تمهيد

يتناول هذا الكتاب طريقة تأثير القصص الخيالية في عقول القُرَّاء والجماهير والمؤلِّفين وأدمغتهم، ويناقش كيف ننسج — من محض كلمات أو صور — خبرات من قصص ممتعة، وأحيانًا عميقة.

يعتمد الكتاب على فكرة سبق أنْ طرَحها ويليام شكسبير وصامويل تايلور كولريدج وروبرت لويس ستيفنسون وغيرهم؛ مفادها أن القصص الخيالية ليست مجرد جزء من الحياة، ولا هي محض ترفيه، ولا مجرَّد هروب من الواقع اليومي، فهي تشمل كل ذلك في أغلب الأحيان، ولكنها — في جوهرها — حُلم موَجَّه، ونموذج نبنيه — نحن القراء والمشاهدين — بمشاركة الكاتب، ليُمَكِّننا هذا النموذج من رؤية الآخرين ورؤية أنفسنا رؤيةً أوضح. ويمكن للحُلم أن يُقدِّم لنا لمحاتٍ مما هو مستتر تحت سطح الحياة اليومية.

إن كل قصة خيالية هي نموذج للعالم، ولكن ليس للعالم بأسره؛ فهي تركِّز على نيات البشر وخُططهم، ولهذا السبب تمتلك بنْيَةً سردية من الأفعال والحوادث التي تقع نتيجة تلك الأفعال، وتحكي عن تقلُّبات حيواتنا، وعن المشاعر التي تُخالجنا، وعن أنفسنا وعلاقاتنا في خضمِّ مساعينا الحياتية. فنحن البشر اجتماعيون حتى النُّخاع، ودائمًا ما تكون محاولاتنا لفهم أنفسنا وفهم الآخرين ناقصةً؛ بسبب تداخُل دوافعنا في كثير من الأحيان، وصعوبة معرفة الآخرين. والقصص الخيالية وسيلةٌ لزيادة فهمنا.

انخرطَت مجموعات بحثية عدَّة على مدار الأعوام العشرين السابقة تقريبًا في محاولة لاستكشاف تأثير القصص الخيالية على العقل، وسبب استمتاع الناس بقراءة الروايات ومشاهدة الأفلام. وبالتزامن مع ذلك بدأت أبحاث تصوير الدماغ تُظهِر كيفية تعبير الدماغ عن المشاعر والأفعال والتفكير في الآخرين الذين يقرأ المرء عنهم في تلك القصص. وقد بدأنا في المجموعة البحثية التي أعمل بها نُبيِّن الطريقة التي يحدث بها التَّماهي مع الشخصيات الخيالية، وكيف يستطيع الفن الأدبي تحسين القدرات الاجتماعية، وتحريك مشاعرنا، والدفع نحو إحداث تغييرات في الذات، وبإمكانكم الاطلاع على الآراء والمراجعات والأبحاث، وغير ذلك مما تُجريه مجموعتنا على مجلتنا، على الإنترنت، المتخصِّصة في علم نفس القصص الخيالية، واسمها «أون فيكشن»، عبر الرابط http://www.onfiction.ca.

أنا عالِم نفسٍ وروائي معًا، وعلى الرغم من أن القَصص الخيالي لم يُدْرَس في علم النفس، فسرعان ما تجلَّت أهميتُه في هذا العلم مؤخرًا. وقد عرضتُ فكرة هذا الكتاب لأول مرة في كتاب «الخطط المحْكَمة»، وفيه طرحتُ الفرضية المعرفية-النفسية القائلة إن القصص الخيالية نوع من المحاكاة، ولكنَّها محاكاة لا تُجرى داخل كمبيوترات، ولكن داخل العقول؛ فهي محاكاة للذوات في تفاعلاتها مع غيرها في العالم الاجتماعي، وهذا ما سمَّاه شكسبير وغيره حلمًا.

في هذا الكتاب أتناول مجالًا سبق أنْ طرحه في إطار القَصص الخيالي كُتَّاب عدة؛ بدءًا من هنري جيمس، وإي إم فورستر، ولكني أتناوله هذه المرة من وجهة علم النفس. وفيه أستعرض، إلى جانب الموضوعات التقليدية، أربعةَ مباحث أساسية؛ هي: الشخصية، والفعل، والحدث، والشعور. أما الأساليب الفنية فأتناول منها الاستعارةَ والمجاز والتغريب والتلميحات (التي تصفها إيلين سكاري بأنها تعليمات للقُرَّاء). وأما ما يخص المحتوى التقليدي، فينصبُّ تركيزي على الحوار والأساليب التي يُقدِّم بها الناس أنفسهم بعضهم لبعض.

والكتاب موجَّه لعموم القُرَّاء وعلماء النفس والمنظِّرين الأدبيين والطلَّاب، وفضَّلتُ في كتابته الإيجاز على أن يكون مجلَّدًا ضخمًا، على الرغم مما يحتويه من إحالات إلى أبحاث مختلفة بطريقة تدلُّ على سعة المجال. وقد سُقْت أدلتي الأدبية في الكتاب على هيئة مقتطفات، وأدلَّتي النفسية على هيئة دراساتٍ صُمِّمَت بحيث تتجاوز الآراء المجرَّدة. لكنني ارتأيتُ أن يكون للكتاب نصيب من سمات القصص؛ أي إنني تعمَّدتُ أن يمتاز النصُّ بالتدفُّق السردي، وأن تُؤدي الأجزاء الأولى إلى مدركات لا تتحقَّق إلا مع التقدُّم في القراءة. وأدعوك خلال القراءة إلى ملء بعض الفجَوات بين الفقرات والأقسام المختلفة بطريقتك.

النص الأساسي للكتاب معَدٌّ ليُناسب عموم القرَّاء، ويوجد أيضًا نصٌّ موازٍ في التعليقات الختامية، أستعرض فيه مصادر ما ذكرتُه من أفكار وأدلَّة من الدراسات النفسية، إلى جانب مناقشات أخرى أكثر تخصُّصًا.

استشهدتُ في هذا الكتاب بعدد من الأعمال الأدبية، ولكنِّي أشرت إلى بعضها أكثر من غيره؛ ولهذا تُمثِّل تلك الأعمال جزءًا أساسيًّا من النِّقاش. ورغم أنني لا أقتبس منها داخل النص سوى ما يتَّصل بالموضوع، فباستطاعتك قراءتها كاملة إلى جانب الكتاب. وجديرٌ ذِكْر أنني أدرجتُ لكل عمل من تلك الأعمال التي تكرَّرت الإشارة إليها، عند ذكره لأول مرة، عنوانًا على الإنترنت في التعليقات الختامية يُتيح الوصول إلى نسخة منه مما هو متاح للجمهور.

يظهر على غلاف الطبعة الإنجليزية للكتاب جزء من لوحة يوهانس فيرمير «فن الرسم»، التي وقع اختياري عليها لأنها، مثل كل لوحات فيرمير، تُصوِّر، من وجهة نظري، أحداثًا مسرحية، ولقطات زمنية ثابتة؛ فهي أشبه بالأحلام بما تحتويه من عناصر لها مغزًى، اختيرت لتثير في نفس مُشاهدها ارتباطًا ما بها، بالأسلوب نفسه الذي تُوجِد به الأشياء والأحداث ارتباطاتٍ ذهنيةً لدى القارئ في القصص الخيالية. في هذه اللوحة، الشخصيةُ الأساسية هي الإلهة كليو، مرتدية على رأسها إكليل الغار، وتحمل كتابًا وآلةً موسيقية، مُغْضِيةً عينيها في حياء، ومن خلفها تظهر خريطة، وبالقرب منها طاولة ضخمة تحمل مخطوطًا مفتوحًا وقناعًا. فبمَ توحي هذه العناصر؟ من رَحِم مَشاهد كهذه تولد القصص.

سأخاطبك أحيانًا — عزيزي القارئ — بكلمة «أنت»، وأحيانًا أخرى ستجدني أقول «نحن» وأقصد بها نفسي وإياك معًا.

أتمنَّى لك قراءةً ممتعةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤