الفصل الثالث

مواجهة الحروب والتصدي للتهديدات: أعمال‎ مجلس الأمن

إذا كان هدف الأمم المتحدة هو إنقاذ البشرية من الدمار الذي خيم بظلاله على النصف الأول من القرن العشرين، فسيعتمد قياس نجاحها على منظور المرء. فمن ناحية، يمكن الزعم بأنه ما لم تنشب حرب عالمية ثالثة، فقد نجح مؤسسو الأمم المتحدة في إنشاء منظمة ناجحة. لكن من ناحية أخرى، لم يمر يوم واحد منذ عام ١٩٤٥ دون أن ينشب صراع عسكري قاتل في مكان ما في العالم. وقد استفحل العديد من هذه الصراعات واستمر في ظل المعرفة الكاملة لمجلس الأمن. باختصار، ربما تكون الأمم المتحدة قد لعبت دورًا في إنقاذ البشرية من خراب حرب عالمية، لكنها بعيدة كل البعد عن تخليص كوكبنا من ويلات الحروب.

أيضًا ليس من الواضح أن عدم وقوع مواجهة عسكرية عالمية له علاقة بالأمم المتحدة وجهازها التنفيذي؛ مجلس الأمن. فيمكن الزعم بأن وجود الأسلحة النووية وانتشارها حال دون وقوع مواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. فالعواقب المحتملة لمثل هذه الحرب — الفناء السريع للدولة المحاربة — أزالت الدافع لخوض حرب على نحو أكثر فعالية بكثير عن أي مداولات في أروقة الأمم المتحدة. لكن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سعدتا أيما سعادة بالتدخل في الصراعات العسكرية في العالم ما دام لم يكن من المحتمل تصاعدها إلى مواجهة مباشرة بين القوتين العظميين. وبعد انتهاء الحرب الباردة ظهرت خصومات جديدة، أبرزها داخل سياق دعوة الولايات المتحدة لتغيير النظام الحاكم في العراق في ٢٠٠٢-٢٠٠٣.

لا يعني هذا أن مجلس الأمن لا لزوم له أو أنه كان كذلك. بل هذا يؤكد وحسب على حقيقة أن هذا الجهاز المحوري للأمم المتحدة لا يستطيع، بحكم طريقة تأسيسه، أن يكون فعالًا إلا عند اتفاق الدول الخمس دائمة العضوية. في الواقع، مارس مجلس الأمن في مناسبات عدة دورًا مهمًّا كحلَّال للأزمات. فمع الوضع في الاعتبار اعتماد مجلس الأمن على إجماع الأعضاء الخمسة الدائمين — ومن ثم على المصالح القومية لكل من الصين وفرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا (الاتحاد السوفييتي سابقًا) والولايات المتحدة — كان المجلس في الواقع ناجحًا ونشطًا إلى حدٍّ بارز. نظريًّا، لا يُفترض أن يعمل مجلس الأمن من منطلق رد الفعل، بل ينبغي أن يكون قادرًا على مواجهة التهديدات المحتملة ومنعها من التحقق. والعلاقة بين مجلس الأمن والوكالة الدولية للطاقة الذرية — التي توصف أحيانًا ﺑ «الحارس» النووي — هي مثال طيب على قدرة الأمم المتحدة على أن تخلف أثرًا إيجابيًّا على الأمن الدولي في القرن الحادي والعشرين. فقد لا تكون هناك قضية أخرى تحث الشعوب والدول على العمل معًا مثل شبح وقوع محرقة نووية. ومع هذا فجهود منع انتشار مثل هذه الأسلحة لم تحقق سوى نجاح فاتر على أفضل تقدير. ومجددًا، تصادمت المصالح القومية مع مخاوف الأمن العالمي على نحو أنتج سلسلة من التسويات غير الكاملة والحلول المؤقتة.

(١) القيود السياسية: إشكالية حق النقض

نظريًّا، لا توجد سوى قيود قليلة تحد من سلطة مجلس الأمن؛ فنطاق عمله واسع، وقراراته ملزمة لكل أعضاء الأمم المتحدة. باختصار، إذا قرر مجلس الأمن شيئًا — فرض عقوبات ضد دولة ما أو إنفاذ وقف إطلاق النار بإحدى مناطق الصراع — فمن الملزم تنفيذ هذا الأمر. بعبارة أخرى، ليس بمقدور أحد تجاهل الإرادة الجمعية للدول الخمس دائمة العضوية التي تحدد فعليًّا قرارات مجلس الأمن. لكن كثيرًا ما كان إيجاد مثل هذه الإرادة الجمعية أمرًا عسيرًا. تأتي مسألة السيادة القومية على رأس قائمة الأسباب، وهي شيء تجله الدول «الأعلى منزلة» — أي الدول الخمس دائمة العضوية — إجلالًا خاصًّا. وبما أن لها الحق في نقض أي قرارات، فمن المرجح أن تفعل ذلك حال تعارض أي قرار مع مصالحها القومية.

حق النقض («إجماع القوى العظمى»)

كل دولة عضو بمجلس الأمن لها صوت واحد. القرارات المتعلقة بالأمور الإجرائية (على سبيل المثال: تحديد عرض قضية ما على مجلس الأمن من عدمه) تتطلب دعم ما لا يقل عن تسعة من الأعضاء الخمسة عشر. أما القرارات المتعلقة بالأمور الموضوعية (على سبيل المثال: قرار يدعو لاتخاذ تدابير مباشرة لتسوية نزاع دولي، أو لفرض عقوبات)، فتتطلب أيضًا تسعة أصوات، على أن يكون من بينها أصوات الدول الخمس دائمة العضوية جميعها. هذه هي قاعدة «إجماع القوى العظمى»، التي يشار إليها عادة ﺑ «حق النقض».

نظريًّا، تملك الدول غير دائمة العضوية بمجلس الأمن حق نقض جمعيًّا: فإذا ما صوتت سبع دول على الأقل ضد قرار ما (سواء كان إجرائيًّا أو موضوعيًّا) فبإمكانها تجميد القرار، حتى لو صوتت الدول الخمس دائمة العضوية لمصلحته. ظهر ما يسمى بحق النقد السادس هذا للوجود منذ عام ١٩٦٥ وحسب؛ حين زاد عدد الدول غير دائمة العضوية من ست إلى عشر دول. ومع أن الدول الخمس دائمة العضوية استخدمت حق النقض على نحو متكرر، فإن حق النقض السادس لم يستخدم قط.

تسبب حق النقض الذي تملكه الدول الخمس دائمة العضوية في إعاقة عمل مجلس الأمن أكثر من أي عامل آخر. في الواقع، إن حقيقة تمتع هذه الدول الخمس — من بين إجمالي قدره ١٩٢ دولة — بمكانة مميزة يبدو ضربًا من السخف؛ فإذا استطاعت جمهورية الصين الشعبية (بل، الأكثر سخفًا، جزيرة تايوان المعروفة بجمهورية الصين، بين عامي ١٩٤٩ و١٩٧١) وفرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا والولايات المتحدة الاتفاق على الأمر عينه، تستطيع الأمم المتحدة العمل. أما إذا لم يحدث هذا — أو لو قررت «دولة واحدة» فقط أن قرارًا بعينه غير مرغوب فيه — يصاب مجلس الأمن فعليًّا بالشلل.

وبهذا يمكن لاستخدام حق النقض أن يمنع الأمم المتحدة من فرض التدابير لإنهاء حرب ما. كان هذا هو الحال، كمثال: في ديسمبر عام ١٩٧١، حين نقض الاتحاد السوفييتي قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار في الحرب بين الهند وباكستان. كان الاتحاد السوفييتي بهذا يساعد الهند على مواصلة تفوقها العسكري على باكستان، الحليف الوفي للأمريكيين في الحرب الباردة. وإحقاقًا للحق، خسرت باكستان أغلب أصدقائها بسبب قمعها لحركة الاستقلال فيما سيصير لاحقًا بدولة بنجلاديش المستقلة (لكن حتى عام ١٩٧١ كانت تعرف رسميًّا بباكستان الشرقية). ومع هذا كان لدى حكومة باكستان كل الحق حين شكت من أن المجتمع الدولي فشل في فرض حل سلمي، وهو ما لم يترك خيارًا لباكستان عديمة الحيلة سوى الاستسلام (وهو ما حدث بالفعل في السادس عشر من ديسمبر عام ١٩٧١). وقد انفجر وزير الخارجية الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، بعد أن شهد الصعوبات التي عانتها بلاده من نيويورك، أمام اجتماع لمجلس الأمن قائلًا: «لنبن نصبًا لحق النقض. لنبن نصبًا للعجز والضعف.»1
fig8
شكل ٣-١: استخدام حق النقض.

إبان الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي هو أكثر من استخدم حق النقض. لكن بعد أن استخدمته الولايات المتحدة للمرة الأولى في عام ١٩٧٠، اضطلعت هي بهذا الدور. ومع هذا، كما يبين الشكل، توقفت الدول الخمس دائمة العضوية عن استخدام هذا الحق تقريبًا منذ انتهاء الحرب الباردة.

لا ريب أن الجمعية العامة كثيرًا ما أصدرت قرارات بالرغم من اعتراض إحدى الدول الخمس دائمة العضوية، لكن مثل هذه القرارات لم تحمل السلطة للتغلب على تعنت إحدى الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن. إلى جانب أن حقيقة تمتع الدول غير دائمة العضوية ﺑ «حق نقض» افتراضي منذ التوسع في عضوية مجلس الأمن في الستينيات لم تجعل هذا الجهاز أكثر فعالية أو أقل انقيادًا لامتيازات القوى العظمى.

وسواء شئنا أم أبينا، فإن مجلس الأمن كان — ولا يزال — ساحة لصراعات السلطة والمنازعات السياسية. وبالرغم من محاولات إصلاح هذا الجهاز فإنه يظل — بعد ستة عقود — على الحال نفسه الذي كان عليه عند تأسيسه: قوي من الناحية النظرية لكنه مُعاق من الناحية العملية.

(٢) القيود التشغيلية: لجنة الأركان العسكرية

لمنع نشوب الحروب ووقف الحروب التي نشبت بالفعل، احتاجت الأمم المتحدة إلى قدرة عسكرية. فهل من سبيل آخر تستطيع به المنظمة أن تفرض وجودها إلا إرسال القوات إلى مناطق الصراع؟ وهل من سبيل آخر يمكن الأمم المتحدة من إجبار الأطراف المتحاربة — العازفة عن الاستجابة للضغوط الدبلوماسية أو الاقتصادية — على وقف القتال إلا بإظهار براعة عسكرية فائقة؟

تناول ميثاق الأمم المتحدة تلك القضايا، وقد أسس لجنة الأركان العسكرية كجهاز فرعي لمجلس الأمن، وأوكل له تخطيط عمليات الأمم المتحدة العسكرية، وأنيط بلجنة الأركان العسكرية معاونة مجلس الأمن في تنظيم التسلح (بما في ذلك، ضمنيًّا، تنظيم التسلح النووي). علاوة على ذلك، كان على لجنة الأركان العسكرية توفير هيئة القيادة لعدد من الفرق العسكرية الجوية التي قدمتها الدول الخمس دائمة العضوية. كان يفترض توزيع الفرق العسكرية على قواعد للأمم المتحدة في العالم؛ حتى يتمكن مجلس الأمن من استدعائها عند الحاجة.

سريعًا ما باتت مشكلة هذه الخطة واضحة للعيان. فلم تر أي من الدول الخمس دائمة العضوية في وجود قوة عسكرية مستقلة ما يخدم مصالحها، وتسبب انعدام الثقة والتوتر اللذان خيَّما على بدايات الحرب الباردة‎ — بما في ذلك إقامة التحالفات العسكرية على غرار منظمة حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو — في عدم توفير أي من الدول الخمس دائمة العضوية للقوات المطلوبة. وبالفعل، في يوليو عام ١٩٤٨ — بعد عامين من المفاوضات — أبلغت لجنة الأركان العسكرية مجلس الأمن بعجزها عن الوفاء بما أنيط بها.

ومن ثم، مع أن لجنة الأركان العسكرية كانت الجهاز الفرعي الوحيد لمجلس الأمن المذكور بميثاق الأمم المتحدة، فقد صارت «خاملة» (أو لا لزوم لها، إذا استخدمنا لغة مختلفة عن لغة الأمم المتحدة). بطبيعة الحال، تجدد الاهتمام على نحو وجيز بلجنة الأركان العسكرية في عام ١٩٩٠، حين لعبت دورًا في تنسيق العمليات البحرية خلال حرب الخليج. لكن في النهاية، تحولت الأمم المتحدة إلى الاستعانة بقوات للمنظمات الإقليمية كما حدث مع منظمة حلف شمال الأطلسي (في كوسوفو) أو الاتحاد الأفريقي (في دارفور)، بدلًا من إقامة قوة عسكرية منظمة فاعلة خاصة بها.

وبعد ستين عامًا، لا تزال لجنة الأركان العسكرية موجودة كجهاز استشاري يلعب دورًا في التخطيط لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وتنفيذها. وهو يتكون من ممثلي جيوش الدول الخمس دائمة العضوية وقواتها البحرية والجوية. تلتقي هذه المجموعة كل أسبوعين في مقر الأمم المتحدة بنيويورك. ويشارك أعضاء الأمم المتحدة الآخرون في الاجتماعات التي تخص عمليات حفظ السلام التي تُنشر فيها قوات بلادهم. ومع هذا تظل الأهمية الفعلية للجنة الأركان العسكرية — كما كانت دائمًا — محدودة للغاية.

(٣) القيود السياسية: مجلس الأمن والحرب الباردة

لمجلس الأمن سجل متناقض. لا ريب أنه عمل على كل الصراعات الدولية تقريبًا أثناء الحرب الباردة، على غرار الحروب العربية الإسرائيلية وفي كوريا والسويس والكونغو وبرلين. لكن في كل تلك الحالات، كانت الظروف الطارئة — المصالح المحددة للدول الخمس دائمة العضوية (وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) — وليس مبادئ الأمم المتحدة هي التي تحدد النتيجة النهائية.

مع أن حق النقض للدول الخمس دائمة العضوية يمتد إلى عددٍ من المناحي — من بينها اختيار الأمين العام للأمم المتحدة أو قبول أعضاء جدد بالأمم المتحدة — فإن ما يهم حقًّا هو الطريقة التي أثَّرت بها المكانة المتميزة للدول الخمس دائمة العضوية على قدرة الأمم المتحدة في الأمور المرتبطة بالحرب والسلم. بطبيعة الحال، كثيرًا ما صار الخط الفاصل هنا غير واضح، إلى جانب أن التدابير المتخذة — والقرارات التي اعْتُمِدَت أو لم تُعتمد — توقفت في نهاية المطاف على تأثر مصالح الدول الخمس دائمة العضوية بالصراع محل النقاش وكيفية هذا التأثر.

على سبيل المثال: كان أول استخدام سوفييتي لحق النقض، في فبراير من عام ١٩٤٦، ضد قرار بشأن انسحاب القوات الفرنسية من سوريا ولبنان. احتج السفير السوفييتي بأن الأنظمة المقترح توليها حكم هذين البلدين هي بالأساس حكومات صورية تابعة لفرنسا. وفي وقت لاحق من العام نفسه، رفض مجلس الأمن مناقشة شكوى تقدمت بها سيام (تايلاند) بشأن الأنشطة العسكرية الفرنسية على حدودها مع الهند الصينية، ولم يستطع التوصل لاتفاق على تحقيق بشأن الحرب الأهلية بين الملكيين والشيوعيين في اليونان.
fig9
شكل ٣-٢: رسم كاريكاتيري في عام ١٩٥٣ يوضح الصراع بين ماو تسي تونج، رئيس الحزب الشيوعي في الصين، وشيانج كاي شيك، رئيس الحكومة الوطنية للصين، على «مقعد الصين» بالأمم المتحدة.2

مع ذلك، كان الانقسام الكبير داخل الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن صريحًا، وعكس بزوغ الحرب الباردة؛ ففي أغلب المواقف التي استخدم فيها حق النقض، وقف الاتحاد السوفييتي على جانب ووقفت الدول الأربع الأخرى على الجانب الآخر. كان هذا كفيلًا بالوصول بأغلب القضايا إلى طريق مسدود، ومن بينها قضايا مهمة مثل تقسيم برلين؛ ففي يونيو عام ١٩٤٨، قطع الاتحاد السوفييتي — الذي كان يحتل ألمانيا الشرقية، بما في ذلك كل المناطق المحيطة ببرلين، بعد الحرب — جميع الاتصالات الأرضية وطرق الإمدادات عن برلين الغربية. ومن ثم، صارت القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية التي تحتل ذلك الجزء من العاصمة الألمانية (إلى جانب المواطنين الألمان الذين يعيشون هناك) رهائن فعليًّا. وللتغلب على هذا الحصار، أقامت الولايات المتحدة جسرًا جويًّا لنقل الطعام والمؤن الأخرى. واستمر ذلك الحال عامًا تقريبًا.

أوضح حصار برلين بين عامي ١٩٤٨ و١٩٤٩ بجلاء حدود تأثير مجلس الأمن؛ فبينما كانت القوى الغربية تتناقش وتضع مسودات القرارات، تجاهل السوفييت أي إمكانية للتسوية. وأخيرًا في بدايات عام ١٩٤٩ قبل السوفييت بعدم إخراج القوات الغربية من برلين. وبعد عدة أشهر من المفاوضات بين المندوبين الأمريكي والسوفييتي بالأمم المتحدة، أعلن أخيرًا عن نهاية الحصار في مايو عام ١٩٤٩. لكن الأزمة وحلها أوضحا أن مجلس الأمن لا يُنتظر منه أن يكون جهازًا تشغيليًّا ناجحًا. فهو لم يمنع الصراعات، لكنه وفر سياقًا للتفاوض على إنهاء المواجهة.

في غضون أشهر بعد حصار برلين، واجه مجلس الأمن إشكالية جديدة: ما سيفعله بعضوية الصين بعد أن انتصر الشيوعيون في الحرب الأهلية وأقاموا جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر عام ١٩٤٩. من منظور السوفييت، كان المسار البديهي هو وضع الصين «الجديدة» محل الصين «القديمة». لكن آخرين — خاصة المندوب الصيني بمجلس الأمن — اعترضوا، رافضين حتى الإقرار بشرعية جمهورية الصين الشعبية. وبدلًا من ذلك، أيد الأمريكيون وغيرهم جمهورية الصين (المختزلة في جزيرة تايوان) بوصفها العضو الشرعي ضمن الدول الخمس دائمة العضوية. وبحلول صيف عام ١٩٥٠، في محاولة غير مجدية للتأثير على الأعضاء الدائمين الآخرين، قاطع السوفييت اجتماعات مجلس الأمن. وفي عام ١٩٧١، حصلت جمهورية الصين الشعبية أخيرًا على مقعدها. وفي الوقت ذاته، لُفظت تايوان بسرعة من الجهاز العالمي.

(٤) الصراع الكوري

في الرابع والعشرين من يونيو عام ١٩٥٠، دخلت قوات كوريا الشمالية كوريا الجنوبية. تمكن مجلس الأمن من اعتماد القرار الذي صاغته أمريكا ويدين الهجوم؛ لأن جاكوب مالي — المندوب السوفييتي — لم يكن في نيويورك لنقض القرار. وأجاز قرار آخر استخدام القوة لدرء هجوم كوريا الشمالية، وانتهى الحال بالقوات التي كانت الغالبية العظمى منها أمريكية التي نفذت القرار بتجاوز حدود قرار مجلس الأمن بالتوغل في عمق كوريا الشمالية (مقتربة بشدة من الحدود الصينية) في خريف عام ١٩٥٠. تدخل الصينيون، وامتد الصراع عدة أعوام.

تسبب الصراع الكوري في إضعاف فعالية الأمم المتحدة، لا تقويتها؛ فوصول قوات أمريكية في معظمها تحت قيادة أمريكية (على رأسها الجنرال دوجلاس ماكآرثر) أفصح عن عدم جدوى توقع عمل عسكري سريع من جانب المنظمة العالمية إلا إذا كانت إحدى الدول الأعضاء مستعدة للتدخل وتحمل المسئولية. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة — بمساعدة عدد من الدول الأخرى — من عام ١٩٥٠ إلى ١٩٥٣. لكن من الجلي أن الصراع الكوري من منظور الأمريكيين كان بالأساس حربًا هدفها احتواء المد الشيوعي وليس تلبية لنداء الواجب بموجب ميثاق الأمم المتحدة.

أنتج الصراع الكوري أيضًا قرارًا مهمًّا فرض — نظريًّا على الأقل — تحديًا على الهيئة التنفيذية لمجلس الأمن. ففي نوفمبر عام ١٩٥٠، مرَّرَت الجمعية العامة القرار ٣٧٧، المعروف أيضًا بقرار «متحدون من أجل السلام» ‎. وقد نص القرار على أنه في حالة عجز مجلس الأمن عن الحفاظ على السلام الدولي، يمكن أن تنظر الجمعية العامة بالقضية. ومع أن القرار يبدو ثوريًّا، فقد دعمته الولايات المتحدة كوسيلة لتحاشي الاعتراضات السوفييتية المحتملة — إذ كان الاتحاد السوفييتي قد عاد إلى الأمم المتحدة في ذلك الوقت — بخصوص كوريا. لكن صار من الواضح على مر السنوات التالية أنه على الرغم من القرار ٣٧٧، فقد ظلت الجمعية العامة تابعة لمجلس الأمن.

الجمعية العامة للأمم المتحدة، القرار ٣٧٧، الثالث من نوفمبر ١٩٥٠

«إذا فشل مجلس الأمن، بسبب غياب الإجماع بين الأعضاء الدائمين، في ممارسة مسئوليته الأساسية في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وفي حالة وجود تهديد للسلام، أو خرق للسلام، أو عمل من أعمال العدوان، فإن الجمعية العامة سوف تنظر في المسألة على الفور؛ بهدف تقديم توصيات ملائمة للدول الأعضاء من أجل اتخاذ تدابير جماعية، بما في ذلك — في حالة خرق السلام أو العمل العدواني — استخدام القوة المسلحة عند الضرورة، للحفاظ على — أو استعادة — السلم والأمن الدوليين.»

من بين الدروس العديدة للصراع الكوري يبرز درس معين؛ فقد تعلمت الدول الخمس دائمة العضوية أن الغياب عن الأمم المتحدة يمكن أن يكلفها الكثير من مصالحها القومية. فلن يفوت الاتحاد السوفييتي أي اجتماعات قادمة (وبالطبع تعلمت الدول الأربع الأخرى دائمة العضوية بمجلس الأمن الدرس عينه). كان لهذا الأمر نتيجتان؛ فقد أبرز أهمية مجلس الأمن كوسيلة لمنع الأفعال التي قد تعرض مصالح الدول الخمس دائمة العضوية للخطر. ولا عجب أن العمل العسكري الكبير التالي الذي تم بمباركة مجلس الأمن لم يحدث إلا بعد انتهاء الحرب الباردة. وكأثر مباشر، فإن دور مجلس الأمن كمكان لتدارس كافة قضايا الحرب الباردة بات مستقرًّا.

(٥) السويس والقوتان العظميان

كانت كوريا هي الحالة الوحيدة خلال الحرب الباردة التي أجاز فيها مجلس الأمن تدخلًا عسكريًّا واسع النطاق. كان هناك العديد من الحروب والصراعات التي جرت مناقشتها والتصويت بشأنها. لكن بعد الحرب الكورية كانت هذه الصراعات — وما تستطيع الأمم المتحدة فعله بشأنها — مرتبطة على نحو متزايد بالتفاعل بين العولمة التدريجية للحرب الباردة وما زامنها من إنهاء لاستعمار الإمبراطوريات الأوروبية. وفي بعض الحالات، أنتجت هذه الصراعات خلافات بين القوى الكبرى.

مثال على ذلك أزمة السويس في عام ١٩٥٦؛ ففي أكتوبر من ذلك العام اشتركت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في العدوان على مصر؛ بهدف إزاحة جمال عبد الناصر من الحكم. كان سبب ذلك هو قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس، الذي أدى إلى مناقشات كثيرة بمجلس الأمن إلى جانب سلسلة من جهود الوساطة التي جرت على يد الأمين العام داج همرشولد، لكن لم ينجح شيء. وفي النهاية، في التاسع والعشرين من أكتوبر ١٩٥٦، غزت القوات الإسرائيلية شبه جزيرة سيناء، وحسب اتفاق سابق دعت بريطانيا وفرنسا لوقف إطلاق النار وانسحاب القوات المصرية والإسرائيلية إلى مسافة عشرة أميال من قناة السويس. وحين وافقت إسرائيل، كما هو متفق عليه، ورفضت مصر الإنذار، كما كان متوقعًا، قصفت الطائرات البريطانية والفرنسية القاهرة ومنطقة القناة. بعدها بعدة أيام، ودون استشارة مجلس الأمن، أرسلت لندن وباريس قواتهما، بزعم حفظ السلام.

نظرًا للدعم الفاتر الذي كانت القيادة السوفييتية توليه لمصر تحت قيادة عبد الناصر، لم تتوقع بريطانيا وفرنسا أي انتقاد أمريكي قوي؛ لذا كانت الصدمة مروعة للندن وباريس حين دعت إدارة أيزنهاور لإدانة فورية من جانب مجلس الأمن للعدوان الثلاثي، الإسرائيلي البريطاني الفرنسي. صوت المجلس بموافقة سبعة أعضاء واعتراض عضوين؛ إذ أُجبرت بريطانيا وفرنسا على استخدام حق النقض للمرة الأولى. لكن على الرغم من نجاح بريطانيا وفرنسا في حجب القرار رسميًّا، فإنهما وافقتا في غضون أسابيع على سحب جميع قواتهما لتحل محلها قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة (قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة).

في النهاية، أظهرت أزمة السويس حقيقتين بارزتين؛ فحل الأزمة كان مؤشرًا على حقيقة أنه ضمن الدول الخمس دائمة العضوية، كانت هناك دولتان أعلى منزلة عن سواهما، وهما القوتان العظميان: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. لكن أزمة السويس أوضحت أيضًا أن الجمعية العامة — التي انتقدت بقوة العدوان على مصر — ليس لها في حقيقة الأمر سوى ثقل رمزي. ففي النهاية، ربما تسبب هذا الأمر في جعل مجلس الأمن يجد صعوبة أكبر في التصرف بحسم في حقبة الحرب الباردة.

(٦) مأزق وعجز

من الواضح أن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة تصرفتا خلال أزمة السويس وهما تضعان عينًا على الرأي العام العالمي؛ إذ كانت كلتا القوتين العظميين تحاولان كسب الحلفاء بين الدول المستقلة حديثًا (أو على وشك الاستقلال) في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. لكن كما تبين الزيادة المهولة في دول عدم الانحياز، فإن دولًا مثل مصر كانت أكثر حرصًا على المضي في طريقها معتمدة على نفسها، أكثر من اعتمادها على التحالف مع أقوى دولتين على الكرة الأرضية.

لم يعنِ هذا أن منافسات الحرب الباردة اختفت من جدول أعمال‎ مجلس الأمن؛ فخلال أزمة الصواريخ الكوبية في عام ١٩٦٢ — على سبيل المثال — تحدى مندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، أدلاي ستيفنسون، نظيره السوفييتي على نحو محتدم خلال واحدة من أكثر المواجهات علانية بين مندوبي القوتين العظميين؛ فأمام كاميرات التليفزيون طالب ستيفنسون فالنتين زورين، المندوب السوفييتي، بالاعتراف بوجود صواريخ روسية في كوبا. وقال ستيفنسون: «أنا مستعد لانتظار الجواب حتى يتجمد الجحيم.» وحين رفض زورين الإجابة، أظهر الأمريكي صورًا تؤكد بجلاء وجود الصواريخ. وعلى الرغم من أداء ستيفنسون المبهر، فإن مجلس الأمن لم يلعب تقريبًا أي دور مباشر في الحل النهائي للأزمة، وتُركت هذه المهمة للقنوات الدبلوماسية غير المباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

في هذه المرحلة، اكتسب مجلس الأمن الدور عينه الذي لعبته الجمعية العامة في سياق الحرب الباردة؛ إذ صار منتدى للعلاقات العامة. نوقشت القرارات، لكن كانت عادة ما تُنقض من قبل عضو أو اثنين من الأعضاء الخمسة الدائمين، هذا إن وصلت إلى جدول أعمال مجلس الأمن من الأساس. مَرَّ التدخل العسكري الفرنسي في الهند الصينية والجزائر في الخمسينيات وأوائل الستينيات دون تدخل من جانب مجلس الأمن، وفي الستينيات والسبعينيات كان التدخل العسكري الأمريكي في فيتنام والدول المجاورة محل إدانة عالمية، لكن لم يصدر أي قرار من مجلس الأمن يدعو لسحب القوات الأمريكية، وبعدها بعقد من الزمان أو نحو ذلك، غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان، لكن بالرغم مما خلفه من ضجة عالمية، لم يَلُحْ في الأفق أي قرار للأمم المتحدة. وكانت صراعات دموية أخرى — في أنجولا والقرن الأفريقي وكمبوديا كمثال — محل تجاهل فعلي من جانب مجلس الأمن؛ لأنها كانت تمس مصالح دولة أو أكثر من الدول الخمس دائمة العضوية. باختصار، أثناء الحرب الباردة، تأثَّر مجلس الأمن كثيرًا، بل كان عاجزًا إلى حدٍّ ما، بسبب المواجهة بين الشرق والغرب.

(٧) مجلس أمن فعال: من العراق إلى العراق

بدا أن هذا كله سيتغير مع نهاية الحرب الباردة ودخول مجلس الأمن في حقبة جديدة من الفعالية؛ ففي عام ١٩٨٨ وحده أجاز المجلس خمس عمليات لحفظ السلام، وفي أوائل التسعينيات انتشرت هذه العمليات في أرجاء العالم. ومع غياب عداوات الحرب الباردة، بدأت الأمم المتحدة في الظهور كلاعب أساسي في تشكيل نظام عالمي جديد، وهو المصطلح الذي استخدمه، مرة أخرى، أحد رؤساء أمريكا.

كان أبرز حدث يبشر بفكرة جورج إتش دابليو بوش عن «النظام العالمي الجديد» — وهو المصطلح الذي ظهر على السطح للمرة الأولى خلال جهود وودرو ويلسون لإعادة تنظيم النظام الدولي عن طريق إنشاء عصبة الأمم في نهاية الحرب العالمية الأولى — هو العمليات العسكرية التي قادتها أمريكا، تحت لواء الأمم المتحدة، في الخليج العربي. فعقب الاحتلال العراقي للكويت في أغسطس عام ١٩٩٠، دبرت الإدارة الأمريكية سلسلة من قرارات مجلس الأمن المتفق عليها بالإجماع أجازت في نهاية المطاف إرسال قوة عسكرية كبيرة متعددة الجنسيات لإجبار العراقيين على الخروج من الكويت. وقد نجح هذا التحالف العسكري بزعامة أمريكا في تحقيق هذا الهدف بنهاية فبراير عام ١٩٩١، وذلك بمشاركة ثلاثين دولة وقرابة ٦٦٠ ألف جندي وعملية جوية ضخمة.

ومع أن عملية عاصفة الصحراء تمَّت بنجاح، ومثلت أكبر حملة عسكرية تجيزها الأمم المتحدة، فإن تبعاتها أتت بنتائج عكسية للأمم المتحدة؛ فمن ناحية شجع نجاح هذه العملية الأمم المتحدة على الموافقة على مهام عسكرية ذات نطاق أصغر بكثير في أوائل التسعينيات، بيد أن عجز عدد من هذه المهام — في يوغوسلافيا السابقة والصومال ورواندا — عن إنهاء العنف أو منع عمليات الإبادة الجماعية، أبرز بجلاء عوز الأمم المتحدة الدائم لقوة عسكرية يعتمد عليها، وعوضًا عن زيادة مصداقية الأمم المتحدة قوضت حرب الخليج هذه المصداقية في واقع الأمر.

الأهم من ذلك هو أن حرب الخليج أكدت على عدم المساواة الواضح حتى بين الدول الخمس دائمة العضوية نفسها؛ فالظهور المفاجئ للموافقة بالإجماع الكامل تقريبًا بين القوى العظمى لم يُخف حقيقة أن في هذه المرحلة لم يعد هناك سوى قوة عظمى وحيدة. لقد ظهرت الولايات المتحدة في التسعينيات بوصفها القوة العظمى الوحيدة القادرة على إنجاح أو وأد أي مبادرة لمجلس الأمن، وهو ما يرجع في جزء منه إلى المزايا الكبيرة التي تتمتع بها في الثروة والموارد العسكرية، وفي جزء آخر إلى زوال المكافئ الوحيد الحقيقي لها؛ الاتحاد السوفييتي.

لكن أكثر ما أثار القلق هو أنه في عام ٢٠٠٣ بينت الولايات المتحدة — كما فعلت من قبل — أنها قادرة على القيام بعملية عسكرية ضخمة دون مباركة من مجلس الأمن. حدث هذا، مجددًا، في العراق. فبالرغم من رضوخ العراق لعقوبات الأمم المتحدة لأكثر من عشر سنين، فقد زُعم استمراره في تطوير أسلحة الدمار الشامل، واشتُبه في وجود صلات بين العراق — تحت زعامة صدام حسين — وعدد من المنظمات الإرهابية، من بينها القاعدة؛ المنظمة المسئولة عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١ في كل من نيويورك وواشنطن العاصمة. وعلى الرغم من أن ثبوت زيف كلا الزعمين وتهديد فرنسا باستخدام حق النقض، دفعا الولايات المتحدة إلى وقف ضغوطها الرامية لاستصدار قرار من مجلس الأمن، فقد أسقط غزو العراق الثاني بقيادة الولايات المتحدة حكومة صدام حسين في ربيع عام ٢٠٠٣.

كانت المقارنة بين دور الأمم المتحدة في حربي الخليج صارخة؛ ففي عام ٢٠٠٣، اختُزل دور الأمم المتحدة في مجرد متفرج يُطلب منه المشاركة في بعض المهام الإنسانية بعد اكتمال العملية العسكرية «القوية»، إن حدث هذا من الأساس. أيضًا لم تكن هذه المناسبة الوحيدة من هذا النوع في الألفية الجديدة: ففي أكتوبر من عام ٢٠٠١ قادت الولايات المتحدة عملية عسكرية أطاحت بحكومة طالبان في أفغانستان (التي اتُّهمت بإيواء الإرهابيين الذين خططوا لهجمات الحادي عشر من سبتمبر). وطُلب تدخل الأمم المتحدة بعد ذلك، كراعٍ لعملية تخطيط الشكل الذي ستكون عليه أفغانستان مستقبلًا.

باختصار، لم يؤدِّ النشاط المفاجئ — والإجماع الظاهري — لمجلس الأمن في أوائل التسعينيات إلى إيجاد هيئة جماعية تكون مستعدة للانخراط في مناطق الصراع في العالم بعد التداول بين الدول. إن أبرز ما أوضحته نهاية الحرب الباردة هو الاختلاف بين إحدى الدول الخمس الكبرى وبقية العالم، وحين انخرطت الأمم المتحدة في عمليات السلام المتنوعة، فقد فعلت هذا فقط في الأماكن التي افتقدت للأهمية الواضحة للدول الخمس دائمة العضوية، وتحديدًا الولايات المتحدة. إن أغلب الدول الأعضاء بالأمم المتحدة لم توافق على الأعمال العسكرية التي دعت إليها الولايات المتحدة، لكنها كانت عاجزة عن منعها، وبهذا المعنى فإن انهيار النظام الدولي الذي كان سائدًا إبان الحرب الباردة لم يغير سوى القليل.

(٨) التهديدات النووية والوكالة الدولية للطاقة الذرية

مثَّل ظهور الأسلحة النووية بُعدًا محوريًّا في مجال الأمن الدولي بعد عام ١٩٤٥، وفي الواقع دعا أول قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمتخذ في يناير عام ١٩٤٦، للتخلص من «الأسلحة القادرة على التسبب في الدمار الشامل» والتعاون في سبيل استخدام الطاقة الذرية على نحو سلمي.

لكن مرة أخرى تعارضت المبادئ الفضفاضة مع المصالح القومية المباشرة. اختارت الولايات المتحدة حماية احتكارها للأسلحة الذرية، وتحرك الاتحاد السوفييتي سريعًا نحو تطوير ترسانته الخاصة من هذه الأسلحة. وبحلول خريف عام ١٩٤٩، أجرى الاتحاد السوفييتي أولى تجاربه بنجاح. وبحلول عام ١٩٦٤، بعد أن أجرت جمهورية الصين الشعبية تجربتها الذرية الأولى، صارت القوى العظمى الخمس أعضاءً بالنادي النووي (أجرت بريطانيا العظمى وفرنسا تجاربهما بين هذين التاريخين). وفي العقود التالية أعلنت الهند وباكستان امتلاكهما لأسلحة نووية، فيما عملت دول أخرى — كإسرائيل وإيران وكوريا الشمالية — بجد من أجل امتلاكها. كما درست دول كثيرة أخرى — كجنوب أفريقيا والسويد — فكرة تطوير الأسلحة النووية في مرحلة ما.

كان المبرر، في جميع الأحوال، هو الردع لا العدوان؛ فمن المفترض أن امتلاك السلاح النووي يجعل الدول بمأمن من هجمات الدول الأخرى؛ إذ إن عاقبة ذلك — المتمثلة في الرد بالأسلحة النووية — ستكون أكبر مما تتحمله الدولة المعتدية. وفي الواقع، وبالرغم من بعض لحظات التوتر، كما حدث أثناء أزمة الصواريخ الكوبية في عام ١٩٦٢، لم تُستخدم الأسلحة النووية قط منذ ألقت الولايات المتحدة بقنبلتيها الذريتين على اليابان في عام ١٩٤٥. في تلك المرحلة استُخدمت القنبلتان الذريتان، بطبيعة الحال، لأغراض هجومية ودون الخوف من الرد بالمثل.

بالرغم من عدم استخدام الأسلحة النووية كأداة للحرب على مدار أكثر من ستة عقود، فإن انتشار الأسلحة النووية هو دليل على الفشل التام — خاصة فشل القوى العظمى — في الوفاء بالهدف الذي وضعته الأمم المتحدة عام ١٩٤٦ بخصوص الخلاص من الأسلحة النووية. وقد بذلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية — التي تأسست عام ١٩٥٧ ومقرها جنيف — جهودًا كثيرة للحد من انتشار هذه الأسلحة. إضافة إلى ذلك، صيغت سلسلة من الاتفاقيات الدولية بهدف الحد من انتشار الأسلحة النووية، وتقليص حجم الترسانة النووية التي تملكها كل دولة، ثم في النهاية، وضع شبح الحرب النووية تحت السيطرة.

بدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية باقتراح أمريكي في ديسمبر عام ١٩٥٣ تبعه موافقة الجمعية العامة بالإجماع على إنشاء الوكالة في أكتوبر عام ١٩٥٦. والوكالة الدولية للطاقة الذرية — بوصفها وكالة مستقلة — تقدم تقاريرها عن أعمالها دوريًّا لكل من مجلس الأمن والجمعية العامة، ويركز هذا العمل على ثلاثة مناحٍ: التحقق والأمن النوويين، والسلامة النووية، ونقل التكنولوجيا النووية. تعد الوكالة الدولية للطاقة الذرية — الحاصلة على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٥ — من أعلى وكالات الأمم المتحدة مكانة، ويعد مديرها العام (في عام ٢٠٠٨ الدبلوماسي المصري محمد البرادعي) أحد أكثر مسئولي الأمم المتحدة شهرة على مستوى العالم.

لكن لم يكن ذلك التقدير والتأثير الدولي حاضرًا على الدوام؛ فخلال الحرب الباردة ظلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عاجزة نسبيًّا؛ رهن إشارة القوى العظمى، وفي مجال الحد من التسليح النووي تحديدًا، كان ما يهم هو آراء كل من موسكو وواشنطن (ولندن وباريس وبكين بقدر أقل)، وفي مجال الانتشار النووي حتى آراء هذه العواصم الكبرى لم تمنع الدول العازمة على امتلاك القدرة النووية من تنفيذ مآربها.

وهكذا كانت جهود الحد من الأسلحة النووية بالأساس نتيجة لسياسات القوة القديمة وليس الضغط الأخلاقي للمجتمع الدولي؛ ففي أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية عام ١٩٦٢ — مثلًا — بدأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في البحث عن أرضية مشتركة، وفي عام ١٩٧٢ أدت محادثاتهما إلى معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية التي حددت عدد الأسلحة النووية الهجومية التي يستطيع كل طرف أن يملكها. وفي اتفاق منفصل وقع في الوقت عينه (معاهدة الحد من انتشار الصواريخ البالستية)، اتفق الأمريكيون والسوفييت جوهريًّا على تجميد عمليات تطوير الأسلحة النووية «الدفاعية»، بيد أن الزعم بأن الهدف الأساسي لهذه الاتفاقات هو جعل العالم أكثر أمنًا، الذي يتمسك به مؤيدوها الرئيسيون بقوة، أمر محل شك. ومع هذا فمن الواضح أن تجدد أجواء التوتر بين الأمريكيين والسوفييت في أواخر السبعينيات أدى إلى تجدد سباق التسلح النووي في الثمانينيات، ولم يكن بيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما تستطيع عمله حيال ذلك.

في الوقت ذاته، أدى انضمام الصين وفرنسا إلى «النادي» النووي في الستينيات إلى دعم متزايد للالتزامات الدولية الملزمة قانونًا والإجراءات الوقائية الشاملة للحيلولة ضد انتشار الأسلحة النووية. أولى النتائج الكبرى كانت الموافقة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في عام ١٩٦٨. جمدت هذه المعاهدة بالأساس عدد الدول المعلن عن امتلاكها للأسلحة النووية عند خمس دول فقط (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة وفرنسا والصين). طُلب من الدول الأخرى الابتعاد عن خيار التسليح النووي وإتمام اتفاقيات الإجراءات الوقائية الشاملة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن المواد النووية التي تملكها. وفي السبعينيات قُبلت المعاهدة من طرف كل الدول الصناعية الكبرى ومن طرف الأغلبية العظمى من الدول النامية.

في بداية التسعينيات أزاح تفكك الاتحاد السوفييتي شبح الحرب النووية الذي خيم على حقبة الحرب الباردة، وفي عام ١٩٩٥ باتت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية دائمة، وفي عام ١٩٩٦ وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وفتحت باب التوقيع عليها. بيد أن الخوف من فناء العالم نتيجة لصدام بين القوتين العظميين سريعًا ما حل محله قلق متجدد من انتشار الأسلحة النووية؛ فالكشف عن — أو القلق بشأن — وجود برامج سرية للتسليح في العراق (الذي ثبت عدم وجود أساس له في عام ٢٠٠٣) وكوريا الشمالية، إلى جانب القلق بشأن مستقبل ترسانة الأسلحة النووية الخاصة بالاتحاد السوفييتي السابق وإمكانية وجود الإرهاب النووي أدى إلى تقوية دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي صارت نتيجة لهذا المراقب النووي العالمي؛ وكالة تحقق تابعة للأمم المتحدة تعمل على التأكد من تطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية فقط.

معاهدة حظر الانتشار النووي

وقعت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، المسماة أيضًا بمعاهدة حظر الانتشار النووي، في الأول من يوليو عام ١٩٦٨، كان هدفها هو الحد من انتشار الأسلحة النووية. بحلول عام ٢٠٠٧، وقعت ١٨٩ دولة على المعاهدة، واختارت أربع دول فقط عدم التوقيع عليها؛ من هذه الدول الأربع، هناك دولتان (الهند وباكستان) تأكد أنهما قوتان نوويتان (لأنهما أجرتا تجارب لأسلحة نووية على نحو علني)، وواحدة يُفترض أنها قوة نووية (إسرائيل). وصدقت قوة نووية أخرى، جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (كوريا الشمالية) على المعاهدة في عام ١٩٨٥، لكنها انسحبت منها عام ٢٠٠٥. وفي عام ١٩٩٥ مُددت المعاهدة لأمد غير محدد ودون شروط.

لمعاهدة حظر الانتشار النووي نجاحاتها؛ فقد تخلى العديد من الدول الموقعة عليها عن الأسلحة النووية أو برامج الأسلحة النووية؛ على سبيل المثال: في السبعينيات تبنت جنوب أفريقيا برنامجًا للأسلحة النووية، بل يُعتقد أنها أجرت تجربة نووية في المحيط الأطلسي. لكنها تخلت عن الأسلحة النووية لاحقًا ووقعت على المعاهدة عام ١٩٩١. في ذلك الوقت تقريبًا، دمر العديد من الجمهوريات السوفييتية أسلحتها النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي، أو نقلتها إلى روسيا.

لكن تظل الوكالة الدولية للطاقة الذرية رهينة المصالح القومية لصفوة الدول، وهي لا تزال تفتقد القدرة على إرضاء من يطالبون بضمانات ضد المزيد من الانتشار للأسلحة النووية. استغلت الولايات المتحدة وحلفاؤها برنامج الأسلحة النووية العراقي كذريعة لغزو العراق واحتلاله في عام ٢٠٠٣ بالرغم من التأكيدات (الدقيقة) للوكالة الدولية للطاقة الذرية بعدم وجود مثل هذا البرنامج. ولم تستطع الوكالة فعل الكثير لمنع كوريا الشمالية من تطوير ترسانتها من الأسلحة النووية في العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكان للوكالة الدولية للطاقة الذرية تأثير قليل للغاية على سعي إيران لتطوير السلاح النووي.

في النهاية، لا تستطيع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إجبار الدول على التخلي عن مساعيها لامتلاك الأسلحة النووية؛ فهي قادرة على التفتيش، وإصدار الأحكام، وتقديم التوصيات للأمم المتحدة، لكن مسألة التصرف وفق هذه النتائج والتوصيات متروكة في النهاية لمجلس الأمن. وقد فعل مجلس الأمن هذا — على سبيل المثال — في مارس عام ٢٠٠٧ (ومجددًا في عام ٢٠٠٨) حين قرر بالإجماع تعزيز العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران للضغط عليها كي تتخلى عن برنامجها النووي. وسنرى في المستقبل هل سيأتي هذا القرار بالأثر المرغوب، أم العكس.

(٩) مجلس الأمن في عالم «أحادي القطب»

كان مجلس الأمن — وما زال — ضحية لقواعده الخاصة. إن ما أوجد الإشكالية العظمى هو الحاجة إلى التأكد من أن أقوى الدول ستنضم للأمم المتحدة وتظل أعضاءً بها. ولهذا، مُنحت الدول الخمس العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية مكانة خاصة بوصفها الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن، والوحيدة التي تملك حق النقض أو الفيتو (الفيتو السادس هو افتراضي بالأساس). هذا الجانب يجعل الأمم المتحدة مؤسسة غير ديمقراطية، لكنه ضمن أيضًا أن الأمم المتحدة — على العكس من عصبة الأمم في الثلاثينيات — لن تشهد انسحاب الدول العظمى منها احتجاجًا؛ فهي ليست في حاجة لذلك، فبإمكانها شل حركة الأمم المتحدة بصوت وحيد، وهو ما فعلته على نحو متكرر.

نتيجة لذلك، يكتنف مستقبل مجلس الأمن الغموض؛ فقد اعتمد المجلس بقدر كبير — نتيجة فقدانه القدرة على نشر قوات عسكرية خاصة به بسرعة — على مساهمات القوى العظمى في الحملات العسكرية واسعة النطاق. لا عجب إذن أن العمليات التي نُفذت إلى الآن — في كوريا في أوائل الخمسينيات وفي الخليج العربي في أوائل التسعينيات — حدثت في ظل ظروف سياسية استثنائية، وكلتاهما كانتا في الأساس عمليات عسكرية أمريكية، وبناءً عليه فقد أظهرتا حقيقة أن عدم القدرة على الاتفاق على دور حقيقي للجنة الأركان العسكرية في الأربعينيات أصاب الأمم المتحدة بالشلل.

النقطة الأساسية المترتبة على ذلك هي أن الأمم المتحدة اليوم باتت — في جوهرها — تابعة لأهواء القوى الخمس العظمى ولتحالفات القوى الخاصة بينها. في الوقت الحالي، يعني هذا أن القوى العظمى الخمس تخاطر بالتحول إلى قوة واحدة عظمى — مع تولي الولايات المتحدة زعامة العالم — توجه أو تعيق تدخلات الأمم المتحدة بما يتفق مع مصالحها القومية. ليس هذا بالموقف المثالي أبدًا، ويزيد من خطورته التحدي الخاص بالانتشار النووي. إن احتمال دخول إيران للنادي النووي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين قد يزيد أيضًا من التوتر داخل مجلس الأمن، الذي تعتمد بعض دوله — بطبيعة الحال — على النفط الإيراني كمصدر للطاقة.

لا شك أن مجلس الأمن بحاجة للإصلاح‎، شأنه في ذلك شأن الجزء الأكبر من منظمة الأمم المتحدة نفسها. بل هو في الواقع جزء حيوي من عملية الإصلاح. لكن في هذه النقطة، من المفيد أن نذكر أنفسنا بحقيقة أنه بالرغم من أخطاء ومواطن قصور مجلس الأمن، فإنه أجاز عددًا كبيرًا من مهام حفظ السلام. ومع أن سجل قوات حفظ السلام المسماة بذوي الخوذات الزرقاء، بعيد عن المثالية، فإنها غيرت وأنقذت حياة ملايين الأشخاص في العالم على مدار العقود الخمسة الماضية. وهي تستحق النظر إليها نظرة أكثر إمعانًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤