارلز، فوجدته يبتسم كما لو كان اليوم عيد ميلاده، وحصل على أفضل هدية في العالم.

رفعت يدي، وسألت:

«لماذا؟»

فأجاب دون حتى أن يحاول إخفاء مدى سعادته: «تنص سياسة المجلس على عدم مناقشة شئون الموظفين مع أحد فيما عدا الموظف نفسه ولجنة التأديب.»

وواصل الحديث قائلًا: «سنبدأ وحدة جديدة اليوم حول الأمن الوطني. تحتوي أجهزة الكمبيوتر المحمولة التي معكم على النصوص الجديدة. افتحوها، رجاءً، وانتقلوا إلى الشاشة الأولى.»

كانت الشاشة الأولى مزينة بشعار وزارة الأمن الوطني، والعنوان التالي: «ما يجب على كل أمريكي معرفته بشأن الأمن الوطني.»

أردت إلقاء الكمبيوتر على الأرض.

•••

رتبت لقاءً مع آنج بعد دوام المدرسة في مقهى بالحي الذي تعيش فيه. قفزت في أحد قطارات بارت، ووجدت نفسي جالسًا خلف رجلين يرتديان بذلتين. كانا ينظران في صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» التي خصصت صفحة كاملة لخبر «شغب الشباب» في متنزه ميشن دولوريس. كانا يتهامسان حول الخبر، ثم قال أحدهما للآخر: «إنهم كمن تعرضوا لغسيل مخ أو ما شابه. يا إلهي! هل كنا يومًا بهذا الغباء؟»

نهضت، وانتقلت لمقعد آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤