الفصل الرابع

أهدي هذا الفصل لسلسلة متاجر الكتب الأمريكية بارنز آند نوبل. مع اختفاء متاجر الكتب الصغيرة، شرعت متاجر بارنز آند نوبل في تشييد هذه القلاع الضخمة للقراءة بجميع أنحاء البلاد. ومن خلال احتوائها على عشرات الآلاف من الكتب (لا تضم متاجر الكتب بالمراكز التجارية الكبرى والأرفف الدوارة بمتاجر البقالة سوى نسبة صغيرة من هذا الكم فحسب)، وفتح أبوابها لساعات طويلة تناسب العائلات، والعاملين، وغيرهم من القُرَّاء المحتملين؛ أبقت سلسلة متاجر بارنز آند نوبل على عمل الكثير من الكُتَّاب، بضمها كتبًا لا يمكن للمتاجر الصغيرة تحمُّل تكلفة الاحتفاظ بها على أرففها المحدودة. ولطالما تبنت متاجر بارنز آند نوبل برامج فعالة للتواصل مع المجتمع. هذا وقد أقمت بعضًا من أفضل حفلات التوقيع لكتبي — سواء من ناحية الحضور أو التنظيم — في هذه المتاجر، مثل الحفلات الضخمة التي أقيمت بفرع سلسلة متاجر الكتب في ميدان يونيون بنيويورك؛ حيث عُقِد حفل التوقيع الضخم بعد حفل توزيع جوائز نبيولا، وفرع شيكاجو الذي استضاف الحدث بعد حفل توزيع جوائز نبيولا ببضع سنوات. أهم ما يميز بارنز آند نوبل أن البائعين «الخبراء» يتمتعون بقدر هائل من المعرفة فيما يتعلق بالخيال العلمي، والقصص المصورة الهزلية، وقصص المانجا، والألعاب، وما شابه ذلك من الكتب، ولديهم شغف ومعرفة بهذا المجال، الأمر الذي يتجلى في الاختيار الرائع للكتب المعروضة في واجهات المتاجر.

***

قيدوني ثانيةً، ووضعوا الكيس مرة أخرى على رأسي، وتركوني هناك. وبعد فترة طويلة من الوقت، بدأت الشاحنة في التحرك متجهةً أسفل التل، ثم جُذِبتُ لأقف على قدميَّ. سقطت أرضًا على الفور. كانت ساقاي خَدِرتين تمامًا كما لو كانتا قطعتين من الثلج، فيما عدا ركبتيَّ اللتين تورمتا وصارتا مؤلمتين عند اللمس نتيجة للساعات الطويلة التي ظللت فيها جاثيًا.

جذبتني بعض الأيدي من كتفيَّ وقدميَّ، ورفعتني ككيس البطاطس. سمعت بعض الأصوات من حولي، دون أن أتمكن من تمييزها. كان هناك أحد يبكي وآخر يسبُّ.

حُمِلتُ لمسافة صغيرة، ثم أُنزِلت، وأُعيد تكبيلي بقضيب آخر. لم تقوَ ركبتاي على حملي أكثر من ذلك، فانحنيت للأمام، لينتهي بي الحال ملتويًا على الأرض كبسكويت العُقديَّة، ممددًا عكس اتجاه الأغلال وممسكًا بمعصميَّ.

أخذنا نتحرك ثانيةً، وفي تلك المرة، راودني شعور بأننا لسنا داخل شاحنة؛ فالأرضية تحتي كانت تتمايل برقة، وتهتز بفعل محركات ديزل قوية؛ فأدركت أننا على متن سفينة! شعرت بالهلع، إنني أُرحَّل من الشواطئ الأمريكية إلى مكان «آخر»، ومن يدري ما هذا المكان؟ سبق أن انتابني الفزع من قبل، لكن هذه الفكرة روَّعتني، وأصابتني بالشلل، وعدم القدرة على الكلام. أدركت أنني قد لا أرى والديَّ ثانيةً أبدًا، وشعرت بالفعل ببعض القيء يحترق في حلقي، شعرت بالاختناق داخل الكيس الموجود على رأسي، ولم أعد قادرًا تقريبًا على التنفس، الأمر الذي ازداد نتيجة للوضع الغريب الملتوي الذي كنت عليه.

لكن من رحمة الأقدار أننا لم نمكث طويلًا في الماء. بدا الأمر وكأنه قد مضى ساعة، لكنني أعلم الآن أننا لم نمكث في الماء سوى خمس عشرة دقيقة فحسب، ثم شعرت بأن السفينة ترسو، وبوقع خطوات من حولي على ظهرها، والمساجين الآخرون تُفَك قيودهم ويُحمَلون أو يُقادون بعيدًا. وعندما حان دوري، حاولت الوقوف مرة أخرى، لكنني لم أستطع، فحملوني ثانيةً على نحو قاسٍ مجرد من أي شعور.

وعند رفعهم الكيس من على رأسي ثانيةً، كنت داخل زنزانة.

كانت زنزانة قديمة متهالكة تفوح منها رائحة هواء البحر، احتوت على نافذة واحدة على ارتفاع عالٍ، تؤمنها قضبان صَدِئة. كان الظلام لا يزال يخيم على المكان بالخارج، وعلى أرضية الزنزانة وجِدت بطانية، ومرحاض معدني صغير دون قاعدة ومثبَّت بالحائط. كشَّر الحارس الذي خلع الكيس عن رأسي في وجهي، ثم أغلق الباب الفولاذي الصلب خلفه.

أخذت أدلك ساقيَّ برفق، مُصدِرًا أنينًا خفيضًا والدماء تعود إليهما وإلى يديَّ ثانيةً. تمكنت أخيرًا من الوقوف، ثم السير جيئة وذهابًا. سمعت أناسًا آخرين يتحدثون، ويبكون، ويصيحون. أخذت أصيح أنا أيضًا: «خولو! داريل! فانيسا!» شرعت أصوات أخرى في مجموعة الزنزانات في الصياح منادين على أسماء أشخاص أيضًا، أو مطلقين السباب، والأصوات الأقرب مني بدت كالسكارى على نواصي الشوارع الذين أفقدتهم الخمر صوابهم، ربما كان ذلك حالي أيضًا.

صاح الحراس فينا لنهدأ، الأمر الذي لم يسفر إلا عن صياحنا بصوت أعلى. وفي النهاية، كنا جميعًا نعوي ونصرخ بكل ما أوتينا من قوة، ولم لا؟ ماذا كان لدينا لنخسره؟!

•••

المرة التالية التي حضروا فيها لاستجوابي، كنت قذرًا، مرهقًا، عطشًا، وجائعًا. ضم فريق الاستجواب الجديد السيدة القاسية ذات الشعر القصير، إلى جانب ثلاثة رجال ضِخام الجثة، وقد أخذوا يديرونني كقطعة لحم. كان أحدهم أسود البشرة، في حين كان الاثنان الآخران أبيضين، وإن كان أحدهما يبدو من أصول لاتينية. وحمل جميعهم أسلحة. إن الأمر كان يشبه إعلانًا لإحدى كبريات شركات الملابس والذي تخلله جزء من لعبة حربية.

أخذوني من زنزانتي، وكبلوا معصميَّ وكاحليَّ. انتبهت لما حولي أثناء سيرنا، فسمعت صوت مياه بالخارج، وظننت أننا ربما نكون في ألكتراز، فهو في نهاية الأمر سجن، وإن تحول إلى معلم سياحي منذ فترة طويلة. إنه السجن الذي تذهب إليه لرؤية المكان الذي قضى فيه آل كابوني وأفراد عصابته المعاصرون له مدة عقوبتهم. لكنني سبق أن زرت سجن ألكتراز في إحدى الرحلات المدرسية، كان قديمًا، صَدِئًا، عتيق الطراز. أما ذلك المكان، فيبدو أن تاريخ تشييده يعود للحرب العالمية الثانية، وليس الحقبة الاستعمارية.

احتوى المكان على رموز باركود مطبوعة بالليزر على أوراق لاصقة، وموضوعة على أبواب الزنزانات. هذا فضلًا عن الأرقام، لكن فيما عدا ذلك، ما من سبيل لمعرفة مَن أو ما يوجد خلف أبواب هذه الزنزانات.

كانت غرفة الاستجواب حديثة الطراز، ومنارة بأضواء فلوريسنت، ومزودة بمقاعد مريحة — ليس أنا من سيجلس عليها، فمقعدي كرسي حديقة بلاستيكي قابل للطي — وطاولة خشبية كبيرة كالمستخدمة في قاعات الاجتماعات. كانت هناك مرآة معلقة على الحائط، مثل المسلسلات البوليسية بالضبط، واستنتجت أن شخصًا ما يراقبنا من خلفها بلا شك. جلبت السيدة ذات الشعر القصير ورفاقها القهوة لأنفسهم من وعاء ضخم موضوع على مائدة بأحد جوانب الغرفة (كان بإمكاني تمزيق عنقها بأسناني، والاستيلاء على القهوة في تلك اللحظة)، ثم وضعت كوبًا بلاستيكيًّا من الماء بجواري، دون تحرير معصميَّ المكبلين خلف ظهري كي أتمكن من الوصول إليه. أمر مضحك حقًّا!

قالت السيدة: «مرحبًا يا ماركوس! ماذا عن نظرتك لوضعك اليوم؟»

لم أنطق.

«أتعلم، ليس هذا أسوأ ما يمكن أن تصل إليه الأمور، وإنما «أفضلها» من الآن فصاعدًا. حتى عندما تخبرنا بما نريد أن نعرفه، وإن نجح ذلك في إقناعنا بأنك كنت في المكان الخطأ في التوقيت الخطأ، فقد صرت مشبوهًا الآن. سنراقبك في أي مكان تذهب إليه، وأي شيء تفعله. لقد تصرفت كما لو كان لديك شيء تخفيه، ونحن لا نحب ذلك.»

كم كان ذلك مثيرًا للشفقة، لكن كل ما كان بوسعي التفكير فيها آنذاك هو عبارة «إقناعنا بأنك كنت في المكان الخطأ في التوقيت الخطأ.» هذا أسوأ ما حدث لي على الإطلاق. لم أشعر مطلقًا بمثل هذا الشعور السيئ أو الخوف من قبل. كانت هذه الكلمات الخمس «المكان الخطأ في التوقيت الخطأ» بمثابة طوق النجاة لي.

طقطقت السيدة ذات الشعر القصير أصابعها أمام وجهي وهي تقول: «ماركوس، أين ذهبت يا ماركوس؟» ارتسمت على وجهها ابتسامة بسيطة؛ ما جعلني أمقت نفسي لسماحي لها برؤية خوفي. «يمكن أن يصير الوضع أسوأ من ذلك بكثير يا ماركوس. ليس هذا أسوأ مكان يمكننا وضعك فيه، هناك ما هو أسوأ بكثير.» مدَّت يدها أسفل الطاولة، وأخرجت حقيبة جلدية، فتحتها وأخرجت منها هاتفي، وجهاز تصيد/تقليد شرائح تحديد الهوية باستخدام الموجات اللاسلكية، وجهاز البحث عن إشارات الواي فاي، وأجهزة الذاكرة المحمولة. أخذت تضعها على الطاولة واحدًا تلو الآخر.

«إليك ما نريده منك؛ عليك أن تحل شفرة الهاتف لنا اليوم. إن فعلت ذلك، فسنمنحك امتياز الخروج من الزنزانة والاغتسال. سيُسمَح لك بالاستحمام، والسير في أرجاء فناء التريُّض. وغدًا، سنستدعيك ثانيةً، ونطلب منك فكَّ شفرة البيانات المخزنة على أجهزة الذاكرة هذه. إذا فعلت ذلك، فسيُسمَح لك بالأكل في قاعة الطعام. وفي اليوم التالي، سنطلب منك كلمات مرور بريدك الإلكتروني، وبذلك ستُمنَح امتيازات الدخول إلى المكتبة.»

كدت أنطق بكلمة «لا»، كما لو كانت جشأة تحاول الخروج من فمي، لكنها لم تخرج، وجاءت بدلًا منها: «لماذا؟»

«نريد التأكد من أنك ما تبدو عليه بالفعل. هذا من أجل سلامتك يا ماركوس. أنت تقول إنك بريء، ربما تكون كذلك حقًّا، غير أنني لا أفهم لماذا يتصرف شخص بريء كما لو كان لديه الكثير ليخفيه. لكن لنفترض صحة ما تدعيه؛ كان من الممكن أن تكون على ذلك الجسر عند انفجاره، أو والداك، أو أصدقاؤك. ألا ترغب في أن نقبض على من هاجموا بلادنا؟»

الأمر كان مضحكًا، لكن العجيب أنها عندما ذكرت حصولي على «امتيازات»، أصابني خوف دفعني للاستسلام، فشعرت بأنني فعلت «شيئًا ما» جعل الحال ينتهي بي حيث كنت، كما لو كنت أنا المخطئ إلى حد ما، وبوسعي فعل شيء ما لتغيير ما يحدث.

لكن ما إن انتقلت السيدة ذات الشعر القصير للحديث عن ذلك الهراء المتعلق ﺑ «الأمن» و«السلامة» حتى استعدت قوتي الذهنية، وقلت لها: «إنك تتحدثين، يا سيدتي، عن الاعتداء على بلادي، لكن ما أراه حتى الآن هو أنكم أنتم من اعتديتم عليَّ مؤخرًا. ظننت أنني أعيش في دولة بها دستور حيث أتمتع ﺑ «حقوق»، وأنتِ تتحدثين عن الدفاع عن حريتي من خلال الضرب بميثاق الحقوق عرض الحائط!»

بدت على وجهها لمحة انزعاج سرعان ما تلاشت. «يا لها من مبالغة يا ماركوس! ما من أحد اعتدى عليك. لقد احتجزتك حكومة بلادك سعيًا منها للحصول على تفاصيل بشأن أسوأ هجوم إرهابي تعرضت له أراضينا. بوسعك مساعدتنا في مجابهة هذه الحرب التي يشنها أعداء أمتنا علينا. أتبغي الحفاظ على ميثاق الحقوق؟ ساعدنا لإيقاف الأشرار من تدمير مدينتنا. والآن، أمامك ثلاثون ثانية بالضبط لفك شفرة هاتفك قبل أن نرسلك إلى زنزانتك مرة أخرى، فعلينا مقابلة كثيرين غيرك اليوم.»

نظرت في ساعة يدها، وحرَّكتُ أنا معصميَّ، فقعقعت الأصفاد التي حالت دون وصولي للهاتف لفك شفرته. نعم، كنت سأفعل ذلك. لقد أخبرتني عن سبيلي للحرية … للعالم، لوالديَّ … ومنحني ذلك الأمل، وهددتني الآن بإرسالي للزنزانة ثانيةً، وإبعادي عن ذلك السبيل، فتبدد الأمل، وما سيطر على تفكيري آنذاك هو كيف أحييه من جديد.

فأخذت أحرك معصميَّ لأصل إلى هاتفي، وأفك الشفرة كما أرادت، لكن ما كان منها إلا أن أخذت تنظر إليَّ ببرود، مع التحقق من ساعتها.

أدركت في النهاية ما تريده مني، فقلت: «كلمة المرور هي …» إنها تريدني أن أنطق بكلمة المرور، هنا، حيث يمكنها تسجيلها ويمكن لزملائها سماعها. لم ترد أن أفك شفرة الهاتف فقط، وإنما أرادت أن تخضعني لها؛ أن أصير بين قبضتيها، وأتخلى عن كافة أسراري، وخصوصيتي. قلت ثانيةً: «كلمة المرور هي …» ثم أخبرتها بها، ودعوت الله أن يعينني؛ لقد خضعت لإرادتها.

ابتسمت ابتسامة متكلفة يبدو أنها البديل الفاتر لديها لرقصة الانتصار، وقادني الحراس بعد ذلك بعيدًا. وعندما أُغلِق الباب، رأيتها تنحني على الهاتف لتدخل كلمة المرور.

أتمنى القول إنني تنبأت مسبقًا بإمكانية حدوث ذلك، وأنشأت كلمة مرور مزيفة تفتح قسمًا لا ضرر منه على الإطلاق بهاتفي، بيد أنني لم أكن بهذا القدر من جنون الارتياب (أو بالأحرى البراعة) من قبل.

لعلك تتساءل الآن: ما الأسرار الغامضة التي احتوى عليها هاتفي، وأجهزة الذاكرة المحمولة، وبريدي الإلكتروني، فلست سوى شاب في النهاية؟!

الحقيقة أن لدي كل شيء لأخفيه، ولا شيء؛ فباستخدام هاتفي وأجهزة الذاكرة المحمولة خاصتي، يمكن التعرف جيدًا على أصدقائي، ورأيي فيهم، وجميع الحماقات التي قمنا بها. يمكن كذلك قراءة سجلات المجادلات الإلكترونية التي أجريناها، والتسويات التي توصلنا إليها.

كما ترى، أنا لا أحذف أي شيء. ولماذا أفعل ذلك؟ فالتخزين رخيص التكلفة، ولا تدري متى ستحتاج العودة لهذه الأمور، وبخاصة السخيف منها. أتعرف ذلك الشعور الذي ينتابك أحيانًا أثناء جلوسك في مترو الأنفاق، وما من أحد تتحدث معه، ثم تتذكر فجأة شجارًا عنيفًا وقع لك من قبل، وشيئًا رهيبًا قلته، حسنًا، ليس الأمر بالسوء الذي تتذكره عادةً. وإمكانية العودة لتلك الأمور ثانيةً وسيلة رائعة لتذكيرك بأنك لست الشخص البشع الذي تظنه. تجاوزت أنا وداريل الكثير من الشجارات التي لا يسعني إحصاؤها على هذا النحو.

ليس ذلك السبب الوحيد؛ فأنا أعلم أن ثمة خصوصية لهاتفي، وأجهزة الذاكرة المحمولة الخاصة بي، ويرجع ذلك إلى علم التشفير؛ أي تعمية الرسائل. والمنطق الرياضي القائم عليه علم التشفير جيد ووجيه، ونحن جميعًا نصل للتشفير ذاته الذي تستخدمه البنوك ووكالة الأمن القومي. يوجد نوع واحد فقط من التشفير يستخدمه أي شخص، أي تشفير عام يمكن لأي أحد استخدامه، وهكذا تعرف أنه يؤدي وظيفته.

ثمة شيء يشعرك بحريتك حقًّا في أن يكون لديك جانب بحياتك خاص بك «وحدك»، لا يمكن لأحد رؤيته سواك، إنه أشبه بالتعري، أو قضاء الحاجة؛ فكل منا يتعرى بين الحين والآخر، ويتحتم عليه دخول دورة المياه لقضاء حاجته. ما من شيء مخجل، أو منحرف، أو غريب في أيٍّ من هذين الأمرين، لكن ماذا إذا حكمت عليك من الآن فصاعدًا أنك كلما أردت قضاء حاجتك، سيتحتم عليك فعل ذلك في غرفة زجاجية موضوعة في منتصف ميدان تايمز، تتعرى فيها مؤخرتك؟!

حتى وإن لم يكن بجسمك جانب معيب أو غريب — الأمر الذي لا يتمتع به أغلبنا — فستكون غريب الأطوار حقًّا إن راقت لك هذه الفكرة. معظمنا سيهرب من الموقف وهو يصرخ، أو يحاول حبسها في داخله حتى ينفجر.

لا يتعلق الأمر هنا بفعل شيء مخزٍ، وإنما شيء خاص، إنه يتعلق بأن حياتك تخصك وحدك.

كانوا يسلبونني ذلك شيئًا فشيئًا. أثناء عودتي للزنزانة، عاودني ذلك الشعور بأنني أستحق ما يحدث لي؛ فقد خرقت الكثير من القوانين طوال حياتي، وأفلتُّ دون عقاب في أغلب الأحيان. لعل هذه هي العدالة، لعل هذا جزاء ما فعلته في الماضي. في النهاية، ما أتى بي لذلك المكان هو هروبي من المدرسة.

سُمِح لي بالاستحمام، والسير بأرجاء الفناء. علت السماء الفناء الذي فاحت منها رائحة منطقة الخليج، لكن فيما عدا ذلك، لم تكن لديَّ أية فكرة عن المكان الذي كنت احتَجَز فيه. لم أرَ أيًّا من السجناء الآخرين أثناء فترة التريض، وشعرت بضجر شديد أثناء تجولي بلا هدف. حاولت سماع أي صوت قد يساعدني في فهم ماهية ذلك المكان، لكن كل ما سمعته كان صوت مركبة ما بين الحين والآخر، أو محادثات بعيدة، أو طائرة تحط في مكان ما بالجوار.

أعادوني إلى الزنزانة، وقدموا لي الطعام، نصف بيتزا بالببروني من محل «جوت هيل بيتزا» الذي أعرفه جيدًا في حي بتريرو هيل. ذكرتني علبة البيتزا، بما عليها من رسم مألوف ورقم الهاتف ٤١٥، بأنه من يوم واحد فقط كنت حرًّا في بلد حر، وصرت الآن سجينًا. كان يساورني القلق دائمًا بشأن داريل وأصدقائي الآخرين، ربما أبدَوا قدرًا أكبر من التعاون وأُطلِق سراحهم، ربما أخبروا والديَّ بما حدث، فأخذا يجريان اتصالاتهما في جنون.

وربما لا.

خلت الزنزانة من أية محتويات، كانت فارغة كروحي. تخيلت أن الحائط الموجود أمام ما أنام عليه شاشة، وأن بإمكاني ممارسة القرصنة في تلك اللحظة لأفتح باب الزنزانة. تخيلت مكتبي، وما عليه من مشروعات: العلب المعدنية القديمة التي كنت أحوِّلها إلى جهاز لتضخيم الصوت، وكاميرا الطائرات الورقية التي كنت أصممها، وجهاز الكمبيوتر المحمول المُصمَّم في المنزل.

أردت الخروج من ذلك المكان. أردت العودة إلى المنزل واستعادة أصدقائي، ومدرستي، ووالديَّ، وحياتي. أردت أن أكون قادرًا على الذهاب حيثما شئت، ولا أظل أسيرُ جيئة وذهابًا في المكان نفسه.

•••

حصلوا بعد ذلك على كلمات المرور لأجهزة اليو إس بي خاصتي. احتوت تلك الأجهزة على بعض الرسائل المثيرة التي سبق لي تنزيلها من مجموعات النقاش على الإنترنت، وبعض سجلات المحادثات، وأمور ساعدني فيها بعض الأفراد بمنحي المعلومات التي كنت بحاجة إليها لتنفيذ ما كنت أفعله. كل ذلك كان متوفرًا على جوجل بالطبع، لكنني لا أظن أن ذلك في صالحي.

خرجت للتريض مرة أخرى بعد ظهيرة ذلك اليوم، وفي تلك المرة كان هناك بعض الأفراد في الفناء: أربعة رجال وسيدتان، من جميع الأعمار والأعراق. أظن أن كثيرين غيري كانوا ينفذون أوامر ما لِجَنْي «الامتيازات».

سمحوا لي بقضاء نصف ساعة في الفناء، فحاولت تبادل أطراف الحديث مع من بدا أكثر طبيعية بين السجناء الآخرين، والذي كان شابًّا أسود البشرة في نفس سني تقريبًا، وكان شعره قصيرًا مجعدًا. لكن عندما قدمت نفسي له ومددت يدي نحوه، التفتَ على الفور ناحية الكاميرات المعلقة على نحو ينذر بالسوء في زوايا الفناء، وواصل سيره دون أن يبدي أي تغيير على الإطلاق في التعبير المرتسم على وجهه.

لكن حينذاك، وقبل أن ينادوا اسمي، ويدخلوني ثانيةً إلى المبنى، فُتِح الباب وخرجت منه … فانيسا! لم أسعد من قبل برؤية وجه صديق بهذا القدر. بدت مرهقة وغَضِبة، لكن دون إصابات. عندما رأتني هتفت باسمي، وركضت نحوي. احتضن كلٌّ منَّا الآخر بقوة، وأدركت أنني كنت أرتعد، ثم أدركت أنها ترتعد أيضًا.

قالت وهي تمسك بي على مدى ذراعيها: «هل أنت بخير؟»

فأجبتها: «أنا بخير، قالوا لي إنهم سيطلقون سراحي إذا أخبرتهم بكلمات المرور الخاصة بي.»

«يطرحون عليَّ أسئلة باستمرار بشأنك أنت وداريل.»

دوى صوت في مكبر الصوت، يأمرنا بالتوقف عن الحديث والمشي، لكننا تجاهلناه.

قلت على الفور: «أجيبيهم. أجيبي على كل أسئلتهم، إن كان هذا سيضمن إطلاق سراحك.»

«كيف حال داريل وخولو؟»

«لم أرهما.»

فُتِح الباب بعنف، واندفع منه أربعة حراس ضخام البنية، أمسك اثنان بي، في حين أمسك الاثنان الآخران بفانيسا. دفعاني على الأرض، وأدارا رأسي بعيدًا عن فانيسا، لكنني سمعتها تلقى نفس المعاملة. أعادا تكبيل معصميَّ بالأصفاد البلاستيكية، ثم جذباني لأقف على قدميَّ، وأدخلاني مرة أخرى إلى زنزانتي.

لم أحصل على عشاء في تلك الليلة، ولا فطور أيضًا في الصباح التالي. لم يحضر أحد ويصحبني إلى غرفة الاستجواب لانتزاع المزيد من أسراري. لم تُنتزَع الأصفاد البلاستيكية. شعرت بوجع في كتفيَّ، ثم ألم، ثم تخدر، ثم وجع مرة أخرى، وفقدت شعوري بيديَّ تمامًا.

أردت التبول، لكنني لم أستطع فتح سحاب سروالي، واشتدت حاجتي للتبول.

فتبولت في سروالي.

حضروا بعد ذلك لاصطحابي بعد أن صار البول باردًا دبقًا؛ ما جعل سروالي الجينز — الذي كان قذرًا بالفعل — يلتصق بساقيَّ. جاءوا لاصطحابي، وقادوني عبر الرواق الطويل المصطفة على جانبيه الأبواب، كل باب عليه باركود، وكل باركود يشير لسجين مثلي. ساروا حتى وصلوا بي إلى غرفة الاستجواب، كانت الغرفة أشبه بكوكب مختلف عندما دخلتها، عالم كل الأشياء فيه طبيعية، لا تفوح منها رائحة البول. شعرت بقذارة شديدة وخزي عظيم، وعاودني الشعور بأنني أستحق كل ما يحدث لي.

كانت السيدة ذات الشعر القصير تجلس بالفعل في الغرفة، كان مظهرها مثاليًّا: شعرها مصفف، وقد زينت وجهها ببعض مستحضرات تجميل. شممت رائحة المواد التي وضعتها على شعرها. جعدت أنفها أمامي، وشعرت بالخزي داخلي.

«حسنًا، لقد كنت فتى مشاغبًا للغاية، أليس كذلك؟ ما هذه القذارة؟»

يا للخزي! نظرت لأسفل نحو الطاولة، لم أحتمل النظر لأعلى. أردت إخبارها بكلمة المرور لبريدي الإلكتروني، والابتعاد عن ذلك المكان.

«عما كنت تتحدث مع صديقتك في الفناء؟»

ضحكت وأنا أنظر إلى الطاولة، ثم أجبتها: «أخبرتها أن تجيب عن أسئلتكم … أن تتعاون معكم.»

«إذن، أنت من يصدر الأوامر؟»

شعرت بالدم يغلي في عروقي، وأجبتها: «بالله عليكِ! نحن نلعب «لعبة معًا»، اسمها «هاراجوكو فان مادنس»، وأنا «قائد الفريق». لسنا إرهابيين، نحن طلاب بالمرحلة الثانوية، وأنا لا أوجِّه لها أية أوامر. لقد أخبرتها بضرورة تحري «الصدق» معكم حتى ندرأ عنا أية شبهات، ونخرج من هنا.»

لم تنطق للحظة.

سألتها: «كيف حال داريل؟»

«مَن؟»

«داريل، لقد ألقيتم القبض علينا معًا، إنه صديقي، وقد تلقى طعنة في محطة بارت بشارع باول؛ لهذا صعدنا لأعلى لإحضار المساعدة له.»

فأجابت: «إذن، فأنا على يقين أنه بخير.»

اضطربت معدتي، وكدت أتقيَّأ. «أنتِ لا تعلمين؟ أليس موجودًا هنا؟»

«من موجود هنا، ومن ليس موجودًا أمر لن نناقشه معك، أبدًا، ما من سبيل لتعرف ذلك. لقد رأيت، يا ماركوس، ما يحدث عندما لا تتعاون معنا، ورأيت ما يحدث عندما تعصي أوامرنا. لقد تعاونت معنا قليلًا، وأوصلك ذلك تقريبًا للمرحلة التي قد تستعيد معها حريتك. إذا أردت تحويل هذا الاحتمال إلى واقع، فعليك أن تلتزم بالإجابة عن أسئلتي.»

لم أنطق.

«بدأت تتعلم، هذا جيد. والآن، لتخبرنا بكلمات المرور لبريدك الإلكتروني، من فضلك.»

كنت مستعدًّا لذلك، أعطيتهم كل شيء: عنوان الخادم، واسم المستخدم، وكلمة المرور. لم يكن لذلك أهمية؛ فأنا لا أحتفظ بأية رسائل بريد إلكتروني على الخادم. لقد أنزلتها كلها، واحتفظت بها على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي في المنزل، والذي ينزل كل بريدي من على الخادم كل ستين ثانية، ويحذفه. لن يحصلوا على أي شيء من بريدي؛ فقد مُسِح من على الخادم، وخُزِّن على جهاز الكمبيوتر المحمول في المنزل.

أعادوني إلى الزنزانة، لكنهم حرروا يديَّ، وسمحوا لي بالاستحمام، ومنحوني سروالًا برتقاليًّا من زي السجن لأرتديه. كان مقاسه كبيرًا للغاية، وتدلى فوق وركيَّ مثل فتى عصابات مكسيكي في حي ميشن. من هنا تأتي صيحة السراويل الفضفاضة المتدلية … من السجن، وهي أقل متعة في الحقيقة عندما لا تكون تعبيرًا عن الموضة.

أخذوا سروالي الجينز بعيدًا، وقضيت يومًا آخر في الزنزانة. كانت الحوائط من الإسمنت المليء بالخدوش فوق شبكة من الفولاذ، اتضح ذلك لأن الفولاذ قد تعرض للصدأ في الهواء المالح، والشبكة لمعت بلونها البرتقالي المائل إلى الأحمر عبر لون الطلاء الأخضر. كانت تلك النافذة تفصل بيني وبين والديَّ، إنهما بالخارج في مكان ما.

جاءوا إليَّ ثانيةً في اليوم التالي.

«قضينا يومًا في قراءة بريدك حتى الآن، وقد غيرنا كلمة المرور حتى لا يتمكن جهاز الكمبيوتر بمنزلك من الحصول عليه.»

حسنًا، بالطبع فعلوا ذلك، لو كنت مكانهم لفعلت ذلك أيضًا. هذا ما أدركته عندما فكرت في الأمر.

«لدينا معلومات عنك، يا ماركوس، تكفي لسجنك مدة طويلة للغاية، حيازتك لهذه الأشياء …» وأشارت إلى مجموعة أدواتي الصغيرة … «والبيانات التي استعدناها من هاتفك وأجهزة الذاكرة الخاصة بك، بالإضافة إلى المواد المخربة التي سنعثر عليها بلا شك إذا هاجمنا منزلك، وحصلنا على جهاز الكمبيوتر الخاص بك. كل ذلك يكفي لسجنك حتى يتقدم بك العمر، هل تفهم ذلك؟»

لم أصدق الأمر لوهلة، لا يمكن لأي قاضٍ القول بأن هذه الأشياء تشكِّل أية جريمة حقيقية، إنها حرية تعبير، ومحاولات ابتكار تكنولوجية، وليست جريمة.

لكن من قال إن هؤلاء الأشخاص سيجعلونني أَمثُل أمام أي قاضٍ؟

«نحن نعلم أين تعيش، ونعلم من هم أصدقاؤك. نحن نعلم كيف تعمل، وكيف تفكر.»

أدركت حينذاك ما كان يحدث؛ سيطلقون سراحي. بدت إضاءة الحجرة في تلك اللحظة أكثر سطوعًا. سمعت صوتي وأنا أتنفس أنفاسًا قصيرة.

«نريد أن نعرف شيئًا واحدًا فقط: كيف وصلت المتفجرات إلى الجسر؟»

توقفت أنفاسي، وأظلمت الغرفة من جديد.

«ماذا؟»

أجابت: «كانت هناك عشرة متفجرات تم نشرها بطول الجسر كله، ولم تكن في صناديق السيارات، لقد تم زرعها هناك، من زرعها هناك؟ وكيف وصلت إلى هناك؟»

قلت ثانيةً: «ماذا؟»

قالت وهي تنظر إليَّ في حزن: «هذه فرصتك الأخيرة يا ماركوس، لقد أبليت بلاءً حسنًا حتى الآن. لتخبرنا بهذه المعلومة، ويمكنك حينها العودة إلى منزلك. يمكنك الحصول على محامٍ، والدفاع عن نفسك في المحكمة. هناك بلا شك ظروف مخففة يمكنك استخدامها لتفسير أفعالك. أخبرنا فقط بهذه المعلومة، وسنطلق سراحك.»

«لا أعلم عما تتحدثين!» أخذت أبكي، ولم أهتم حتى بذلك. خالط دموعي النشيج والنحيب. «ليست لدي أدنى فكرة عما تتحدثين!»

هزت رأسها، وقالت: «أرجوك يا ماركوس، دعنا نساعدك، فأنت تعلم الآن أننا نحصل دائمًا على ما نريد.»

كان هناك صوت ثرثرة في عقلي يقول لي إنهم «مخبولون». لملمت شتات نفسي، وحاولت جاهدًا إيقاف دموعي. «اسمعي يا سيدتي، إن هذا لجنون، لقد بحثتم في أغراضي، واطَّلعتم عليها كلها. أنا طالب بالمرحلة الثانوية في السابعة عشرة من عمري، ولست إرهابيًّا! لا يُعقَل أن تكوني جادة في تفكيرك أنني …»

هزت رأسها وهي تقول لي: «ألم تدرك بعد، يا ماركوس، أننا جادون؟ إنك تحصل على درجات مرتفعة في دراستك، ظننتك أكثر ذكاءً.» نقرت أصابعها، ورفعني الحراس من إبطيَّ.

عدت إلى زنزانتي، ودارت برأسي أحاديث عدة فيما يطلق عليه الفرنسيون «روح السُّلَّم»؛ أي الردود الدفاعية اللاذعة التي ترد على ذهنك بعد تركك للغرفة ونزولك على السلم. تخيلت أنني قد وقفت أمام تلك السيدة، وواجهتها مخبرًا إياها أنني مواطن أحب حريتي، ما يجعل مني وطنيًّا، ومنها خائنة. وتخيلت أنني قد أخجلتها لتحويلها البلاد إلى معسكر مُسلَّح، وأنني كنت فصيحًا وألمعيًّا في حديثي حتى إنني أبكيتها.

لكنني لم أتذكر أيًّا من هذه الكلمات الرائعة عندما جاءوا لجرِّي من زنزانتي في اليوم التالي، كل ما كنت أفكر فيه هو حريتي … ووالديَّ.

قالت السيدة: «مرحبًا يا ماركوس، كيف حالك؟»

نظرتُ لأسفل إلى الطاولة، كان قد تكوم أمامها عدد من الوثائق، وإلى جوارها كوب ستاربكس البلاستيكي المُلازِم لها. لمست بعض الراحة في رؤية ذلك الكوب بشكل أو بآخر؛ إذ ذكرني بأن عالمًا حقيقيًّا موجودًا في مكان ما بالخارج، خلف تلك الجدران.

قالت: «لقد انتهينا من التحقيق معك في الوقت الحاضر»، ثم صمتت. ربما ما كانت تعنيه أنها ستطلق سراحي، أو لعلها قصدت إلقائي في هاوية لا قرار لها، ونسيان وجودي للأبد.

وأخيرًا نطقتُ قائلًا: «وماذا أيضًا؟»

«وأريد أن أؤكد لك ثانيةً أننا جادون تمامًا فيما نفعله، لقد تعرضت بلادنا لأسوأ هجوم شهدته أراضيها على الإطلاق. كم من حادث كالحادي عشر من سبتمبر تريدنا أن نشهد قبل أن يكون لديك استعداد للتعاون معنا؟ إن تفاصيل ما نجريه من تحقيقات أمر سري، ولن ندخر جهدًا للقبض على المجرمين المنفذين لهذه الجرائم المشينة. هل تفهم ما أقوله؟»

تمتمت: «نعم.»

«سنعيدك إلى منزلك اليوم، لكنك رجل مشبوه الآن. لقد توصلنا إلى أنك لست فوق الشبهات، والسبب الوحيد لإطلاقنا سراحك هو أننا قد انتهينا من استجوابك في الوقت الحاضر، لكن من الآن فصاعدًا، أنت مِلْكنا، سنراقبك على الدوام، وننتظر صدور أية زلة منك. هل تفهم أن بإمكاننا مراقبتك عن كثب دومًا؟»

تمتمت: «نعم.»

«حسنًا، لن تنبس ببنت شفة عما حدث هنا لأي أحد على الإطلاق، هذه مسألة أمن قومي. أتعلم أن عقوبة الخيانة في وقت الحرب لا تزال الإعدام؟»

تمتمت: «نعم.»

قالت بصوت خفيض معبِّرةً عن رضاها: «فتى مطيع.» ثم استطردت حديثها: «لدينا بعض الأوراق هنا نريدك أن توقع عليها.» ودفعت كومة الأوراق على الطاولة تجاهي. لُصِق على كلٍّ منها ورقة ملاحظات مطبوع عليها «وَقِّع هنا». فكَّ أحد الحراس أصفادي.

أخذت أتصفح الأوراق، دمعت عيناي ودارت رأسي، لم أستطع فهم أيٍّ منها. حاولت فك شفرة المفردات القانونية. لقد كنت أوقع — على ما يبدو — على بيان بأنني قد احتُجِزت واستُجوِبت طوعًا وبإرادتي الحرة.

قلت: «ماذا سيحدث إذا لم أوقع؟»

انتزعت الأوراق مني، ونقرت أصابعها مرة أخرى، فجذبني الحراس بعنف لأقف على قدميَّ.

صحت: «انتظري! أرجوكِ! سأوقع عليها!» سحبني الحراس إلى الباب، وكان كل ما يمكنني رؤيته هو ذلك الباب، وكل ما بوسعي التفكير فيه هو إغلاقه خلفي.

أضعت الفرصة من بين يديَّ، أخذت أبكي وأتوسل ليُسمَح لي بتوقيع الأوراق. اقترابي إلى هذا الحد من الحرية، وانتزاعها مني فجأة جعلني على استعداد لفعل أي شيء. لا يسعني تذكر عدد المرات التي سمعت فيها شخصًا ما يقول: «يا إلهي! الموت أفضل عندي من فعل هذا أو ذاك»، حتى إنني نفسي ردَّدتها أحيانًا، بيد أن هذه المرة الأولى التي أدركت فيها ما تعنيه حقًّا هذه العبارة؛ كان الموت أفضل عندي من العودة إلى الزنزانة.

أخذت أتوسل وهم يقودونني عبر الرواق، وأردد أنني سأوقع على أي شيء.

فنادت السيدة الحراس، وتوقفوا. جلبوني ثانيةً إليها، وأجلسوني. وضع أحدهم القلم في يدي.

ووقعت، بالطبع، على كل الأوراق.

•••

عندما عدت إلى الزنزانة، وجدت سروالي الجينز والتي شيرت، وقد تم غسلهما وطيهما، فاحت منهما رائحة المُنظِّف، ارتديتهما، وغسلت وجهي، ثم جلست على ما أنام عليه وحدقت في الحائط. لقد سلبوني كل شيء؛ أولًا، حريتي، ثم كرامتي. كنت على استعداد للتوقيع على أي شيء؛ وإن كان اعترافًا باغتيال أبراهام لينكون.

حاولت أن أبكي، لكن يبدو أن عينيَّ قد جف بهما الدمع.

حضروا لاصطحابي مرة أخرى. اقترب مني أحد الحراس بكيس شبيه بالكيس الذي وضعوه على رأسي عندما أمسكوا بنا أول مرة منذ أيام أو ربما أسابيع.

نزل الكيس على رأسي، وأُغلِق بإحكام على عنقي. خيم الظلام الحالك حولي، وكان الجو خانقًا. رُفِعت لأقف على قدمي وسرت عبر الأروقة، ثم صعدت على سلالم، وسرت بعد ذلك على حصى ثم مَعبَر خشبي، ومنه إلى سطح سفينة من الفولاذ. كُبِّلت يداي خلف ظهري في قضيب. جثوت على ظهر السفينة، واستمعت لصوت محركات الديزل.

تحركت السفينة، وتسللت رائحة هواء مالح إلى داخل الكيس. أمطرت السماء رذاذًا، وغمر الماء ملابسي. إنني بالخارج، وإن كانت رأسي داخل كيس. أنا بالخارج، في العالم، وتبعدني عن حريتي لحظات.

جاءوا إليَّ، وقادوني بعيدًا عن السفينة وصولًا إلى أرض غير مستوية. صعدت بعد ذلك ثلاث درجات معدنية. فكوا قيود يديَّ ونزعوا الكيس من على رأسي.

عدت إلى الشاحنة، وكانت السيدة ذات الشعر القصير تجلس هناك أمام المكتب الصغير الذي كانت تجلس أمامه من قبل. حملت في يدها كيسًا بسحَّاب بداخله هاتفي، والأجهزة الصغيرة الأخرى، ومحفظتي، وفكة النقود التي كانت بجيوبي. ناولتني الكيس دون أن تتفوه بكلمة.

وضعت أغراضي في جيوبي، وراودني شعور شديد الغرابة عند عودة كل شيء إلى مكانه المألوف، وارتدائي لملابسي المُعتادة. خارج باب الشاحنة الخلفي، سمعت الأصوات المألوفة لمدينتي التي اعتدتها.

ناولتني إحدى الحارسات حقيبة ظهري، مدَّت يدها نحوي، وما كان مني إلا أن نظرت إلى الحقيبة فقط، فأنزلتها، وابتسمت ابتسامة متهكمة، ثم أشارت بيدها إلى فمها بما يعني أن أغلق فمي تمامًا، وأشارت نحوي، ثم فتحت الباب.

كانت الدنيا نهارًا بالخارج، والسماء ملبدة بالغيوم وتمطر رذاذًا، وكنت أنظر إلى شارع ضيق تندفع فيه السيارات والشاحنات والدراجات سريعًا. وقفت عاجزًا عن الحركة على درجة السلم العليا بالشاحنة، محدِّقًا نحو حريتي.

اهتزت ركبتاي، فعلمت حينها أنهم كانوا يخدعونني مرة أخرى، وسرعان ما سيمسك بي الحراس، ويجرونني ثانيةً إلى الداخل، وسيوضع الكيس على رأسي، وأعود على متن السفينة من جديد، وأُرسَل إلى السجن حيث يُلقَى على سمعي عدد لا نهائي من الأسئلة التي لا جواب لها. منعت نفسي بالكاد من إقحام قبضتي داخل فمي.

أرغمت نفسي بعد ذلك على نزول إحدى درجات السُّلم، ثم درجة أخرى، ثم الأخيرة. خطوت بحذائي الرياضي مُحدِثًا صوتًا فوق القاذورات بأرضية الطريق: زجاج مكسور، إبرة، حصى. أخذت أسير خطوة تلو الأخرى حتى وصلت إلى أول الطريق، وحينها صعدت إلى الرصيف.

لم يمسك بي أحد.

لقد نلت حريتي.

حينذاك، طوقتني ذراعان قويتان؛ فكدت أبكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤