الفصل الثاني

خليط مستحيل: هيكل الأمم المتحدة

عبَّر داج همرشولد — في مقابلة مع مجلة تايم في صيف عام ١٩٥٥ — عن إحباطه بشأن الصورة العامة للأمم المتحدة، وقد كان قلقًا — تحديدًا — من أن كثيرًا من الناس رأوا في المنظمة — التي لم تتجاوز من العمر عشرة أعوام — كيانًا بيروقراطيًّا ضخمًا عاجزًا عن مجابهة المخاوف الملموسة لدى البشر العاديين. والأمر المساوي في الأهمية هو أن همرشولد رأى أن مثل هذا السخط كان يبعد منظمة الأمم المتحدة عن الأشخاص الذين صُممت المنظمة لخدمتهم تحديدًا. ولم يكن هناك سوى حل واحد، وقد عبر عنه همرشولد بقوله: «سيكون كل شيء على ما يرام، أتعلمون متى؟ حين يتوقف الناس — الناس وحسب — عن التفكير في الأمم المتحدة بوصفها لوحة تجريدية عجيبة أشبه بلوحات بيكاسو، والنظر إليها كلوحة رسموها بأنفسهم.»1

تشير تعليقات ثاني أمين عام للأمم المتحدة إلى واحدة من المشكلات المحورية التي تواجهها المنظمة العالمية؛ ففي عام ١٩٥٥ كانت الأمم المتحدة حاضرة بالفعل، لكنها كانت بعيدة؛ ليس فقط لأنها كانت تعمل في مجالات عديدة مختلفة، ومن خلال وكالات عديدة مختلفة، وبمجموعة متنوعة من الأهداف المتباينة؛ فقد كانت — كما الحال معها اليوم — «لوحة تجريدية عجيبة أشبه بلوحات بيكاسو»؛ خليط تنظيمي يستحيل تفسير وظائفه العديدة بلغة بسيطة. ليس هناك جدوى من القول: إن الأمم المتحدة كيان هيكلي ضخم؛ خليط من المنظمات والشُّعَب والهيئات والأمانات التي تحمل كل منها اسمًا مركبًا مميزًا لا تستطيع سوى قلة من البشر أن يلموا بها. وهذا وحده كفيل بتفسير العديد من مشكلات الأمم المتحدة.

لكن الفكرة المحورية هنا هي أن الأسباب الداعية لبناء مثل هذا الخليط — اللوحة التجريدية حسب وصف همرشولد — بسيطة: فقد تألفت المنظمة على يد أشخاص من دول متعددة، لهم خلفيات وأهداف متباينة. والأمر المساوي في الأهمية هو أن مؤسسي الأمم المتحدة (ومصممي هيكلها) كانوا يواجهون المعضلة الأبدية: كيفية التوفيق بين المصالح القومية — الأمن القومي والرخاء القومي والقوانين الوطنية — والمصالح الدولية؛ أي الأمن الدولي والتنمية العالمية والعدالة الشاملة وحقوق الإنسان. وقد عكس الهيكل الموضوع هذه المعضلة، وهو أحد أسباب المحصلة النهائية: لوحة جزء منها تجريدي وجزء منها واقعي.

(١) «أسرة» الأمم المتحدة

في عام ١٩٤٥ كانت الأجهزة الستة الرئيسية للأمم المتحدة هي: الجمعية العامة، ومجلس الأمن، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية، ومحكمة العدل الدولية، والأمانة العامة. وباستثناء مجلس الوصاية — الذي لم يعد له غرض بعد اكتمال عملية إنهاء الاستعمار التي أشرف عليها — لا تزال هذه الأجهزة تؤلف البناء الفوقي الأساسي للأمم المتحدة. تلتقي هذه الأجهزة جميعها على نحو منتظم، ويصوت أعضاؤها ويتخذون القرارات، ويصدرون الإعلانات، ويناقشون قضايا اليوم، ومع هذا فوظائف هذه الأجهزة تتباين تباينًا كبيرًا: فمع أن الجمعية العامة هي برلمان الأمم المتحدة ومجلس الأمن‎ هو لجنتها التنفيذية، فإن الأمانة العامة هي الهيئة التشغيلية — الديوان — الذي يدير الأمم المتحدة.

ومع ذلك فإن «أسرة» الأمم المتحدة أكبر بكثير؛ إذ تضم خمس عشرة وكالة والعديد من البرامج والهيئات. بعض المنظمات — كمنظمة العمل الدولية — أُسست خلال حقبة عصبة الأمم في العشرينيات، وقد أنشئ الكثير منذ عام ١٩٤٥ لمواجهة مشكلات محددة طُلب من الأمم المتحدة حلها، وقد جاء معظم هذه الزيادة — والتعقيد الناجم عنها للأمم المتحدة — كنتيجة للنمو السريع في عدد الدول الأعضاء التي ساهمت — في العقود التالية على تأسيس المنظمة — في زيادة المهام التي فوضت الأمم المتحدة للتعامل معها. ونتيجة لذلك، أضيفت هيئات وبرامج جديدة (ولا تزال تضاف) على أساس دوري. وهناك هيئات أخرى، كمفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين، قُصد بها في البداية أن تكون مؤقتة، لكنها تحولت إلى أحد الأجهزة الدائمة. ومن الحتمي أن تتداخل اختصاصات بعض الهيئات مع البعض الآخر.

بالإضافة إلى كل هذا، للأمم المتحدة مجموعة مختلطة من «الهيئات الفرعية» والشركاء، فعلى امتداد تاريخها، ارتبطت الأمم المتحدة بحوالي ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية. كان هذا التصور قائمًا بالفعل في عام ١٩٤٥؛ إذ أقرت المادة ٧١ من ميثاق الأمم المتحدة صراحة أن للأمم المتحدة «أن تجري الترتيبات المناسبة للتشاور مع الهيئات غير الحكومية التي تعنى بالمسائل الداخلة في اختصاصها». من الناحية العملية، يعني هذا أنه في كل عام تعمل الأمم المتحدة مع مئات المنظمات غير الحكومية للتعهد بالمهام الإنسانية في مناطق الصراع في العالم؛ على سبيل المثال: بين عامي ١٩٩٥ و٢٠٠٢، أشرفت بعثة الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك على عملية بناء السلام التي تمر بها البلاد — وأهمها إرساء سيادة القانون — بعد المرور بحرب بغيضة. وخلال هذه الفترة اشتركت البعثة مع قرابة أربعين منظمة غير حكومية قدمت خبراتها في نطاق واسع من الاختصاصات يتراوح بين تطهير الأرض من الألغام وحماية البيئة.

وإضافة إلى التعاون مع العديد من بعثات الأمم المتحدة، تعمل المنظمات غير الحكومية كجماعات ضغط لدعم قضايا متعددة؛ على سبيل المثال: في عام ١٩٩٧ أصدرت اثنتان وثلاثون منظمة غير حكومية خطابًا مفتوحًا «تحث» فيه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على الضغط على حكومة السودان الممانعة للسماح بدخول قوة حفظ السلام المشتركة التابعة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة إلى إقليم دارفور الذي مزقه الصراع. يعطينا هذا المثال لمحة عن طريقة أخرى أُجبرت الأمم المتحدة بها على نحو متزايد على الإقرار بقصور قدراتها وعقد التحالفات في أماكن أخرى. وتحديدًا منذ التسعينيات، أوكلت الأمم المتحدة «من الباطن» مهامَّ حفظ السلام إلى مؤسسات لا تنتمي إلى الأمم المتحدة (كمنظمات إقليمية كحلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأفريقي) أو حتى إلى شركات أمن خاصة. وفي عام ٢٠٠١ كونت تلك الأخيرة منظمة غير حكومية خاصة بها تدعى رابطة عمليات السلام الدولية، التي تعمل كجماعة ضغط للعلاقات العامة للشركات التي كانت في أوقات سابقة يُشار إليها بجماعات المرتزقة.

هذا التعقيد الإداري يعكس أيضًا محاولة تشكيل منظمة قادرة على تجنب بعض المشكلات التي واجهتها عصبة الأمم من قبل، وقادرة على التكيف مع البيئة الدولية المتغيرة حسب الحاجة. كان لعصبة الأمم عدد من الأجهزة مشابه لتلك الخاصة بالأمم المتحدة؛ على سبيل المثال: كان هناك مجلس العصبة (وهو لجنة تنفيذية شبيهة بمجلس الأمن) وجمعية العصبة (المعادل التقريبي للجمعية العامة للأمم المتحدة)؛ أي إن هيكل الأمم المتحدة كان مبنيًّا على مزيج من الهياكل الموروثة، والتحديات الجديدة، والدروس التاريخية.

(٢) مجلس الأمن

مجلس الأمن هو الجهاز الرئيسي لنظام الأمم المتحدة كله، ومسئوليته الأساسية هي الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. ولتحقيق هذا المقصد، مُنح مجلس الأمن سلطات واسعة تجعل منه شريكًا نشطًا في الشئون الدولية؛ فهو قادر على التحقيق في أي نزاع أو موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي، ويحق له أن يقرر فرض عقوبات اقتصادية أو التدخل العسكري؛ وعلى هذا فُوض مجلس الأمن لاستخدام سلطاته كوسيلة لمنع الصراع وكوسيلة لإجبار أي دولة على التقيد بحكم أو قرار بعينه.

يمكن النظر إلى السلطات الواسعة الممنوحة لمجلس الأمن كنتيجة للرغبة في بناء جهة حارسة للسلم والأمن الدوليين تكون أكثر فعالية مما كانت عليه عصبة الأمم. وقليلون جدًّا هم من شككوا في الحاجة لمثل هذه المنظمة، سواءٌ وقت إنشائها أو بعد ذلك. بيد أن هيكل مجلس الأمن لا يخلو من الإشكاليات؛ فهو يعكس واحدًا من التوترات التي ألقت بظلالها على الأمم المتحدة، وكثيرًا ما كبحت تأثيرها. وعلى وجه الخصوص، فإن نظام العضوية‎ المزدوج، الذي منح المزيد من السلطة، على نحو غير متكافئ، لخمس من القوى العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية‎، أقر بامتيازات القوى العظمى ‎‎ كعنصر مهم في ميثاق الأمم المتحدة. وبهذا وُضعت المصالح القومية والضيقة في مواجهة المُثل الجامعة التي أُسست عليها الأمم المتحدة.

يحدد الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة سلطات مجلس الأمن. ومن المواد المحورية في هذا الفصل ما يلي:

المادة ٣٩

يقرر مجلس الأمن هل وقع تهديد للسلم أو إخلال به، أو كان ما وقع عملًا من أعمال العدوان، ويقدم في ذلك توصياته أو يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير طبقًا لأحكام المادتين ٤١ و٤٢ لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه.

المادة ٤٠

منعًا لتفاقم الموقف، لمجلس الأمن، قبل أن يقدم توصياته أو يتخذ التدابير المنصوص عليها في المادة ٣٩، أن يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضروريًّا أو مستحسنًا من تدابير مؤقتة، ولا تخل هذه التدابير المؤقتة بحقوق المتنازعين ومطالبهم أو بمركزهم، وعلى مجلس الأمن أن يحسب لعدم أخذ المتنازعين بهذه التدابير المؤقتة حسابه.

المادة ٤١

لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفًا جزئيًّا أو كليًّا، وقطع العلاقات الدبلوماسية.

المادة ٤٢

إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة ٤١ لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه. ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية أو البحرية أو البرية التابعة لأعضاء الأمم المتحدة.

المادة ٤٣

(١) يتعهد جميع أعضاء الأمم المتحدة في سبيل المساهمة في حفظ السلم والأمن الدولي، أن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن — بناءً على طلبه وطبقًا لاتفاق أو اتفاقات خاصة — ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدولي، ومن ذلك حق المرور.

تألف مجلس الأمن في بدايته من أحد عشر عضوًا (أو دولة)، وهو العدد الذي زاد إلى خمسة عشر في عام ١٩٦٥. خمس من هذه الدول — الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا والصين وروسيا (الاتحاد السوفييتي حتى عام ١٩٩١) — أعضاء دائمون (تعرف بالدول الخمس دائمة العضوية). الأعضاء العشرة الآخرون غير دائمين، وتنتخبهم الجمعية العامة لفترات قوامها عامان. تعكس عملية اختيار الأعضاء السعي لإيجاد بعض التوازن الإقليمي، الذي نادرًا ما يكون مثاليًّا؛ إذ تحصل أفريقيا على ثلاثة مقاعد، وتحصل أوروبا الغربية والأوقيانوس، وآسيا، وأمريكا اللاتينية والكاريبي على مقعدين لكل منها. أما المقعد الأخير فمحجوز لأوروبا الشرقية. وكل عام يغادر خمسة من الأعضاء العشرة غير الدائمين مجلس الأمن ويحل محلهم خمسة أعضاء آخرون.

ملمحان أساسيان يميزان مجلس الأمن عن عصبة الأمم؛ أولًا: قرارات مجلس الأمن ملزمة وتستلزم أغلبية تسع دول من أصل خمس عشرة — بدلًا من الإجماع التام كما كان الحال في عصبة الأمم — لاعتمادها. ثانيًا: من الجلي أن الأعضاء الدائمين أعلى سلطة من الأعضاء غير الدائمين؛ إذ تستطيع أي دولة من الدول الخمس دائمة العضوية منع أي قرار من خلال استخدام حق النقض. تسبب هذا الشرط في دعوات عديدة للإصلاح؛ فربما كانت الدول دائمة العضوية «قوى عظمى» في عام ١٩٤٥، ومن المؤكد أنها كانت القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لكن ليس هذا هو الحال في القرن الحادي والعشرين. لكن منذ تأسيس الأمم المتحدة كان الإصلاح الكبير الوحيد هو زيادة عدد الأعضاء غير الدائمين في عام ١٩٦٥.

ظل تركيز السلطة في يد الدول الخمس دائمة العضوية محل انتقاد، وهو ما يرجع في أغلبه إلى أن مجلس الأمن يمارس نطاقًا عريضًا من السلطات على ما تبقَّى من نظام الأمم المتحدة. على سبيل المثال: يستطيع مجلس الأمن أن يوصي بقبول دولة جديدة في الأمم المتحدة، وهو يختار الأمين العام، إلى جانب أنه يختار — مع الجمعية العامة — قضاة محكمة العدل الدولية.

وسواءٌ أكان هذا الوضع يشوبه الخطأ أم لا، فإن مجلس الأمن — ودوله الخمس دائمة العضوية — يهيمن على جميع الأجهزة الأخرى بالأمم المتحدة.

(٣) الجمعية العامة

إذا كان مجلس الأمن هو المكان الذي تستجيب فيه الأمم المتحدة — أو الدول الأعضاء بالمجلس في أي وقت بعينه — للصراعات العديدة في العالم، فإن الجمعية العامة هي المنتدى الذي تستطيع أي دولة من الدول المائة واثنتين وتسعين الأعضاء أن تعرض قضيتها فيه على العالم. فالجمعية العامة — بوصفها هيئة المناقشة الرئيسية للأمم المتحدة — تشبه في مناحٍ كثيرة البرلمان القومي؛ فكل دولة من الدول الأعضاء — بصرف النظر عن حجمها — لها صوت. هذا الترتيب يجعل الجمعية العامة شبيهة بمجلس الشيوخ الأمريكي، حيث تُمَثل كل ولاية من الولايات الخمسين بنائبين بصرف النظر عن التعداد السكاني أو مساحة الولاية. وهذا الموقف عبثي بطريقة ما؛ فجزيرة توفالو ضئيلة الحجم، البالغ عدد سكانها ١١٦٠٠ نسمة لها تمثيل مساوٍ لجمهورية الصين الشعبية والهند، التي يتجاوز عدد سكان الواحدة منهما المليار نسمة.
fig6
شكل ٢-١: نيكيتا خروشوف — رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي — في اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر عام ١٩٦٠. أكثر ما علق بالذاكرة عن زيارته هو اليوم الذي قرع فيه الزعيم السوفييتي المتحمس منصة القراءة بحذائه لإثبات وجهة نظره.2

إن حجم الجمعية العامة ذاته يعني أن فعاليتها محدودة. فالاجتماعات السنوية — أو الدورات العادية — التي عادة ما تُفتتح في شهر سبتمبر باتت بمنزلة طقوس، ولا تحظى بالاهتمام إلا إذا ارتبطت بظهور شخصية شهيرة، كرئيس الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا. في الواقع، لقد اكتسبت الجمعية العامة للأمم المتحدة أهميتها الأوضح كمنتدى للتعبير عن الاحتجاج من قبل الشعوب الراغبة في الاعتراف بها كدول (كالفلسطينيين منذ السبعينيات).

إن شمولية الجمعية العامة هذه — والأمم المتحدة باختصار — هي أكبر نقاط ضعفها: فمع هذا العدد الكبير من الأعضاء الممثلين، لا تتاح أمام القضايا الخلافية فرصة كبيرة للحسم حسمًا تامًّا، وسبب هذا هو أن القرارات بشأن القضايا الجوهرية — كالسلم والأمن، وقبول أعضاء جدد، والأمور المتعلقة بالميزانية — تتطلب أغلبية الثلثين (والقرارات الخاصة بالقضايا الأخرى تتطلب الأغلبية العادية). وبخصوص قضايا الأمن الدولي تتبع الجمعية العامة لمجلس الأمن، ومن ثم تعتمد على اتفاق الدول الخمس دائمة العضوية.

بطرق عدة، تعمل الجمعية العامة على نحو شبيه بالبرلمان الوطني؛ فلديها رئيس وواحد وعشرون نائبًا للرئيس! لكن على عكس أغلب البرلمانات الوطنية بأحزابها السياسية، تُقسم الجمعية العامة وفق الحدود الإقليمية. فرئاسة الجمعية — على سبيل المثال — تدور مناوبة كل خمس سنوات بين خمس مجموعات من الدول: الأفريقية، والآسيوية، ودول شرق أوروبا، وأمريكا اللاتينية والكاريبي، ودول أوروبا الغربية ودول أخرى (مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلندا).

إضافة إلى ذلك، تُنفذ أعمال الجمعية العامة في عدد من اللجان ذات العضوية المحدودة أكثر، وهذه اللجان معنية بقضايا محددة على غرار لجنة نزع السلاح والأمن الدولي (اللجنة الرئيسية الأولى)، واللجنة الاقتصادية والمالية (الثانية)، ولجنة الشئون الاجتماعية والإنسانية والثقافية (الثالثة). وكما هو الحال فيما يخص الرئاسة ونيابة الرئاسة، يجري اختيار عضوية اللجان ورئاستها على أساس إقليمي؛ على سبيل المثال: في عام ٢٠٠٦ ترأست اللجنة الأولى نرويجية، والثانية إستونية، والثالثة عراقي، والرابعة نيبالي، وهكذا دواليك.

إذا كان مجلس الأمن قد ظل جامدًا على نحو لافت من حيث قواعده وعضويته، فإن الجمعية العامة هي أكثر هيئات الأمم المتحدة التي شهدت زيادة تدريجية في عدد الدول الأعضاء؛ من ٥١ دولة في عام ١٩٤٥ إلى ١٩٢ دولة اليوم. هذه الزيادة البالغة في العضوية أثرت على الأمم المتحدة بعدد من الطرق المهمة، أهمها قد يكون بلورة التنمية الاقتصادية والاجتماعية كقضايا جوهرية على جدول أعمال الأمم المتحدة. وأثرت أيضًا على عمل القائمين على إدارة المنظمة على أساس يومي.

(٤) الأمين العام: هل هي «أصعب وظيفة على الأرض»؟

تخدم الأمانة العامة للأمم المتحدة الأجهزة الرئيسية الأخرى للأمم المتحدة وتدير البرامج والسياسات التي تضعها هذه الأجهزة. على رأس الأمانة يوجد الأمين العام، الذي تعينه الجمعية العامة، وفق توصية من مجلس الأمن، لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد. تتكون الأمانة العامة بأكملها من نحو تسعة آلاف موظف مدني دولي يعملون في مراكز عمل تابعة للأمم المتحدة في العالم (أبرزها في أديس أبابا وبانكوك وبيروت وجنيف ونيروبي ونيويورك وسانتياجو وفيينا).

يتسم دور الأمانة العامة بالتعقيد؛ إذ يتراوح بين المناصرة العامة للعديد من قضايا الأمم المتحدة والإدارة اليومية لبرامجها الاقتصادية والاجتماعية المتعددة، إلى التعامل الدبلوماسي مع الأزمات، والإشراف على عمل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مناطق الصراع في العالم. لم تكن الموازنة بين هذه المهام تحت الضغط المتواصل من الدول الأعضاء بالمهمة السهلة قط لهذه الهيئة الصغيرة نسبيًّا من الموظفين المدنيين الدوليين الذين هم — في نهاية المطاف — من مواطني الدول الأعضاء. إن عمل الأمانة العامة، بفعل تركيبة موظفيها نفسها، واقع تحت ضغط دائم من جانب كل من واجبات الدولة القومية والأهداف العالمية. فهل يمكن للمرء أن يتوقع حقًّا ألا يستخدم مواطن إحدى الدول منصبه كموظف بالأمم المتحدة لدفع سياسات معينة يكون لها أثر إيجابي على بلده الأم؟
fig7
شكل ٢-٢: في مطار ساليسبري، روديسيا الجنوبية، يرافق حرس الشرف جثمان داج همرشولد على متن طائرة لرحلة العودة إلى مسقط رأسه بالسويد. قُتل همرشولد في حادث طائرة في عام ١٩٦١ أثناء محاولته حل إحدى الأزمات بالكونغو.3

أثرت هذه النقطة تأثيرًا واضحًا على تكوين الأمانة العامة واختيار الأمين العام للأمم المتحدة. فمنذ عام ١٩٤٦ والأمين العام هو واجهة المنظمة، إلى جانب كونه كبير الموظفين الإداريين. يجمع منصب الأمين العام بين رؤية وتوقعات هائلة، وسلطات محدودة في الوقت ذاته. وكل من الأمين العام والأمانة العامة، الذي يفترض بهما في الأحوال المثالية الاستقلال عن التحيزات القومية والسمو فوق السياسة، لا يمكنهما العمل إجمالًا دون دعم الدول القومية الأعضاء بالأمم المتحدة، وعلى رأسها الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن. ولأن مقر الأمم المتحدة يقع في نيويورك، فالأمين العام يخضع لرقابة وسائل الإعلام الأمريكية تحديدًا — ناهيك عن نقدها وازدرائها — داخل أقوى دولة قومية في العالم.

لخص أول أمين عام للأمم المتحدة، النرويجي تريجفي لي، صعوبات المنصب وهو يورث المنصب للسويدي داج همرشولد في عام ١٩٥٣ بقوله: «مرحبًا بك في أصعب وظيفة على وجه الأرض.» وفي وقت سابق على هذا كان لي — الذي اضطر للتعامل مع قضايا صعبة كاندلاع الحرب الكورية — قد تحدث للصحافة قائلًا: «سآخذ متاعب الماضي، وكل الإحباطات والأوجاع، ثم أصرُّها في حقيبة وألقي بها في نهر إيست ريفر.»4

على الأرجح يتفق خلفاء لي مع هذا التقييم المرح؛ ففي الواقع صار منصب الأمين العام للأمم المتحدة أكثر صعوبة على مر العقود مع زيادة عدد الدول الأعضاء بالأمم المتحدة وتنوعها. ومع ذلك فقد ترك بعضهم إرثًا ذا قيمة؛ على سبيل المثال: أيَّد داج همرشولد إنشاء قوات لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة؛ تلك القوات ذات الخوذات الزرقاء التي جابت مناطق الصراع في العالم على امتداد نصف القرن المنصرم، وساعد أيضًا على دفع التنمية الاقتصادية إلى صدارة جدول أعمال الأمم المتحدة. لا ريب أن فترة تولي همرشولد للمنصب تزامنت مع الزيادة السريعة في عدد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك مع انتشار عملية إنهاء الاستعمار في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. إن همرشولد — الملتزم التزامًا شخصيًّا بجعل الأمم المتحدة لاعبًا أساسيًّا في الشئون الدولية — لم يسمح للأمم المتحدة بأن تكون رهينة لعداوات الحرب الباردة التي هددت بالانتشار إلى الأجزاء المستقلة حديثًا من العالم. وقد قُتل همرشولد في حادث تحطم طائرة في عام ١٩٦١ — وبهذا صار شهيدًا بشكل ما — وسط أزمة الكونغو، وهي واحدة من الصراعات العديدة التي نشأت بعد انتهاء الاستعمار.

لم يتمتع أغلب الأمناء العموم التالين بمثل هذا الانفتاح على العالم، وهو ما يعود في جزء منه إلى الحرب الباردة الجارية والزيادة المهولة في عدد الدول الأعضاء التي جعلت عملية إدارة الأمم المتحدة متزايدة الصعوبة. ظل اختيار الأمين العام للأمم المتحدة قضية حساسة للغاية بالمثل؛ إذ إن لكل دولة من الدول الخمس دائمة العضوية حق نقض القرار، ولهذا أسفرت عملية الاختيار عن سلسلة من الحلول الوسط التي أنتجت عددًا من الأمناء العموم المفتقدين للفعالية نسبيًّا: البورمي يو ثانت، والنمساوي كورت فالدهايم، والبيروفي خافيير بيريز دي كويار، والمصري بطرس بطرس غالي، على الرغم من أنها وسعت حق شغل المنصب لما وراء دول شمال أوروبا. وإحقاقًا للحق، حاول كل هؤلاء الرجال (وإلى الآن كل من شغل هذا المنصب كانوا رجالًا) الحفاظ على نزاهة مكاتبهم وصورتها العامة الجيدة بأفضل ما يستطيعون. لكن تحيزات الحرب الباردة، والتأثير الأمريكي الغالب في التسعينيات، في حالة بطرس غالي، حكمَا على أي جهد لتعزيز استقلالية الأمم المتحدة بالفشل.
الأمناء العموم للأمم المتحدة
١٩٤٦–١٩٥٢ تريجفي لي، النرويج
١٩٥٣–١٩٦١ داج همرشولد، السويد
١٩٦١–١٩٧١ يو ثانت، ميانمار (بورما)
١٩٧٢–١٩٨١ كورت فالدهايم، النمسا
١٩٨٢–١٩٩١ خافيير بيريز دي كويار، بيرو
١٩٩٢–١٩٩٦ بطرس بطرس غالي، مصر
١٩٩٧–٢٠٠٦ كوفي عنان، غانا
٢٠٠٧– بان كي مون، جمهورية كوريا (كوريا الجنوبية)

وأخيرًا، كان الأمين العام التالي الذي تميز لتركه بصمة مهمة على المنظمة هو الغاني كوفي عنان؛ فخلال فترة توليه للمنصب، تبنت الأمم المتحدة ما سُمي بأهداف الألفية، وهي مجموعة عريضة من الإرشادات الهادفة لتقليل الفقر في العالم إلى النصف بحلول عام ٢٠١٥. أيضًا بدأ عنان عملية الإصلاح التدريجي لهيكل الإدارة التنفيذية للأمم المتحدة وقادها بنفسه؛ تلك العملية التي تهدف لجعل الأمم المتحدة منظمة أكثر فعالية. لكن الأكثر أهمية على الأرجح هو قدرة عنان معسول اللسان ذي الشخصية الآسرة على الحفاظ على إيجابية صورة الأمم المتحدة في الأوقات التي تعرضت فيها أهميتها — ونزاهة عامليها — للتشكيك على نحو متزايد. وعلى غرار همرشولد، فاز عنان — أول أمين عام للأمم المتحدة قضى حياته المهنية موظفًا بالأمم المتحدة — بجائزة نوبل للسلام. ومع هذا، فقد شهدت الأعوام الأخيرة في فترة عنان تحديات عديدة، كالصراع حول غزو العراق بقيادة أمريكا، وعجز الأمم المتحدة عن وضع نهاية سريعة للقتال الذي نشب على الحدود الإسرائيلية اللبنانية في عام ٢٠٠٦، والاتهامات بتفشي الفساد في أروقة الأمم المتحدة (التي طالت ابن عنان نفسه، ضمن آخرين). ومن المؤكد أن عنان شعر بنوع من الراحة لدى مغادرة مكتبه في نيويورك وتسليم المنصب إلى بان كي مون في ديسمبر عام ٢٠٠٦.

في الواقع، تتسبب مشكلات عديدة في إعاقة عمل كل من الأمانة العامة ومكتب الأمين العام للأمم المتحدة، ومن بين هذه المشكلات التعنت البيروقراطي، والروتين الحكومي، وعجز الميزانية، وسوء الإدارة. وأهم ما في الأمر هو أن العقود الستة الأخيرة أظهرت صعوبة الحفاظ على طاقم عاملين دولي داخل نظام يجعل الأمانة العامة — شأن السواد الأعظم من الأمم المتحدة — رهن رغبات الدول الخمس دائمة العضوية. إضافة إلى ذلك، أي محاولات لتحقيق الانسيابية في عمل الأمم المتحدة تواجه بتحديات يستحيل تخطيها تقريبًا مع كثرة المنظمات التي تؤلف أسرة الأمم المتحدة والعاجزة عن العمل بكفاءة في أحيان كثيرة.

صعوبة أخرى تواجه جهود إصلاح الأمم المتحدة تنبع من نقطة تفرد المنظمة؛ عضويتها العالمية. فأسفل الخطب البلاغية السامية التي تلقى بالجمعية العامة ومجلس الأمن تقبع طبقات فوق طبقات من الطموحات والغايات القومية المتنافسة. من المفترض بطاقم العاملين متعدد الجنسيات العامل تحت إشراف الأمين العام أن يرقى فوق مثل هذه التفاهات، لكن على أرض الواقع يستحيل هذا تقريبًا. فعلى المستوى العملي، يجلب أعضاء الأمانة العامة معهم أساليبهم الإدارية القومية والثقافية، إلى جانب أخلاقيات العمل والتفضيلات الثقافية القادرة بدورها على خلق صراعات حادة بين الأشخاص وإلحاق الضرر بفعالية أي إدارة أو مكتب ميداني للأمم المتحدة. إن مراعاة الإجازات القومية والدينية — كمثال بسيط — يمكن في بعض الأوقات أن تتزامن مع اجتماعات أو مؤتمرات مهمة. ومن قبيل المفارقة أن إيجاد السبل لتجنب التوتر القائم بين الثقافات ليس أحد الشروط المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وحسب، بل هو جزء من الحياة اليومية داخل المنظمة نفسها.

(٥) المجلس الاقتصادي والاجتماعي والأخوات الثلاث

تحت ولاية الأمم المتحدة، ينسِّق المجلس الاقتصادي والاجتماعي «العمل الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة وعائلة منظمات الأمم المتحدة»، ومن ثم «يلعب دورًا جوهريًّا في تعزيز التعاون الدولي من أجل التنمية». يبدو هذا مقبولًا ومنطقيًّا. اضطلع مجلس الأمن بقضايا الأمن العسكري الخطيرة، ومن ثم ترك المجلس الاقتصادي والاجتماعي يتعامل مع القضايا ذات الصلة بالأمن الاقتصادي. لم يؤخذ هذا الأمر باستخفاف؛ إذ إن كثيرًا من المفاوضين الذين اشتركوا في وضع مسودة ميثاق الأمم المتحدة رأوا في الكساد الاقتصادي للثلاثينيات السبب الرئيسي للحرب العالمية الثانية.

في الحقيقة، ليس المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلا جزءًا عديم الحيلة نسبيًّا من هيكل الأمم المتحدة؛ ففي ظل وجود أربع وخمسين دولة تمثل ربع أعضاء الأمم المتحدة تقريبًا، تُنتخب كل واحدة منها بواسطة الجمعية العامة لدورة مدتها ثلاث سنوات (على أساس «التمثيل الجغرافي العادل»)، يشرف المجلس الاقتصادي والاجتماعي على عدد من اللجان الوظيفية (على غرار لجنة حقوق الإنسان ولجنة التنمية المستدامة) والإقليمية. ترصد لجنة حقوق الإنسان — على سبيل المثال — مراعاة حقوق الإنسان في أنحاء العالم (وعمل مجلس حقوق الإنسان الجديد إلى جانب مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان قبل عام ٢٠٠٦). تركز هيئات أخرى على التنمية الاجتماعية، ووضع المرأة، ومنع الجريمة، والعقاقير المخدرة، وحماية البيئة. وتدعم خمس لجان إقليمية التنمية والتعاون الاقتصاديين في مناطقها. لكن تظل مهمة المجلس الاقتصادي والاجتماعي غير منظمة، تمامًا مثل هيكله.

في الواقع، تكمن القوة الاقتصادية العالمية الحقيقية داخل أسرة الأمم المتحدة في كنف ما يسمى بالشقيقات الثلاث: البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ولكل واحدة منها نطاق مسئوليات خاص بها. فالبنك الدولي — ومقره واشنطن — الذي عرف في البداية باسم البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية، مؤسسة متعددة الجوانب تُقرض المال للحكومات والوكالات الحكومية من أجل مشروعات التنمية، أما صندوق النقد الدولي — والموجود أيضًا في واشنطن — فيقرض المال للحكومات للمساعدة على استقرار العملات والحفاظ على النظام في الأسواق المالية الدولية. ومنظمة التجارة العالمية — ومقرها جنيف — تأسست عام ١٩٩٥ لتحل محل الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (الجات)، وهدفها العام هو تقليل التعريفات الجمركية وغيرها من حواجز التجارة.

بالرغم من تمتع الشقيقات الثلاث بسلطة وتأثير عظيمين، فإن تلك المؤسسات تُنتقد لتفضيلها نظام السوق الحرة القائم على غيره من البدائل المحتملة. في الواقع، تمنح قواعد الإدارة داخل هذه المؤسسات بعض الدول أفضلية واضحة في اتخاذ القرار؛ ففي صندوق النقد والبنك الدوليين يُرجح التصويت بناءً على مساهمات كل دولة على حدة، يعني هذا أن الولايات المتحدة تملك (في عام ٢٠٠٥) قرابة ١٧ بالمائة من الأصوات، فيما تملك الدول الصناعية السبع الكبرى (بريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة) حوالي ٤٥ بالمائة من الأصوات مجتمعة. لا يُطبق مبدأ صوت واحد لكل دولة هنا! بل في الواقع، يملك أكبر «المساهمين»؛ الولايات المتحدة، حق النقض الدائم لقرارات صندوق النقد والبنك الدوليين. وقد تعززت هيمنة الغرب على هذه المؤسسات أكثر من خلال التقليد القديم المتمثل في اختيار أمريكي لرئاسة البنك الدولي، وأوروبي مديرًا عامًّا لصندوق النقد الدولي.
رؤساء البنك الدولي* مديرو عموم صندوق النقد الدولي
يوجين ميير، ١٩٤٦ كميل جوت (بلجيكا)، ١٩٤٦–١٩٥١
جون جيه ماكلوي، ١٩٤٧–١٩٤٩ إيفار رووث (السويد)، ١٩٥١–١٩٥٦
يوجين آر بلاك، ١٩٤٩–١٩٦٣ بير ياكوبسون (السويد)، ١٩٥٦–١٩٦٣
جورج دي وودز، ١٩٦٣–١٩٦٨ بيير-بول شفايتزر (فرنسا)، ١٩٦٣–١٩٧٣
روبرت ماكنمارا، ١٩٦٨–١٩٨١ يوهان ويتيفين (هولندا)، ١٩٧٣–١٩٧٨
آلدن دابليو كلاوسن، ١٩٨١–١٩٨٦ جاك دي لاروسيير (فرنسا)، ١٩٧٨–١٩٨٧
باربر كونابل، ١٩٨٦–١٩٩١ ميشيل كامديسو (فرنسا)، ١٩٨٧–٢٠٠٠
لويس تي بريستون، ١٩٩١–١٩٩٥ هورست كولر (ألمانيا)، ٢٠٠٠–٢٠٠٤
جيمس وولفنسون، ١٩٩٥–٢٠٠٥ رودريجو روتا إي فيجاردو (إسبانيا)، ٢٠٠٤-
بول وولفويتس، ٢٠٠٥–٢٠٠٧
روبرت زوليك، ٢٠٠٧–
جميعهم مواطنون أمريكيون.

المشكلة النابعة من هذا الهيكل واضحة؛ فالدول التي لديها الكثير لتخسره — دول العالم النامي التي تكون عادة بحاجة لقروض البنك الدولي أو اعتمادات صندوق النقد الدولي — لديها سلطة قليلة نسبيًّا في هذه المؤسسات، لكن البرامج والسياسات التي يُبت فيها في واشنطن عادة يكون لها تأثير مهول في أرجاء العالم النامي. وليس من قبيل العجب أن يحاج منتقدو صندوق النقد والبنك الدوليين بأن هاتين المؤسستين تمثلان شكلًا جديدًا من سيطرة الغرب على أفريقيا وأجزاء من آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. (في المنطقة الأخيرة، نادى الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز بإنشاء مصرف الجنوب، كسبيل لتحرير أمريكا اللاتينية من الاعتماد على قروض البنك الدولي والهيمنة الأمريكية.)

تبدو منظمة التجارة العالمية (واتفاقية الجات السابقة عليها) أكثر ديمقراطية من شقيقتيها اللتين تتخذان من واشنطن مقرًّا لهما؛ فالتصويت بها ليس مُرجحًا، وتتخذ القرارات — أو عادة لا تتخذ — بالإجماع (التصويت بالأغلبية ممكن، لكنه لم يستخدم قط). ومع ذلك، نظرًا لعدد الأعضاء الكبير (نحو ٧٥ بالمائة من إجمالي ١٥٣ دولة تنتمي للعالم النامي) وتباين المصالح والأهداف، تؤدي الحاجة لإيجاد الإجماع لا محالة إلى قدر كبير من المساومات وراء الكواليس. ومع هذا، ففي مثل هذه المناقشات يقف مندوبو أمريكا والدول الأوروبية (أو ما تسمى بالدول الصناعية السبع الكبرى) في موقف قوة في مواجهة الدول الأفريقية مثلًا. فالقوة — الاقتصادية أو السياسية — لها أهميتها، وإن كان على نحو مختلف عما هو الحال في صندوق النقد أو البنك الدوليين.

النقطة الأساسية هي أن لمنظمة التجارة العالمية سلطة قليلة وحدها، والدول الأعضاء هي التي تقرر — عبر عملية مساومة طويلة — التغيرات في قواعد التبادل التجاري متعدد الأطراف. وبما أن بعض الدول أكثر تميزًا عن غيرها بطبيعة الحال، عادة ما تتهم منظمة التجارة العالمية — شأن شقيقتيها — بأنها تسعى لاستمرار نظام اقتصادي دولي يهيمن عليه الشمال.

(٦) البرامج والصناديق والوكالات المتخصصة

كما ذكرت آنفًا، فالمجلس الاقتصادي والاجتماعي مسئول عن تنسيق العمل الاجتماعي للأمم المتحدة. يُترجم هذا إلى دور فضفاض بوصفه المشرف على العمل الذي يقوم به عدد كبير من الوكالات المتخصصة والبرامج والصناديق. بعض هذه المؤسسات — خاصة المنظمات الإنسانية المتعددة — معروفة وتحظى بتقدير مرتفع، فأغلب الناس قد سمعوا مثلًا بمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) أو منظمة الصحة العالمية.

من شأن الحصر الكامل لجميع المنظمات المتنوعة — التي سيُناقَش أغلبها في فصول أخرى — أن يجعل هذا الكتاب أكبر بكثير من مجرد «مقدمة قصيرة جدًّا». (انظر شكل «منظومة الأمم المتحدة») لكن من الجدير التساؤل: ما الذي يميز إحدى «الوكالات المتخصصة» (كمنظمة الصحة العالمية) عن مجموعة «البرامج والصناديق» (كاليونيسيف)، بخلاف القضايا التي تواجهها؟

جزء من الجواب بسيط: المال؛ فبينما تموَّل البرامج والصناديق بالأساس من المساهمات الطوعية للدول الأعضاء (وهو ما يجعل مواردها المالية متقلقلة على نحو مستمر)، تموَّل الوكالات المتخصصة من خلال مزيج من الأنصبة المقررة (أي الأنصبة القادمة من الميزانية الكلية للأمم المتحدة) والأنصبة الطوعية. للوكالات ميزانية أساسية، أما البرامج والصناديق فليس لها ميزانية كهذه. بعض الدول — في الواقع — أكثر تميزًا عن غيرها في مجلس الأمن والبنك الدولي، لكن الوكالات المتخصصة جميعها أكثر تميزًا عن البرامج والصناديق.

التبعات العملية لهذا الانقسام النظامي مثيرة للجدل، فيحق للمرء أن يسأل — مثلًا — لماذا ينبغي على اليونيسيف أن تمضي من وقتها في جمع التبرعات لمساعدة الأطفال المحرومين أكثر مما يُطلب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في تخطيط أنشطتها الهادفة لتعزيز التفاهم بين الثقافات؟ لماذا تتمتع منظمة السياحة العالمية باستقرار أكبر، كوكالة متخصصة، عما تتمتع به مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين؟ خاصة وأن تلك الأخيرة تعتني باحتياجات قرابة العشرين مليونًا من اللاجئين والنازحين وطالبي اللجوء السياسي!

سنعاود التعرض لهذه الأسئلة في آخر فصول هذا الكتاب. ومع هذا فهذه الأسئلة تشير إلى سؤال أساسي مرتبط بهيكل الأمم المتحدة: كم يتكلف؟

(٧) دفع الفاتورة: من يدفع، وكم يدفع؟

الفكرة الشائعة هي أن قرابة العشرين مليار دولار التي تكلفتها عمليات الأمم المتحدة المختلفة في عام ٢٠٠٦ يجعل من هذه المنظمة مشروعًا مكلفًا على نحو يحض على وقفه. لكن — قبل القفز لمثل هذا الاستنتاج — علينا أن نضع في الاعتبار عددًا قليلًا من الحقائق البارزة؛ أولًا: لا تمثل الميزانية الإجمالية للأمم المتحدة إلا جزءًا من ميزانية أغلب الدول، بل في واقع الأمر، تساوي النفقات الكلية للأمم المتحدة نظيراتها في الدولة التي فيها أعلى دخل قومي للفرد في العالم؛ لكسمبورج (والتي يقل عدد سكانها عن نصف مليون نسمة).

تمويل الأمم المتحدة معقد للغاية؛ كلوحة تجريدية أخرى أشبه بلوحات بيكاسو، لكن على نحو عام للغاية، تأتي ميزانية الأمم المتحدة من فئتين من الأنصبة: المقررة (حوالي ٤٥ بالمائة في عام ٢٠٠٦) والطوعية (٥٥ بالمائة). ويمكن تقسيم الأنصبة المقررة بدورها إلى ثلاث فئات وفق الاستخدام النهائي للتمويل:
  • (١)

    الأنصبة المقررة للميزانية التشغيلية العادية (بإجمالي حوالي ١٫٨ مليار دولار في عام ٢٠٠٦).

  • (٢)

    الأنصبة المقررة لوكالات الأمم المتحدة المتخصصة (حوالي ملياري دولار).

  • (٣)

    الأنصبة المقررة لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (حوالي ٥ مليارات دولار).

القاعدة الأساسية في «تقرير» المبلغ الذي على كل دولة عضو أن تدفعه بالأمم المتحدة بسيطة: كلما كانت الدولة أكثر ثراءً صار عليها دفع المزيد، ومع ذلك يوجد سقف للدول الغنية وحد أدنى للدول الفقيرة؛ فالحد الأقصى لأي دولة منفردة هو ٢٢ بالمائة من الميزانية التشغيلية الإجمالية. وهذا ما تسهم به الولايات المتحدة الأمريكية (التي تمثل أكثر من ٣٠ بالمائة من اقتصاد العالم). أما الحد الأدنى فهو ٠٫٠٠١ بالمائة، تدفعه (إن لم تُعفَ منه) دول مثل لاوس ومالاوي وتيمور الشرقية. يستخدم مقياس مشابه للتقييم لجمع مبلغ الملياري دولار الذي يمول عمليات الوكالات المتخصصة المتنوعة. أكبر الجهات المتلقية للتمويل في هذه الفئة هي منظمة الصحة العالمية بمبلغ ٤٥٨ مليون دولار، ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) بمبلغ ٣٧٧ مليون دولار، واليونسكو بمبلغ ٣٠٦ ملايين دولار، والوكالة الدولية للطاقة الذرية بمبلغ ٢٧٦ مليون دولار، ومنظمة العمل الدولية بمبلغ ٢٦٥ مليون دولار.

تعد الولايات المتحدة الأمريكية، بنسبة ٢٥–٢٧ بالمائة من الإجمالي، صاحبة النصيب الأكبر في نفقات عمليات حفظ السلام. ويُفسر النصيب الأكبر المخصص لعمليات حفظ السلام من واقع تعديل مهم: فمن أجل عمليات حفظ السلام، يدفع الأعضاء الدائمون بمجلس الأمن نسبة أعلى مما يدفعون في الميزانية العادية. وبالمثل، يقل الحد الأدنى المطلوب من أكثر الدول فقرًا عما هو مطلوب للميزانية العادية (٠٫٠٠٠١).

الميزانية التشغيلية للأمم المتحدة

تتحدد الدول المساهمة الكبرى في التشغيلية للأمم المتحدة، البالغة حوالي ٤٫٢ مليارات دولار، بناءً على حجم الاقتصاد القومي في مقابل حجم الاقتصاد العالمي. في عام ٢٠٠٠، خفضت الأمم المتحدة سقف هذه الأنصبة من ٢٥٪ إلى ٢٢٪ من إجمالي الميزانية. في عامي ٢٠٠٥-٢٠٠٦ كان ترتيب أكبر عشر دول إسهامًا في الميزانية التشغيلية للأمم المتحدة كالآتي: (الصين والمكسيك كانتا مستجدتين على قائمة «العشر الكبار»).
(١) الولايات المتحدة ٢٢٫٠٠٪
(٢) اليابان ١٩٫٤٧٪
(٣) ألمانيا ٨٫٦٦٪
(٤) المملكة المتحدة ٦٫١٣٪
(٥) فرنسا ٦٫٠٣٪
(٦) إيطاليا ٤٫٨٩٪
(٧) كندا ٢٫٨١٪
(٨) إسبانيا ٢٫٥٢٪
(٩) الصين ٢٫٠٥٪
(١٠) المكسيك ١٫٨٠٪

بعض الدول الأعضاء متأخرة عن دفع أنصبتها، وأبرز هذه الدول الولايات المتحدة. وتسهم دول الاتحاد الأوروبي بحوالي ٣٥٪ من الميزانية التشغيلية الإجمالية. برامج الأمم المتحدة الخاصة — كاليونيسيف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي — غير مدرجة في الميزانية العادية وتمول بواسطة المساهمات الطوعية من الحكومات الأعضاء.

يتحدد مقدار الأنصبة المقررة بالميزانية العادية كل ثلاث سنوات بواسطة الجمعية العامة. بالإضافة إلى الولايات المتحدة، تضم أكبر الدول المساهمة كلًّا من اليابان وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وكندا وإسبانيا والصين. في الواقع، تدفع هذه الدول التسع مجتمعة حوالي ٧٥ بالمائة من الميزانية الأساسية الإجمالية للأمم المتحدة.

قُدرت المساهمات الطوعية في عام ٢٠٠٦ بحوالي ١٠ مليارات دولار، ومع أن أغلبها يذهب لمصلحة البرامج والصناديق المتنوعة، فإن بعض المساهمات تفيد عمل الوكالات المتخصصة المتعددة (استعرضنا قبل ذلك باختصار الاختلاف بين تمويل البرامج والصناديق التابعة للأمم المتحدة في مقابل الوكالات المتخصصة). من الاستثناءات بين الوكالات المتخصصة كل من صندوق النقد والبنك الدوليين، اللذين يُمولان ويداران خارج نظام الأمم المتحدة. هذا، بطبيعة الحال، يمنحهما درجة إضافية من الاستقلال (أو الاعتماد على الدول الممولة الكبرى). ويجعلهما أغنى. فقد بلغت الميزانية التشغيلية للبنك الدولي — مثلًا — أكثر من ملياري دولار في عام ٢٠٠٧، ووافق في عام ٢٠٠٥ على أكثر من ٢٢ مليارًا من القروض والاعتمادات لمشروعات التنمية المختلفة.

كل هذا يترجم إلى عدد من الحقائق غير المريحة؛ أولى هذه الحقائق: أن الأمم المتحدة تعتمد على مساهمات الدول الأعضاء الأغنى، خاصة الولايات المتحدة. ثانيًا: هذا الاعتماد يعطي «كبار الدافعين» — خاصة وأنهم (إلى جانب روسيا) أعضاء دائمون بمجلس الأمن — سيطرة نافذة قادرة على إعاقة الأمم المتحدة عن العمل من الأساس. أو إذا قدر لها العمل، فإن المساهمين الأثرياء (قد) يمكنهم ممارسة بعض التأثير غير المستحق على الاتجاه الذي تسير فيه سياسات الأمم المتحدة. ثالثًا: الدول النامية التي هي في أمسِّ الحاجة لمساعدة الأمم المتحدة تصير مرتبطة على نحو غير مباشر — من خلال «سلسلة اعتماد» — برضا الدول الأكثر تقدمًا عنها.

(٨) هل هي خليط مفلس؟ أو أسرة عاجزة؟

إن تعقيد الأمم المتحدة هو مصدر قوتها وضعفها في الوقت ذاته. ففي حين تملك الأمم المتحدة جهازًا (واحدًا على الأقل) أو منظمة ذات صلة مكرسة لأي قضية يمكن تخيُّلها، يمكن أن تصير بطيئة التصرف للغاية عند التعامل مع قضايا بعينها أو حل مشكلات معقدة. فهناك إشكاليات بيروقراطية. وكما هو الحال في أي مؤسسة كبيرة، يمكن لمعارك السيطرة داخل الوكالات المختلفة أو بينها أن تصل إلى مستويات هائلة. فهناك ازدواجية في الخدمات إلى جانب — كما يزعم العديد من منتقديها — قدر أكبر من اللازم من الكياسة السياسية؛ إذ يوجد تأكيد لا مبرر له على الوفاء بالحصص القومية على حساب المهارات، وذلك عند اتخاذ قرارات التعيين داخل منظمات الأمم المتحدة المتعددة.

من المظاهر الإضافية لتعقيد الأمم المتحدة التمويل غير المستقر الذي يعيق قدراتها التشغيلية، فعلى المستوى الأساسي تعتمد الأمم المتحدة على أغنى الدول الأعضاء في تمويل عملياتها. هذه المساهمات ليست بأي حال من الأحوال كبيرة (في حالة الولايات المتحدة تمثل أقل من ٠٫٢٥ بالمائة من الميزانية الاتحادية)، وعادة تُدفع متأخرة، إن دُفعت من الأساس. ففي نهاية عام ٢٠٠٦، كانت الدول الأعضاء مدينة ﺑ ٢٫٣ مليار دولار للأمم المتحدة (كانت الولايات المتحدة وحدها تتحمل ٤٣ بالمائة من هذا المبلغ). يبدو أن الأمم المتحدة تعاني على الدوام العجز المالي.

لكن ما الذي حققه هذا الهيكل المختلط المفلس منذ عام ١٩٤٥؟ أين مواضع نجاحه؟ وأين مواطن إخفاقاته؟ وكيف يمكن تحسينه؟ وهل هناك أي معنى في النظر إليه بنظرة مختلفة عن إحدى لوحات بيكاسو التجريدية؟
fig5

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤