الفصل الخامس عشر

أهدي هذا الفصل إلى سلسلة متاجر الكتب الكندية الوطنية العملاقة تشابترز/إينديجو. لقد كنت أعمل في باكا — متجر كتب الخيال العلمي المستقل — عندما فتحت سلسلة تشابترز أول متجر لها في تورونتو، وعلمت أن شيئًا عظيمًا كان يحدث في هذا الوقت؛ لأن اثنين من أفضل عملائنا وأكثرهم اطلاعًا مرَّا عليَّ في باكا لإخباري بأنه قد تم تعيينهما لإدارة قسم الخيال العلمي هناك. ومن البداية، رفعت تشابترز المعيار لما يجب أن يكون عليه متجر كتب ضخم، بمدِّ ساعات العمل فيه، وإضافة مقهى لطيف بالمكان، والعديد من المقاعد، وتخصيص أماكن للخدمة الذاتية داخل المتجر، وضم مجموعة متنوعة مذهلة من الكتب.

***

أعلنت عن المؤتمر الصحفي بالمدونة، حتى قبل أن أرسل الدعوات للصحافة. كان بوسعي أن أرى أن جميع هؤلاء الصحفيين يريدون أن يجعلوا مني قائدًا أو جنرالًا أو زعيمًا لحرب عصابات، وتوصلت إلى أن أحد سبل إصلاح ذلك هو أن يكون معي مجموعة من مستخدمي شبكة «إكس نت» للإجابة عن الأسئلة أيضًا.

بعثت بعد ذلك برسائل بريد إلكتروني إلى الصحافة، وتنوعت الردود ما بين حيرة وتحمس. مراسلة واحدة فقط من قناة «فوكس» استشاطت غضبًا لوقاحتي في أن أطلب منها أن تلعب لعبة لأظهر في برنامجها التليفزيوني، أما الباقون، فبدوا سعداء بالفكرة، وإن أراد العديد منهم الكثير من الدعم الفني لتسجيل الدخول في اللعبة.

حددت الموعد الساعة الثامنة مساءً، بعد العشاء. ظلت أمي تؤنبني على الأمسيات التي كنت أقضيها خارج المنزل إلى أن صارحتها أخيرًا بعلاقتي بآنج؛ الأمر الذي جعلها تبدو غريبة الأطوار، وظلت تنظر لي نظرة الأم السعيدة بابنها الذي يكبر أمام عينيها. أرادت لقاء آنج، واستغللْتُ الأمر بأن قطعت وعدًا لأمي بأن أُحضِر آنج الليلة التالية إذا تمكنت من الذهاب للسينما معها تلك الليلة.

كانت والدة آنج وشقيقتها بالخارج ثانيةً (ما كانتا تبقيان في المنزل كثيرًا في الواقع)، وبذلك كنت أنا وآنج وحدنا في غرفتها مع جهاز إكس بوكس الخاص بكلٍّ منا. فصلت إحدى الشاشتين الموجودتين بجوار السرير، وأوصلتها بجهاز إكس بوكس الخاص بي، لنتمكن من تسجيل الدخول معًا في آن واحد.

كان الجهازان متوقفين عن العمل، ومسجلًا فيهما الدخول على لعبة «كلوك وورك بلاندر». لقد كنت أُسرِع.

قالت آنج: «ستسير الأمور على ما يرام.» حدقت في شاشتها، وواصلت الحديث قائلةً: «يتضمن سوق «باتش آي بيت» ٦٠٠ لاعب الآن!» لقد اخترنا ذلك السوق لأنه الأقرب لميدان القرية؛ حيث يظهر اللاعبون الجدد. إذا لم يكن الصحفيون لاعبين بالفعل في لعبة «كلوك وورك بلاندر»، فذلك هو المكان الذي سيظهرون فيه. في التدوينة بمدونتي، طلبت من الناس بوجه عام الانتظار في الطريق بين «باتش آي بيت» وبوابة دخول اللاعبين الجدد، وتوجيه أي شخص يبدو كصحفي يجهل المكان إلى السوق.

«يا إلهي! ماذا سأقول لهم؟»

«لتجب عن أسئلتهم فحسب. وإذا لم يعجبك أي سؤال، فلتتجاهله. يمكن لأحد آخر الإجابة عنه. ستسير الأمور على ما يرام.»

«هذا جنون.»

«هذا رائع يا ماركوس. إذا أردت الانتقام من وزارة الأمن الوطني حقًّا، فعليك إحراجها. وليس معنى ذلك أن تتفوق على رجالها في إطلاق النار، وإنما سلاحك الوحيد هو القدرة على جعلهم يبدون كالحمقى.»

استلقيت على السرير، وضعت آنج رأسي في حجرها، وأخذت تمرر يدها برفق على شعري. غيَّرت قصة شعري عدة مرات قبل التفجيرات، وصبغته بكافة الألوان الغريبة. لكن منذ أن خرجت من السجن، لم أعد أهتم؛ فصار طويلًا وأشعث، فدخلت إلى الحمام، وقصصته بماكينة قص الشعر ليصل طوله إلى نصف بوصة من كافة الأنحاء، وهكذا لم يعد يتطلب مجهودًا في العناية به، وجعلني غير ملحوظ عندما كنت أعمل على التشويش ونسخ شرائح تحديد الهوية باستخدام الموجات اللاسلكية.

فتحت عينيَّ، وحدقت في عينيها البُنِّيتين الكبيرتين من خلف نظارتها. كانتا مستديرتين، صافيتين، معبرتين. كانت تبرزهما للخارج عندما تريد إضحاكي، أو تجعلهما رائقتين وحزينتين، أو ناعستين على نحو يجعلني أذوب فيهما.

وكان ذلك ما تفعله في تلك اللحظة.

استقمت في جلستي بهدوء، وعانقتها. بادلتني العناق، وقبَّل كلٌّ منا الآخر. كانت مذهلة في التقبيل. أعلم أنه سبق أن قلت ذلك، لكنها معلومة تستحق التكرار. تبادلنا القبل كثيرًا، لكن لسبب ما كنا نتوقف دائمًا قبل أن نتمادى لما هو أكثر من ذلك.

أما الآن، فقد أردت التمادي لما هو أكثر. عثرت يدي على حافة التي شيرت الذي كانت ترتديه، فرفعته. وضعت يديها على رأسها، وانحنت للوراء قليلًا. كنت أعلم أنها ستفعل ذلك، كنت أعلم منذ ليلة المتنزه. لعل ذلك هو السبب وراء عدم تمادينا لما هو أكثر في المرات السابقة؛ كنت أعلم أنني لا أستطيع الثقة في أنها ستتراجع، الأمر الذي أخافني قليلًا.

لكنني لم أكن خائفًا في تلك اللحظات. المؤتمر الصحفي الذي أوشك على الانعقاد، الشجارات مع والديَّ، الاهتمام العالمي، الشعور بتحركات نشطة حول المدينة، كل ذلك جعلني أشعر بالإثارة الشديدة.

هذا فضلًا عن أنها جميلة، وذكية، وماهرة، وخفيفة الظل، وبدأت أحبها.

انسل التي شيرت الذي كانت ترتديه، وقد ساعدتني حتى أخلعه عنها. وضعت يديها خلف ظهرها وقامت بشيء، وكانت النتيجة أنني قد وجدت حمالة الصدر وهي تسقط. حملقت مشدوهًا ولم أستطع الحركة أو التنفس، ثم قامت هي بشد التي شيرت الخاص بي ونزعته عني، ثم جذبتني ووضعت صدري العاري في مقابل صدرها.

تدحرجنا ببطء على السرير، والتصق كلٌّ منا بالآخر، واعتصر كل منا جسد الآخر وتأوَّهنا. قبَّلَتْ كل مكان في صدري وكذلك فعلتُ أنا. لم أستطع التنفس، لم أستطع التفكير، كل ما استطعت فعله فقط هو التحرك والتقبيل واللمس.

زادت جرأتنا وتجاوزنا هذا. قمت بخلع بنطالها عنها تدريجيًّا، وفعلت هي كذلك بي. وفي لحظة، كنا نحن الاثنان مجردَين من الملابس، فيما عدا جوربي الذي قمت بخلعه بأصابع قدميَّ.

حينذاك، وقعت عيناي على الساعة التي توضع بجانب السرير والتي تدحرجت منذ وقت طويل على الأرض وظلت هناك تعكس نورها علينا.

صِحت: «اللعنة! سيبدأ بعد دقيقتين!» لم أكد أصدق أنني سأتوقف عما أوشكت فعله، أعني أنه لو أن أحدًا سألني: «يا ماركوس، أنت على وشك ممارسة الجنس لأول مرة في حياتك على الإطلاق، هل ستتوقف عن فعل ذلك إذا فجَّرت هذه القنبلة النووية في الغرفة التي ستفعله فيها؟» فستكون إجابتي «لا» بيِّنة لا لبس فيها.

لكن الحقيقة هي أننا توقفنا بالفعل من أجل هذا.

أمسكت آنج بي، وجذبت وجهي نحو وجهها، وأخذت تقبلني إلى أن ظننت أنني سأفقد وعيي. أمسكنا بعد ذلك بملابسنا، وارتديناها، ثم أمسكنا بلوحتي المفاتيح والفأرتين وتوجهنا إلى سوق «باتش آي بيت».

•••

كان بإمكانك تحديد الصحفيين بسهولة؛ فهم غير المتمرسين الذين بدوا كسكارى مترنحين، يتمايلون للأمام والخلف، ولأعلى وأسفل، محاولين استيعاب كل شيء، ويضغطون أحيانًا على مفتاح خاطئ، ويقدمون للغرباء جزءًا من مخزون سلعهم أو كله، أو يعانقونهم أو يركلونهم بين الحين والآخر.

كان من اليسير تحديد مستخدمي شبكة إكس نت أيضًا؛ فكنا جميعًا نلعب لعبة «كلوك وورك بلاندر» متى كان لدينا وقت فراغ (أو لم تكن لدينا رغبة في تنفيذ الواجبات المنزلية)، ولنا هيئة مزينة؛ إذ نحمل أسلحة أنيقة وأشراكًا على المفاتيح تبرز من ظهورنا لتمسك بأي شخص يحاول خطفها لإنفاد طاقتنا.

عندما ظهرت، عرضت رسالة النظام العبارة التالية: «دخل مايكي سوق «باتش آي بيت»: مرحبًا أيها الملاح، نحن نقدم صفقة عادلة مقابل الغنيمة الجيدة.» توقف جميع اللاعبين على الشاشة عن الحركة، ثم تجمعوا حولي، وانهالت المحادثات. فكرت في تشغيل الترحيل الصوتي، واستخدام سماعة رأس، لكنني عندما رأيت عدد الناس الذين كانوا يحاولون التحدث في آن واحد، أدركت كم سيكون الأمر مربكًا. كانت الرسائل النصية أيسر في تتبعها، ولا يمكنهم الاقتباس منها على نحو خاطئ.

استكشفت الموقع من قبل مع آنج، كان اللعب معها أمرًا عظيمًا؛ إذ كان بوسع كلٍّ منا تجديد نشاط الآخر. كان هناك موقع مرتفع على مجموعة من صناديق مؤن الملح يمكنني الوقوف عليها، ويراني الجميع من كل مكان في السوق.

مساء الخير، وشكرًا لكم جميعًا على الحضور. اسمي مايكي، ولست زعيمًا لأي شيء. حولكم في كل مكان مستخدمو شبكة إكس نت الذين لديهم ما يقولونه عن سبب وجودنا هنا مثلي تمامًا. إنني أستخدم شبكة إكس نت لأنني أُومن بالحرية ودستور الولايات المتحدة الأمريكية. إنني أستخدم شبكة إكس نت لأن وزارة الأمن الوطني قد حولت مدينتي إلى دولة شرطية جميعنا فيها إرهابيون مشتبه فيهم. إنني أستخدم شبكة إكس نت لأنني أرى أنه لا يمكن حماية الحرية بالاعتداء على ميثاق الحقوق. لقد عرفت معلومات عن الدستور في مدرسة بكاليفورنيا، ونشأت على حب بلادي لحريتها. وإن كانت لدي فلسفة، فهي ما يلي:

«تنشأ الحكومات بين الناس، مستمدةً سلطاتها العادلة من موافقة المحكومين. وإنه عندما يصبح أي شكل من أشكال الحكم في أي وقت من الأوقات هادمًا ومدمرًا لهذه الغايات، يصبح من حق الشعب أن يغيِّره أو يطيح به ويشكِّل حكومة جديدة مقيمًا أساسها على المبادئ، ومنظِّمًا سلطاتها وفق الكيفية التي تبدو له أفضل ملاءمة لتحقيق سلامته ورفاهيته.»

«ليس ذلك من تأليفي، لكنني أُومن به. وزارة الأمن الوطني تحكمني دون موافقتي.»

«شكرًا لكم.»

كنت قد كتبت هذه الكلمات في اليوم السابق، ووصلت إلى صيغتها النهائية بعد عدد من المسودات بالتشاور مع آنج. إن وضعها على اللعبة لم يستغرق سوى ثانية واحدة، وبضع ثوانٍ لكل من في اللعبة لقراءتها. هتف الكثير من مستخدمي إكس نت مهللين، وارتفعت السيوف وصدحت الببغاوات وطارت فوق الرءوس.

تدريجيًّا، اطلع الصحفيون على هذه الكلمات أيضًا، وانهالت المحادثات سريعًا لدرجة تكاد تحول دون قراءتها، والعديد من مستخدمي شبكة إكس نت يرددون عبارات من قبيل «بالضبط!» و«أمريكا، فلتحبها أو تتركها!» و«رجال الأمن الوطني، فلترحلوا!» و«أمريكا تخرج من سان فرانسيسكو»، كل الشعارات التي تناقلتها مدونات إكس نت.

«مايكي، معك بريا راجنيش من بي بي سي. تقول إنك لست زعيمًا لأية حركة، لكنك تؤمن بأن هناك حركة بالفعل؟ هل تُسمَّى إكس نت؟»

هناك العديد من الإجابات؛ فبعض الناس يقولون إنه لم تكن هناك حركة، والبعض يقول العكس، وتتعدد الأفكار بشأن اسم هذه الحركة: إكس نت، الإخوة الصغار، الأخوات الصغيرات، واسمي المفضل «الولايات المتحدة الأمريكية».

أخذت الأفكار تدور في رأسي، أطلقت العنان لها، محاولًا الوصول إلى ما يمكنني قوله، وما إن توصلت إليه حتى كتبت ما يلي:

«أعتقد أن ذلك يجيب عن سؤالك، أليس كذلك؟ قد تكون هناك حركة واحدة أو أكثر، وقد يكون اسمها «إكس نت» أو لا.»

«مايكي، اسمي داج كريستينسين من «واشنطن إنترنت دايلي». في رأيك ماذا تفعل وزارة الأمن الوطني لمنع وقوع هجوم آخر على سان فرانسيسكو، إذا لم يكن ما تفعله مجديًا؟»

مزيد من الأفكار المتداخلة. قال كثيرون إن الإرهابيين والحكومة واحد؛ سواء بالمعنى الحرفي للكلام أو بمعنى أنهما على الدرجة نفسها من السوء. وقال البعض إن الحكومة عرفت كيف تقبض على الإرهابيين، لكنها فضلت عدم فعل ذلك لأن «رؤساء الحرب» أعيد انتخابهم.

«لا أعلم.»

كتبت أخيرًا:

«لا أعلم حقًّا. أسأل نفسي هذا السؤال كثيرًا لأنني لا أرغب في أن أتعرض للتفجير، أو تتعرض مدينتي لذلك. وإليكم ما توصلت إليه: إذا كانت مهمة وزارة الأمن الوطني هي الحفاظ على أمننا، فهي فاشلة في ذلك؛ فكل الهراء الذي تفعله لن يحول دون تفجير الجسر مرة أخرى: تعقُّبنا بأرجاء المدينة، سلبنا حريتنا، زرع الشك والعداء في نفوسنا بعضنا تجاه البعض، إطلاق صفة الخائنين على المعارضين، الإرهاب يهدف لترهيب الناس، وهذا ما تفعله بي وزارة الأمن الوطني.»

«ليست لدي أية فرصة للتعبير عن رأيي فيما يفعله الإرهابيون بي، لكن إذا كانت هذه دولة حرة، يجب أن أكون قادرًا على الأقل على أن أقول رأيي فيما يفعله رجال الشرطة بي. يجب أن أكون قادرًا على منعهم من إرهابي.»

«أعلم أن هذه ليست إجابة جيدة. آسف!»

«ماذا تعني بقولك إن وزارة الأمن الوطني لن توقف الإرهابيين؟ كيف تعلم بذلك؟»

«من أنت؟»

«أعمل لدى صحيفة «سيدني مورنينج هيرالد».»

«أبلغ من العمر ١٧ عامًا، ولست بالطالب المتفوق على الدوام أو أي شيء من هذا القبيل. رغم ذلك، فقد توصلت إلى عمل شبكة تواصل لا يمكن لأحد التجسس عليها، وتوصلت أيضًا لكيفية التشويش على ما تستخدمه الوزارة من تقنية لتتبع الناس؛ فتمكنت بذلك من تحويل أبرياء إلى مشتبه فيهم، ومذنبين إلى أبرياء في نظر الوزارة، ويمكنني بذلك أيضًا إدخال مواد معدنية على الطائرات أو التحايل على قائمة الممنوعين من السفر. اكتشفت ذلك عن طريق البحث على الإنترنت والتفكير. وإذا كان بإمكاني فعل ذلك، فبإمكان الإرهابيين أيضًا. لقد أخبرونا بأنهم سلبوا حريتنا لتحقيق الأمن لنا، فهل تشعر بالأمان؟»

«في أستراليا؟ بالطبع. نعم، أشعر بالأمان.»

ضحك جميع القراصنة.

طرح مزيد من الصحفيين أسئلة، بعضهم كان متعاطفًا، والبعض الآخر كان عدائيًّا، وعندما شعرت بالتعب، أعطيت لوحة المفاتيح لآنج، وتركتها تلعب دور مايكي لفترة من الوقت. لم أعد أشعر في الحقيقة بأنني ومايكي شخص واحد؛ فمايكي شاب يحادثه الصحفيون الدوليون، ومؤسس حركة. أما ماركوس، فهو طالب مفصول من المدرسة، يتشاجر مع والده، ويتساءل ما إذا كان جديرًا بفتاته الرائعة أم لا.

بحلول الساعة الحادية عشرة مساءً، كنت قد نلت كفايتي من ذلك المؤتمر، هذا فضلًا عن توقع والديَّ عودتي للمنزل قريبًا. سجلت الخروج من اللعبة، وكذلك فعلت آنج، واستلقينا هناك للحظات. أمسكت بيدها، وضغطت عليها بقوة، وتعانقنا.

قبَّلتني، وهمست بشيء ما.

سألتها: «ماذا؟»

فأجابت: «قلت لك إنني أحبك. ماذا؟ أتريد مني أن أرسلها إليك في تلغراف؟»

«يا إلهي!»

«هل فاجأتك إلى هذا الحد؟»

«لا، لكنني فقط … كنت سأصارحك بذلك أيضًا.»

قالت: «بالتأكيد، كنت ستفعل.» وعضَّت طرف أنفي.

فقلت لها: «كل ما في الأمر أنني لم أقلها لأحد من قبل؛ لذلك كنت أتأهب لها.»

«أنت لم تقلها بعد. لا تظن أنني لم ألاحظ ذلك. نحن الفتيات نركز في هذه الأمور.»

قلت لها: «أحبك يا آنج كارفيلي.»

«وأنا أيضًا أحبك يا ماركوس يالو.»

أخذنا يقبِّل كل منا الآخر حتى كادت تنقطع أنفاسنا. حينذاك، طرقت أمها الباب.

قالت: «آنجيلا، أعتقد أنه قد حان وقت عودة صديقك لمنزله، أليس كذلك؟»

قالت وهي تلوح بيدها كما لو كانت تلوح ببلطة: «نعم يا أمي.» وأثناء ارتدائي للجورب والحذاء، همست قائلةً: «سيقولون كم كانت آنجيلا فتاة مطيعة، من كان يتوقع حدوث ذلك. لطالما قضت أوقاتها في الفناء الخلفي تساعد والدتها في شحذ تلك البلطة.»

ضحكتُ، وقلت لها: «ليست لديكِ فكرة عن مدى الحرية التي تتمتعين بها هنا، فما من سبيل أن يتركنا والداي وحدنا في غرفة نومي حتى الساعة الحادية عشرة.»

فقالت وهي تنظر في ساعتها: «٤٥ : ١١».

صحت: «اللعنة!» وربطت حذائي.

قالت: «ارحل، اركض، تحرر! انظر يمينًا ويسارًا قبل عبور الطريق! وداعًا، اتصل بي في أقرب وقت، لا تتوقف حتى لعناق! إذا لم تخرج من هنا قبل رقم عشرة، فستقع في مشكلات سيدي. واحد، اثنان، ثلاثة.»

أسكتها بأن زحفت على السرير، وقبَّلتها إلى أن توقفت عن محاولة العدِّ. نزلت على الدَّرج وجهاز إكس بوكس تحت ذراعي، راضيًا بما حققته من نصر.

وقفت والدتها عند نهاية الدرج. لم أقابلها سوى مرات معدودة. كانت صورة من ابنتها آنج، لكن أطول وأكبر سنًّا، وترتدي عدسات لاصقة بدلًا من النظارات. قالت آنج إن والدها كان أقصر منهما. بدت وقد صنفتني على نحو متردد كفتى صالح، وقدَّرت ذلك منها.

قلت: «تصبحين على خير سيدة كارفيلي.»

فأجابت: «تصبح على خير سيد يالو.» اعتدنا تبادل التحية على هذا النحو منذ أن ناديتها بلقب سيدة كارفيلي في لقائنا الأول.

وجدت نفسي أقف قلقًا عند الباب.

سألتني: «ماذا هناك؟»

فأجبتها: «شكرًا لاستضافتي هنا.»

«مرحبًا بك دومًا في منزلنا أيها الشاب.»

وقلت أخيرًا: «وشكرًا على آنج.» كرهت كم بدا ذلك مبتذلًا، لكنها ابتسمت ابتسامة عريضة، وعانقتني.

قالت: «على الرحب والسعة.»

أخذت أفكر وأنا في الحافلة طوال طريقي إلى المنزل في المؤتمر الصحفي، ومغازلتي لآنج، ووالدتها التي تبتسم في وجهي وهي تقودني إلى الباب.

كانت أمي تنتظر قدومي للمنزل. سألتني عن الفيلم، وأجبت عليها بالإجابة التي كنت قد أعددت لها مسبقًا، مقتبسًا من المقال النقدي الذي كُتِب عن الفيلم في صحيفة «باي جارديان».

عندما استغرقت في النوم، عادت الأحلام تراودني عن المؤتمر الصحفي. كنت فخورًا به حقًّا؛ فمن الرائع أن يظهر كل أولئك الصحفيين المهمين في اللعبة، وأن أجعلهم يستمعون إليَّ وإلى كل من آمنوا بما كنت أُومن به. نمت والابتسامة ترتسم على شفتيَّ.

•••

كان ينبغي لي أن أكون أكثر وعيًا.

زعيم شبكة إكس نت: «يمكنني إدخال مواد معدنية على الطائرات.»

«وزارة الأمن الوطني تحكمني دون موافقتي.»

شباب شبكة إكس نت: «الولايات المتحدة تخرج من سان فرانسيسكو.»

كانت هذه هي العناوين «الجيدة». أرسل إليَّ الجميع المقالات الصحفية كي أضعها على المدونة، لكن ذلك كان آخر شيء أرغب في فعله.

لقد أفسدت الأمر، بشكل أو بآخر. لقد حضرت الجهات الصحفية المؤتمر الصحفي، وتوصلت إلى أننا إرهابيون أو أدوات في أيديهم. أسوأ ما حدث كان من مراسلة من فوكس نيوز ظهرت على الشاشة، وخصصت عشر دقائق للتعليق علينا، متحدثةً عن «خيانتنا الجنائية». كانت عبارتها الأهم التي وجدتها تتكرر بجميع الجهات الإخبارية هي:

«يقولون إنه لا اسم لهم، وقد وجدت لهم اسمًا؛ فلنطلق على هؤلاء الشباب المُدلَّل اسم «قاعدة كاليفورنيا»؛ فهم يؤدون عمل الإرهابيين في الجبهة الداخلية. وعندما تتعرض — أقصد عندما تتعرض وليس إذا تعرضت — كاليفورنيا لهجمات مجددًا، فسيُلقَى باللوم على هؤلاء الشباب المزعجين بقدر ما سيُلقَى على آل سعود.»

اتهمنا كذلك قادة حركة مناهضة الحرب بأننا عناصر ذات آراء متطرفة، وظهر شخص على شاشة التليفزيون ليقول إننا مجندون من وزارة الأمن الوطني لتشويه سمعتهم.

عقدت وزارة الأمن الوطني مؤتمرًا صحفيًّا من جانبها لتعلن أنها ستضاعف قواتها الأمنية في سان فرانسيسكو، وأعلنت عن عثورها على ناسخ لشرائح تحديد الهوية باستخدام الموجات اللاسلكية في مكان ما، وتمت تجربته علنًا باستخدامه في تمثيل سرقة سيارة، ونصحت الوزارة الجميع بضرورة الحذر من الشباب الذين يتصرفون تصرفات مشبوهة، خاصةً الذين لا تظهر أيديهم للعيان.

كان ذلك أمرًا جادًّا. أنهيت بحثي عن كيرواك، وبدأت في بحث عن حركة «صيف الحب»، وهو صيف عام ١٩٦٧؛ حيث تجمع الهيبيز وأعضاء الحركة المناهضة للحرب إلى سان فرانسيسكو. إن من أسسوا شركة «بين آند جيريز» — والذين كانوا من الهيبيز أنفسهم — شيدوا متحفًا للهيبيز في شارع هايت، بالإضافة إلى المعارض وسجلات المحفوظات التي يمكن الاطلاع عليها بأنحاء المدينة.

لكن التجول في الأرجاء لم يكن يسيرًا. بحلول نهاية الأسبوع، كنت قد خضعت للتفتيش أربع مرات في المتوسط يوميًّا. تحقق رجال الشرطة من بطاقة هويتي، وطرحوا عليَّ الأسئلة بشأن سبب وجودي في الشارع، مع قراءة متأنية لخطاب مدرسة شافيز الموضَّح فيه أنني موقوف عن الدراسة.

حالفني الحظ، ولم يُلقَ القبض عليَّ، لكن باقي أعضاء شبكة إكس نت لم يكونوا بالقدر نفسه من الحظ. وكل ليلة، كانت وزارة الأمن الوطني تعلن اعتقالها لعدد أكبر من «زعماء الفتنة» و«العملاء السريين» بشبكة إكس نت، أشخاص لم أعرفهم أو أسمع عنهم من قبل امتلأت بهم شاشات التليفزيون ومعهم أجهزة كشف عن شرائح تحديد الهوية باستخدام الموجات اللاسلكية، وغير ذلك من المعدات التي كانت في جيوبهم. وأعلنوا أن الناس يرشدون عن أسماء بعينها ضمن «شبكة إكس نت»، وأنه من المتوقع القبض على المزيد من الناس قريبًا. واسم «مايكي» كان متداولًا.

أحب أبي ذلك. شاهدنا الأخبار معًا، وهو يحدق بإعجاب، وأنا منكمش من الخوف. قال أبي: «يجدر بك أن ترى ما سيفعلونه مع هؤلاء الشباب. لقد رأيت ذلك بعيني. سيأتون ببعض هؤلاء الشباب، ويتحققون من قوائم أصدقائهم على برنامج المراسلات الفورية وأرقام الاتصال السريع على الهواتف الخاصة بهم، ويبحثون عن الأسماء التي يتكرر ظهورها، والنماذج المتكررة، ليلقوا القبض على المزيد من الشباب. سوف يفككون تلك الشبكة تمامًا.»

ألغيت موعد العشاء مع آنج في مكاننا المفضل، وصرت أقضي مزيدًا من الوقت لديها في المنزل، وأطلقت عليَّ أختها الصغرى تينا اسم «الضيف»، فتقول على سبيل المثال: «هل سيتناول الضيف العشاء معنا الليلة؟» أحببت تينا. كل ما كانت تهتم به هو الخروج، والذهاب إلى الحفلات، والالتقاء بالشباب، لكنها كانت ظريفة ومخلصة تمامًا لآنج. في إحدى الليالي، وبينما كنا نغسل الأطباق معًا، جفَّفت يديها وقالت لتفتح حوارًا معي: «أتعلم يا ماركوس؟ تبدو شخصًا لطيفًا، وأختي مجنونة بك، وأنا أيضًا أحبك. لكن عليَّ أن أخبرك بشيء: إذا تسببت في كسر قلبها، فسأتتبعك وأمزق أحشاءك، وسيكون ذلك سيئًا جدًّا.»

طمأنتها بأن قلت لها إنني أُفضِّل أن أمزق أحشائي بنفسي بدلًا من أن أكسر قلب آنج. فأومأت برأسها وقالت: «إذن، فنحن متفقان على ذلك.»

قلت لآنج: «إن أختك مجنونة!» أثناء استلقائنا على سريرها ثانيةً، وتفقُّدنا لمدونات شبكة إكس نت. كان ذلك ما نفعله أغلب الوقت: المغازلة وقراءة ما يرد على شبكة إكس نت.

«هل حادثتك عن «تمزيق الأحشاء»؟ أكره فعلها لذلك. إنها تحب التحدث على هذا النحو لا أكثر. لا يتعلق الأمر بك.»

قبَّلتها، وواصلنا القراءة.

قالت: «استمع إلى ذلك. ستعلن الشرطة نهاية هذا الأسبوع عن القبض على أربعمائة إلى ستمائة شخص فيما تعتبره أكبر حملة مُنسَّقة على منشقي شبكة إكس نت حتى الآن.»

شعرت أنني سأتقيأ.

قلت لآنج: «علينا إيقاف ذلك. تعلمين أن هناك أناسًا يجرون مزيدًا من التشويش ليظهروا أنهم ليسوا خائفين. أليس ذلك جنونًا؟»

فقالت: «أعتقد أنها شجاعة. لا يمكننا أن نسمح لهم بإخضاعنا عن طريق إخافتنا.»

«ماذا؟ لا يا آنج، لا. لا يمكننا أن نسمح بدخول المئات من الناس إلى السجن. أنت لم تدخليه، لكنني دخلته. إنه أسوأ مما تظنين. إنه أسوأ مما تتخيلينه.»

«يمكنني التخيل جيدًا.»

«توقفي عن ذلك، حسنًا؟ فلتتحدثي بجدية للحظة. لن أفعل ذلك، لن أرسل الناس للسجن ثانيةً. إذا فعلت ذلك، فأنا الشخص الذي تتحدث عنه فان.»

«أنا أتحدث بجدية يا ماركوس. أتعتقد أن الناس لا يعلمون أنه يمكن أن يدخلوا السجن؟ إنهم يؤمنون بالقضية، وكذلك أنت. فلتجعلهم يعرفون ما هم مقدمون عليه. لست أنت من يقرر ما المخاطر التي يمكنهم خوضها أو لا.»

«إنها مسئوليتي لأنني إذا طلبت منهم أن يتوقفوا، فسيفعلون.»

«ظننت أنك لست القائد.»

«لست القائد، بالطبع لست كذلك. لكن بإمكاني المساعدة إذا لجئوا إليَّ للحصول على إرشاد. وطالما يفعلون ذلك، فأنا مسئول عن مساعدتهم في البقاء آمنين. تفهمين ما أعنيه، أليس كذلك؟»

«كل ما أفهمه هو أنك ستهرب عند ظهور بوادر وقوع أول مشكلة. أعتقد أنك خائف من أن يكتشفوا هويتك. أعتقد أنك خائف على نفسك.»

قلت، وأنا أستقيم في جلستي وأبتعد عنها: «هذا ليس منصفًا.»

«حقًّا؟ مَن كاد يصاب بأزمة قلبية عندما علم أن هويته السرية قد كُشِف عنها؟»

«كان ذلك مختلفًا. لم يكن الأمر يتعلق بي، تعلمين ذلك. لماذا تتصرفين هكذا؟»

«لماذا تتصرف «أنت» هكذا؟ لماذا لا تريد أن تكون الشاب الذي واتته الشجاعة ليبدأ كل ذلك؟»

«هذه ليست شجاعة، وإنما انتحار.»

«ميلودراما مراهقين رخيصة يا مايكي.»

«لا تناديني بهذا الاسم!»

«أي اسم؟ «مايكي»؟ لماذا يا مايكي؟»

ارتديت حذائي، وحملت حقيبتي، وسرت عائدًا إلى المنزل.

«لماذا لا أقوم بالتشويش؟»

«لن أخبر أحدًا بعد ذلك بما عليه فعله؛ لأنني لست قائدًا لأحد، بغض النظر عما تراه فوكس نيوز.»

«لكنني سأخبركَ بما أخطط لفعله. وإذا رأيتَ أن ذلك الصواب، فقد تفعله أنتَ أيضًا.»

«لن أقوم بالتشويش. ليس هذا الأسبوع، وربما ليس الأسبوع التالي أيضًا، وليس لأنني خائف، وإنما لأنني بالذكاء الكافي لأعلم أن وجودي خارج السجن أفيد كثيرًا من دخولي إياه. لقد علموا كيف يوقفون خطتنا؛ ولذا علينا أن نتوصل إلى خطة جديدة. لا أهتم ما الخطة، لكنني أريدها أن تنجح. من الغباء التعرض للاعتقال؛ فالأمر لا يتعدى التشويش إذا أفلتَّ من العقاب.»

«ثمة سبب آخر لعدم ممارسة التشويش؛ إذا قُبِض عليكَ، فقد يستخدمونكَ للقبض على أصدقائكَ، وأصدقائهم، وأصدقاء أصدقائهم. وقد يلقون القبض على أصدقائكَ حتى وإن لم يكونوا من مستخدمي شبكة إكس نت؛ وذلك لأن وزارة الأمن الوطني تشبه الثور الهائج، ولا يعنيهم إن كان من قبضوا عليه هو الشخص المطلوب أم لا.»

«لا أملي عليكَ ما تفعله.»

«لكن رجال وزارة الأمن الوطني أغبياء، ونحن أذكياء. التشويش يثبت أنه ليس بوسعهم مكافحة الإرهاب؛ لأنه يؤكد أنهم لا يمكنهم إيقاف مجرد مجموعة من الشباب. فإذا أُلقي القبض عليكَ، فسيجعلهم ذلك يَبدون وكأنهم أذكى منا.»

«ليسوا أذكى منَّا! العكس هو الصحيح. لنكن أكثر ذكاءً. لنصل إلى طريقة للتشويش عليهم، بغض النظر عن عدد الحمقى الذين ينشرونهم في مدينتنا.»

أرسلت ذلك، وذهبت للنوم.

افتقدت آنج.

•••

لم أتحدث أنا وآنج على مدى الأيام الأربعة التالية، والتي تضمنت عطلة نهاية الأسبوع، وعدت بعد ذلك إلى المدرسة. اتصلت بها كثيرًا، وكتبت لها الآلاف من رسائل البريد الإلكتروني والرسائل الفورية التي لم أبعث بها.

عدت إلى حصة الدراسات الاجتماعية، رحبت بي السيدة آندرسن بانحناءة ساخرة، وسألتني برقة كيف كانت «الإجازة» خاصتي. جلست، ولم أنطق بشيء. كان بإمكاني سماع صوت تشارلز وهو يضحك ضحكة خافتة.

كان الدرس عن «القدر المحتوم» المتمثل في فكرة أن الأمريكيين مُقدَّر لهم الهيمنة على العالم بأكمله (أو على الأقل هذا ما جعلت آندرسن الأمر يبدو عليه). وكان من الواضح أنها تحاول إثارتي كي أقول شيئًا ما لتتمكن من طردي.

شعرت بأن العيون جميعها في الفصل موجهة إليَّ، وذكرني ذلك بمايكي ومن ينظرون إليه نظرة تبجيل. سئمت من العيون المعلقة عليَّ، وشعرت بأنني أفتقد آنج.

قضيت ما تبقى من اليوم دون أن يخلف أي شيء أي تأثير عليَّ، ولا أظن أنني قد نطقت بثماني كلمات كاملة.

وأخيرًا، انتهى اليوم، وركلت الأبواب متوجهًا نحو البوابات، وحي ميشن السخيف ومنزلي الفاتر.

لم أكد أخرج من البوابة حتى اصطدم بي شخص ما. كان شابًّا متشردًا ربما يماثلني في العمر أو يكبرني قليلًا، وكان يرتدي معطفًا طويلًا ملوثًا بالشحم، وبنطال جينز فضفاضًا، وحذاءً رياضيًّا متآكلًا كما لو كان قد دخل جهازًا لتقطيع الخشب. انسدل شعره الطويل على وجهه، وغطت لحية شعثة عنقه في غير انتظام وصولًا إلى ياقة السترة المحبوكة عديمة اللون.

لمحت كل هذه التفاصيل أثناء استلقائي بجواره على الرصيف، والناس يمرون بجانبنا ويرمقوننا بنظرات غريبة. يبدو أنه قد اصطدم بي أثناء ركضه بشارع فالينسيا، وانحنى مع حمل حقيبة الظهر التي خرجت محتوياتها بجواره على الرصيف، وقد غطته أقلام التحديد في رسوم هندسية عابثة.

نهض ليجلس على ركبتيه، وأخذ يتأرجح للأمام والخلف، كما لو كان تحت تأثير الخمر أو اصطدمت رأسه.

قال: «آسف، لم أرك، هل أصبت بسوء؟»

نهضت أنا أيضًا، لم أشعر بأنني أصبت بسوء.

«كلا، لم يحدث شيء.»

وقف وابتسم. كانت أسنانه مستقيمة وناصعة البياض كما لو كانت في إعلان عن عيادة لتقويم الأسنان. مدَّ يده نحوي، واتسمت قبضته بالقوة.

«أنا عن جد آسف.» كان صوته أيضًا واضحًا ودالًّا على الذكاء. توقعت أن يكون صوته كالسكارى الذين يتحدثون مع أنفسهم أثناء تجولهم في حي ميشن في وقت متأخر من الليل، لكن صوته بدا كموظف مطلع في متجر للكتب.

قلت له: «لا بأس.»

مدَّ يده مرة أخرى.

قال: «زيب.»

فقلت: «ماركوس.»

«تشرفت بلقائك يا ماركوس. أتمنى أن ألقاك مصادفةً ثانيةً!»

حمل حقيبة ظهره ضاحكًا، واستدار ومضى سريعًا.

•••

سرت ما تبقى من الطريق إلى المنزل في حالة من الارتباك. كانت والدتي تجلس على طاولة المطبخ. تبادلنا أطراف الحديث عن أشياء غير مهمة، وما كانت عليه أحوالنا قبل أن يتغير كل شيء.

صعدت إلى غرفتي، ارتميت بتثاقل على الكرسي. وهذه المرة، لم أرغب في تسجيل الدخول على شبكة إكس نت. كنت قد دخلت عليها صباح ذلك اليوم قبل الذهاب إلى المدرسة، واكتشفت أن ملاحظتي قد أثارت جدلًا واسع النطاق بين مَن اتفقوا معي ومن انزعجوا — ومعهم العذر في ذلك — من أنني أطلب منهم التخلي عن نشاطهم المفضل.

كنت في خضم العمل على مشروعات عديدة عندما بدأ كل ذلك؛ فقد كنت أصمم كاميرا ذات ثقب من مكعبات الليجو، وأمارس التصوير الفوتوغرافي بالطائرات الورقية باستخدام كاميرا رقمية قديمة ذات زر يبرز من موضع غريب يمتد للخارج عند الإطلاق، ويرجع للخلف ببطء إلى شكله الأصلي ليحرك مصراع الكاميرا على فترات زمنية منتظمة. كان لديَّ مكبر معتمد على صمامات مُفرَّغة وضعته داخل علبة زيت زيتون صدئة متبعجة قديمة للغاية، والذي بدا ككشف أثَري. وما إن انتهيت منه حتى خطَّطت لتصميم قاعدة شحن لهاتفي، ومجموعة من مكبرات الصوت من علب التونة.

تفقدت طاولة العمل الخاصة بي، وأمسكت أخيرًا بالكاميرا ذات الثقب. من الناحية المنهجية، تمتعت بالسرعة المناسبة لتركيب مكعبات الليجو.

خلعت ساعة يدي، والخاتم الفضي السميك الذي يوضع في إصبعين، وكان على شكل قرد ومقاتل نينجا متأهبَين للقتال. ألقيت بالساعة والخاتم في الصندوق الصغير الذي احتفظت فيه بكل الأشياء التي كنت أحملها في جيوبي وحول عنقي قبل الخروج لقضاء يومي: الهاتف، والمحفظة، والمفاتيح وجهاز البحث عن إشارات الواي فاي، والنقود الفكة، والبطاريات، والكابلات القابلة للسحب … إلخ. أفرغت كل ذلك في الصندوق، ووجدتني أمسك بشيء آخر لا أذكر وضعي له في جيبي.

كان قطعة ورق رمادية ناعمة الملمس مثل النسيج الصوفي الناعم، وخشنة عند الأطراف حيث المكان الذي مُزِّقت منه من ورقة أكبر حجمًا. ومكتوب على الورقة بخط دقيق ومكتوب بعناية تفوق أي خط آخر رأيته من قبل. فتحت الورقة، ورفعتها. غطت الكتابة جانبي الورقة من الزاوية اليسرى العليا بأحد الوجهين وصولًا إلى توقيع غير مقروء بالجانب الأيمن الأدنى بالوجه الآخر.

وما كان في التوقيع سوى اسم: «زيب».

رفعت الورقة، وبدأت أقرأ ما فيها:

«عزيزي ماركوس»

«أنت لا تعرفني، لكنني أعرفك. على مدار الشهور الثلاثة الماضية، منذ تفجير جسر باي، كنت مسجونًا على جزيرة «تريجر آيلاند»، وقد كنت في الفناء في ذلك اليوم الذي تحدثت فيه مع فتاة آسيوية الأصل، وأُمسِك بك. أحييك على شجاعتك في ذلك.»

«أُصِبت بانفجار في الزائدة الدودية في اليوم التالي، وانتهى بي الحال في المستشفى. وفي السرير المجاور لي رقد شاب يدعى داريل. ظللنا معًا في مرحلة نقاهة لفترة طويلة، وعندما استعدنا عافيتنا، كان من المحرج للغاية لهم أن يطلقوا سراحنا.»

«ومن ثم، قرروا أننا مذنبون بما لا يدع مجالًا للشك. أخذوا يستجوبوننا كل يوم. لقد خضعت لاستجواباتهم على ما أعتقد. تخيل استمرار ذلك شهورًا. انتهى بي الحال مع داريل في زنزانة واحدة، وكنا نعلم أنهم يتنصتون علينا؛ ولذلك لم نتحدث إلا في الأمور غير ذات الصلة بالموضوع. لكن في الليل، وبينما نحن مستلقيان على سريرينا، كنا نتراسل في هدوء بنظام مورس (علمت أن أيام ممارستي لهواية اللاسلكي ستؤتي ثمارها يومًا ما).»

«في البداية، كانت أسئلتهم لنا هي الأسئلة الغبية ذاتها: من فعل ذلك؟ وكيف؟ لكن بعد فترة قصيرة، انتقلوا للتحدث عن شبكة إكس نت، وبالطبع لم نكن قد سمعنا عنها من قبل. لكن ذلك لم يجعلهم يكفوا عن سؤالنا عنها.»

«أخبرني داريل أنهم أحضروا له أجهزة لنسخ شرائح تحديد الهوية باستخدام الموجات اللاسلكية، وأجهزة إكس بوكس، وجميع أنواع التقنيات الأخرى، وطلبوا منه إخبارهم بهوية من يستخدمونها، وأين تعلموا تعديلها. أخبرني داريل عن ألعابك، وما تعلمته.»

«سألتنا وزارة الأمن الوطني، على وجه الخصوص، عن أصدقائنا: من نعرفهم؟ وما طبيعتهم؟ وهل لديهم أي انتماءات سياسية؟ هل دخلوا في مشكلات بالمدرسة؟ هل هي مشكلات متعارضة مع القانون؟»

«أطلقنا على السجن اسم «جوانتانامو الخليج». مر أسبوع على خروجي من السجن، وأظن أن الجميع لا يعلمون أن أبناءهم وبناتهم مسجونون وسط الخليج. يمكنك سماع الناس ليلًا يضحكون ويحتفلون على البر الرئيسي.»

«خرجت الأسبوع الماضي. لن أخبرك كيف حدث ذلك خشية أن تقع هذه الورقة في الأيدي الخاطئة. وربما ينهج نهجي آخرون.»

«أخبرني داريل كيف أجدك، وجعلني أعده بأن أخبرك بما علمته عند عودتي. والآن، وبعد أن فعلت ذلك، سأرحل عن هنا كما فعلت العام المنصرم. بطريقة أو بأخرى، سأرحل عن هذا البلد. اللعنة على أمريكا.»

«لتتحلَّ بالقوة. إنهم يهابونك، فلتنتقم لي منهم، واحرص على ألا يُقبَض عليك.»

«زيب»

اغرورقت عيناي بالدموع مع انتهائي من قراءة الرسالة. كانت لدي قداحة في مكان ما على مكتبي، كنت أستخدمها أحيانًا لصهر المادة العازلة على الأسلاك. أخرجتها، ووضعتها بجوار الرسالة. علمت أنني أدين لزِيب بتدميرها والتأكد من ألا يراها أحد غيري، خشية أن تؤدي إلى توصل الشرطة إليه، أيًّا كان المكان الذي سيقصده.

حملت الشعلة والرسالة، لكنني لم أستطع فعل ذلك.

داريل.

لقد نسيته تمامًا وسط كل ما أعيشه من مشكلات: شبكة إكس نت، وآنج، ووزارة الأمن الوطني. لقد صار شبحًا كما لو كان صديقًا عرفته قديمًا وانتقل بعيدًا أو سافر ضمن برنامج لتبادل الطلاب. طوال ذلك الوقت، كانوا يستجوبونه، ويطلبون منه الوشاية بي، وشرح شبكة إكس نت والمشوشين على عملهم. لقد كان على جزيرة «تريجر آيلاند»، تلك القاعدة العسكرية المهجورة التي تقع في منتصف الطريق على امتداد جسر باي المدمَّر. لقد كان قريبًا لدرجة أنه كان بإمكاني السباحة وصولًا إليه.

أنزلت القداحة من يدي، وقرأت الرسالة مرة أخرى. وعندما انتهيت منها، وجدت نفسي أبكي وأنشج. عاودتني ذكرى كل شيء: السيدة ذات الشعر القصير، والأسئلة التي طرحتها عليَّ، ورائحة البول الكريهة، وتيبس سروالي بعد أن جففه البول ليحوله إلى قماش خشن.

«ماركوس!»

كان باب غرفتي مفتوحًا بعض الشيء، ووالدتي تقف عنده تشاهدني، وارتسمت على وجهها نظرة قلقة. كم مضى على وجودها هناك؟

مسحت الدموع من على وجهي، وتنشقت مخاط أنفي. قلت لها: «مرحبًا، أمي!»

دخلت الغرفة، وعانقتني. سألتني: «ما بك؟ هل ترغب في التحدث معي؟»

كانت الرسالة على الطاولة.

«هل هذه رسالة من صديقتك؟ هل كل شيء على ما يرام؟»

أعطتني بذلك حجة؛ وكان بإمكاني إلقاء اللوم في حالتي على وقوع مشكلات مع آنج، وبذلك، ستخرج من غرفتي وتتركني لحالي. فتحت فمي لفعل ذلك، وما قلته كان:

«لقد كنت في السجن، بمكان ما خلف الجسر. كنت في السجن طوال تلك الفترة.»

النشيج الذي صحب حديثي بدَّل صوتي بصوت آخر، فبدا كصوت حيوان، حمار مثلًا أو مواء قطة ضخمة في الليل. أصابني ذلك النشيج باحتراق وألم في حلقي، وأخذت ألهث.

ضمتني أمي بين ذراعيها كما كانت تفعل عندما كنت طفلًا صغيرًا، وأخذت تمرر يدها في شعري. همست في أذني، وأخذت تهزني حتى تبدد النشيج تدريجيًّا وبهدوء.

أخذت نفسًا عميقًا، وأحضرت لي أمي كوبًا من الماء. جلستُ على طرف سريري، وجلست هي على كرسي مكتبي، وأخبرتها بكل شيء.

كل شيء.

حسنًا، معظمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤