الفصل الخامس

أهدي هذا الفصل إلى متجر سيكريت هيدكوارترز في لوس أنجلوس، ذلك المتجر الخلاب للقصص المصورة الهزلية، والأفضل في نظري على الإطلاق في العالم. إن سيكريت هيدكوارترز متجر صغير ينتقي ما يضمه من كتب. كل مرة أدخله فيها، أخرج محملًا بثلاث أو أربع مجموعات لم أسمع عنها من قبل. يبدو الأمر كما لو كان مالكاه — ديف وديفيد — يتمتعان بقدرة خارقة على التنبؤ بما أبحث عنه بالضبط، فيعرضانه من أجلي قبل ثوانٍ من دخولي المتجر. لقد استكشفت نحو ثلاثة أرباع القصص المصورة الهزلية المفضلة لدي بالتجول في أرجاء هذا المتجر؛ حيث أمسك بقصة مثيرة، وأغوص في كرسي مريح، لأنتقل معها إلى عالم آخر. هذا وعند صدور مجموعتي القصصية الثانية، والتي حملت عنوان «تعدي الميقات»، تعاقد المتجر مع رسام محلي يُدعَى مارتن سينريدا لإعداد قصة مصورة هزلية صغيرة قائمة على القصة الأولى في ذلك الكتاب، والتي حملت عنوان «جريمة طباعة». لقد رحلت عن لوس أنجلوس منذ عام تقريبًا، وأكثر ما أفتقده فيها هو متجر سيكريت هيدكوارترز.

***

لكنهما كانتا ذراعي فان، كانت تبكي، وتحتضنني بقوة حتى كدت لا أتمكن من التنفس. لم أهتم، واحتضنتها بدوري، ودفنت وجهي في شعرها.

قالت: «أنت بخير؟»

تمالكت نفسي وأجبتها: «نعم، بخير.»

وأخيرًا، تركتني لتطوقني ذراعان أخريان؛ إنه خولو! كان الاثنان هناك. همس خولو في أذني: «أنت سالم يا أخي»، واحتضنني أقوى مما فعلت فانيسا.

وعندما تركني، نظرت حولي وسألتهما: «أين داريل؟»

نظر كلٌّ منهما للآخر، وقال خولو: «لعله لا يزال في الشاحنة.»

استدرنا، ونظرنا إلى الحافلة الموجودة بنهاية الطريق، كانت شاحنة ذات ١٨ عجلة بيضاء اللون يتعذر وصفها، والسلالم القابلة للطي قد أُعيدت إلى داخل الشاحنة بالفعل، توهجت المصابيح الخلفية لها باللون الأحمر، وسارت للخلف في اتجاهنا، مصدرةً صوتًا متواصلًا.

هتفت أثناء إسراعها نحونا «انتظروا! انتظروا! ماذا عن داريل؟» اقتربت الشاحنة، وواصلت أنا الهتاف: «ماذا عن داريل؟»

أمسك خولو وفانيسا بذراعيَّ وسحباني بعيدًا، قاومتهما وأنا أصيح. خرجت الشاحنة من الطريق الضيق، واستدارت لتدخل إلى الشارع، ثم توجهت أسفل التل، وانطلقت في طريقها. حاولت الركض خلفها، لكن فان وخولو منعاني.

جلست على الرصيف، طوقتُ ركبتيَّ بذراعيَّ، وأخذت أبكي بحرقة لم تشهدها عيناي منذ كنت طفلًا صغيرًا، لم أتمكن من التوقف عن البكاء أو الارتجاف.

أعانني خولو وفانيسا على الوقوف، والتحرك بضع خطوات على الطريق. كانت هناك محطة حافلات بها مقعد؛ فأجلساني عليه. كان الاثنان يبكيان أيضًا، عانق كلٌّ منا الآخر لبعض الوقت، وعلمت حينها أننا كنا نبكي داريل الذي لم يتوقع أيٌّ منا أن يراه ثانيةً أبدًا.

•••

كنا شمال الحي الصيني، حيث يبدأ حي نورث بيتش الذي يمتلئ بعدد من نوادي التعري ذات اللافتات المضاءة بمصابيح النيون، ومتجر الكتب الأسطوري المناهض للثقافة السائدة «سيتي لايتس» حيث تأسست حركة شعر «جيل البِيت» في الخمسينيات من القرن العشرين.

كنت أعرف تلك المنطقة جيدًا؛ إذ تضم المطعم الإيطالي المفضل لدى والديَّ، وهو المطعم الذي أحبَّا اصطحابي إليه لتناول أطباق المكرونة الضخمة، والكميات الهائلة من المثلجات الإيطالية والتين المُحلَّى، ثم القهوة الإيطالية المركزة.

صار المكان مختلفًا الآن؛ فهو المكان الذي تذوقت فيه طعم الحرية لأول مرة منذ ما بدا لي أمدًا بعيدًا.

فتشنا جيوبنا، وعثرنا على ما يكفي من المال لحجز مائدة بمطعم إيطالي افترش موائده على الرصيف تحت مظلة. أشعلت النادلة الجميلة سخان الغاز باستخدام قداحة الشواء، وتلقت طلباتنا، ثم ذهبت إلى الداخل. شعوري بإعطاء الأوامر، والتحكم في مصيري، كان أفضل شعور راودني على الإطلاق.

حدثتهما سائلًا: «كم مضى من الوقت على وجودنا هناك؟»

فأجابت فانيسا: «ستة أيام.»

وقال خولو: «أحصيتهم خمسة.»

«وأنا لم أحصِ.»

سألتني فانيسا: «ماذا فعلوا بك؟» لم أرد التحدث في الأمر، لكن الاثنان كانا ينظران نحوي. وما إن بدأت الحديث حتى تعذر عليَّ التوقف. أخبرتهما بكل شيء، بما في ذلك اضطراري للتبول في سروالي. أخذا يستمعان إلى كل ما أقوله في صمت. توقفت لحظات أثناء تقديم النادلة للمشروبات الغازية، وانتظرت حتى ابتعدت عن مرمى السمع، ثم أنهيت حديثي. كانت الذكريات تتلاشى في ذهني أثناء الحديث، وعند انتهائي، لم يكن بإمكاني القول ما إذا كنت أغالي في التعبير عن الحقيقة، أم أقلل من مدى سوئها. كانت ذكرياتي أشبه بالسمكة الصغيرة التي أحاول الإمساك بها، وتتملص من قبضتي أحيانًا.

هزَّ خولو رأسه وقال: «لقد عاملوك بقسوة يا صديقي.» أخبرنا بما حدث له هناك؛ خضع للاستجواب الذي دار أغلبه حولي، والتزم الصدق معهم، وتحدث بصراحة عما حدث في ذلك اليوم، وعن صداقتنا. جعلوه يعيد ما قاله مرارًا وتكرارًا، لكنهم لم يمارسوا معه الحيل الذهنية كما فعلوا معي. وكان يتناول وجباته في قاعة الطعام مع آخرين، وسُمِح له بقضاء بعض الوقت في غرفة بها تليفزيون حيث عُرِضت أشهر أفلام العام الماضي على شرائط فيديو.

اختلفت قصة فانيسا قليلًا؛ فبعد أن أغضبتهم بسبب حديثها معي، أخذوا ملابسها، وجعلوها ترتدي رداء السجن: السروال البرتقالي اللون، وتركوها في الزنزانة لمدة يومين دون أن يتحدث معها أحد، وإن قدموا لها الطعام بانتظام. باستثناء ذلك كانت قصتها مشابهة لقصة خولو: الأسئلة ذاتها التي أُخذت تُعاد عليها مرارًا وتكرارًا.

قال خولو: «كانوا يبغضونك حقًّا، وقسوا عليك للغاية، فلماذا؟»

لم يمكنِّي تصور السبب وراء ذلك، لكنني تذكرت بعد ذلك عبارة:

«يمكنك التعاون معنا، وإلا فستندم أشد الندم.»

«لأنني لم أوافق على فك شفرة هاتفي لهم في تلك الليلة الأولى؛ ولهذا ميَّزوني عن الآخرين في المعاملة.» لم أصدق ذلك، لكن لم يكن هناك تفسير آخر. كان انتقامًا محضًا. أصابتني الفكرة بدوار؛ فكل ما فعلوه كان عقابًا لي لتحدي سلطتهم.

كنت خائفًا، أما الآن فصرت غاضبًا. قلت بهدوء: «هؤلاء الأوغاد! فعلوا ذلك انتقامًا مني لتعبيري عن رأيي بصوت عالٍ.»

سبَّ خولو، واندفعت فانيسا كذلك في ترديد الشتائم بالكورية، الأمر الذي كانت تفعله فقط عند حنقها بشدة.

قلت هامسًا وأنا أشرع في تناول المشروب الغازي: «سأنال منهم … سأنال منهم.»

هزَّ خولو رأسه، وقال: «لا يمكنك، أنت تعلم. لا يمكنك مجابهة ذلك.»

•••

لم يرغب أيٌّ منا في التحدث طويلًا عن الثأر آنذاك، وأخذنا نتحدث — بدلًا من ذلك — حول ما سنفعله فيما بعد. كان علينا الذهاب إلى منازلنا. انقطع الشحن عن هواتفنا، وخلا ذلك الحي من هواتف العملة العمومية منذ سنوات. كنا بحاجة للذهاب إلى منازلنا فقط. فكرت حتى في استقلال سيارة أجرة، لكن لم يكن بحوزتنا ما يكفي من المال لفعل ذلك.

ومن ثم سرنا. وعند الزاوية، وضعنا بعض العملات المعدنية في صندوق صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» وتوقفنا لقراءة الصفحة الأولى. مرت خمسة أيام على التفجيرات، لكن الحدث لا يزال يحتل الصفحة الأولى.

تحدثت السيدة ذات الشعر القصير عن تفجير «الجسر»، وافترضتُ حينها أنها كانت تتحدث عن جسر «جولدن جيت»، لكنني كنت مخطئًا؛ فما فجره الإرهابيون هو جسر «باي».

تساءلت: «لماذا بحق الجحيم يفجرون جسر باي؟ جسر جولدن جيت هو المطبوع على كل البطاقات البريدية.» وحتى من لم تسبق له زيارة سان فرانسيسكو، يعرف على الأرجح شكل جسر جولدن جيت؛ فهو ذلك الجسر المُعلَّق الكبير البرتقالي اللون الذي يمتد من قاعدة عسكرية قديمة تُسمَى «برسيديو» إلى «سوساليتو»؛ حيث تقع بجانب مدن «واين كانتري» الباهرة بما تحويه من معارض فنية ومتاجر الشموع المُعطَّرة. والجسر أشبه بصورة فنية، وهو يكاد يكون رمزًا لولاية كاليفورنيا. إذا ذهبت لمتنزه «ديزني لاند كاليفورنيا آدفنتشر»، فستجد نسخة مُصغَّرة منه على البوابات، مع خط حديد أحادي فوقه.

لذا، كان من الطبيعي أن أفترض أنه إذا كان هناك جسر ليتفجر في سان فرانسيسكو، فسيكون ذلك الجسر.

قال خولو: «ربما أخافتهم الكاميرات وخلافها؛ فيفحص الحرس القومي السيارات دائمًا بطرفي الجسر، وهناك كذلك حواجز الانتحار وغيرها بطول الجسر.» اعتاد الناس الانتحار من على جسر «جولدن جيت» منذ افتتاحه عام ١٩٣٧، وتوقف إحصاء عدد المنتحرين بعد حالة الانتحار الألف في عام ١٩٩٥.

قالت فانيسا: «نعم، هذا فضلًا عن أن جسر باي يؤدي إلى مكان ما بالفعل.» فيمتد جسر باي من وسط سان فرانسيسكو إلى أوكلاند، ومن ثم إلى بيركلي، وهي المناطق الموجودة شرق الخليج ويقطنها الكثير ممن يعيشون ويعملون في المدينة. إنها من المناطق الوحيدة في منطقة الخليج التي يمكن لأي شخص عادي تحمل تكلفة منزل كبير بما فيه الكفاية بها، وهناك كذلك الجامعة، ومجموعة من الصناعات الخفيفة. تشق شبكة بارت طريقها تحت منطقة الخليج، وتصل بين المدينتين أيضًا، لكن الجسر هو ما يشهد أغلب حركة المرور. جولدن جيت جسر رائع إذا كنت سائحًا أو متقاعدًا ثريًّا تعيش في منطقة واين كانتري، لكنه مزخرف إلى حد كبير، في حين أن جسر باي هو — أو كان — عماد سان فرانسيسكو.

فكرت لدقيقة في الأمر، ثم قلت: «أنتما على حق، لكنني لا أظن أن الأمر يقتصر على ذلك فحسب. نحن نفكر دائمًا في أن الإرهابيين يهاجمون المعالم المهمة لأنهم يكرهونها، الإرهابيون لا يكرهون المعالم المهمة أو الجسور أو الطائرات. إن ما يريدونه فقط هو الإفساد، وإخافة الناس؛ أي نشر الذعر، ومن ثم، كان من المنطقي أن يستهدفوا جسر باي بعد أن ملأت الكاميرات جسر جولدن جيت، وصارت الطائرات مجهزة بمعدات الكشف عن المعادن والأشعة السينية.» استغرقت في التفكير أكثر محدقًا بِانْشِدَاهٍ في السيارات المتسارعة على الطريق، وفي الناس الذين يسيرون على الأرصفة، في المدينة بأكملها من حولي. «الإرهابيون لا يكرهون الطائرات أو الجسور، وإنما يحبون الإرهاب.» كيف لم أفكر في ذلك من قبل مطلقًا؟! أعتقد أن التعامل معي كإرهابي لبضعة أيام كان كافيًا لتوضيح أفكاري.

حدق فيَّ خولو وفانيسا. «أنا محق، أليس كذلك؟ كل هذا الهراء المتعلق بالأشعة السينية والتحقق من بطاقات الهوية، كل ذلك لا قيمة له، أليس كذلك؟»

فأومآ برأسهما ببطء.

استطردت حديثي، وقد صار صوتي عاليًا أجشَّ: «بل أسوأ مما لا قيمة له، فقد أدت إلى دخلونا السجن، مع داريل …» لم أفكر في داريل منذ جلوسنا، عاد الآن إلى ذهني صديقي المفقود الذي لا أثر له. توقفت عن الحديث، وصررت فكيَّ.

قال خولو: «ينبغي لنا إخبار والدينا.»

وردت فانيسا: «يجب أن نقابل محاميًا.»

فكرت في سرد قصتي، وإخبار العالم بما حدث معي، وفي مقاطع الفيديو التي ستظهر لا محالة وأظهر فيها وأنا أبكي كحيوان متذلِّل.

نطقت دون تفكير: «لا يمكننا إخبارهم بأي شيء.»

ردت فانيسا: «ماذا تقصد؟»

فكررت ما قلته: «لا يمكننا إخبارهم بأي شيء. لقد سمعتِ ما قالته تلك السيدة؛ إذا أفصحنا عما حدث، فسيقبضون علينا مجددًا، ويفعلون بنا ما فعلوه مع داريل.»

قال خولو: «أنت تمزح بالتأكيد! أتريدنا أن …»

قلت له: «أريد مجابهتهم، أريد أن أبقى حرًّا حتى أتمكن من فعل ذلك. إذا أفشينا السر، فسيُقال عنا صبية صغار حديثنا من نسج الخيال. هذا فضلًا عن أننا لا نعلم أين احتُجِزنا! لن يصدقنا أحد، وفي أحد الأيام، سيأتون للقبض علينا.»

«سأخبر والديَّ أنني كنت في أحد المخيمات الموجودة بالجانب الآخر من الخليج، وذهبت للقائكم هناك حيث حوصرنا ولم نتمكن من مغادرة المكان هناك سوى اليوم. تشير الصحف إلى أن الناس ما زالوا يعودون إلى منازلهم من تلك المخيمات حتى الآن.»

قالت فانيسا: «لا يمكنني فعل ذلك. بعد كل ما فعلوه بك، كيف يمكن حتى أن تفكر في ذلك؟»

«لقد حدث ذلك لي، وهنا تكمن الفكرة. الأمر بيني وبينهم الآن، سوف أتغلب عليهم، وسأنقذ داريل، لن أقبل بالهزيمة. أما إذا تدخل أهلنا، فسينتهي الأمر. لن يصدقنا أحد أو يهتم، لكن إذا نفذنا ما أقوله، فسوف يهتم الناس.»

سأل خولو: «ماذا ستفعل؟ وما خطتك؟»

فأجبت: «لا أعلم بعد، أعطني فرصة حتى صباح الغد، على الأقل.» كنت أعلم أنهما إذا أبقيا الأمر سرًّا ليوم واحد، فسيظل كذلك للأبد. ستزداد شكوك أهلنا إن «تذكرنا» فجأة أننا كنا محتجزين في سجن سري، ولم نكن في أحد المخيمات.

نظر خولو وفانيسا كلٌّ منهما للآخر.

قلت: «كل ما أطلبه هو فرصة، وسنتوصل في تلك الأثناء إلى القصة التي سنرويها ونحبكها. امنحاني يومًا واحدًا، يومًا واحدًا فقط.»

أومأ خولو وفانيسا برأسيهما في تجهُّم، وانطلقنا معًا أسفل التل ثانيةً قاصدين منازلنا. كنت أعيش في حي بتريرو هيل، وفانيسا في نورث ميشن، وخولو في نو فالي … ثلاثة أحياء مختلفة تمام الاختلاف، ولا يبعد كلٌّ منها عن الآخر سوى بضع دقائق سيرًا على الأقدام.

انتقلنا إلى شارع ماركت، وتوقفنا كالذي أصابته صاعقة. طوقت المتاريس الشارع من كل زاوية، وتحولت مفارق الطرق إلى ممر واحد، وملأت الشارع بالكامل شاحنات ذات ١٨ عجلة ليس لها معالم واضحة مثل الشاحنة التي حملتنا والكيس على رءوسنا بعيدًا عن أرصفة السفن وصولًا إلى الحي الصيني.

احتوت كل شاحنة على ثلاث درجات معدنية في الجزء الخلفي منها، وضجت بالنشاط بدخول الجنود ورجال الشرطة ومرتدي البِذَل إليها، وخروجهم منها. حملت البِذَل شارات صغيرة على طياتها والتي كان يتم فحصها من قبل الجنود أثناء دخول حامليها وخروجهم … شارات ترخيص لاسلكية. عند عبورنا بإحدى تلك الشاحنات، ألقيت نظرة عليها، فرأيت الشعار المُعتاد لوزارة الأمن الوطني. لمحني أحد الجنود أثناء تحديقي في الشاحنة، فرمقني بنظرة مُحدِّقة غاضبة.

أدركت معنى تلك النظرة، فواصلت المسير. انفصلت عن فان وخولو عند فان نيس. تعلق كلٌّ منا بالآخر وبكينا، وتعاهدنا على الاتصال ببعضنا البعض.

كان هناك طريقان للوصول إلى بتريرو هيل؛ أحدهما يَسِر والآخر عَسِر، يمر الطريق العَسِر ببعض من أشد التلال انحدارًا في المدينة، تلك التلال التي تقع عليها مطاردات السيارات في أفلام الحركة والإثارة، والتي تعلق فيها السيارات في الهواء عند تحليقها فوق القمم. كنت دومًا أسلك الطريق العَسِر إلى المنزل، شوارعه جميعها سكنية تضم منازل قديمة من الطراز الفيكتوري يُطلَق عليها اسم «السيدات المتبرجات»؛ لما تتسم به من طلاء صارخ مُتقَن، وحدائق أمامية زاخرة بالحشائش الطويلة والأزهار العَطِرة. تحدق القطط الأليفة فيك أثناء سيرك من خلف سياجات هذه المنازل، وتكاد تخلو الشوارع من أي مُشرَّدين.

خيم الهدوء التام على تلك الشوارع؛ ما جعلني أتمنى لو كنت قد سلكت الطريق الآخر عبر حي ميشن، والذي لعل أفضل ما يوصف به أنه «صاخب»؛ فهو نابض بالحياة والضجيج، ويعج بالسكارى المشاكسين، ومدمني الكوكايين الحانقين، ومدمني المخدرات فاقدي الوعي، وكذلك العديد من الأسر التي تدفع أمامها عربات أطفال، وسيدات عجائز منهمكات في القيل والقال على أعتاب المنازل، وسيارات منخفضة تسير جنبًا إلى جنب مع سيارات بمكبرات صوت كبيرة. ضمت الشوارع أيضًا شبابًا بوهيميين (هيبيز)، وطلاب موسيقى الإيمو، بل وبعض عازفي موسيقى «البانك روك» القديمة أيضًا، ورجالًا بكروش تبرز من تحت قمصان فرقة «ديد كينيديز» التي يرتدونها. هذا فضلًا عن رجال يرتدون ملابس النساء، وشباب عصابات غاضبين، وفناني جرافيتي، ومطوري المباني القديمة المرتبكين الذين يحاولون تفادي التعرض للقتل أثناء تنفيذ استثماراتهم العقارية.

وصلت إلى حي جوت هيل، ومررت بجانب مطعم «جوت هيل بيتزا» الذي ذكَّرني بالسجن الذي احتُجِزت فيه. اضطررت للجلوس على المقعد الموجود أمام المطعم حتى توقف جسدي عن الارتعاش، أبصرت حينها الشاحنة أعلى التل، شاحنة ذات ١٨ عجلة تنزل من الجانب الخلفي لها ثلاث درجات معدنية. وقفت، وواصلت المسير. شعرت بعيون تراقبني من كل اتجاه.

أسرعت الخطى فيما تبقى من الطريق وصولًا إلى المنزل. لم أنظر إلى المنازل ذات الطلاء الصارخ، أو الحدائق، أو القطط الأليفة؛ فلم أرفع عيني من على الأرض.

وقفت سيارتا والديَّ في الممر أمام المنزل، رغم أننا كنا في منتصف النهار، بيد أنه كان أمرًا منطقيًّا؛ إذ يعمل أبي في منطقة شرق الخليج، وبالتالي لزم المنزل إلى حين الانتهاء من العمل بالجسر. أما أمي … حسنًا، لم أدرِ لماذا كانت والدتي في المنزل.

لقد كانا في المنزل من أجلي.

قبل أن أنتهي من فتح الباب، سُحِب بقوة من بين يديَّ، وفُتِح على مصراعيه. وقف والداي يحدقان فيَّ، وقد بدا عليهما الشحوب والإنهاك، وانتفخت عيونهما. تسمَّر ثلاثتنا في أماكننا للحظة، ثم اندفعا نحوي، وسحباني إلى داخل المنزل بقوة حتى كدت أقع من بين أيديهما. أخذا يتحدثان سريعًا وبصوت عالٍ، وكل ما كان بإمكاني سماعه هو ثرثرة هادرة لا تتضح فيها الكلمات. احتضناني وبكيا، وبكيت أنا أيضًا. وقفنا على هذه الحال في الردهة الصغيرة ونحن نبكي وننطق بكلمات مبهمة إلى أن أُنهِكت قوانا، وقصدنا المطبخ.

تصرفت كعادتي دومًا عند عودتي إلى المنزل؛ أحضرت لنفسي كوبًا من الماء من الفلتر الموجود في الثلاجة، وأخرجت قطعتين من البسكويت من «علبة البسكويت» التي أرسلتها لنا خالتي من إنجلترا. كان لهذه التصرفات الاعتيادية أثرها على قلبي الذي هدأت دقاته، واستعاد تواصله مع عقلي، وسرعان ما كان ثلاثتنا جالسين على المائدة.

سألاني في اللحظة ذاتها تقريبًا: «أين كُنت؟»

كنت قد فكرت في ذلك في طريق عودتي للمنزل؛ فأجبتهما: «لقد حُوصِرت في أوكلاند. كنت هناك برفقة بعض أصدقائي، نعمل على أحد المشروعات، وأُقيم علينا الحجر الصحي.»

«لمدة خمسة أيام؟»

فأجبت: «نعم، كان أمرًا سيئًا حقًّا.» قرأت عن الحجر الصحي في الصحيفة، واقتبست مما نشرته بلا خجل. واصلت حديثي: «نعم، كل من قُبِض عليه إثر التفجيرات وُضِع في الحجر الصحي؛ فقد اعتُقِد أننا تعرضنا لهجوم بأحد أنواع البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية؛ فكدسونا داخل حاويات شحن في مناطق إرساء السفن كسمك السردين؛ حرارة ورطوبة شديدتان داخل الحاويات، وقليل من الطعام أيضًا.»

قال أبي: «يا إلهي!» وضرب بكفَّيه على المائدة. يُدرِّس والدي في بيركلي ثلاثة أيام في الأسبوع؛ حيث يعمل مع عدد من الخريجين في برنامج علم المكتبات. أما باقي الوقت، فيقدم استشارات للعملاء في المدينة وفي شبه الجزيرة، من شركات إنترنت الجيل الجديد التي يرتبط عملها كثيرًا بالسجلات. اتسم بالحِلم لطبيعة عمله في أمانة المكتبات، لكنه كان متطرفًا أصيلًا في الستينيات، ومارس المصارعة قليلًا في المدرسة الثانوية. سبق أن رأيته في شدة حنقه من حين لآخر — بل تسببت في مثل هذا الحنق في بعض الأحيان — وعند وصول غضبه إلى أقصى مدى له يمكن أن يفقده صوابه على نحو خطير. في إحدى المرات، قذف بأرجوحة من صنع شركة إيكيا عبر حديقة جدي بسبب تفكُّكها مرات عدة أثناء محاولة تجميعه إياها.

أما أمي، فقالت: «همجيون!» عاشت والدتي في أمريكا منذ مرحلة المراهقة، غير أن أصولها البريطانية تظهر دومًا عند مقابلتها ضباط الشرطة، أو العاملين في الرعاية الصحية، أو أمن المطارات، أو المشرَّدين من الأمريكان. وفي تلك اللحظات، تظهر كلمة «همجيون» وتعود لكنتها البريطانية بقوة. ذهبنا إلى لندن مرتين لزيارة عائلتها، ولا يمكنني القول إن كانت أكثر تحضرًا من سان فرانسيسكو أم لا، لكنها أكثر ازدحامًا.

«لكنهم أفرجوا عنا، ونقلونا بالمراكب إلى هنا اليوم.» وهنا بدأت في الارتجال.

سألتني أمي: «هل أنت موجوع؟ جوعان؟»

«نعسان؟»

«نعم، أنا كل ما قلتماه … وكذلك «البليد»، و«الرزين»، و«كثير العُطاس» و«الخجول».» اعتدنا تبادل النكات في الأسرة حول قصة الأقزام السبعة. ارتسمت ابتسامة بسيطة على وجهيهما، لكن عيونهما لا تزال تبللها الدموع. أشفقت عليهما حقًّا، لقد جُنَّا بالتأكيد من القلق، وأسعدتني فرصة تغيير الموضوع. «أود أن أتناول الطعام، بلا شك.»

قال أبي: «سأطلب بيتزا من مطعم جوت هيل.»

فقلت له: «لا، ليس ذاك.» نظرا إليَّ باندهاش شديد، فلطالما عشقت بيتزا جوت هيل؛ فأنا كنت ألتهمها بنهم، أزدردها إلى أن تنتهي أو أشعر بالامتلاء. حاولت أن أبتسم، وقلت في ضعف: «لا أشعر بالرغبة في تناول البيتزا، لنطلب بعض الطعام بالكاري، ما رأيكما؟» حمدًا لله أن سان فرانسيسكو مركز الوجبات السريعة.

ذهبت أمي إلى درج قوائم مطاعم الوجبات السريعة (مزيد من التصرفات الاعتيادية التي كان لها أثر كوب الماء عند نزوله في حلق جافٍّ متوجع)، وأخذت تقلب فيها. قضينا بضع دقائق في حيرة من أمرنا بقائمة أحد مطاعم الوجبات الباكستانية الحلال في شارع فالينسيا، واستقر خياري على مشويات تندوري متنوعة، وسبانخ بالقشدة ممزوجة بالجبن، ومشروب لاسي المانجو المملح (مذاقه أفضل بكثير مما قد يبدو) وبعض المعجنات الصغيرة المقليَّة المحلَّاة في شراب السكر.

ما إن طلبنا الطعام حتى بدأت الأسئلة مجددًا، اتصل والداي بأسر فان وخولو وداريل (بالطبع)، وحاولوا الإبلاغ عن فقداننا. كانت الشرطة تسجل الأسماء، غير أن «الغائبين» كانوا كثُرًا؛ وما كانت الشرطة لتفتح ملفًا لأحد إلا إذا مر على غيابه سبعة أيام.

في تلك الأثناء، ظهرت الملايين من مواقع «البحث عن المفقودين» على الإنترنت، بعضها مواقع قديمة شبيهة بموقع ماي سبيس كانت قد أفلست، ورأت فرصة جديدة في كل الاهتمام المنصب على المفقودين. ففي النهاية، فقدت بعض الأسر من أصحاب رءوس الأموال المغامرة بعض أفرادها في منطقة الخليج، ولعلهم إذا عادوا، فستجذب تلك المواقع بعض الاستثمارات الجديدة. انتزعت كمبيوتر أبي المحمول من بين يديه، وأخذت أتصفح هذه المواقع. وجدتها امتلأت بالإعلانات، بالطبع، وصور المفقودين التي كان أغلبها من حفلات التخرج أو الزفاف أو ما شابه. كان أمرًا بشعًا.

عثرت على صورتي ورأيتها مرتبطة بصور فان وخولو وداريل. كان هناك نموذج صغير لتحديد من عُثِر عليهم، وآخر لتدوين الملاحظات حول الأفراد الآخرين المفقودين. ملأت حقول البيانات لي ولخولو وفان، وتركت الجزء الخاص بداريل فارغًا.

قال أبي: «لقد نسيت داريل.» لم يكن أبي يحب داريل كثيرًا؛ ففي إحدى المرات اكتشف أن شخصًا ما شرب من إحدى الزجاجات الموجودة في خزانة الخمر خاصته، فأدنتُ داريل؛ ما أشعرني بخزي دائم. الحقيقة هي أننا — بالطبع — كنا نلهو معًا، ونجرب خليط الفودكا بالمياه الغازية أثناء إحدى جلسات اللعب التي استمرت طوال الليل.

أجبت أبي، والكذب طعمه مرير في فمي: «لم يكن معنا.»

قالت أمي: «يا إلهي!» واعتصرت يديها معًا. «لقد افترضنا عند عودتك للمنزل أنكم كنتم جميعًا معًا.»

أجبتها بمزيد من الأكاذيب: «لا، كان من المفترض أن نقابله، لكننا لم نره مطلقًا. لقد حوصِر على الأرجح في بيركلي. كان سيستقل أحد قطارات بارت إلينا.»

أنَّت أمي، وهزَّ أبي رأسه وأغلق عينيه، ثم قال: «ألا تعلم ما حدث في بارت؟»

هززت رأسي، توقعت ما سيفضي إليه هذا الحديث، وشعرت بأن المكان يضيق بي.

قال أبي: «لقد تفجرت، فجَّرها الأوغاد في الوقت نفسه الذي فجروا فيه الجسر.»

لم يرد ذلك في الصفحة الأولى من صحيفة «كرونيكل»، لكن انفجار محطة قطارات تحت الماء ليس بصورة ملفتة للأنظار كصور جسر يتدلى متكسرًا على الخليج. نفق قطارات بارت من محطة إيمباركديرو في سان فرانسيسكو وصولًا إلى محطة ويست أوكلاند غمرته المياه بالكامل.

•••

عدت إلى كمبيوتر أبي، وتصفحت العناوين الرئيسية. أُحصي القتلى بالآلاف، وإن لم يكن ذلك مؤكدًا، ولا تزال الأعداد في تزايد ما بين السيارات التي سقطت إلى عمق ١٩١ قدمًا في البحر، ومن غرقوا في القطارات. ادَّعى أحد الصحفيين أنه قد التقى ﺑ «مزور هويات» ساعد «العشرات» من الناس في الهروب من حياتهم القديمة من خلال الاختفاء بعد الهجمات، والحصول على بطاقات هوية مزورة ليخلصوا بذلك من زيجات سيئة، وديون متراكمة، وحياة بائسة.

بللت الدموع عينَيْ أبي، في حين أخذت أمي تبكي. احتضنني كلاهما مرة أخرى، وأخذا يربِّتان عليَّ بأيديهما كما لو كانا يُطمئنان نفسيهما أنني معهما حقًّا. أخذا يرددان على سمعي أنهما يحبانني، فأخبرتهما أنني أبادلهما الحب.

تناولنا عشاءً صحبته الدموع، وشرب كلٌّ من أبي وأمي بعض كئوس من الخمر، وهو ما يعد كثيرًا مقارنةً بعادتهما. أخبرتهما أنني أشعر بالنعاس — ما كان حقيقة بالفعل — وانسحبت إلى غرفتي بالدور العلوي، لكنني لم أكن ذاهبًا للنوم؛ فقد كنت بحاجة لتصفح الإنترنت، والتحقق مما كان يحدث. كان عليَّ التحدث إلى خولو وفانيسا، والبدء في البحث عن داريل.

صعدت إلى غرفتي وفتحت الباب، لم أكن قد رأيت سريري منذ ما بدا لي دهرًا. استلقيت عليه، مددت يدي إلى المنضدة المجاورة للسرير، وجذبت الكمبيوتر المحمول الخاص بي. لا بد أنني لم أوصله جيدًا بالكهرباء — الشاحن الكهربائي بحاجة لهزه بعض الشيء — ومن ثم فرغ من الشحن أثناء غيابي. أعدت وضعه في المقبس، وانتظرت دقيقة أو اثنتين ليشحن قبل أن أحاول تشغيله من جديد، واستغللت ذلك الوقت في خلع ملابسي، والإلقاء بها في القمامة؛ لا أرغب في رؤيتها ثانيةً أبدًا. ارتديت تي شيرت، وسروالًا قصيرًا نظيفين. كان للملابس المغسولة الخارجة لتوها من الأدراج ملمس مألوف ومريح، مثل حضن والديَّ.

شغلت الكمبيوتر المحمول، ودسست عددًا من الوسائد خلفي أعلى السرير. اعتدلت في جلستي للخلف، فتحت غطاء الكمبيوتر، ووضعته على فخذيَّ. كان لا يزال في مرحلة بدء التشغيل، بدت الرموز التي تظهر على الشاشة جميلة حقًّا، ظهرت جميعها، ثم بدأ الجهاز في إعطائي تحذيرات بانخفاض الطاقة. تحققت من كابل الطاقة مرة أخرى، وهززته؛ فاختفت التحذيرات. كان المقبس الكهربائي غريب الأطوار حقًّا.

في الواقع، كان الأمر سيئًا لدرجة حالت دون فعلي أي شيء، وفي كل مرة أترك فيها كابل الطاقة من يدي، ينقطع اتصاله بالكمبيوتر الذي يبدأ بدوره في الشكوى من انخفاض طاقة البطارية. فحصته عن كثب.

كان صندوق الكمبيوتر بأكمله قد أُزيح بعض الشيء عن مكانه الأصلي، وعند الشق الذي يفصل جزئيه، كان هناك تجويف بزاوية يبدأ ضيقًا ثم يتسع في اتجاه الخلف.

في بعض الأحيان، ينظر المرء إلى جهاز ما، ويكتشف شيئًا كهذا، فيتساءل: «هل كان ذلك حاله دومًا؟» ربما لم يلاحظه فقط من قبل.

لكنه ليس من الممكن أن يحدث ذلك مع جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي، لقد صممته بنفسي؛ فبعد أن وزع مجلس التعليم علينا جميعًا أجهزة الكمبيوتر المحمولة المدرسية، ما كان والداي ليشتريا لي جهاز كمبيوتر، وإن كان الكمبيوتر المحمول المدرسي لا يخصني فعليًّا، وما كان مسموحًا لي بتثبيت برامج أو إجراء أي تعديل عليه.

كنت قد ادَّخرت بعض المال من وظائف غريبة عملت بها، وأعياد كريسماس، وأعياد ميلاد، وبعض المعاملات التجارية الحكيمة على موقع إي باي. وعند جمعها، صار معي ما يكفي لشراء جهاز حالته مزرية ومضى على استعماله خمسة أعوام.

ومن ثم، صمَّمت مع داريل جهازًا آخر. يمكنك شراء صناديق للكمبيوتر المحمول، مثل صناديق الكمبيوتر الشخصي المكتبي، وإن كانت أكثر تخصصًا من أجهزة الكمبيوتر القديمة العادية. لقد صممت بعض أجهزة الكمبيوتر الشخصية بالتعاون مع داريل على مر الأعوام، بالبحث عن قطعه على موقع كريجزليست وعروض بيع الأغراض المستعملة في المنازل، وشراء بعض الأغراض رخيصة الثمن جدًّا من البائعين التايوانيين الذين عثرنا عليهم على الإنترنت. وقد توصلت إلى أن تصميم كمبيوتر محمول هو أفضل سبيل للحصول على الإمكانيات التي أردتها بالسعر الذي يمكنني تحمُّله.

لتصميم كمبيوتر محمول خاص بك، عليك أولًا شراء «كمبيوتر محمول غير كامل الأجزاء»؛ وهو جهاز لا يحتوي إلا على عدد قليل فقط من الأجزاء، وجميع الفتحات الصحيحة. الجيد في الأمر أنه ما إن انتهيت من تصميمي حتى صار لديَّ جهاز أخف بنحو نصف كيلو جرام من جهاز «ديل» الذي كنت أرغب في شرائه، وأسرع، وتبلغ تكلفته ثلث ما كنت سأدفعه في جهاز «ديل». أما الجانب السيئ، فهو أن تجميع كمبيوتر محمول أشبه بتصميم تلك السفن التي توضع داخل زجاجات؛ فهو عمل دقيق تستخدم فيه الملاقط الصغيرة والنظارات المُكبِّرة في محاولة لجعل كل قطعة تتلاءم في مكانها داخل ذلك الصندوق الصغير. وعلى عكس الكمبيوتر الشخصي الكامل — الفارغ أغلبه — كل ملِّيمتر مكعب من الكمبيوتر المحمول تشغله قطعة ما. وفي كل مرة أظن أن ثمة مشكلة ما في الجهاز، أفك أجزاءه وأعيدها لأكتشف أن شيئًا ما كان يحول دون إغلاقه بإحكام، فأبدأ في إصلاحه من جديد.

ومن ثم، علمت «بالضبط» ما من المفترض أن يبدو عليه الشق في الكمبيوتر المحمول الخاص بي عندما يكون مغلقًا، وليس هذا هو الشكل الذي من المفترض أن يكون عليه.

أخذت أهز في الشاحن الكهربائي، لكن دون جدوى. ما كانت أمامي فرصة لتشغيل الجهاز دون فكِّ أجزائه. تأففت، ووضعته بجانب السرير. سأفحصه صباحًا.

•••

هذا ما فكرت فيه على أية حال، لكن ما حدث هو أنه بعد مرور ساعتين، كنت لا أزال أحدق في السقف، وأتذكر كل ما فعلوه بي، وما كان ينبغي لي فعله وكل ما أثار ندمي وما كان يجدر بي قوله.

نهضت من السرير. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، سمعت والديَّ يخلدان للنوم في الحادية عشرة. أمسكت بالكمبيوتر المحمول، أفرغت مساحة على مكتبي، ثبَّتُّ مصابيح الصمامات الثنائية الباعثة للضوء صغيرة الحجم بذراعي النظارة المُكبِّرة، وأخرجت مجموعة من المفكات بالغة الدقة. بعد دقيقة، كنت قد فتحت صندوق الجهاز، وأخرجت لوحة المفاتيح، وأخذت أحدق في مكوناته الداخلية. استخدمت عبوة من الهواء المضغوط في تنظيف المروحة من التراب الذي التقطته، وفحصت الجهاز.

ثمة شيء غير صحيح، لم أستطع تحديده، لكنني تذكرت أنني لم أفتح ذلك الصندوق منذ شهور. ولحسن الحظ، في المرة الثالثة التي فتحته فيها وجاهدت لإغلاقه ثانيةً، كنت أكثر فطنة؛ فالتقطت صورة لمكوناته الداخلية وكل جزء منها في مكانه الصحيح. لكنني لم أكن بالقدر الكافي من الفطنة؛ فأولًا، تركت الصورة على محرك الأقراص الصلبة، ولم يكن بوسعي بالتالي الوصول إليها عندما تكون أجزاء الكمبيوتر المحمول مفكَّكة. لكنني طبعتها بعد ذلك، ووضعتها في درج الأوراق المبعثرة حيث ألقي بجميع بطاقات الضمان، والرسوم البيانية لتوصيل مسامير الدوائر الكاملة. أخذت أقلِّب فيها — بدت أكثر فوضوية مما أتذكر — وأخرجت الصورة. وضعتها بجانب الكمبيوتر، وأخذت أدقِّق النظر في كل الأجزاء محاولًا الوصول إلى ما يبدو في غير مكانه.

حددت المشكلة أخيرًا. لم يكن الكابل الشريطيُّ الذي يصل لوحة المفاتيح باللوحة الأم موصلًا على نحو سليم. كان ذلك غريبًا؛ إذ لم يكن هناك عزم دوران في ذلك المكان، وما كان شيء ليزيح ذلك الكابل عن مكانه أثناء العمل المعتاد للجهاز. حاولت الضغط عليه ليعود إلى مكانه ثانيةً، فاكتشفت أن القابس لم يكن مُثبَّتًا على نحو سيئ فحسب، وإنما كان هناك شيء بينه وبين اللوحة أيضًا. أخرجت ذلك الشيء بالملقط، وسلَّطت عليه الضوء.

كان هناك شيء غريب في لوحة المفاتيح؛ قطعة سميكة صغيرة الحجم يبلغ سمكها ١ / ١٦ فقط من البوصة، وليس عليها أية علامات. كانت موصلة بلوحة المفاتيح؛ بعبارة أخرى، وُضِعت في مكان متميز لتسجيل كل ضغطة مفتاح أثناء كتابتي على الكمبيوتر.

كانت أداة تجسس!

علت ضربات قلبي في أذنيَّ. خيم الظلام والهدوء على المنزل، لكنه لم يكن ظلامًا مريحًا. ثمة عيون بالخارج، عيون وآذان تراقبني. الرقابة التي واجهتها في المدرسة لحقت بي في المنزل، لكن هذه المرة لم يكن مجلس التعليم وحده من يتتبع خطواتي، وإنما انضمت إليه وزارة الأمن الوطني أيضًا.

كدت أُخرِج أداة التجسس، لكنني فكرت أن أيًّا كان من وضعها في ذلك المكان سيعلم بإزالتها، فتركتها حيث وُضِعت، ما أشعرني بالغثيان.

بحثت عن أي آثار عبث أخرى بالجهاز؛ لم أتوصل إلى شيء، لكن هل يعني ذلك عدم وجودها؟ تسلل أحدهم إلى غرفتي، وزرع ذلك الجهاز؛ لقد فكَّ أجزاء الكمبيوتر المحمول الخاص بي وأعاد تجميعها. هناك الكثير من وسائل التنصت يمكن تركيبها بأجهزة الكمبيوتر، وما كان بإمكاني التوصل إليها كلها قط.

أعدت تجميع أجزاء الجهاز بأصابع خَدِرة. لم يُغلَق الصندوق جيدًا تلك المرة، لكن ظل كابل الطاقة بالداخل. شغلت الجهاز، ووضعت أصابعي على لوحة المفاتيح مُعتقِدًا أنني سأجري بعض عمليات الفحص وأرى ما كان يحدث.

لكنني لم أستطع.

اللعنة! لعل الغرفة مزودة بوسائل تنصت. لعل هناك كاميرا تتجسس عليَّ في تلك اللحظة.

لازمني جنون الارتياب منذ عودتي إلى المنزل، لكن في تلك اللحظة، صرت مذعورًا جدًّا. شعرت أنني عدت للسجن، وإلى غرفة الاستجواب، تلاحقني كيانات أخضعتني لسلطتها بالكامل. جعلني ذلك أشعر برغبة في البكاء.

ثمة حل واحد فقط.

ذهبت إلى دورة المياه، ونزعت لفَّة ورق المرحاض، ووضعت بدلًا منها لفَّة أخرى جديدة. لحسن الحظ، كانت القديمة قد قاربت على الانتهاء. تخلصت مما تبقى فيها من ورق، وبحثت في صندوق قطع الغيار الخاص بي إلى أن عثرت على مظروف بلاستيكي صغير مليء بصمامات ثنائية باعثة للضوء ذات لون أبيض شديد السطوع، كنت قد نزعتها من مصباح دراجة قديمة. أدخلت موصلات هذه الصمامات في الأنبوب الكرتونيِّ بعناية، مستخدمًا دبوسًا لصنع الثقوب، ثم جلبت سلكًا، وأوصلتها كلها في سلسلة باستخدام مشابك معدنية. لويت الأسلاك داخل الموصلات وربطتها ببطارية طاقتها تسعة فولتات. وبذلك، صار لديَّ أنبوب مطوق بصمامات ثنائية باعثة للضوء توجيهية شديدة السطوع بإمكاني رفعها أمام عيني والنظر عبرها.

صممت أنبوبًا كهذا العامَ المنصرمَ ليكون مشروعي بمعرض العلوم، الذي طُرِدت منه عندما كشفت عن وجود كاميرات مخبأة في نصف فصول مدرسة شافيز الثانوية. إن كاميرات الفيديو بالغة الصغر أقل تكلفة من وجبة عشاء بمطعم جيد حاليًّا، ومن ثم فهي تظهر في كل مكان. يضعها مختلسو النظر من العاملين في المحلات في غرف تغيير الملابس، أو صالونات اكتساب سمرة البشرة، ويمارسون انحرافهم الجنسي مع اللقطات التي يسجلونها لعملائهم … وأحيانًا ينشرونها فقط على الإنترنت. إن معرفة كيفية تحويل لفَّة ورق مرحاض وبعض الأغراض المستعملة تتكلف حفنة من الدولارات إلى جهاز للكشف عن الكاميرات تُعَد ضربًا من الذكاء.

هذه أبسط وسيلة للكشف عن كاميرات التجسس؛ إذ تحتوي هذه الكاميرات على عدسات بالغة الصغر، لكنها تعكس الضوء بقوة. تعمل هذه الوسيلة على أفضل نحو في الغرف المظلمة؛ فعليك بالتحديق في الأنبوب، وفحص الجدران وغيرها من الأماكن التي قد توضع فيها كاميرات ببطء إلى أن ترى ومضة انعكاس، وإذا استمر الانعكاس أثناء تحركك، فتكون هذه عدسة.

خلت غرفتي من أية كاميرات، أو بالأصح خلت من أية كاميرات يمكنني الكشف عنها، ربما احتوت على أجهزة تجسس سمعية، بالطبع، وربما نوع أفضل من الكاميرات، وربما لا شيء على الإطلاق. هل يمكن لأحد أن يلومني على جنون الارتياب الذي انتابني؟

لقد أحببت الكمبيوتر المحمول الخاص بي، وأسميته «سالمجندي»، وهو الذي يعني أي شيء مصنوع من قطع غيار.

عندما تطلق اسمًا على الكمبيوتر المحمول الخاص بك، فاعلم أن ثمة علاقة وثيقة حقًّا بينكما. رغم ذلك، شعرت في تلك اللحظات أنني لا أرغب في لمسه ثانيةً أبدًا، أردت أن ألقي به من النافذة. من يدري ماذا فعلوا به؟ من يدري كيف زرعوا فيه أجهزة التنصت؟

أنزلت الغطاء عليه، ووضعته في أحد الأدراج، ونظرت إلى السقف. كان الوقت متأخرًا، ووجب عليَّ الخلود للنوم، لكن هيهات أن أنام الآن، هناك من يتجسس عليَّ، بل يتجسس على الجميع. لقد تغير العالم للأبد.

حادثت نفسي: «سأجد سبيلًا للانتقام منهم.» كان عهدًا قطعته على نفسي، علمت ذلك عندما سمعته، رغم أنني لم أقطع عهدًا من قبل.

لم أستطع النوم بعد ذلك، هذا فضلًا عن أنني توصلت إلى فكرة ما.

في مكان ما داخل خزانتي، كان هناك صندوق مُغلَّف بغلاف بلاستيكي يشتمل على جهاز «إكس بوكس يونيفرسال» لا يزال في عبوته المُغلَقة. بيعت أجهزة «إكس بوكس» جميعها بسعر أقل بكثير من تكلفتها؛ فشركة مايكروسوفت تجني أغلب أموالها من فرض رسوم على الشركات للحصول على حق بيع ألعاب «إكس بوكس». بيد أن طراز «يونيفرسال» كان الأول من جهاز «إكس بوكس» الذي قررت شركة مايكروسوفت تقديمه دون مقابل على الإطلاق.

في فترة أعياد الميلاد الماضية، انتشرت بجميع الأنحاء مجموعة من الفشلة المثيرين للشفقة يرتدون زي المحاربين بلعبة «هالو»، وأخذوا يوزعون حقائب تحوي أجهزة الألعاب هذه بأسرع ما في وسعهم. وأعتقد أن الأمر قد نجح؛ فيقول الجميع إنهم باعوا عددًا هائلًا من الألعاب. كانت هناك بالطبع إجراءات مضادة للتأكد من أن مَن يحصل على الأجهزة لا يلعب سوى الألعاب التي أصدرتها شركات اشترت تراخيص من شركة مايكروسوفت لصنعها.

ضرب قراصنة الكمبيوتر بهذه الإجراءات المضادة عرض الحائط؛ ففكَّ فتى من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا شفرة جهاز «إكس بوكس»، وألَّف كتابًا حقق أعلى المبيعات حول هذا الموضوع؛ ومن ثم كانت نهاية طراز «٣٦٠»، ومن بعده «إكس بوكس المحمول» الذي لم يدُم طويلًا (والذي كان يزن ثلاثة أرطال!) وكان من المفترض لطراز «يونيفرسال» أن يصمد في وجه هذه الانتهاكات. ومَن فكَّ شفرته طلبة بالمرحلة الثانوية من البرازيل، كانوا قراصنة لنظام لينكس يعيشون في أحد أحياء الفقراء العشوائية.

إياك والاستهانة بعزيمة شاب لديه وفرة في الوقت، ونقص في المال.

ما إن نشر الطلبة البرازيليون صيغة فك الشفرة حتى جُنَّ جنوننا، وسرعان ما ظهرت العشرات من نظم التشغيل البديلة لجهاز «إكس بوكس يونيفرسال»، كان المفضل لديَّ هو «بارانويد إكس بوكس»، وهو أحد صور نظام «بارانويد لينكس». «بارانويد لينكس» هو نظام تشغيل يفترض أن مشغله مراقب من الحكومة (وهو مُعَدٌّ خصوصًا للمعارضين الصينيين والسوريين)، ويفعل كل ما بإمكانه للحفاظ على سرية اتصالاتك ووثائقك، بل إنه ينشئ أيضًا مجموعة من الاتصالات «التافهة» التي من المفترض أن تخفي حقيقة فعلك لأي شيء سري؛ لذا، بينما تتلقى رسالة سياسية كل حرف منها على حدة، يتظاهر نظام «بارانويد لينكس» بتصفح الويب، وملء الاستبيانات، والمغازلة بغرف المحادثة. وفي هذه الأثناء، حرف واحد من بين كل خمسمائة حرف تتلقاه يكون رسالة حقيقية؛ أي إبرة وسط كوم قش.

كنت قد نسخت قرص فيديو رقميًّا لنظام «بارانويد إكس بوكس» عند ظهوره للمرة الأولى، لكن لم تسنح لي الفرصة قط لإفراغ محتويات عبوة جهاز «إكس بوكس» الموجودة في خزانتي، والبحث عن جهاز تليفزيون لتوصيله به، وما إلى ذلك؛ فغرفتي مزدحمة بما فيه الكفاية، وما من حاجة لجعل برامج مايكروسوفت الكثيرة الأعطال تشغل مكان عملي القيِّم.

لكنني سأضحي الليلة. استغرق الاستعداد والتأهب للعمل عشرين دقيقة. كمن الجزء الأصعب في عدم امتلاكي جهاز تليفزيون، لكنني تذكرت في النهاية أن لديَّ بروجيكتور صغيرًا بشاشة إل سي دي مزودة بموصلات آر سي إيه تليفزيونية قياسية في الخلف. قمت بتوصيل جهاز العرض بجهاز «إكس بوكس»، وسلَّطْتُه على الجانب الخلفي لباب الغرفة، وثبَّتُّ نظام «بارانويد لينكس».

وبذلك أكون قد تأهبت للعمل، وبدأ نظام «بارانويد لينكس» في البحث عن أجهزة «إكس بوكس يونيفرسال» أخرى ليتواصل معها. كل جهاز «إكس بوكس يونيفرسال» مزود بنظام لاسلكي مدمج للعب الجماعي، وبذلك يمكنك الاتصال بجيرانك باستخدام الرابط اللاسلكي، وكذلك بالإنترنت إذا كان لديك اتصال إنترنت لاسلكي. عثرت على ثلاثة جيران مختلفين في المجال المحيط بي، منهم اثنان يتصل جهازا «إكس بوكس يونيفرسال» الخاصان بهما بالإنترنت. يفضل نظام «بارانويد إكس بوكس» هذا الإعداد؛ فبإمكانه استراق بعض من اتصالات الإنترنت لدى جيراني، واستخدامها في الدخول على الإنترنت من خلال شبكة الألعاب. ما كان الجيران ليخسروا شيئًا بسبب استراقي لاتصالهم بالإنترنت؛ إذ إنهم يدفعون سعرًا ثابتًا لاتصال الإنترنت، ولا يتصفحون في الغالب الإنترنت في الثانية صباحًا.

أفضل ما في الأمر هو الشعور الذي منحني إياه كل ذلك؛ وهو أنني الممسك بزمام الأمور. التكنولوجيا التي أستخدمها تعمل من أجلي، تخدمني، تحميني، وليست تتجسس عليَّ؛ لهذا أحببت التكنولوجيا: إذا استخدمتها على النحو الصحيح، يمكنها أن تمنحك القوة والخصوصية.

بدأ عقلي يعمل آنذاك بأقصى طاقته، كانت هناك عدة أسباب لتشغيلي نظام «بارانويد إكس بوكس»؛ أهمها أن أي أحد يمكنه صنع الألعاب له. كان هناك بالفعل منفذ لمحاكي أنظمة ألعاب الآركيد المتعددة؛ فيتمكن المرء فعليًّا من ممارسة أية لعبة صُمِّمت على الإطلاق، بدءًا من ألعاب بونج وألعاب أجهزة أبل المنزلية وألعاب نظم كوليكوفيجن وألعاب نظم إن إي إس ودريم كاست وهكذا.

الأفضل مما سبق هو كل الألعاب الرائعة متعددة اللاعبين التي تُصمَّم خصوصًا لنظام «بارانويد إكس بوكس»، وهي ألعاب هواة مجانية يمكن لأي أحد تشغيلها. وعند الجمع بين كل ذلك، يصبح لديك نظام ألعاب مجاني مليء بالألعاب المجانية التي يمكنها منحك وصولًا مجانيًّا للإنترنت.

أما الأفضل على الإطلاق — بقدر ما يعنيني — فهو أن نظام «بارانويد إكس بوكس» مصاب بجنون الارتياب؛ إذ يشفر كل البيانات في الحال، يمكنك استراقه كما تشاء، لكنك لن تصل أبدًا إلى هوية المتحدث، أو عمَّا يتحدث، أو مع مَن. شبكة وبريد إلكتروني ومراسلات فورية مجهولة الهوية، وهذا بالضبط ما كنتُ بحاجة إليه.

كل ما انبغى لي فعله الآن هو إقناع جميع من أعرفهم باستخدامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤